بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 11 فبراير 2017

أندلسيات: أبو الفضل بن شرف الشاعر الفيلسوف



للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي



(الناظم الثائر، الكثير المعالي والمآثر، الذي لا يدرك باعه، ولا يترك اقتفاؤه واتباعه؛ إن نثر رأيت بحراً يزخر، وإن نظم قلد الأجياد دُرّاً تباهي به وتفخر، وإن تكلم في علوم الأوائل بهرج الأذهان والألباب، وولج منها في كل باب؛ وقد كان أول ما نجم بالأندلس وظهر، وعُرف بِحوْك القريض واشتهر، تُسدّد إليه السهام، وتنتقده الخواطر والأوهام، فلا يصاب له غرض، ولا يوجد في جوهر إحسانه عرض، وهو اليوم بدر هذه الآفاق، وموقف الاختلاف والاتفاق، مع جري في ميدان الطب إلى منتهاه، وتصرف بين سماكه وسهاه، وتصانيف في الحكم ألف منها ما ألف، وتقدم فيها وما تخلف، فمنها كتابه المسمى يسر البر، ومنها الكتاب الملقب بنجح النصح وسواها، من تصانيف اشتمل عليها الأوان وحواها). . . هذا هو كل ما قاله الفتح بن خاقان في ترجمته لهذا الأديب الشاعر، الفيلسوف، النطاسني أبي الفضل بن شرف. وقد جرى الفتح في هذه الترجمة على شنشنته في سائر تراجمه، فلم يذكر اسم المترجم له، ولا اسم أبيه ولا منشئه، فضلاً عن أنه أغفل تاريخ مولده ووفاته. . وكذلك لم نر لغير الفتح ترجمة لهذا الأديب الكبير يصح أن تسمى ترجمة يعول عليها. . . ولكنا مع هذا أترانا لا نعرض لترجمة أمثال هذا الأديب البارع المتفنن الذي نبغ منه شعرٌ شاعر وحكمة بالغة وكان إلى ذلك نطاسياً عظيما، كما يؤخذ من كلام الفتح، ومن ثم يعد بحق من مفاخر الأندلس؟ وما قيمة عملنا إذا نحن ضربنا الذكر صفحاً عن مغموري أفاضل الأندلس أولئك الذين لم يوف المؤرخون تراجمهم حقها. .؟ وإياك والظن أنا نعني بقولنا مغمورين أنهم لم يكونوا مشهورين في عصورهم، وإنما نعني أنهم مغمورون في نظر أدباء هذه الأجيال. وقليل لعمري من سمع منّا بهذا أبي الفضل بن شرف سماعه مثلاً بابن هانئ وابن خفاجة وابن زيدون وابن عمار وابن وهبون وابن عبدون وأمثالهم ممن اضطرب ذكرهم وكانوا من المشهورين (وأما بعد) فهل تدري من هو أبو الفضل بن شرف هذا؟ أظنك لا تجهل أديب القيروان وكاتبها وشاعرها أبا عبد الله محمد ابن أحمد بن شرف الجذامي القيرواني قرين ابن رشيق ومنافسه في خدمة المعز بن باديس ومنادمته والمتوفى سنة 460هـ؛ إذن فلتعلمن أن المترجم له هو ابن هذا الأديب القيرواني العظيم واسمه جعفر بن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن شرف المذكور. . دخل الأندلس مع أبيه، وهو ابن سبع سنين، وقيل إنه ولد في الأندلس بعد أن نهد إليها أبوه وأقام بقرية من قراها تسمى برْجَه ومن ثم يقال للمترجم أبو الفضل بن شرف البرْجي. وللمترجم ابن فيلسوف شاعر مثله هو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المذكور - وهو القائل:

وكريم أجازني من زمان ... لم يكن من خطوبه لي بُد

منشد كلما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حد

هكذا يحدثنا المقري عند إيراده قافيَّة المترجم التي يمدح بها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف والتي ستمر بك قريباً. ومن هذا ومن قول الفتح في كلمته التي صدرنا بها هذه الترجمة، (وهو اليوم بدر هذه الآفاق) يستنتج أنا المترجم أبا الفضل بن شرف هذا أدرك ملوك الطوائف ودولة المرابطين، أي أنه عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس

وقد حدثنا الفتح في كلمته بأنه شاعر وأنه فيلسوف وأنه طبيب. أما أنه طبيب فلم نقف له على أثر في الطب ويبدو أنه كان يحترف الطب ويتكسب به وإن لم يؤلف فيه، وربما ألف وضاعت تواليفه فيما ضاع من شتى التواليف. وكذلك الحكم في أنه فيلسوف إذ لم يذكر لنا المؤرخون شيئاً من آثاره في الفلسفة، ولعلهم يعنون بفلسفته ما أثر عنه من الحكم مثل هذه الكلم الجوامع، والحكم الروائع التي أثرت عنه وهي: (العالم مع العلم كالناظر للبحر، يستعظم منه ما يرى وما غاب عنه أكثر. الفاضل في الزمن السوء كالمصباح في البراح، قد كان يضيء لو تركته الرياح. لتكن بالحال المتزايدة أغبط منك بالحال المتناهية، فالقمر آخر ابداره، أول إدباره. لتكن بقليلك أغبط منك بكثير غيرك، فإن الحي برجليه وهي ثنتان، أقوى من الميت على أقدام الحملة وهي ثمان. المتلبس بمال السلطان كالسفينة في البحر إن أدخلت بعضه في جوفها أدخل جميعها في جوفه. التعليم فلاحة الأذهان، وليست كل أرض منبتة. الحازم من شك فروّى، وأيقن فبادر. قول الحق من كرم العنصر كالمرآة كلما كرم حديدها أرت حقائق الصفات. ليس المحروم من سأل فلم يعط، وإنما المحروم من أعطى فلم يأخذ. يا ابن آدم! تذم أهل زمانك وأنت منهم، كأنك وحدك البريء، وجميعهم الجريء، كلا بل جنيت وجني عليك، فذكرت ما لديهم ونسيت ما لديك. اعلم أن الفاضل الذكي لا يرتفع أمره أو يظهر قدره، كالسراج لا تظهر أنواره أو يرفع مناره، والناقص الدنيء لا يبلغ لنفعه إلا بوضعه، كهوجل السفينة لا ينتفع بضبطه، إلا بعد الغاية في حطه). . . . إلى أمثال هذه الكلمات البديعة الحكيمة الشاعرة الناصعة البيان، المنيرة البرهان، التي لا تصدر إلا عن حكيم جهبذ من الراسخين، وأديب بارع من ذوي القرائح المطبوعين. ويشبه هذه الكلمات من شعر المترجم له قوله:

إذا ما عدوك يوماً سما ... إلى رتبة لم تطق نقضها

فقبل - ولا تأنفن - كفه ... إذا أنت لم تستطع عضها

وإذ قد وصلنا إلى شعر هذا الشاعر الفيلسوف كما يطلق عليه الأندلسيون فلنذكر أن شعره الذي وقع إلينا ينم على أنه شاعر متفنن رفيع الطبقة رصين الشعر، دقيق الفكر، لطيف التمثيل. ومن قصائده الفائقة قصيدته القافية التي أنشدها المعتصم بن صمادح أحد ملوك الطوائف، وكان قد قصر أمداحه عليه، وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات. ولما وفد عليه وأنشده هذه القصيدة كان في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة وإليك هذه القصيدة:

مَطَلَ الليل بوعد الفلق ... وتَشكيّ النجم طول الأرق

ضربت ريح الصبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق

وألاح الفجر خدا خجلا ... جال من رشح الندَى في عَرَق

جاوزَ الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق

واستفاض الصبح فيه فيضة ... أيقن النجم لها بالغرق

فانجلى ذاك السنا عن حلك ... وانمحى ذلك الدجى عن شفق

بأبي بعد الكرى طيف سرى ... طارقا عن سكن لم يطرق

زارني والليل ناع سُدْفَه ... وهو مطلوب بباقي الرمق

ودموع الطَّلِّ تَمريها الصبا ... وجفون الروض غرقى الحدق

فتأنى في إزار ثابت ... وتثنى في وشاح قلق

وتجلى وجهه عن شعره ... فتجلى فلق عن غسق

نهب الصبح دجى ليلته ... فحبَا الخد ببعض الشفق

سلبت عيناه حَدَّي سيفه ... وتجَلى خده بالرونق

وامتطى من طرْفه ذا خبب ... يلثم الغبراء إن لم يعتق

أشوس الطرف عرته نخوة ... يتهادى كالغزال الخرق

لو تمطى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعُنق

حسرتْ دُهمته عن غُرة ... كشفت ظلماؤها عن يقق

لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلى خده باليقق

وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعة أو جِنة أو أوْلَقِ

مدركا بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقا بالرفق ما لم يلحق

ذو رضى مستتر في غضب ... ذو وقار منطوٍ في خرق

وعلى خَدّ كعضب ابيض ... أذن مثل سنان أزرق

كلما نصبها مستمعاً ... بدت الشهب إلى مسترق

حاذرت منه شبا خَطيّة ... لا يجيد الخط ما لم يمشق

كلما شامت عذارى خده ... خفقت خفق فؤاد فرق

في ذرى ظمآن فيه هيف ... لم يدعه للقضيب المورق

يتلقاني بكعب مصقع ... يقتفي شأو عذار مفلق

إن يدر دورة طرف يلتمح ... أو يجل جول لسان ينطق

عصفت ريح على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق

كلما قلبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق

جمع الصرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهد موثق

أوجبت في الحرب في وخز القنا ... فتوارت حلقا في حلق

كلما دارت بها أبصارها ... صورت منها مثال الحدق

زلّ عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق

لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظ محرق

أكهب من هبوات أخضر ... من فرند أحمر من علق

وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا من لكفيك سقى

يا بني معن لقد ظلت بكم ... شجر لولاكم لم تورق

لو سقى حسان إحسانكمُ ... ما بكى ندمانه في جلق

أو دنا الطائيُّ من حيكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق

أبدعوا في الفضل حتى كلفوا ... كاهل الأيام ما لم يطق








فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسده بعض من حضر، وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم. فقال له: من أي البوادي أنت، قال أنا من الشرق في الدرجة العالية، وإن كانت البادية على بادية، ولا أنكر خالي، ولا أعرف بحالي. فمات ابن أخت غانم خجلاً، وشمت به كلا من حضر. وهذا ابن أخت غانم العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر من أعيان مالقة متفنن في علوم شتى إلا أن الغالب عليه علم اللغة. وكان قد رحل من مالقة إلى المرية فحل عند ملكها المعتصم ابن صمادح، وله تآليف منها شرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري في ستين مجلدا. قال ابن اليسع في مغربه أنه حدثه بداره بمالقة وهو ابن مائة سنة وأخذ عنه عام 524. . . وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم الأديب أبو محمد غانم بن الوليد المخزومي نسب إليه لشهرة ذكره وعلو قدره. ومن شعر الإمام أبي محمد غانم هذا قوله - وقد دخل يوماً على باديس بن حيوس صاحب غرناطة، فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها:
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبيْنِ
ولا تسامح بغيضاً في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين
وقوله:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله ... كان على أيامه بالخيار
وقوله في نكبة المعتمد بن عباد:
ومن الغريب غروب شمس في الثرى ... وضياؤها باق على الآفاق
وقوله:
ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقُوتُ
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه دُرٌّ وياقوت
وكل ذلك من الحديث النبوي الشريف: من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها. ومن بديع قول أبي الفضل بن شرف المترجم من قصيدة يمدح بها المعتصم بن صمادح:
لم يبق للجور في أيامكم أثر ... غير الذي في عيون الغيد من حور
وأول هذه القصيدة:
قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر
ومن هذه القصيدة في وصف السيف:
إن قلت ناراً أتندى النار ملهبة ... أو قلت ماء أيرمي الماء بالشرر
ومنها في وصف الدرع:
من كل ماذية أنثى فيا عجبا ... كيف استهانت بوقع الصارم الذكر
وكان قد وفد على المعتصم مرة يشكو عاملاً ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية المذكورة. ولما بلغ قوله: لم يبق للجور في أيامكم أثر. قال له المعتصم: كم في القرية التي تحرث فيها؟ فقال: فيها نحو خمسين بيتاً، فقال: أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد، وعزل عنها نظر كل وال. . . ومن شعر أبي الفضل بن شرف: -
يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه
أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه
وقال: -
لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيّا
وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادماً كلتا يديا
وأبكي ثم أعلم أم مبكا ... ي لا يجدي فأمسح مقلتيا
ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليّا
وإن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا
زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيّا
أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني إن مت حيا
ويروى له: -
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود
وأرسل إليه الشاعر ابن اللبانة بأبيات يواسيه بها ويحثه على النهوض وهي: -
يا روضة أضحى النسيم لسانها ... يصف الذي تهديه من أرجائها
ومن اغتدى ثم اهتدى لطريقة ... ما ضل من يسعى على منهاجها
طافت بكعبتك المعالي إذ رأت ... أن النجوم الزهر من حُجاجها
شغلت قضيتك النفوس فأصبحت ... مرضى وفي كفيك سر علاجها
هلا كتبت إلى الوزير برقعة ... تصبو معاطفه إلى ديباجها
تجد السبيل لهم ولا تك للمنى ... وينير سعيهم بنور سراجها
أنت السماء فما بها لك رفعة ... طلعت عليه الشهب من أبراجها
وضحت مفارق كل فضل عنده ... فاجعل قريضك درة في تاجها
فكتب إليه المترجم:
يا منجدي والدهر يبعث حربه ... شعثاء قد لبست رداء عجاجها
لله درك إذ بسطت إلى الرضا ... نفساً تمادى الدهر في إحراجها
وأرقت ماء الود في نار الأسى ... كالراح يُسكر حدُّها بمزاجها
فيَّأتِني تلك الغمام فبرّدت ... من غلة كالنار في إنضاجها
فأويت تحت ظلالها ووجدت بر ... د نسيمها وكرعت في ثجاجها
قل كيف تنعش بعد طول عثارها ... أم كيف تفتح بعد سدر تاجها
لأزيد في أمري وضوحاً بعد ما ... قامت براهين على منهاجها
فأكون إن زدت الصباح أدلة ... خرقاء تمشي في الضحة بسراجها
دعني أبرد بالقناعة غلة ... يأس النفوس أحق في أثلاجها
بكر بخلت على الأنام بوجهها ... ومنعتها من ليس من أزواجها
وصرفتها محجوبة بصوانها ... مثل السلوك تصان في أدراجها
كالنور في أكمامها والبيض في ... أغمادها والغيد في أحداجها
فالنفس إن ثبتت على أخلاقها ... أعيا على النصح طول لجاجها
وإنك لترى للمترجم له مع ذلك رسائل بديعة أنيقة الوشي حسنة التحبير، تنم على دقة حسّه البياني، وذوقه الفني، وتفننه في جميع فنون المراسلات والمراجعات، وأنه مُحسْن في جميع فنون الأدب إحسانه في الطب والحكم، فهو شاعر كاتب حكيم طبيب، ولا جرم أنه انحدر من صلب ذلك الأديب العبقري ابن شرف القيرواني الذي غَمرَ ابنه هذا وأخمله حتى نحله مؤرخو الأدب العربي في عصرنا أكثر شعر ابنه.
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ مجلة البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب

_________________________________________


مجلة الرسالة الأعداد 149 / 151

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق