تدور أحداث هذه القصة في عام (96هـ)، وكان عصر الخليفة الوليد بن عبد الملك أحد أشهر ملوك بني أمية، وقد ورث هذا الملك من والده دولة موحدة مترامية الأطراف، وكان له طموح لفتح العالم، فأرسل جيوش للمشرق والمغرب وكانت عاصمة ملكه دمشق.
فأرسل جيشاً لفتح القسطنطينية (إسطنبول) بقيادة أخيه القائد الشهير مسلمة.
وكذلك أرسل جيش بقيادة موسى وطارق وقد توغلوا في قارة أوروبا وفتحوا الأندلس.
وجيش بقيادة محمد بن القاسم الثقفي متوجهاً إلى الهند.
وجيش بقيادة قتيبة متوجهاً إلى الصين، وهذا القائد واصل فتوحاته حتى وصل إلى حدود إمبراطورية الصين.
(محمود شاكر: التاريخ الإسلامي 4/ 201 إلى 207.)
وهنا القصة كما ذكرها المؤرخون:
عندما وصل قتيبة إلى حدود مملكة الصين، كتب اليه ملك الصين أن ابعث إلينا رجلاً من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، فاختار قتيبة من عسكره عشرة رجال وقيل: أكثر وكان رئيسهم هبيرة.
فدخل الرسل على الملك الأعظم فيهم، وهو في مدينة عظيمة، يقال: إن عليها تسعين باباً في سورها المحيط بها يقال لها خان بالق، من أعظم المدن وأكثرها ريعا ومعاملات وأموالا، حتى قيل إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين لا يحتاجون إلى أن يسافروا في ملك غيرهم لكثرة أموالهم ومتاعهم، وغيرهم محتاج إليهم لما عندهم من المتاع والدنيا المتسعة، وسائر ملوك تلك البلاد تؤدي إلى ملك الصين الخراج، لقهره وكثرة جنده وعدده.
والمقصود أن الرسل لما دخلوا على ملك الصين وجدوا مملكة عظيمة حصينة ذات أنهار وأسواق وحسن وبهاء، فدخلوا عليه في قلعة عظيمة حصينة، بقدر مدينة كبيرة.
فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثياباً بياضاً، ثم تطيبوا وتدخنوا، ولبسوا النعال، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا.
فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟
قالوا: رأينا قوماً كأنهم نساء.
فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا لبسهم والعمائم، وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا.
فقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟
قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك الأولى.
فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا لبس الحرب، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم ملك الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين.
فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا.
فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فعجب أهل الصين منهم.
فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟
قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء قط.
فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إلى زعيمكم وأفضلكم رجلاً فبعثوا إليه هبيرة.
فقال ملك الصين له حين دخل عليه: قد رأيتم عظيم ملكي، وإنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم.
قال هبيرة: أسأل.
قال ملك الصين: لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟
قال هبيرة: أما زينا الأول فلباسنا في أهالينا، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا.
قال ملك الصين: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه.
قال هبيرة: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.
قال ملك الصين: فما الذي يرضي صاحبك؟
قال هبيرة: إنه قد أقسم ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية.
قال ملك الصين: فإنا نخرجه من قسمة نبعث اليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها.
فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به.
فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان وردهم، ووطيء التراب.
وتم الصلح بينهما.
___________________________________________________
الطبري (ت:310هـ): تاريخ الأمم والملوك: 4/ 31-32 / ابن كثير (ت: 774هـ): البداية والنهاية 9/ 161-162 / ابن خلدون (ت: 808هـ): تاريخ ابن خلدون 3/85.