بسم الله الرحمن الرحيم
من يقرأ التاريخ يجد تقارب بين بعض الحضارات خاصة اذا كانت متجاورة , ونادر أن يكون هذا التقارب إذا كانت متباعدة , و من يقرأ تاريخ الحضارات يجد أن أقرب الحضارات إلى حضارتنا العريقة هي الحضارة الصينية , وأقصد بما قدموا للإنسانية من حضارة راقية , وكذلك ما أبدعوا من اختراعات وكذلك ما خطته أنامل حكمائهم , وما اشتهر به حكامهم من العدل والإنصاف , وكذلك في تطور التجارة وفي الكشوفات والعلاقات الدولية والتي قامت على الإحترام والوفاء بالعهود وغيرها مما يطول ذكره.
وتاريخ الحضارة الصينية يمتد لآلاف السنين , ولا شك أن هناك عوامل عديدة في استمرار هذه الحضارة العريقة , على رأسها عدل ملوكها .
ويرجح العلامة محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى أن ذو القرنين عليه السلام من أهل الصين , والسبب : (( أن معظم ملوكهم كانوا أهل عدل وتدبير للمملكة))(1)
يقول ياقوت الحموي (المتوفى: 626هـ) :
" ملك الصين، وهو ملك الرعاية والسياسة وإتقان الصنعة، وليس في ملوك العالم أكثر رعاية وتفقّدا من ملك الصين في رعيّته وجنده وأعوانه، وهو ذو بأس شديد، وقوّة ومنعة، له الجنود المستعدّة، والكراع والسلاح، وجنده ذو أرزاق." (2)
وكذلك أشتهر أهل الصين بأنهم أهل صناعة ويذكر العلامة بن عاشور أن من أسباب ترجيحه بأن ذو القرنين عليه السلام من أهل الصين : (( أن بلاد الصين اشتهر أهلها منذ القدم بأنهم أهل تدبير وصنائع )). (1)
يقول الراغب الأصفهانى (المتوفى: 502هـ) : " أهل الصين أصحاب الأعمال، كالسبك والصياغة والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، والخرط والنحت والتصاوير، والخطّ والنسج ورفق الكف في كل ما تناولوه." (3)
يقول ابن الوردي (المتوفى: 749هـ) : " وَأهل الصين أحسن النَّاس سياسة وَأَكْثَرهم عدلا وأحذقهم فِي الصناعات ….. وهم حذاق بالنقش والتصوير يعْمل الصَّبِي مِنْهُم مَا يعجز أهل الأَرْض." (4)
يقول الإمام السيوطي (المتوفى : 911هـ) : جعل الصناعة عشرة أجزاء؛ فتسعة منها في الصين وواحد في سائر الناس." (5)
ونجد أن الصين في العصر الحديث أخذت مكانتها التاريخية في الصناعة والتي خسرتها قبل عقود طويلة .
وكانت الصين هي الوجهه الرئيسية للتجار وأشتهر الطريق المسمى طريق العطور أو طريق الحرير والذي ربط الصين بالعالم بطريقين بري وبحري , وكانت مزدهر في أيام السلم وفي أيام الحرب والفتن تتوقف.
ومن الأسباب الرئيسية التي جعلت الصين الوجه الأولى للتجار إهتمامهم بالتجار ومن يزورهم وتهيئة سبل الراحة لهم بأساليب رائعة , يذكر القاضي ابن الأزرق (المتوفى: 896هـ) : أن بلاد الصين من آمن البلاد وأحسنها حالا للمسافرين فإن الإنسان يسافر بها منفردا وتكون معه الأموال الطائلة فلا يخاف عليها وترتيب ذلك أن لهم في كل منزل ببلادهم فندقا عليه حاكم يسكن فيه في جماعة من الفرسان والرجال فإذا كان بعد المغرب أو العشاء الآخرة جاء الحاكم إلى الفندق ومعه كاتب فيكتب أسماء جميع من يبيت به من المسافرين ويختم عليه ويغلق باب الفندق عليهم فإذا كان بعد الصبح جاء ومعه كاتبه فدعا كل إنسان باسمه وكتب بذلك تفسير وبعث معهم من يوصلهم إلى المنزل التالي له ويأتيه براءة من حاكمه أن الجميع قد وصلوا إليه وإن لم يفعل طولب بهم وهكذا العمل في كل منزل من بلاد الصين وفي هذه الفنادق جميع ما يحتاج إليه المسافرون من الأزواد وخصوصا الدجاج والإوز وأما الغنم فهي قليلة عندهم. (6)
ومن أشهر التجار والرحالة سعد الخير الأنصاري (المتوفى :541هـ) , يقول الإمام الذهبي (المتوفى : 748هـ) عنة : الشيخ، الإمام، المحدث، المتقن، الجوال، الرحال، أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد الأنصاري، الأندلسي، البلنسي ، التاجر.
سار من الأندلس إلى إقليم الصين، فتراه يكتب: سعد الخير الأندلسي، الصيني.
وكان من الفقهاء العلماء. (7)
ولم تقتصر الرحلة إلى بلاد الصين على التجار والمغامرين بل كانت هناك زيارة من أجل الصداقة ! , يذكر ابن عساكر (المتوفى: 571هـ) في تاريخية قصة طريفة : رأى رجلا صديقا له بالكوفة فقال له: من أين؟
قال: من بغداد.
فقال: وإلى أين؟
قال: إلى الصين.
قال: وما تصنع؟
قال: أزور إلفا لي.
قال له: بعيد!
فأنشأ يقول:
بعيد على كسلان أو ذي ملالة ** فأما على المشتاق فهو قريب (8)
والحضارة الصينية من أقدم الحضارات يقول : الادريسي (المتوفى: 560هـ)
" ملوك الصين لا يسمى أحد منهم إلا البغبوغ والبغبون أيضا بالنون من آلاف السنين إلى اليوم اسم توورث وتدول بين الصينيّين." (9)
والشاهد قوله آلاف السنين .
والحضارة الصينية لها خاصيه ميزتها عن باقي الحضارات , يقول جيفري بارندر : تقف الصين وحدها وسط حضارات العالم العظيمة. فقد تطورت في عزلة تامة, عن بقية الحضارات, ولهذا كانت إنجازاتها فريدة. وهذة الخاصية الفريدة جعلتها في آن معا ممتعة لمن يشاهدها, محيرة لمن يحاول فهمهما(10).
ويقول الدكتور إيفار ليسنر : الأمر ليقتضي أكثر من مجرد الخمسين أو الستين أو السبعين عاما التي يحياها الإنسان على الأرض حتى يتسنى لهم تلك البلاد بسكانها… وتاريخها الذي يمتد إلى خمسة آلاف سنة خلت .(11)
وتعد الصين من أشهر الأمم في حفظ تاريخها ومن أشهر مؤرخيها المؤرخ "سه ما تشان" صاحب المؤلف الشهير < شه جي > (سجلات التاريخ) وقد أنتهى من تأليفة في السنة 85 قبل الميلاد, ويعد أول كتاب شامل عن تاريخ الصين فلقد سجل المؤلف ما سمعه بنفسه عن تاريخ الإمبراطور "خوانغ دي" حتى بداية حكم "خان وو" وخلال ثلاثة آلاف عام (12) .
وأيضا" تعتبر اللغة الصينية من أقدم اللغات , يقول المستشرق الألماني "أوجست فيشر" (المتوفى: 1948م) في مقدمة معجمة اللغوي التاريخي: "وإذا استثنينا الصين فلا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها بحسب أصول وقواعد غير العرب" والذي يهمنا في هذه العبارة ما شهدت به من فضل للصينين في مجال الدراسة اللغوية. (13)
وظهر كذلك في الصين الكثير من الحكماء على رأسهم الفيلسوف الشهير كونفوشيوس ( المتوفى سنة 479 ق.م) والذي أثر في الصين قرون عديد إلى يومنا .
وظهر كذلك في الصين الكثير من الحكماء على رأسهم الفيلسوف الشهير كونفوشيوس ( المتوفى سنة 479 ق.م) والذي أثر في الصين قرون عديد إلى يومنا .
ولهم كذلك سبق في العديد من العلوم والاكتشافات العلمية في الحضارة الصينية منها :
كتب الصينيون عن الخسوف , وعن مجموعات من النجوم منذ عهد أسرة تشو :[ 1122-256 ق.م ] , ومن القرن الرابع قبل الميلاد أوردوا ملاحظات على الضوء , والمرايا المقعرة والمحدبة والمستوية , وكانوا عارفين بمسائل البرونز , وأدركوا النسبة الصحيحة في النحاس والقصدير لصنع خواص معينة منه.
واخترع تساوي لون tsai lun حوالي 105 م الورق من قشر الشجر والقنب والخرق , وقد كانوا قبله يكتبون على الخيزران والحرير , والخيزران الثقيل , والحرير غال.
واخترع الصينيون البارود (نترات البوتاسيوم) , واستعملوه في الأسلحة منذ نهاية القرن العاشر الميلادي , ولما اخذه العرب عنهم , قالوا عنه : <<الثلج الصيني>>.
واخترعوا البوصلة , والخزف , والطباعة حيث عرفوا الحروف المتحركة منذ عام 1041م , وتقدمت الكيمياء فعرفوا الحبر الأسود , والحبر الأحمر , والصينيون من أوائل الأمم التي اتخذت الفحم الحجري من مناجمه في الأرض منذ سنة 1922 ق.م .
وفي مجال الرياضيات حلوا بعض المعادلات المجهولة من الدرجة الاولى , مع تأثير متبادل مع حضارة الهند في هذا المجال , وخلف العالم الرياضي جانغ تسانج [ ت 152 ق.م ] كتابا" في الجبر والهندسة , فيه إشارة معروفة للكميات السالبة .
واخترع تشانج هنج عام 132 آلة لتسجيل الزلازل , وكان في وسع الفلكيين في أيام كنفوشيوس التنبؤ بالخسوف تنبؤا" دقيقا" .
وفي مجال الطب - الذي كان خليطا" من الحكمة التجريبية , والخرافات الشعبية - عرفوا نوعا" من الخمر يدعى Ma Yao , ويظهر أنهم كانوا يلقحون ضد الجدري في القرن الحادي عشر الميلادي.
وعلى الرغم من هذا كله قيل : (( لقد كان الصينيون أقدر على الاختراع منهم على الانتفاع بما يخترعون )) .
واهتم الصينيون بالأنهار والترع , وبنوا سور الصين العظيم , الذي انتهى بناؤه عام 214 ق.م , في عهد الإمبراطور شيه هوانغ تي Ahih Huanq Ti , الذي رمم في اوقات مختلفة , ارتفاعه م بين 6-10 أمتار , وطوله 1400 ميل(14) .
والصين كذلك من أوائل في الكشوفات الجغرافية فالبحار المسلم الصيني "تشنغ خه ويسمى بالعربية : حجّي محمود شمس" قد وصل إلى سواحل أمريكا قبل كولومبوس وإلى أستراليا قبل كوك.
واحتفلت الصين عام 2005 بمرور 600 سنة على أولى رحلاته الضخمة البحرية التي عبر بها المحيط، بعرض بعض الأثار ذات العلاقة وإصدار مجموعة من الطوابع بهذه المناسبة، معتبرة أياه (رسول المهمات الدبلوماسية) و(رجل السلام) الذي جاب المحيطات ولم يشعل حرباً ولم يقتل أحداً.
ولم يفعل ما فعله كولومبوس بالهنود الحمر، سكان أمريكا الأصليين .
ولا ما فعله كوك البريطاني بسكان أستراليا الأوائل (الأبورجنيين) ! (15)
وكذلك الحضارتين عانت من اكتساح المغولي قديم ومن الاحتلال الغربي حديثـا"
فالحضارة الصينية , عانت من همجية التتار في العصور الوسطى كما عانت حضارتنا , وكذلك في العصر الحديث عانت من الإحتلال الغربي الظالم كما عانت حضارتنا , وحرب الأفيون التي تعد من أقذر الحروب في التاريخ عانى منها أهل الصين أشد معاناة.
فالحضارة الصينية , عانت من همجية التتار في العصور الوسطى كما عانت حضارتنا , وكذلك في العصر الحديث عانت من الإحتلال الغربي الظالم كما عانت حضارتنا , وحرب الأفيون التي تعد من أقذر الحروب في التاريخ عانى منها أهل الصين أشد معاناة.
__________________________________________
(1) محمد الطاهر بن عاشور : التحرير والتنوير - ج16 ص22 .
(2) ياقوت الحموي : معجم البلدان - 1/47.
(1) محمد الطاهر بن عاشور : التحرير والتنوير - ج16 ص22 .
(3) الراغب الأصفهانى : محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء 1/193.
(4) ابن الوردي : تاريخ ابن الوردي - 1-82/83.
(5) السيوطي : حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة - 2/337.
(6) ابن الأزرق : بدائع السلك في طبائع الملك , ص:403.
(7) الذهبي : سير أعلام النبلاء, 39/149.
(8) بن عساكر: تاريخ دمشق . 41/234.
(9) الادريسي : نزهة المشتاق في اختراق الآفاق - ص:184.
(10) جيفري بارندر: المعتقدات الدينية لدى الشعوبة :223 : دار المعرفة العدد 173.
(11) إيفار ليسنر : الماضي الحي حضارة تمتد سبعة آلاف سنة ، ص215 .
(12) يين شه لين وجاينغ جيان قوو : تعرف على 5000عام من تاريخ الصين , ص:54-55.
(13) أحمد مختار : البحث اللغوي عند العرب : ص:74.
(14) شوقي أبوخليل : الحضارة العربية الإسلامية وموجز عن الحضارات السابقة (ص:61-61).
(15) ويكيبيديا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق