للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
نترجم اليوم لإمام عظيم من أئمة المسلمين، وعلم من أعلام هذا الدين، الذين أنجبتهم الأندلس فيمن أنجبت، فأثروا في العلوم الإسلامية تأثيراً، ونظروا فيها تنظيراً، وفصلوا ما أجمل منها تفصيلاً، وسجلوا من ثم أسمائهم في سجل الخلود تسجيلاً. .
هذا الإمام هو العالم الحافظ الأصولي المحدث الفقيه الأديب الثبت الثقة أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد المعافري الإشبيلي الأندلسي المعروف بالقاضي أبي بكر بن العربي. .
نجل هذا الإمام أبوان كريمان فاضلان معرقٌ لهما في الفضل والكرم، ومن ثم تداركته أعراق صدق وكان منه هذا النابغة العظيم، ولا جرم، فأن للوراثة أثرها، وللبيئة أثرها البالغ كذلك، هيأهما قدر من الله نافذ، وخط في أم الكتاب مسطور، وذلك أن أم المترجم له هي بنت أبي سعيد عبد الرحمن الهوزني صاحب صلاة الجماعة بقرطبة في عهدي عبد الرحمن الداخل وابنه هشام، وهو رأى أبو سعيد والد أبي القاسم الحسن الهوزني أحد العلماء الأعلام والسروات النابهين، وهو - أي أبو القاسم - والد أبي حفص عمر ابن الحسن الهوزني الكاتب البارع الألمعي. أما أبو المترجم له فهو أبو محمد عبد الله بن محمد أحد فقهاء أشبيلية ورؤسائها، وكان له عند المعتمد بن عباد أعظم ملوك الطوائف وعند أبيه المعتضد من قبله منزلة باسقة. . ولما انقضت دولة المعتمد بن عباد وسائر ملوك الطوائف باستيلاء يوسف بن تاشفين ملك مراكش على الأندلس خرج أبو محمد ومعه ابنه المترجم إلى الحج، وذلك سنة 485هـ - سنة 1092م - وسن المترجم له إذ ذاك زهاء سبعة عشر عاماً، إذ كان مولده سنة 1075م، وقد تأدب المترجم بأشبيلية قبل ارتحاله مع أبيه وقرأ القراءات وسمع أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وغيرهم، وفي ذلك يقول من كتاب له: (حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثة لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشرة، وقد قرأت من الأحرف نحواً من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه، وتمرنت في العربية واللغة ثم رحل بي أبي إلى الشرق.)
ولما ذهب إلى الإسكندرية سمع الأنماطي وغيره، وسمع بمصر أبا الحسن الخلعي وغيره، وبدمشق غير واحد، ولقي ببغداد أبا حامد الغزالي وغيره، وفي لقائه الغزالي يقول في كتابه قانون التأويل: (ورد علينا ذا نشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بازاء المدرسة النظامية معرضاً على الدنيا مقبلاً على الله تعالى فمشينا إليه، وعرضنا أخيلتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس - ابن الرومي - لما قال:
إذا ما مدحت امرأ غائباً ... فلا تَغْلُ في مدحه واقصِدِ
فإنك إن تَغْلُ تَغْلُ الظنو - ن فيه إلى الأمد الأبعد
فَيَصغُرُ من حيث عَظّمتَه ... لفضل المغيب على المشهد
ثم حج في موسم سنة 489 وسمع بمكة أبا علي الحسين بن علي الطبري وغيره، ثم عاد إلى بغداد ثانية وصحب أبا بكر الشاشي وأبا حامد الغزالي والخطيب التبريزي وغيرهم من العلماء والأدباء وقرأ عليهم الفقه والأصول والأدب، وقيد الحديث وإتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام (علم التوحيد) ثم صدر عن بغداد إلى الأندلس وعاج على الإسكندرية وأقام بها مدة عند أبي بكر الطرطوشي فمات بها أول سنة 483 ثم انصرف هو إلى الأندلس سنة 495 وقدم بلدة أشبيلية بعلم كثير لم يأتي بمثله أحد قبله ممن كانت له رحلة إلى المشرق - إلا الإمام الباجي كما يقول المترجم من كلمة له - وسنترجم للباجي - وكانت رحلة علماء الأندلس وأدبائها إلى المشرق - إلى أفريقية - تونس والجزائر - ومصر والشام والعراق والحجاز، وإلى خراسان وما إليها بل وإلى الهند والصين أحياناً - في حركة ودؤوب عجيبين، لا يكادان يفترقان على بعد المشقة وصعوبة المواصلات واختلال الأمن، كما كان كثير من المشارقة يرتحلون إلى الأندلس، غير أن رحلة الأندلسيين إلى المشرق كانت في الأعم الأغلب لنشدان التبحر في العلم والأدب واللغة والارتواء من سلسبيلها الثر الفياض إذ الأندلسيون يعلمون أن المشرق هو مهد العلوم والمعارف، فكانوا لذلك يقفون من المشارقة موقف الأبناء من الآباء، أو التلاميذ من الأساتيذ. كما كان من أغراضهم تأدية فريضة الحج. أما المشارقة فقد كان ارتحالهم إلى الأندلس إما بدعوة من ملوكها للإفادة وبث العلم والفن والأدب كما كان الشأن مع أبي علي القالي إذ دعاه الحكم المستنصر ولي عهد الناصر، ومع زرياب الموسيقي العبقري إذ دعاه عبد الرحمن الأوسط، وإما للربح والاتجار كما كان من الرازي محمد بن موسى والد ابي بكر أحمد بن محمد الرازي كبير مؤرخي الأندلس، وإما للاستكشاف وحب الاستطلاع خدمة وللعلم من طريق والسياحات كما كان من مثل ابن حوقل، وإما للإقامة بالأندلس والاستمتاع بذلك الفردوس الإسلامي المفقود كما كان من كثير ممن نزحوا إلى الأندلس وأقاموا بها. . . (وبعد) فأنا في الحق لا نعلم أمة من الأمم كانت تعني بالعلم وتحصيله، وتعاني ما تعاني أراضيه في سبيله، عناية المسلمين الأولين. وكان ذلك منهم نزولاً على حكم دينهم وحضه على التعلم والتعليم وطلب العلم ولو بالصين. . . ولمناسبة السفر وصعوبته في العصور نورد هنا نبذة للمترجم له أوردها المقري، قال: (ولما ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من أفريقيا قال: وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزَوْلِه، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر، وأتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت كعب بن سليم ونحن من السغب، على عطب، ومن العرى، في أقبح زي. . . تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله تعالى على يده وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا، بأمر حقير ضعيف، وفن من العلم طريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه، فِعْلَ السامدِ اللاّه، فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته، إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار، ووقفت بازائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس البطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة، فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه، فلمحوني شزراً وعظمت أعينهم بعد أن كنتُ نزراً، وتقدم إلي الأمير من نقل الكلام إليه، فاستدناني فدنوتُ منه، وسألني هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت: لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرّك تلك القطعة، ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير، وأنقطع التدبير، فقالوا: ما أنت بصغير وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال: لعن الله أبا الطيب أوَ يشكّ الربّ؟
فقلت في الحال: ليس كما ظنّ صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب ههنا الصاحب، يقول: ألذ الهوى ما كان المحبُّ فيه من الوصال، وبلوغ الغرض والآمال، وعلى ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، ونقاة لما يقع به، كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرّك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض، وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سنّي، ويستكشفونني عني، فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي، وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه، فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمُعه، وجاء كل خوان، بأفنان الألوان، ثم قال - بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه - فانظر إلى هذا العلم الذي هو للجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب. . .
أسلفنا أن المترجم له قدم الأندلس من رحلته بعلم كثير، واتخذ بلده أشبيلية مقاما له، وأخذ يذيع علمه، وجلس للوعظ والتفسير والإفادة، ورُحِل إليه للسماع، وصنف في غير فن تصانيف كثيرة حسنة ضخمة، حتى يروى أنه ألف أربعين مؤلفا في موضوعات شتى فُقِد معظمها، ذكروا منها كتاب العواصم والقواصم، والمحصول في أصول الفقه، وكتاب المسالك في شرح موطأ الإمام مالك، وكتاب الناسخ والمنسوخ، وكتاب أنوار الفجر في تفسير القرآن، قالوا إنه ثمانون ألف ورقة في ثمانين مجلدا، وكتاب عارضة الأحوذي على كتاب الترمذي الخ ولمناسبة كتابه أنوار الفجر في التفسير نورد كلمة له قالها عند تفسير قوله تعالى: (إنْفِروُا خِفَافا وثِقاَلاً)، تدل على أنه كان إماما طليقا واسع آفاق الفكر عصريا كما نعبر اليوم. . . وهي هذه: (ولقد نزل بنا العدو - الأسبانيون - قصمه الله سنة 527، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدّد الناس عدده، وكان كثيرا وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط بهم فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلبا يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل. .) وقد أسند إلى المترحم له قضاء بلده. قال تلميذه القاضي عياض: فنفع الله به أهلها لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه في قضائه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه. . .
تلاميذه
وقد تتلمذ للمترجم له عدة ممن تخرجوا عليه وكان لهم شأن يذكر، فمنهم القاضي عياض صاحب الشفاء، وسنترجم له إن شاء الله - ومنهم الإمام الحافظ ابن بشكوال صاحب كتاب الصلة وخلافه، ومنهم الإمام السهيلي صاحب كتاب الروض الأُنف في شرح سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من التواليف، وصاحب هذه الأبيات المشهورة التي أنشدها للإمام الحافظ أبي الخطاب بن دحية وقال له: ما سأل الله تعالى بها حاجة إلا أعطاه إياها، وكذلك من استعمل إنشادها، وهن:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المُعَدُّ لكل ما يتوقع
يا من يُرجّى في الشدائد كلها ... يا من إليه المُشْتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول كن ... أُمْننْ فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقريَ أمنع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رُددتُ فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان خيرك عن فقيرك يمنع
حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً ... الفضل أجزل والمواهب أوسع
أقوال مؤرخي الأندلس فيه
وإليك نتفاً مقتطفة مما قاله في حق المترجم له مؤرخو الأندلس ممن عاصره وتتلمذ له. قال الحافظ بن بشكوال في كتابه الصلة: هو الحافظ المستبحر، ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها. . كان من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها مقدماً في المعارف كلها، متكلما في أنواعها، نافذاً في جميعها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب منها، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود الخ الخ وقال أبو نصر الفتح بن خاقان صاحب المطمح والقلائد:
الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب الذي أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع من الأصل، وغدا في بدء الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها منه الظل الوارف، وكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله. وكان أبو محمد باشبيلية بدرا في فلكها، وصدرا في مجلس ملكها، واصطفاه معتمد بني عباس اصطفاء المأمون لابن أبي دؤاد، وولاه الولايات الشريفة، وبوأه المراتب المنيفة؛ فلما أقفرت حمص (يريد أشبيلية) من ملكهم وخلت، وألْقتهم منها وتخلت، رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق، فجال في أكنافه، وأجال فيها قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه، فلم يستردّ ذاهباً، ولم يجد كمعتمده باذلاً له وواهباً، فعاد إلى الرواية والسماع، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح، وفي روض الشباب زهر ما صوّح، فألزمه مجالس العلم رائحاً وغادياً، ولازمه سائقاً إليه وحادياً، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه، فجد في طلبه، واستجدبه أبوه متمزق أربه، ثم أدركه حمامه، ووارته هناك رجامه، وبقي أبو بكر منفرد، وللطلب متجرداً، حتى أصبح في العلم وحيداً، ولم تجد عنه رياسته محيداً، فكَرّ إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقى، ومن عزة سقى، ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلدها، ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها، الخ الخ. . وقد وصفه القاضي عياض بما أوردنا بعضه عن حاله في القضاء، وفي هذا القدْرِ غناء. .
مقتطفات من منظومه ومنثوره
وأظنك لا تجهل أن أكثر علماء الأندلس وفلاسفتها وسائلا مثقفيها يقرضون الشعر، وقلّ أن تظفر بأندلسي لا يقول الشعر، ومن ثم لا تستغرب أن يكون مثل القاضي أبي بكر بن العربي شاعراً وشاعراً ظريفاً. . . فمن شعره وقد ركب مع أحد الأمراء الملثمين، وكان ذلك الأمير صغيراً، فهزّ عليه رمحاً كان في يده مداعباً، فقال:
يهزّ عليّ الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث
ولو كان رمحاً واحداً لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث
ولعل الرمح الثاني والثالث القد واللحظ. . ومن بديع شعره:
أتتني تؤنبني بالبكا ... فأهلاً بها وبتأنيبه
تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها
فقلت إذا استحسنت غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها
وحكى رحمه الله قال: دخل على الأديب بن صارة - وهذا ابن سارة أو صارة شاعر فحل من شعراء الأندلس - وبين يدي نار عليها رماد، فقلت له: قل في هذه، فقال:
شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد
ثم قال لي أجزْ، فقلت:
شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد
ويروى أنه كتب كتاباً فأشار عليه أحد من حضر أن يذرْ عليه نشارة، فقال قف، ثم فكر ساعة، وقال اكتب:
لا تشنه بما تذرّ عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء
فكأن الذي تدرّ عليه ... جُدَري بوجنة حسناء
ومن شعره:
ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى ... أي شِعب سلكوا
أتراهم سلموا ... أو تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا
وشعر هذا القاضي الجليل كثير جميل يدل على صفاء نفس وحِسّ مرهف وقريحة خصبة مواتية. ونكتفي بهذا القدر ونورد هنا بعض فوائد هن فرائد لهذا الإمام العظيم ذكرها في رحلته وغيرها وأوردها المقري. فمن هذه الفرائد قوله: سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي، وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول: يقال في اللغة العربية لا تَقْرَبْ كذا بفتح الراء، أي لا تلتبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع. . وهذا الذي قاله صحيح مسموع. . . ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله عنه: لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم؛ وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ، أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه: كنا في جنازة فقال المنذر بها: انصرفوا رحمكم الله. فقال: لا يقل أحدكم انصرفوا، فإن الله قال في قوم ذمهم، ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم، ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء. . . ومنها قوله في تصريف المحصنات: يقال أحصن الرجل فهو مُحصَن بفتح الصاد في اسم الفاعل وأسهب في الكلام فهو مسهَب - بفتح الهاء - إذا أطال البحث فيه وألْفَج فهو مُلْفَج إذا كان معدما - فقيراً - فهذه الثلاثة جاءت بالفتح نوادر لا رابع لها. . ومنها قوله: سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام - بغداد - أبا الوفاء علي بن عقيل يقول: إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والعبودية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مبثوثة عليه، وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلذلك تبعها، كما لو أكل رجل تمراً في أرض رجل وسقطت منه نواةٌ في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها، وهذا من البدائع. . ومنها قوله: كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأيُ إمام يعرف بابن عطاء، فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما ينسب إليه من مكروه، فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة، فقال: يا شيخ، يا سيدنا، إذن يوسف همّ وما تمّ، فقال: نعم لأن العناية من ثم. . . فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم، وفطنة العامي في سؤاله، والعلم في اختصاره واستيفائه؛ ولذا قال علماؤنا الصوفية إن فائدة قوله تعالى: ولما بلغ اشده آتيناه حكماً وعلماً أن الله أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة ليكون له سبباً للعصمة. . . ومنها قوله: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة المرفوع: إن من ورائكم أياماً للعامل فيها أجر خمسين منكم. فقال: بل منهم. فقال: بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعواناً وهم لا يجدون عليه أعواناً. . . وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، أقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. . فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلَّصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضاً انتهاؤه. وقد كان قليلاً في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان يعود كذلك لوعد الصادق صلى الله عليه وسلم بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال صلى الله عليه وسلم: لتركَبُنَّ سَنن مَن قبلكم شبرا بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جُحْر ضب خرب لدخلتموه. . .
وقال صلى الله عليه وسلم: بدا الإسلام غريبا، وسيعود غريباً كما بدا. . . فلابد والله أعلم بحكم هذا الوعد الصادق من أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معاناَ عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: لأنكم تجدون على الخير أعواناّ وهم لا يجدون عليه أعوانا حتى ينقطع ذلك انقطاعاً باتا لضعف اليقين وقلة الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله. . يروى بفتح الهاء ورفعها، ورفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه. . . .
(وأما بعد)، فهذا هو تاريخ القاضي أبي بكر بن العربي، سردناه لك في أخصر قول وأجزأ اختصار؛ وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. ومن هذه الترجمة تتبين منزلة هذا الإمام والمكان الذي يشغله بين علماء الإسلام، وأنه كان إلى فقهه في الدين كأكثر السلف الصالح أديبا كاتبا شاعراً فصيحا كثير الملح مليح المجلس وهكذا كان أكثر علماء الأندلس
وقد كانت وفاة هذا الإمام سنة 543. وقال القاضي عياض: وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحدين مدينة أشبيلية، فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا، فأدركته منيته ودفن بفاس وقبره هنالك مقصود رحمة الله عليه.
عبد الرحمن البرقوقي
رئيس قلم المراجعة بمجلس النواب
_______________________________
مجلة الرسالة الأعداد 161 / 162
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق