بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 17 فبراير 2017

وفاء وزير


تدور أحداث هذة القصة قبل 2800 سنة تقريباً عن أشهر تبابعة اليمن شمر يرتعش بن أفريقيس.

وتُبع لقب لملك اليمن، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك الفرس، وخاقان لملك الترك، والنجاشي لملك الحبشة، وبطليوس لملك اليونان، والقطنون لملك اليهود، وهذا في القديم ثم صار يقال له رأس الجالوت، ونمرود لملك الصابئة، ودهمي لملك الهند، وقور لملك السند، ويعبور لملك الصين، وذو يزن وغيره من الأذواء لملك حمير، وهياج لملك الزنج، وزنبيل لملك الخزر، وشاه أرمن لملك أخلاط، وكابل لملك النوبة، والأفشين لملك فرغانة وأسروسنة، وفرعون لملك مصر، والعزيز لمن ضم إليها الإسكندرية، وجالوت لملك العمالقة ثم البربر، والنعمان لملك العرب من قبل الفرس. <ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ): فتح الباري>


و يذكر أهل التاريخ أن شمر يرتعش غزا الكثير من بلاد العالم واتجه في آخر الأمر إلى أهل الصين بجيوش جرارة.

وهنا القصة كما ذكرها المؤرخون :-

خرج شمر بن افريقيس بن أبرهة في خمس مائة ألف مقاتل إلى أرض الصين، فلما قارب بلادهم بلغ ذلك ملك الصين، فجمع وزراءه فاستشارهم…
وقال: قد أقبل هذا الأعرابي ولا طاقة لنا به، فماذا ترون؟
فأتى كل واحد منهم برأي، وبقي واحد منهم لا يتكلم، فقال: ما تقول؟
فقال: أرى أنْ تظهر الغضب عليّ وتجدع أنفي وتأخذ دوري وضياعي وأملاكي ودوابي وعبيدي، حتى يعلم الناس بذلك!!!
فكره ذلك ملك الصين لعظم حال ذلك الوزير عنده، فلم يعذر ذلك الوزير حتى ساعده، وفعل به ما أشار عليه به، فخرج الوزير هارباً من الصين حتى انتهى إلى شمر يرعش ، فدخل عليه
، وقال: إني أتيتك مستجيراً!
قال شمر: ممن؟
قال: من ملك الصين لأني كنت رجلاً من خاصة وزرائه وإنه جمعنا لما بلغه مسيرك إليه فاستشارنا فأشار القوم جميعاً عليه بمحاربتك وخالفتهم في رأيهم وأشرت عليه أن يعطيك الطاعة ويحمل إليك الخراج، فاتهمني وقال: قد مالأت ملك العرب، وكان منه إليّ ما ترى ولم آمنه مع ذلك أن يقتلني فخرجت هارباً إليك.


ففرح به شمر وأنزله معه في رحله وأوعده من نفسه خيراً، فلما أصبح وأراد أن يرحل قال لذلك الرجل: كيف علمك بالطريق؟
قال: أنا من أعلم الناس به.
قال: فكم بيننا وبين الماء؟
قال: مسيرة ثلاثة أيام وأنا موردك يوم الرابع على الماء، فأمر جنوده بالرحيل ونادى فيهم أن لا تحملوا من الماء إلا لثلاثة أيام، ثم سار في جنوده والرجل بين يديه، فلما كان يوم الرابع انقطع بهم الماء واشتد الحر.
فقال: لا ماء وإنما كان ذلك مكرٌ مني لأدفعك بنفسي عن ملكي!
فأمر به فضربت عنقه.

وهناك روايتان في شأن نهاية شمر:
الأولى : أنه مات وكثير من جنوده في الفخ الذي وضعهم فيه هذا الوزير الوفي الذي ضحى بنفسه لإجل ملكه وشعبه.
والرواية الثانية: أن شمر بعد هذه الحادث تراجع عن غزو الصين بسبب أنه فقد الكثير من جنوده ورجع إلى اليمن.

________________________________

ذكر هذة القصة العجيبة في الوفاء والتضحية الأديب إبراهيم البيهقي أحد أدباء بغداد في القرن الرابع الهجري في كتابة " المحاسن والمساوئ ".

وكذلك ذكرها الأديب اليمني نشوان الحميري أحد أدباء ومؤرخي اليمن في القرن السادس الهجري في كتابة " خلاصة السير الجامعة لعجائب أخبار الملوك التبابعة ".


تاريخ الأمم والملوك



هو أوسع تاريخ عربي أبقته الأيام لصاحبه أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة عشر وثلاثمائة قال ابن خلكان في ترجمته هو صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير كان إماماً في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك وله مصنفات مليحة في فنون عديدة تدل على سعة علمه وغزارة فضله وكان من الأئمة المجتهدين لم يقلد أحداً. . . وكان ثقة في نقله وتاريخه أصح التواريخ وأثبتها.

هذه خلاصة حال هذا العلامة الكبير وقد أصابه ما أصاب كبار العلماء في الإسلام من الحط من شأنه وإيذائه قال ابن الأثير وفي هذه السنة (310) توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين ودفن ليلاً بداره لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد وكان علي بن عيسى يقول والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب تجارب الأمم وحاشا ذكر الإمام عن مثل هذه الأشياء وأما ما ذكره من تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقهياً وإنما كان محدثاً فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالناس أعداءٌ له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً أنه لدميم

وقال الإمام أبو بكر الخطيب كان الطبري أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره فكان حافظاً لكتاب الله عارفاً بالقرآات بصيراً بالمعاني فقيهاً في أحكام القرآن عالماً بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها ناسخها ومنسوخها عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الأحكام ومسائل الحلال والحرام خبيراً بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك والكتاب الذي في التفسير لم يصنف مثله وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة وأخبار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.

وقال ابن خزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبري ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر ولقد ظلمته الحنابلة وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني بعد أن ذكر تصانيفه وكان أبو جعفر ممن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين إلى باطل لرغبة ولا رهبة مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد وأما أهل الدين والورع نغير منكرين علمه وفضله وزهده وتركه الدنيا مع إقبالها عليه وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة.

يعد هذا التاريخ من المطولات بل هو أطول وأجمع تاريخ للقرون الأولى الثلاثة وقد كان مؤلفه يريد أن يتوسع فيه أكثر مما توسع حتى عرض على تلاميذه قبل الشروع في تأليفه أن يريد أن يملي عليهم تاريخاً فقالوا له كم يكون حجمه فقال ثلاثون ألف ورقة فقالوا تفنى الأعمار ولا يستوفي مطالعة فقال حسبي الله ماتت الهمم وأملاه في ثلاثة آلاف ورقة كما انتهى إلينا.

فجاء تاريخ ابن جرير مأخذاً للمؤرخين وطالبي التوسع في الوقوف على أخبار القرون الراقية في الأمة وقد كبر حجمه بالأسانيد والروايات على طريقة المحدثين إلا أن الحوادث بادية من خلال سطوره تنال بأدنى نظر. مثال ذلك ما رواه في الجزء الأول من الكلام على خلق العالم نقلاً عن الإسرائيليات فإنه بعد أن نقل الموضوعات كلها قال ابن صح ما روي عن رسول الله (ص) بحيث يتوهم المطالع قبل أن يصل إلى هذا الكلام أن ما أورده وعني به هو الحقيقة التي شائبة فيها.

وتاريخ ابن جرير مرتب على السنين مثل تاريخ الكامل لابن الأثير وتاريخ أبي الفداء والمسعودي وغيرهم ومن تطويله في سرد الكوائن يستفيد المطالع أشياء كثيرة فينتفع الكاتب من حسن العبارة وجودة سبكها ويقف على تعابير فصيحة قد لا يعرفها وليست مألوفة لهذا العهد والشاعر يتعلم ضروباً من الشعر والمقاطيع على اختلاف العصور خصوصاً والشعر كله مشكول كما شكلت الآيات القرآنية والكلمات التي ربما تلتبس بل يستفيد الجندي كيفية تعبئة الجيوش في تلك الأعصر ويتعلم المكايد والباحث في الاجتماع يقع على فوائد مهمة.

وفي هذا الكتاب قصائد نظمت على البديهة لشعراء مشهورين وغيرهم ومقاطيع قيلت في المناسبة وأنشدت بدواع خاصة وفيه رسائل الخلفاء لعمالهم ورسائل العمال لخلفائهم ومعظمها في الغاية إيجازاً وبياناً بنسج متعلم البيان والخطابة والشعر على منوالها وفيه من الحوادث كمقتل الحسين وشيعته مثلاً ما لوجود لكان قصصاً تاريخية حماسية فمن ذلك كلام لحيان بن ظبيان أحد زعماء الخوارج قاله لأصحابه: إنه والله ما يبقى على الدهر باق وما تلبث الليالي والأيام والسنون والشهور على ابن آدم حتى تذيقه الموت فيفارق الإخوان الصالحين ويدع الدنيا التي لا يبكي عليها إلا العجزة ولم تزل ضارة لمن كانت له هماً وشجناً فانصرفوا بنا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى جهاد الأحزاب فإنه لا عذذر لنا في القعود وولاتنا ظلمة وسنة الهدى متروكة وثأرنا الذين قتلوا إخواننا في المجالس آمنون فإن يظفرنا الله بهم نعمد بعد إلى التي هي أهدى وأرضى وأقوم ويشفي الله بذلك صدور قوم مؤمنون وإن نقتل فإن في مفارقة الظالمين راحة لنا ولنا بأسلافنا أسوة.

وقال زياد لما استعمله معاوية على البصرة وخراسان وسجستان والهند والبحرين وعمان فقدم البصرة سنة 65 والفسق بالبصرة ظاهر فاش فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها وقيل بل حمد الله فقال: الحمد لله على أفضاله وإحسانه ونسأله المزيد من نعمه اللهم كما رزقتنا نعماً فألهمنا شكراً على نعمتك علينا أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حكماؤكم من الأمور العظام ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى منها الكبير كأن لم تسمعوا بآي الله ولم تقرؤا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا وسدت مسامعه الشهوات واختار الفانية على الباقية ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا به من ترككم هذه المواخير المنصوبة والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر والعدد غير قليل ألم تكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار قربتم القرابة وباعدتم الدين تعتذرون بغير العذر وتغطون على المختلس كل امريء منكم يذب عن سفيهه صنيع من لا يخاف عقاباً ولا يرجو معاداً ما أنتم بالحكماء ولقد أتبعتم السفهاء ولم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كنوساً في مكانس الريب حرم عليَّ الطعام والشراب أُسويها بأرض هدماً وإحراقاً إني رأيت آخر هذه الأمر لا يصلح إلا بما صلح أوله لين في غير ضعف وشدة في غير جبرية وعنف وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم أن كذبة المنبر تبقى مشهورة فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي من بيت منكم فأنا ضامن لما ذهب له إياي ودلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليَّ وإياي ودعوى الجاهلية فإني لا أجد أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة فمن غرق قوماً غرقته ومن حرق على قوم حرقناه ومن نقب بيتاً نقبت عن قلبه ومن نبش قبراً دفنته حياً فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف يدي وأذاي لا يظهر من أحد منكم خلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه وقد كانت بيني وبين أقوام أحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له ستراًَ حتى يبدي لي صفحته فإذا فعل لم أناظره فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس. أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم واعلموا أني مهما قصرت عنه فإني لا أقصر عن ثلث لست محتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارق بليل ولا حابساً رزقاً ولا عطاءً عن أبانه ولا مجمراً لكم بعثاً فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون ومتى تصلحوا يصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ولا تدركوا حاجتكم مع أنه لو استجيب لكم كان شراً لكم أسأل الله أن يعين كلاً على كل وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه علي أذلاله وأيم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امريء منكم أن يكون من صرعاي اهـ.

نقلت هذه الخطبة على طولها لأنها مرآة ذاك الزمان وعلامة على استحكام أزمة الأحكام في رقاب الأمة ولأن فيها من الشدة واللين والتفتن في أساليب التأثير ما لا يتسنى قو مثله اليوم إلا لأناس من رجال الغرب ممن مرنوا على الخطابة ودربوا عليها فكانت ملكة البيان فيهم طبيعية هذا فضلاً عما حوت من البلاغة والفصاحة. وزياد هو الذي وطد الملك لمعاوية ويزيد وقتل الحسين واشتد في استئصال شأقته وكان يقول لو ضاع حبل بيني وبين خراسان علمت من أخذه وكتب خمسمائة من مشيخة أهل البصرة في صحابته فرزقهم ما بين الثلثمائة إلى الخمسمائة فقال فيه حارثة بن بدر الغدّاني:

ألا من مبلغٌ عني زياداً ... فنعم أخو الخليفة والأميرُ

فأنت إمام معدلة وقصد ... وحزم حين يحضرك الأمور

أخوك هليفة الله بن حربٍ ... وأنت وزيره نعم الوزير

تصيب علي الهوى منه ويأتي ... محبك ما يجن لنا الضمير

بأمر الله منصورٌ معانٌ ... إذا جار الرعية لا تجور

يدرُّ على يديك لما أرادوا ... من الدنيا لهم حلب غزيرُ

وتقسم بالسواء فلا غنيٌّ ... لضيم يشتكيك ولام فقير

وكنت حياً وجئت على زمان ... خبيث ظاهر فيه شرور

تقاسمت الرجال به هواها ... فما تخفي ضغائنها الصدور

وخاف الحاضرون وكل بادٍ ... يقيم على المخافة أو يسير

فلما قام سيفُ الله فيهم ... زياد قام أبلج مستنير

قويٌ لا من الحدثان غزٌّ ... ولا جزع ولا فان كبير

ومما ورد فيه من الشعر وهو ما نورد مثالاً ما قالته هند ابنة زيد بن مخرمة الأنصارية وكانت تشيع ترثي حجر بن عدي من زعماء الشيعة وقد قتله معاوية بواسطة عامله زياد.

ترفع أيها القمر المنير ... تبصر هل ترى حجراً يسير

يسير معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الأمير

تجبرت الجباير بعد حجرٍ ... وطاب لها الخورنق والسدير

وأصبحت البلاد لها محولاً ... كأن لم يحيها مزنٌ مطير

ألا يا حجر حجر بني عدي ... تلقتك السلامة والسرور

أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً له في دمشق له زئير

يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شر أمته وزير

إلا يا ليت حجراً مات موتاً ... ولم ينحر كما نحر البعير

فإن يهلك بكل زعيم قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير

ومن خطب الحسين خطبة خطبها بأصحابه لما أحيط به وقام أصحابه يدعونه للمطالبة بحقه قال: أيها الناس إن رسول الله (ص) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فسلم يعير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله وأنا أحق من عير وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببعثكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رشدكم فأنا الحسين ابن علي وابن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهلكم فلكم فيَّ أسوة وإن لم تفعلوا أو نقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم والمغرور من اغتر بكم فحظكم أخطأتم ونصيبكم منعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ومن جملة فوائده ما ذكره في حوادث سنة 71 أن عبد الملك بن مروان لما قتل مصعباً ودخل الكوفة أمر بطعام كثير فصنع وأمر به إلى الخورنق وأذن إذناً عاماً فدخل الناس فأخذوا مجالسهم فدخل عمرو ابن حريث المخزومي فقال إليَّ وعلى سريري فأجلسه معه ثم قال أيّ الطعام أكلت أحبُّ إليك وأشهى عندك قال عناق حمراء قد أجيد تمليحها وأحكم نضجها قال: ما صنعت شيئاً فأين أنت من عمروس راضع قد أجيد سمطه وأحكم نضجه اختلجت إليك فأتبعتها يده غذي بشر يجبن من لبن وسمن ثم جاءت الموائد فأكلوا فقال عبد الملك بن مروان ما ألذ عيشنا لو أن شيئاً يدوم ولكنا كما قال الأول:

وكل جديد يا أميم إلى بلىً ... وكل امريء يوماً يصير إلى كان

فلما فرغ من الطعام طاف عبد الملك في القصر يقول لعمرو بن حريث لمن هذا البيت ومن بنى هذا البيت وعمرو يخبره فقال عبد الملك:

وكل جديد يا أميم إلى بلى ... وكل امريءٍ يوماً يصير إلى كان

ثم أتى فاستلقى وقال:

إعمل على مهل فإنك ميتٌ ... واكدح لنفسك أيها الإنسان

فكان ما قد كان لم يك إذ مضى ... وكأن ما هو كائنٌ قد كان

ومن فوائده سأل المهدي يوماً كاتبه أبا عبيد الله بن زياد بن أبي ليلى عن أشعار العرب فصنفها له فقال أحكمها قول طرفة بن العبد:

أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبرٍ غوي في البطالة مفسدِ

ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صم من صفيح مصمد

أرى الموت بعنام الكرام ويصطفي ... عقيلة مآلِ الفاحش المتشدد

أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد

لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد

وقوله:

وقد أرانا همَّ صاحبه ... لو أن شيئاً إذا ما فإما رجعا

وكان شيءٌ إلى شيءٍ نفرقه ... دهر يكر على تفريق ما جمعا

وقول لبيب:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... إنحب فيقضي أم ضلال وباطل

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... ومل نعيم لا محالة زائل

أرى الناس لا يدرون قدر أمرهم ... بل كلُّ ذي رأي إلى الله واصل

وكقول النابغة الجعدي:

وقد طال عهدي بالشباب وأهله ... ولاقيتُ رَوعاتٍ تشيب النواصيا

فلم أجد الإخوان إلا صحابة ... ولم أجدالأهلين إلا مثاويا

ألم تعلمي أن قدرُزِئت محارباً ... فما لكِ منه اليوم شيئاً ولا ليا

وكقول هدبة بن خشرم:

ولست بمفراح إذا الدهر سرَّني ... ولا جازع من صرفه المتقلب

ولا أبتغي الشر والشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب

وما يعرف الأقوام للدهر حقه ... وما الدهر مما يكرهرن بمعتب

وللدهر في أهل الفتى وتلاده ... نصيب كحز الجازر المتشعب

وكقول زيادة بن زيد وتمثل عبد الملك بن مروان:

تذكر عن شحط أميمة فأرعوى ... لها بعد إكثار وطول نحيب

وإن امرأً قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير لبيب

هل الدهر والأيام إلا كما ترى ... رزيئة آل أو فراق حبيب

وكلُّ الذي يأتي فأنت نسيبه ... ولست لشيءٍ ذاهب بنسيب

وليس بعيدٌ ما يجيء كمقبلٍ ... ولا ما مضى من مفرح بقريب

وكقول ابن مقبل:

رأت بدل الشباب بكت له ... والشيب أرذلُ هذه الأبدال

والناس همهم الحياة ولا أرى ... طول الحيوة يزيد غير خبال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال

كتب سفيان بن أبي العالية أحد قواد الحجاج وكان بعث به لقتال بعض أعدائه: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقتلتهم فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم فتبينا نحن كذلك إذا أتاهم قوم كانوا غيباً عنهم فحملوا على الناس فهزموهم فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر فقاتلتهم حتى ضررت بين القتلى فحملت مرتثاً فأتي بي بأول مهروذ فها أنا بها والجند الذين وجههم إليَّ الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر فإنه لم يأتني ولم يشهد معي حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف ويعتذر بغير العذر والسلام. فلما قرأَ الحجاج الكتاب قال من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن ثم كتب إليه: أما بعد فقد أحسنت البلاد وقضيت الذي عليك فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجوراً إلى أهلك والسلام. وكتب إلى سورة بن أبجر: أما بعد فيا ابن أم سورة ما كنت خليقاً أن تجتريء عليّ ترك عهدي وخذلان جندي فإذا أتاك كتابي فابعث رجلاً ممن معك صليباً إلى الخيل التي بالمدائن فلينتخب منهم خمس مائة رجل ثم يقدم بهم عليك ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة واحزم في أمرك وكد عدوك فإن أفضل أمر الحرب حسن المكيدة والسلام.

ومع أن الحجاج معروف بالشدة فاقرأ ما يلي تعرف أنه للشدة تارة وللين أخرى: كتب إليه شبيب أحد قواده: أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه وقد كنت حفظت عهد الأمير إليَّ ورأيه فيهم فكنت أخرج إليهم إذ رأيت الفرصة وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة فلم أزل كذلك ولقد أرادني العدو بكل إرادة فلم يصب مني غرةً حتى قدم عليَّ سعيد بن مجالد رحمة الله عليه ولقد أمرته بالتوءدة ونهيته عن العجلة وأمرته أن لا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل فأشدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى وأني لا أهوى ما صنع فمضى فأصيب تجاوز الله عنه ودفع الناس إليَّ فنزلت ودعوتهم إليَّ ورفعت لهم رايتي وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى فما أفقت إلا وأنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها فليسئل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده وعن مكايدتي عدوه وعن موقفي يوم البأس فإنه يستبين له عن ذلك أني قد صدقته ونصحت له والسلام. فكتب إليه الحجاج أما بعد فقد أتاني كتابك وقرأته وفهمت كل ما ذكرت فيه من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه فقد رضيت عجلته وتوءدتك فأما عجلته فإنها فضت به إلى الجنة وأما توءدتك فإنها لم تدع الفرصة إذ أمكنت وترك الفرصة إذا لم تمكن حزمٌ وقد أصبت وأحسنت البلاء وأجرت وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة وقد شخصت إليك حيان بن أبجر ليداويك ويعالج جراحتك وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام.

هذه نموذجات من فوائد الكتاب الممتع ولو اتسع المقام لأفضنا فيه أكثر مما أفضنا فإن استيعاب الكلام على اثني عشر مجلداً لا يتأتى في بضع صفحات.
____________________________________________

محمَّد كُرْد عَلي
مجلة المقتبس العدد 39
بتاريخ: 1 - 4 - 1909

إسبانيا والعمران العربي



نشر المسيو كاباتون ن علماء المشرقيات بحثاً إضافياً في مجلة العالم الإسلامي الباريزية جاء فيه ما تعريبه: كتب لإسبانيا من دون ساتر بلاد أوربا أن تكون مبعث أشعة التمدن الإسلامي وكهف اللغة العربية على حين ليست هذه الشبه الجزيرة متصلة من حيث موقعها الجغرافي بالشرق الإسلامي مباشرة كما هي حال الممالك البلقانية واليونان مثلاً. وأقرب البلاد بها مساساً وأقربها منها حمى بلاد أفريقية التي كانت منذ قرون ثانوية في النشوء الإسلامي فشغلت إسبانيا مكانة عظمى في تاريخ الإسلام أكثر مما جاور آسيا الصغرى من بلاد الطونة واليونان التي لم تشهد من الإسلام إلا العهد الموغل في التوحش الكثير الفتن القليل المنافع ونعني به عهد الأتراك على حين ذاقت إسبانيا أجمل عهود الإسلام وأخصبها وأعني به عهد العرب فتأصلت مدنيتهم في إسبانيا وأزهرت فيها أي إزهار.

فتح طارق بن زياد وموسى بن نصير إسبانيا من سنة 711 إلى 714 وكانت مستعدة لهذا الفتح لأن الفوضى كانت رافعة عليها أعلامها فاستولى العرب على عرش تلك البلاد من ملكها رودريك الذي هلك في المعركة وأظهر الأشراف ورجال الدين من الإسبانيين من الجبن والنذالة شيئاً كثيراً فهربوا من إشبيلية وقرطبة عندما سقطتا في أيدي العرب ولم يفكروا في الدفاع عنها وبلغ بهم الخوف في طليطلة أن بعضهم هرب إلى غاليسيا ومن رجال الدين من لم يقفوا إلا في رومية لأنهم كانوا يخشون على حياتهم وأموالهم على أن حكومة إسبانيا إذ ذاك كانت مكروهة من العبيد واليهود لأن هؤلاء كانوا مضطهدين. خدم العبيد باديء بدء الدولة الإسبانية قبل دخول العرب ثم قلَّ إخلاصهم لها حتى أن قرطبة سلمها للعرب راهب من العبيد وتمت على أيديهم خيانات أخرى. وكان اليهود أكثر ضرراً على حكومة إسبانيا الغربية ولا يتأتى تقدير عددهم بالتدقيق بل هم فيما يظهر عنصر مهم للغاية انتشروا في قرطبة وإشبيلية والبيرة وغرناطة وطليطلة وغيرها من المدن ولا سيما لوسنا.

وكان اليهود في الأندلس على جانب عظيم من الغنى وحسن معرفة بالتجارة وأرقى علماً من جيرانهم واستحكمت بينهم الصلات حتى أصبحوا حكومة وسط حكومة فخاف الملك ورجال الدين الكاثوليكي من امتداد سلطانهم وأخذوا يضطهدونهم بتحامل شديد فربي الخوف والاضطهاد في نفوسهم البغضاء وحب الانتقام. وفي سنة 694 قبل مجيء طارق والعرب بسبع عشرة سنة دبر الإسرائيليون مكيدة بمعاونة قبائل البربر اليهود من أهل إفريقية وكادوا يستولون على زمام المملكة الإسبانية. فاكتشفت المكيدة التي دبروها وأخذ المسيحيون يعاملون الإسرائيليين معاملة العبيد الأرقاء وكاد يقضى على العنصر اليهودي عندما بدت طلائع الفاتحين من العرب. اعتبر اليهود العرب مخلصين لهم فاطمأن المسلمون إليهم وأخذوا يعاملونهم معاملة حلفاء لهم وكلما كان يفتح العرب مدينة يجعلون نصف حاميتها من اليهود والنصف الآخر من المسلمين ولم يستثن من ذلك إلا مدينة مالقة حيث قصراليهود فلم يتداخلوا في أمرها.

وكان لليهود شأن وأي شأن مع العرب فكان من يناله اضطهاد المسيحيين على أوائل الفتح العربي يدخل في الإسلام ويتحرر من قيود العبودية فمن ثم أصبح اليهود حلفاء المسلمين يتمتعون بأراضيهم وأموالهم وحريتهم في عبادتهم وغدت لهم مكانة في تنظيم شؤون إسبانيا ولاسيما في غرناطة التي ازدهرت بمساعيهم وغدت تسمى في أواخر القرن العاشر مدينة اليهود ثم حدثت م1بحة سنة 1066 فقتل فيها من الإسرائيليين أربعة آلاف رجل في غرناطة وحدها.

ولم يكن المسيحيون الأحرار في الأندلس مثل العبيد واليهود من أعوان الفتح العربي بل كانوا خصومه ومع هذا كنت تراهم على حالة حسنة مع الفاتحين ممتعين بحريتهم المذهبية ومحتفظين بالقسم الأعظم من كنائسهم وكثير منهم دانوا بالإسلام سياسة أو اعتقاداً لاسيما وقد رأوا المسلمين نالوا النصر المؤزر الباهر. والسبب في تسامح العرب مع نصارى إسبانيا أن مركز العرب كان إلى التقلقل وكلمتهم مختلفة وذلك لأن العرب والبربر يكره بعضهم بعضاً. ثم إن العرب بطبيعتهم مفطورون على التسامح الديني وكان النصارى وحدهم يدفعون الجزية حتى إذا أخذوا يدينون بالإسلام فرغت خزائن الحكومة العربية لقلة الجزية الواردة إليها ثم إن المسلمين أخذوا يتزوجون من الإسبانيات اللائي كن بجمالهن أعظم صلة للامتزاج بين الفاتحين وخصومهم.

وكانت تجري على سادات الإسبانيول أحكام الإسلام فيختلطون بأشراف العرب ومن ظل محتفظاً بدينه منهم نسي مبادئه فصار يحجب نساءه كالمسلمين ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم وخلاعتهم ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة العربية وآدابها ويسعى في نيل وظيفة في الجيش الإسلامي أو التعلق بخدمة الخليفة أو أحد رجاله.

ولقد كان القشتاليون والليونيون والنافاريون من سكان إسبانيا المسيحيين يأتون بكثرة للانخراط في خدمة الخليفة المنصور وكان هذا مؤقتاً بأن حب الكسب هو الذي يحمل هؤلاء على الإخلاص له أكثر من أشراف العرب الطائشين فيجري عليهم لذلك الأرزاق والجرايات الوافرة ويشملهم برعايته. وإذا شجر اختلاف بين مسيحي ومسلم من جنده يعطي الحق غالباً للمسيحي. وكانت أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع. ولما انقسمت بلاد الأندلس بين الطوائف أمسى ملوك المسيحيين يتزوجون من بنات الأمراء المسلمين فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية. وإن إسبانيا على ما كان بين العنصرين المسيحي والإسلامي في الأندلس من الاختلاف الذي لا مناص منه قد أصبحت مدة قرنين ونصف أي منذ الفتح العربي إلى زوال الخلافة الأموية (774 ـ 1031) تحت السلطة العربية والمدنية العربية برضاها لا بالرغم منها وقد مزجت تلك المدنية بالمدنية الإسبانية اللاتينية واليهودية التي كانت هناك قبل الفتح الإسلامي وكان ذلك بفضل العقل العربي.

من الظلم أن يقال أن إسبانيا كانت قبل إغارة العرب عليها في حالة الهمجية فقد كانت المدنية اللاتينية زاهرة فيها بفضل رجال الدين فأصبحت إشبيلية بواسطة أسقفها القديس إيزيدورس مركزاً علمياً قوي الدعائم لم يقو الفتح العربي على زعزعته وأنقذت مدرسة إشبيلية التقاليد اللاتينية من الحركة الشرقية فأصبحت البيع والأديار محال الاعتقادات والمعارف ولاسيما طليطلة وقرطبة وإشبيلية فكان يدرس فيها علم العروض والآداب اللاتينية مع علم اللاهوت. وعلى الرغم من سعي الأساقفة انتشرت المدنية العربية بسرعة وكادت تقضي على الوطنية الإسبانية وانحلت تلك المدنية الأصلية حتى ظلت معاهدها من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر مباءة الانحلال والتنبت.

دان كثير من الإسبانيين بالإسلام فأخذوا يتناسون أصولهم ويستعربون بحضارتهم وأخلاقهم وأنشؤا يتكلمون بالعربية بفصاحة لا غبار عليها وتمكنوا من آداب العرب حتى صار الخلفاء يختارونهم فيما بعد عمالاً لإداراتهم وأمناءَ لمشورتهم وأسرارهم أي في جميع الوظائف التي تقتضي أن يكون لصاحبها معرفة واسعة باللغة العربية ومتى قبل أحدهم مدنية الفاتحين لا يلبث أن يعترف بأنها أرقى من غيرها.

كانت مدنية العرب في إسبانيا محسوسة في الأمور المادية وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البور في إسبانيا بالأساليب العلمية التي اتخذوها لريها وهي أساليب إن لم تكن اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها وأحسنوا استخدامها كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبلور وغزل الصوف والقطن والكتان والقصب وأقاموا ما لا يحصى من البنايات العمومية من مثل الجوامع والحمامات ومنها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من تأسيسه مثل جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة. ثم خدموا العمران بتخطيط المدن الآهلة بالسكان الغنية الرباع التي لم تسترجع بعد الرعب ما كان لها في أيامهم من الحضارة وما برحت أنقاضها وما فيها من جمال رائع وصناعة محكمة ولاسيما في قرطبة وغرناطة شاهدة أبد الدهر بتلك المدنية باعثة على التأسف لزوالها.

نعم إن العرب فاقوا في تقدمهم في شبه جزيرة الأندلس بعلوم الطب والنبات والفلك والطبيعيات سواء كان بالعمليات أو بالنظريات فكيف لا يبتزون في علم البلاغة والفلسفة والشعر وهي العلوم التي كان لهم القدح المعلى فيها. وقد اجتذب حب هذه الحضارة حتى المسيحيين ومنهم من تناسى الأحقاد والمبادئ وما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العبرية وما مضي نصف قرن إلا وقد دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنائسية إلى اللغة العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.

ولقد اتخذ المسيحيون اللغة العربية ترجماناً لعواطفهم وقلوبهم حتى شكاالفار والقرطبي صديق الشهيد ألوج كما قال دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا من أن المسيحيين في الأندلس قد أفرطوا في حبهم للعربية حتى صاروا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم لا ليردوا عليها بل ليحلوا بها منطقهم. قال وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة ومن منهم يتدارس الأناجيل والأنبياء والرسل ومن الأسف أن جميع صغار المسيحيين الذين اشتهروا بقرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يقرؤن الأسفار العربية ويتدارسونها بنشاط لا مزيد عليه ويقتنونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها خزائن نفيسة ويذكرون في كل مكان أن آداب العربية مما يعجب به وإذا حدثتهم بالكتب المسيحية يجيبونك بازدراء أن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم. وأي ألم أعظم من أن ينسى المسيحيون حتى لغتهم ولا تجد في ألف واحد منهم من يستطيع أن يكتب كتاباً مناسباً باللغة اللاتينية إلى صديق له وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهوراً يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.

واللوم في قصور الإسبانيين عن شأو العرب أن الحضارة الإسبانية اللاتينية قد نضب معينها وذهبت نضارتها على حين كانت الحضارة العربية على أشد نضرتها على عهد خلفاء بني أمية في الأندلس ولاسيما زمن عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني وفي أيامهما كان الأمويون في إبان عزهم.

فكان في قرطبة وسكانها نصف مليون نسمة ثلثمائة مسجد جامع وأحواض ماء وحدائق وفيها الآكام المزروعة المعروسة والحدائق الأنيقة وعلى نحو فرسخ من قرطبة قصر الملك الزهراء ودائرة الحريم منها تسع ثمانية آلاف امرأة فكانت قرطبة تنازع بغداد الأولية ببهجتها ونضارتها.

وقد عرف عبد الرحمن الثالث أذكى ملوك عهده جناناً وأكثرهم استدارة وأغناهم وكان في خزانته عشرون مليون ذهب (كذا) ـ بسخائه المتناهي في اجتلاب الشعراء وأرباب الموسيقي ومشاهير العلماء يقتدي في ذلك بأسلافه عامة. وإن المتوسطين من هؤلاء الخلفاء ليدرون النفقات الطائلة على أناس لهم في الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد وكل إليهم أن يوقفوه على الحركة العقلية فيبعثون إليه بأهم المصنفات وأجمل الآثار. مثال ذلك أن إمبراطور القسطنطينية لم ير أحسن من أن يهدي مصنفاً بديعاً من ديوز كوريد مكتوباً بالذهب وقد حمله مع راهب عهد إليه بتعريبه للملك استجلاباً لرضاه.

فاق الحكم الثاني أباه بولعه بالآداب والكتب النادرة فكان يغص قصره بالنساخ والمجلدين والنقاشين وبلغت فهرست كتبه بحسب رواية معاصريه أربعة وأربعين جزءاً وكل جزءٍ عشرون صفحة وقال آخرون أن في كل جزء خمسين صفحة. ولم يكن فيها غير اسم الكتاب ووصفه. وقد قرأ الحكم هذه المصنفات وشرحها وحشاها وعلق عليها تعليقات تدل على طول باعه في تاريخ الأدب العربي. وبذل لأبي الفرج الأصفهاني من علماء العراق خمسة آلاف دينار ليخص الأندلس بتأليفه وهو عبارة عن دائرة معارف حوت أخبار الشعراء والمغنين. وكان العلماء من إسبانيا وغيرها ينهالون على قصره فيحسن فيه لقاءهم ويفرق عليهم الإحسان واشتهرت كلية قرطبة في العالم بأسره وإن لم تكن معروفة بأنها معهد رسمي للخلفاء أكثر من جميع الكليات العربية. وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني يحميان العلماء فيها من تعصب المتنطعين في العبادة. فيأتي الجامع الأعظم ألوف من الأندلسيين والأجانب من كل البلاد لاشتهاره بأنه معهد علمي وذلك من مدينة الأستانة إلى جرمانيا حيث كان هروفستا بقرطبة وهو فيديره. وفي ذاك الجامع كان أبو بكر بن معاوية القرشي يقريءُ الحديث النبوي وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه المشهورة الغنية بالنكات اللغوية والشعرية المأثورة عن العرب القدماء وابن قوطية أعلم نحوي في عصره يدرس النحو.

ورأى الحكم قبيل وفاته أن من الصعب على من بعده نشر المعارف بين الفقراء فأنشأ فيقرطبة سبعة وعشرين مدرسة ينفق على مدرسيها من ماله. ولئن كانت هذه المدارس الصغرى كالكليات لا تنطبق على ما نريده منها اليوم فكانت المدارس الابتدائية لتعليم القراءة وتفسير بعض آيات من القرآن ومع هذا كانت تشهد بما فطر عليه رعاياه من حب المعارف والتعليم.

وإن ذهاب الخلافة من الأندلس سنة 1031 وتقاسمها بين ملوك الطوائف سواء كانوا من أشراف الأسر العربية أو حذاق البربر لم يقف عثرة في سبيل هذه الحمية بل كان شأن عامة ملوك الطوائف شأن أولئك الأمراء في إيطاليا على زمن النهضة يحاولون أن يبرروا مظالمهم بحمايتهم للعلماء ولاسيما للشعراء الذين كانت أماديحهم وأهاجيهم عند العرب ذات شأن كبير حتى كان أعظم الخلفاء في بغداد ودمشق يحاول أن يسالمهم ليسالموه ويحسن إليهم ليمدحوه.

وتقدمت إشبيلية في تلك القصور الخالعة المتحضرة فكان المعتضد ابن عباد ابن القاضي أبي القاسم محمد مؤسس الدولة العبادية من الأمراء الظالمين المتهتكين يزرع الورد في جماجم أعدائه الكثار ويسرح طرفه بالنظر إلى هذه الحديقة ويدمن الخمر ولكنه ينظم الغزل الرقيق ويمنح الأدباء وظل ابنه المعتمد المحبوب الذي هلك في غارة المرابطين أحد المشاهير بنظم الأغاني في الأدب الإسباني العربي وقد أعطى من أجل بيتين فذين لعبد الجلال ألف دينار. وكان ابن عمار رفيق صباه وحاجبه زمناً شاعراً أيضاً ويساوي مولاه برقة الشعر ورشاقته وكانت رومابيكا السلطانة المحبوبة التي استولت طول حياتها على عقل المعتمد وقلبه مشهورة ببديهتها وهكذا كانت غاية هؤلاء المفتونين الظرفاء من الحياة أن ينصموا ويترفهوا ولو لم يضيفوا إليه محبة الآداب والصنائع الفكرية لكانت حقيرة ومريرة.

ولقد نافست مملكة المرية على صغرها مملكة إشبيلية وكان ابن عباس الوزير الجبار لزهير (1028 ـ 1038) يفاخر ببيانه المبرأ من العيوب وما اقتناه في خزانة كتبه التي تبلغ أربعمائة ألف مجلد أكثر من مفاخرته بغناء العظيم بالنسبة لعصره. ذكر المعتصم الذي طرده المرابطون كما طردوا المعتمد بأنه أحسن الملوك العلماء وأعدلهم في بلاد الأندلس فكان سخاؤه على الشعراء متناهياً حتى وهب ابن شرف قرية برمتها لبيت من الشعر قاله. وكانت قطعة من الشعر أو قصيدة من المدح الرقيق تمطر على ناظمها العطايا. وهو يرغب في سماع الأهاجي ولاسيما إذا دلت على صناعة وخلت من رميه بالبخل ولذا كان الأدباء يهرعون إلى قصره ويخدعونه ويبرمونه بمطالبهم التي لا تطاق فخف إليه في المرية طائفة من الشعراء يتبعهم أناس هاجروا إليه من البلاد الأخرى ومن جملتهم أبو الوليد النحلي الذي أغدق عليه المعتصم عطاياه فضحك منه ولكن المعتصم عفا عنه لا بالحط من قدره بل أنه أتبع العفو بالإحسان والإنعام. ومثله ابن شرف وابن أخت غانم من مالقة وهو ابن أخت اللغوي المشهور وغانم غرناطة وابن الحداد من قادش الذي اشتهر بأنه أعظم شاعر أندلسي.

وكان في الأندلس مثل أبي عبيد البكري ابن أحد ملوك الطوائف وهو أعظم جغرافي عربي في إسبانيا وكان له أيضاً حظ وافر من الشعر وله صداقة أكيدة مع المعتصم وكان هذا أو جميع أسرته يتعاطون الشعر ولاسيما ما كان منه في الغزليات والخمريات ومازال غزل أبيه وابنته أم الكرام معروفاً إلى اليوم عند كل من اطلعوا على الآداب العربية.

رسخت قواعد الحضارة العربية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر وبهرت العقول على ما كان من الفوضى السياسية في جميع إسبانيا الجنوبية بحيث تؤثر تأثيراً شديداً حتى على أعدائها الألداء أي الأمراء النصارى في شمالي إسبانيا. فانتشر هنا استعمال اللغة العربية بكثرة حركة فرسان ليون وأراغون الذين كانوا يذهبون للغزو مع المسلمين. وما كان يراه ملوك نافار وغاليسيا وليون وأراغون من ضرورة الاتحاد مع جيرانهم في الجنوب (العرب) فكانوا يؤدون إليهم الجزية على عهد خلفاء الأندلس وغدا العرب على عهد ألفونس السادس ملك غاليسيا وقشتالة وليون ونافار بعض إقطاعاته فكان في قصر ألفونس السادس ملك أهل الدينين كما كانوا يسمونه أناس من المدققين في اللغة المطلعين كل الاطلاع على دقائق اللسان العربي بحيث تسهل عليهم مكاتبة أمراء الطوائف من المسلمين فقد كان السيد كمبادور يجيد التكلم بالعربية لا فرق بينه وفي العقل والأخلاق وبين مسلمي بلنسية. ولما دخل ألفونس السادس إلى طليطلة سنة 1085 وكانت هذه المدينة عاصمة ألوزغوت القديمة قوي نفوذه من وراء الغاية باستيلائه عليها ولم يأت عملاً يصر بشهرتها بالعلوم الإسلامية وفاءً بعهد تعهده في هذا الشأن وكان نقض العهد من المألوفات في عصره لأن المسيحيين في الشمال ما زالوا متوحشين ينتفعون من الاحتكاك بالعنصر العربي المحط في أخلاقه الراقي بعقله وسار خلفاؤه على قدمه. ناول مدرسة أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر هي عربية اشتهر أمرها على عهد ملوك قشتالة أي زمن أبي عبد الله محمد بن عيسى المغامي وأحمد بن عبد الرحمن بن المطهر الأنصاري وغيرهما من الأساتذة ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب. وفي سنة 1130 أنشأ ريمون رئيس أساقفة طليطلة في هذه المدينة مدرسة للتراجمة وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية .


دثرت المدنية الإسلامية الباهرة لا بأيدي المسيحيين الذين كانت تخشى بأسهم بل بصنع أناس من المسلمين أنفسهم نسفوها نسفاً وأعني بهم المرابطين. ولم يلتجيء أمراء العرب في الأندلس إلى هؤلاء الإفريقيين القساة المتبربرين الذين حملوا إلى الإسلام روح تعصبهم المنبعث من ضيق عقولهم الجاهلة إلا بعد أن أوجسوا خيفة على حياتهم وزاد سوء ظنهم في العواقب. هلك المعتضد ونفسهتحدثه بالشر الذي يجره على بلاده وأخلافه. وبينما كان ألفونس السادس ملك طليطلة إذا هو قد أصبح ملكاً على إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغدا الأندلسيون مهددين من جهتين فرأوا أن يستسلموا لأبناء دينهم من المرابطين ليدفعوا غارة المسيحي عنهم وهو عدوهم القديم.

وفيسنة 1086 هزم يوسف (بن تاشفين) وعصاباته الإفريقية ألفونس السادس في وقعة الزلاقة شر هزيمة وفي سنة 1100 كتب لهذه العصابات أن تطرد عامة ملوك الطوائف أو تقتلهم وفيعام 1027 استرجعوا مدينة سرقسطة وخضعت إسبانيا كلها لملك مراكش.

وإن الثلاثة الملوك من المرابطين الذين استولوا على الأندلس منذ سنة 1100 إلى 1445 وهم يوسف وعلي وتاشفين كانوا على شجاعة فيهم ضعاف المدارك موسومين بالتعصب لا وقوف لهم على اللغة بل ولا على آداب العرب وأخذوا بتحريض الفقهاء يضطهدون الشعراء والعلماء والفلاسفة باسم الدين حتى اضطر هؤلاء أن يصمتوا أو أن يفروا بأنفسهم إلى بلاد أعدائهم القدماء ملوك قشتالة ونزلوا مدينة طليطلة حيث توفروا على تخريج النصارى يعلمونهم من أحكام الترقي ما كان ينقصهم للحاق بالمسلمين.

ومن الغريب أنه لم ينشأ على عهد عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني على كثرة حرصهم على المعارف علماء متجرون وفلاسفة عظام في البلاد الأندلسية المستعربة. وعلى العكس كنت ترى الفلاسفة يكثرون في عهد الشدة أيام أخذ المتعصبون من أهل الدين يطاردون كل من يجرأ في أرض الأندلس على مخالفة مذهب مالك. نعم كانوا ينبغون على حين غرة من أولئك المتنطعين وينيلون إسبانيا العربية مجداً لم يبلغه المسلمون أيام كانوا مشارقة صرفاً. فجاء الأندلس أمثال ابن باجة وابن الطفيل وابن زهر ولاسيما أبو الوليد ابن رشد الذي تخرج بابن باجة وانتمى إلى ابن الطفيل وصحب ابن زهر.

هذه الفلسفة التي انتقد عليها فيما بعد لخلوها من الإبداع قد كان لها شأن عظيم في حضارة القرون الوسطى بأن كانت واسطة النقل إلى الغربيين الذين أضاعوا حتى الاسم من معارف اليونان على ما تلقتها عنهم مدرسة الإسكندرية وبفضل هذه المدرسة تسنى لعلم الفلسفة واللاهوت (علم الكلام) في القرون الوسطى في الغرب أن تتصل التقاليد المدرسية بآداب النهضة.

كان للشعراء مقام كريم بين الناس بمافطروا عليه من التصورات فكانوا على طبيعتهم الشرقية لا يأتون ما يخالف روح الإسلام وكان الملوك بما فيهم من الاستبداد الطبيعي والأغراض السياسية يمقتون الفلاسفة. هذا إلى ما هنالك من حقد المتنطعين والمتفقهين وما جبل عليه الشعب الإسباني من أخلاق التعصب وكان الإسبانيون بانتحالهم الإسلام يزيدون المسلمين تعصباً إلى تعصبهم.

وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني من التسامح على جانب مع العلماء ولقد اتهم المنصور حاجب هشام الثاني بأفكاره الفلسفية فلم يدفع عنه هذه التهمة إلا بتكبير مسجد قرطبة ونسخ القرآن بيد، وإدرار الهدايا والعطايا على العلماء والفقهاء وتخريب خزانة كتب الحكم الثاني لأنها كانت عبارة عن كتب فلك وفلسفة وجغرافيا وطب فأحرقت وبإحراقها بادت إلى الأبد كنوز لا تقدر بثمن ونال لقاء ذلك رضا المتنطعين فخلا له الجو في قصره وأخذ يشتغل بالدروس التي يحظرها على الناس ويشتد في الإنكار عليها. وما أتاه من هذا القبيل سياسة قام به المرابطون مدفوعين إليه بعامل من الاعتقاد ونابل من أمزجتهم.

فكما أحرقت سنة1150 كتب ابن سينا في بغداد بأمر الخليفة رأينا بابن باجة يسجن بدعوى المروق من الدين ويضطر ابن واهب من إشبيلية أن يخلى عن دروسه الفلسفية إبقاءً على حياته ويقتل ابن حبيب من أهل تلك المدينة لاتهامه بالفلسفة. ويضطهد ابن الطفيل حتى يضطر إلى الاعتراف جهاراً بإيمانه الصحيح ومعتقداته الخالية من الشوائب. وهكذا انقضى زهاءُ قرن والكتب تحرق في أطراف إسبانيا الإسلامية وبها يبيد أثمن ذخر من الآداب العربية.

حاول السلطانان الأولان من الموحدين وهما عبد المؤمن ويوسف وكانا يميلان إلى الحرية أن يخففا من تعصب عصاباتهما ومن تشدد المتنطعين من المتصوفة حتى حظر عبد المؤمن إحراق الكتب على نحو ما كان يفعل المرابطون لإبادتها وأحسن معاملة ابن الطفيل وابن زهر وابن باجة. وأغدق يوسف وكان أعلم أمراء عصره على ابن الطفيل من إنعامه الشيء الكثير وقرأ عليه فلسفة ابن رشد وفوض إليه أرقى المناصب ومنها منصب القضاء في إشبيلية ثم أقامه طبيباً أول فيقصره (1183) ووسد إليه منصب قاضي القضاة في قرطبة على نحو ما كان أبوه وجده. وأفاض عليه يعقوب المنصور بالله ما كان له من أسلافه وزاد عليه ولكن إرادة شخص ولو كان ملكاً لا تقوى على صد هجمات تيار الرأي العام ولاسيما في عصر كان فيه سلاطين الموحدين مضطرين إلى إضرام جذوة التعصب فينفوس رعاياهم المسلمين من الأندلسيين لمعاكسة ملوك قشتالة وأراغون الذين كانوا على الدوام يتقدمون إلى الأمام.

وفي سنة 1196 بعد وقعة الأركوس التي كتب فيها النصر للمنصور على ألفونس التاسع صاحب قشتالة قويت شوكة الحزب الديني في القصر السلطاني ونكب ابن رشد على شيخوخته نكبة هائلة تناولت كثيرين من العلماء والأطباء والشعراء بل والفقهاء متهمين بحرية الفكر والخروج عن مقصد الجماعة. وطرد العامة ابن رشد على أبشع صورة من الجامع الأعظم في قرطبة وكان ذهب إليه لأداء الصلاة مع ابنه عبد الله الذي كان من أعظم عمال تلك المدينة ونفي إلى مدينة لوسنا اليهودية. وفي غضون ذلك صدر أمر من المنصور يحظر فيه على مراكش وإسبانيا درس الفلسفة المضرة والعلوم وما يتعلق بها ولم يستثن من هذا الحظر إلا الطب والحساب ومبادئ الفلك. وعهد بتنفيذ أمره إلى ابن أخت ابن زهر وكان فيلسوفاً كخاله فصدع بالأمر والخوف رائده. ثم إن ابن رشد نال الرضا من سلطانه قبل موته بأربع سنين وعاد المنصور يتوفر على دراسة ما كان يحظره على أمته من العلوم ولكن بعد أن ضربت الفلسفة الإسبانية العربية ضربة لا يجبر كسرها.

وإذ طردت العلوم الإسلامية من بغداد ومراكش وإسبانيا لم يبق لها غير مصدر واحد تلجأ إليه في طليطلة حيث طلبت حماية الدول المسيحية التي هي ألد أعدائها وكان سبقها إلى تلك العاصمة كثير من المسيحيين والإسرائيليين من أهل الأندلس فزعوا إليها لتحمي حياتهم ومعتقداتهم. وإذ كان المرابطون والموحدون متعصبين بالفطرة اضطروا أن يتظاهروا بالتعصب سياسة أيضاً فكانوا يعيشون في جهاد دائم لمقابلة المسيحيين من سكان الشمال الذين لم يكونوا دونهم في الانغماس بحمأة التعصب أيضاً للدفاع عن كيانهم في بلادهم ولم ير أولئك المرابطون والموحدون وسيلة إلى بث دعوتهم في نفوس أبناء دينهم أحسن من إثارة روح التعصب في جمهور العامة المتعصب وليس من سبيل إلى إقناعهم إلابتحسين دينهم لهم واضطهاد غيره من الأديان. فلا عجب من ثم إذا عومل نصارة الأندلس بأقصى الشدة وخربت كنائسهم وصودرت أموالهم وغدوا على الدوام مهددين في حياتهم. ولما عيل صبرهم استصرخوا ألفونس السابع المعروف بحبه للحرب والضرب فاقتصر من نجدتهم على غزو المسلمين في عقر دارهم ولكن بدون طائل إذ قاسى مسيحيو الأندلس من تلك الغزوات ضروب النكبات فقتل بعضهم أو نفي إلى إفريقية (1125) على صورة متوحشة بحيث هلكوا بأسرهم قبل أن يبلغوا منفاهم.

وجرى استئصال شأفة النصارى سنة 1136 على أقسى وجه حتى لم يبق منهم باقية في الأندلس ومن نجوا من الموت والتشريد لجؤا إلى قشتالة. وهكذا أسدى المرابطون والموحدون لنصارى الشمال معروفاً عظيماً غير متوقع بما توفروا على القيام به من العسف حتى نقضوا العهد الذي كان عقد بين إسبانيا الجنوبية والمسلمين العرب وقووا الشعور الوطني والتحمس الديني في الأندلسيين وجمعوا بين الإسبانيين من سكان الشمال ومن سكان الجنوب بما بينهم من أواصر الجنس والدين فقاموا قومة رجل واحد في وجوه المسلمين مسوقين إلى ذلك بحب الانتقام المتأصل بين الإسلام ومن يخلفه. وما كان الاضطهاد الذي نال أهل الصناعات الوديعين من المغاربة بعد خمسة قرون إلا جواباً طال التفكر فيه ودعت إليه قسوة المرابطين والموحدين وكان نتيجة تعصب مماثل لذاك التعصب ورأي سياسي مشابه لتلك الآراء وإن كان إلى الصراحة أقرب.

ولم يلبث امتزاج الشعوب الإسبانية على اختلاف العناصر والدين إن أثمر الثمرة المطلوبة فانهارت قوة الموحدين في وقعة لاس نافاس دي تولوزا (1212) وسقطت قرطبة (1238) وإشبيلية (1254) وبلنسية ومرسية في أيدي الإسبانيول وغدا هذا الاسم بعد حين جامعة دينية أكثر مما هو جامعة جنسية لأن جميع من لم يرتدوا عن الإسلام دخلوا في سواد العرب البربر وامتزجوا فيهم أي امتزاج. وإن المغاربة الذين رضوا بأن يعيشوا في الأندلس عيش التنبت إلى القرن السابع عشر ليصعب عليهم أن يبرهنوا على أنهم من دم إفريقي ثم أنه يتعذر على الإسبانيول أيضاً أن يذكروا أنسابهم لأن بعضهم مخضرمون خلاسيون فيهم الدم العربي وقليل منهم سرى إليهم دم البربر إبان الفتح وآخرون أصبحوا إفريقيين صرفاً عند زوال ذاك السلطان وخفوق راية الإخفاق على ربوع الأندلس الإسلامية.

ومما قوى أمل المسلمين في المستقبل وزادهم نشاطاً كثرة عديدهم فقد طرد منهم فرديناند الثالث بعد دخوله إشبيلية زهاءَ ثلثمائة ألف مسلم من أهل هذه المدينة فلجؤا من إشبيلية إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة حيث بقيت دولة بني نصر مائتين وخمسين سنة أيضاً وعلى هذا كانت غرناطة آخر ملجأ للعمران العربي أزهر أي أزهار عندما أوشك بالانقراض فرأت حدائق الحمراء البهجة كبار الشعراء والمؤرخين من العرب أمثال محمد بن الخطيب وابن خلدون يجتازانها هما وابن بطوطة الجغرافي العظيم.

كان من نتائج وقعة لاس نافاس دي تولوزا أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء (المسلمين) فحاول ألفونس العاشر خليفة القديس فرديناند الثالث واكن أوسع ملوك عصلره مدارك أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام وذلك بالأخذ بأحسن ما فيالحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية.

فأسس سنة 1254 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف واستدعى إلى عاصمته العلماءَ من جميع الملل والأجناس ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيار أحسن المعارف النافعة وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني. وذلك لأن الإسرائيليين على سعة آمالهم في أحكام صلات التآلف بينهم وبين مسلمي الأندلس وما عرفوا فيه من مرونة الأخلاق قد عوملوا أسوأ معاملة وأوذوا في أنفسهم كما آذى المرابطون والموحدون نصارى تلك البلاد. فقتل الإسرائيليون ونفوا ومن سعدهم أن لجؤا إلى أرض ملوك قشتالة وأراغون الذيمن أحسنوا استقبالهم وكان لهم في بلاطهم شأن مهم أواخر القرن الخامس عشر فكان منهم أمناء الخزائن ومستشارون وأطباء للملوك. وبلغ عددهم في طليطلة أيضاً زهاء اثني عشر ألف شخص. وظل اليهود إلى ذاك الحين أقدر التراجمة على نقل الحضارة العربية وبما ترجم منها إلى لغتهم نجت أثمن آثار تلك الحضارة لأن الموحدين والمرابطين أخذوا يبددون كتبها عامة. وكان زان بن زاكت ويهوذا هاكوهن والربان زاك هم الذين نقلوا لألفونس العالم معظم كتب التاريخ والفلسفة والفلك عند العرب مع الشروح التي علقها عليها الشراح. وأتى دهر ظن فيه أن ألفونس العاشر سيحيي إسبانيا بعد موتها.

ظهرت الكنيسة أنها طمع في تنصير المسلمين بالبرهان فوضع أحد الرهبان الدومينيكيين واسمه رامون مارتي أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 12 ـ 1311 امتدح البابا كليمان الخامس في إحدى المجامع الدينية من إنشاء كرسي لتعليم العربية في مدرسة سالامنكة. وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومينيكيون مثالاً لغيرهم بإنشاء مدارس لتعليم اللغات الشرقية ليقف رهبان من أهل الغيرة على لغات غير أبناء دينهم ومعتقداتهم ويباحثوهم ويجادلوهم. وقد أنشأ يعقوب الأول صاحب أراغون مدرسة مثل هذه في ميرامار إكراماً لثلاثة عشر راهباً فرنسيسكانياً وأخذ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص ينقطعون إلى دراسة اللغة العربية ليقاوموا الفقهاء والمشايخ بسلاحهم. وعلى هذا التقليد ظلت الجمعيات الدينية ولاسيما الفرنسيسكان إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة الاستشراق أي درس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.

كانت وطنية الإسبانيين متشبعة بروح السخط وحميتهم قائمة على التعصب وعدم التسامح وسياسة ملوكهم إلى الشدة ولذلك نالوا ما طمحت إليه نفوسهم من استتباع المسلمين بدراسة علومهم وقد نشأت من هذا الاحتكاك حضارة ذات قلب وإبدال مركبة من حضارتين مهمتين بغناهما ثم استقل الإسبانيون بعقولهم المرنة الشديدة المروضة وأصبحوا مصدر حضارتهم ومقرري مدنيتهم.

اعترفت إسبانيا بما هي مدينة به للحضارة العربية بما حفظته لها في مدارسها من الشأن حتى بعد أن تحررت من قيودها. كان في سالامنكة التي استحقت أن تجعل في مصاف باريز وأكسفورد وبولونيا إحدى المراكز العلمية الأربعة في الغرب سبعون حلقة للتدريس وربما بلغ عدد طلبتها سبعة آلاف في القرن السادس عشر ولم تنل هذه الشهرة الطائرة أولاً إلا لكونها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب التي كانت إلى ذاك العهد مغشاة بتجارب تافهة وعمليات مضحكة من نحو السحر والطلسمات. ولم يكن في سالامنكة في أواخر القرن الثالث عشر على عهد البابا بونيفاس الثامن غير خمسة وعشرين حلقة للتدريس منها حلقة لليونانية وأخرى للعبرانية وثالثة للعربية.

ولقد أصيبت هذه الحركة المثمرة المباركة بضربة شديدة عندما عاد ملوك الكاثوليك فاستولوا على غرناطة سنة 1492 واستصفوا أرض إسبانيا وأبادوا آخر مملكة إسلامية من شبه جزيرة الأندلس. ومنذ ذاك العهد أعادت حرب لا على دين أصحاب تلك البلاد ونعني بهم المسلمين بل على جنسيتهم ومدنيتهم. وقد جرت العادة بأن تلقي تبعة هذا العمل على رجال الدين من الإسبانيين ممن كانوا في الحقيقة متفانين في تنفيذ هذا العمل وذاهبين بفضل الربح فيما قاموا به من الذرائع على أن هذا الحكم لا يخلو من غلو ووضع المسؤولية في غير موضعها وذلك لأن ملوك الكثلكة مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث الذين نسب إليهم الفخار بهذه الأعمال هم اليوم يبوؤن بالقسم الأعظم من العار. فكانت الشدة فيهم منبعثة عن رأي سياسي كاذب أكثر مما هي عن تعصب ديني ويراد بها التوسع في الملك على وجه سخيف. فطمع الإسبانيون بعد الوحدة السياسية والملكية التي نالوها بالصبر عليها قروناً أن يضموا إليها الوحدة الأدبية المتناهية في الخيال وهي التي كان يتصورها لويس الرابع عشر بفكره القاصر وانتهت بفسخ الأمر الصادر في نانت. وكان الفكر السائد منذ عهد فرديناند الكاثوليكي إلى فيليب الخامس بين جميع حكومات إسبانيا أن يعملن كلهن على تطبيقه على ضعاف المغاربة بالشدة التي جرين عليها في الأزمان السالفة فكن يقاومن أمراء المسلمين في الأندلس مقاومة ليس بعدها مقاومة. ومثل ذلك كان يجري على الإسرائيليين بصورة أكثر شدة ولكن لا تكاد يشعر بها لأن اليهود كانوا عبارة عن طائفة أقل من المسلمين وكان الغضب والأحقاد الشخصية تصب عليهم في الفترات متقطعة ثم زاد التعصب الإسباني وعجل بالقضاء على كل مخالف. وأكد فرديناند وإيزابيلا للمغاربة في غرناطة والأندلس بأنهم في حلٍّ من البقاء في أرض إسبانيا وأن يكونوا أحراراً في دينهم على شرط أن لا يدعوا إليه وأن تجعل جميع مساجدهم كنائس كاثوليكية. ولما قضى نحبه الكردينال بدرو كونزالز دي مادوزا سنة 1495 قام الكردينال كسيمنس دي سيسنروس رئيس أساقفة طليطلة ومن قدماء الأساتذة ومن الشاهدين على ما قالته إيزابيلا وحاكم إقليم قشتالة ينقض العهد الذي تم مع المسلمين رياءً ونفاقاً. وكان هذا الرجل معروفاً بسعة نظره وقوة عارضته في العمل بكل رأي يراه صواباً فيدعو على العمياء لتأييد الحكم المطلق للمقام البابوي أو للحكومة الملكية.

وأنشأ القوم بعد ذلك لا يكتفون بدعوة المسلمين إلى النصرانية بل يتطلعون إلى تعميدهم أو طردهم فجرى تعميد ألوف في إشبيلية وطليطلة وقرطبة وغرناطة من أولئك البائسين من المسلمين ممن اضطرتهم المصلحة والخوف واحترام المتغلب وحب الأرض التي ولدوا فيها أن يرضوا بتغيير معتقداتهم وقلوبهم منكرة عليهم أعمالهم ثم تكفل ديوان التفتيش الديني بمراقبتهم لتتبين له طهارة اعتقادهم. ومنذ سنة 1501 ـ 2 طرد من قشتالة ومملكة غرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام ولم يعد للدومينيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا بها من مجادلة الفقهاء وتخلوا عن علومهم لأنها أفسدت أفكارهم وزهد المسيحيون في علوم المسلمين إذ قام في أذهانهم أنها خطرة عليهم. ولذلك رأينا الكاردينال كسيمنس عندما أسس أو أحيا سنة 1499 كلية الكالادي هنار استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية مع أنه نسج في تأسيسها على منوال مدرسة سالامنكة وجعل فيها حلقتين لتدريس العبرية واليونانية فرأى أن تكون هذه المدرسة الجامعة لتلقي علوم اللاهوت وأن تبث الدين الذي يريد الملوك والبابا أن يروه غاماً موطداً الدعائم من أقصى إسبانيا إلى أقصاها. وكان أعظم أستاذ في سالامنكة في القرن السادس عشر فري لويس دي ليون شاعراًً لاهوتياً وفيلسوفاً مستشرقاً يحسن اللغة العبرية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية.

صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية ولاسيما من المصاحف المخطوطة أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي على الحضارة العربية بجملتها التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون ولم يبق لعينها من أثر. وكاد ديوان التفتيش الديني على ما أخذ به نفسه من إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعاماً للنار تلك المخطوطات العربية التي حفظت في خزانة كتب الأسكوريال لولا أن تلطف الماركيز فيلادا وحال دون إحراقها. أما متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين فلم يكونوا يستطيعون إبداءَ أسفهم إلا سراً وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية أي الإسبانية المكتوبة بحروف عربية دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.

ولم يحظر فيليب الثاني سنة 1556 على متنصرة المسلمين حمل السلاح فقط بل منعهم من استعمال اللغة العربية وأرادهم على أن تنزع من أسمائهم التراكيب العربية ومن أجسامهم الألبسة الشرقية ليدل بذلك على أنه يريد مزجهم في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي. ثم إن قدماء المسيحيين من الإسبان كانوا كل حين يحتقرون أولئك المتنصرة على نحو ما كان العرب قديماً أيام عزهم يزدرون بالمولدين ولما ضاقت صدور المغاربة انتفضوا على احكومة فشتت شملهم في أودية البوجاراس وبعد مقاومة شديدة نفي أولئك المتنصرة أو سجنوا في أواسط بلاد إسبانيا وأصبحوا أمراء (1558).

سيم المسلمون في إسبانيا سوء العذاب فحاولوا ثانية أن يشقوا عصا الطاعة على عهد فيليب الثالث وعندها نفوا آخر مرة وعددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة. ولم يبق إذ ذاك من الحضارة العربية واللغة العربية غير ذكراهما البعيد وأصبحتا مزدرىً بهما. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف بأن الإسبانيول عاملوا الكتب والناس على نحو ما جرى المرابطون والموحدون وكانوا يمقتون أكثر لو لم يستعيضوا عن المدنية التي قضوا عليها بمدينتهم التي كانت إذ ذاك في أوائل أنبلاج فجرها فإن تخالفت النتيجة فالطرق إليها سواءٌ في اللوم والتقريع.

ومما لا يقبله العقل لولا أنه حقيقة أن إسبانيا التي كان للمدنية العربية عليها أيادي بيضاء قد بلغت بها الحال إلى أن تناستها بالكلية. فكان يزهد خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بالمرة في تعليم اللغة العربية في أرض إسبانيا ولم يكن له أثر إلا إذا كان على طريقة سرية إفرادية وغدا الاطلاع على العربية نقصاً وربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد ولم تبق مدرسة تريلنك لرهبنة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثراً ضئيلاً فكان يكفي الطالب منها أن يلفظ الأسماء المستعملة ليذهب بعد إلى إفريقية وآسيا داعية للنصرانية ومن كان يحب التقدم منهم في معرفتها مجذوباً بما حوت من الآداب الغنية لم يبلغ شوطاً كبيراً في معرفتها إذ لم يكن يراها أحد عنوان مجد لإسبانيا الكاثوليكية في عصره.

ومن العدل أن يقال أن إسبانيا كانت منذ عهد فيليب الرابع إلى شارل الثالث تتخبط في المسائل الشاقة سواءٌ كان في شؤونها الداخلية أو الخارجية فلم يترك لها انحطاطها السياسي والعملي وقتاً ولا قوة لدرس العربية والتفرغ للبحث في تاريخ الحضارة الإسلامية وقد أوشكت على عهد شارل الثالث ملك الفلاسفة أن تعود العربية وآدابها إلى ما كانت عليه من الحياة في إسبانيا وإن كان بعض الإسبانيين إلى اليوم ينكرون على هذا الملك أفكاره على أنه كان له في إسبانيا الحديثة شأن أقل من فيليب الثاني وإن كان مثله في مكانته وسلامته ففيليب الثاني وشارل الثالث هما الملكان الكاثوليكيان اللذان بلغا بمملكة إسبانيا أوج الفخار أما شارلكان فهو أوربي أكثر منه إسباني وإن كانت إسبانيا بلد أمه. وبآثار ذينك الملكين يعثر في كل خطوة من يزور شبه جزيرة إسبانيا. فقد بلغ من جرأة شارل الثالث أن ضرب الماضي ضربة أدخلت إسبانيا في الحياة الجديدة التي أخذ شعوب الغرب يستمتعون بها فأراد وهو مشغول القلب بماضي مملكته شغله بسمتقبلها أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية فاستدعى لذلك رهباناً موارنة من سورية وأنفق عليهم النفقات الطائلة ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية. وكان هذا العمل من الصعوبة بحيث لم يكف عصر شارل الثالث (1759 ـ 1788) لإتمامه هذا مع ما وقف في سبيله من الأوهام والعثرات حتى إذا مضى لسبيله انقطع العمل الذي قصد إليه. بيد أنه يحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباعي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية أمثال القصيري وكامبومان والأب بلانكري وكوندو وفري باتريسيو دولانور وغيرهم.

جرَّت حروب نابوليون الويلات والاضطرابات على شبه جزيرة الأندلس وانقطع على عهد فرديناند السابع كل عمل يراد به إحياء العلم على نحو ما بدأ به شارل الثالث. ولما تولت الملك إيزابيلا الثانية قويت النهضة وخلصت النيات للتجديد ودخل الإصلاح إلى تلك الكليات القديمة التي كانت تتسكع في ديجور الباطل والعاطل إلا أن مسألة تعلم اللغة العربية كانت في الدرجة الثانية بالنسبة لما شرع فيه من إصلاح التعليم سنة 1845 على يد المسيو جيل دي زارات وبفضل هذا عادت العربية تدرس في الكيات رسمياً.

ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة الأندلس منذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر ثم إن فقد إسبانيا لمستعمراتها في أميركا وآسيا ضاعف حركتها العلمية وطمحت بها آمالها السياسية نحو استعمار أفريقية أي مراكش.

فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية من تلقاء نفسها تدخل في قائمة دروس التعليم العالي وأصبحت المجموعة النفيسة من المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي ميداناً للمستعربين من الإسبانيين يبحثون فيه ما شاؤا ويضاف إلى تلك الأسفار الثمينة المجموعة النادرة جداً من المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية الت احتفظت بها رهينة الكنيسة الكاتدرائية في طليطلة. دع عنك تلك النفائس التي اقتنتها بعد مكتبة العالم كايانكوس وما اقتناه الأستاذ كودرا في رحلاته إلى مراكش وتونس.

وعندنا أن للمستشرق كايانكوس الفضل في أنه خط للمشتغلين بالعربية في إسبانيا طريقاً مهيعاً فقام على أثره زمرة من العلماء وفي مقدمتهم المحترم الدكتور فرنسيسكو كودرا الذي احتفل بيوبيله احتفالاً دل على عواطف أهل العلم الأوربي. وقد أصبحت مينتان من مدن إسبانيا كهف اللغة العربية ونعني بهما مجريط (مدريد) وغرناطة فنبغ في مجريط الدكتور كودرا أستاذ الكلية الوسطى والدكتور فرناند إيكونزالز والأب لازكانو الذي أخذ يبحث في اللهجة السورية في دير الأسكوريال وهو العمل الذي بدأ به في بيروت. وغير هؤلاء العلماء بالمشرقيات وقد انضم إلى هاته الزمرة الغيورة أناس من الفتيان أخذوا على أنفسهم الجري على آثارهم لإتمام العمل الذي بدأوا به وتقوية روابطه مثل الكاهن المسيو ميكل أسين أستاذ اللغة العربية في الكلية الوسطى والأستاذ ريبرا أستاذ كلية سرقسطة الذي يدرس في مجريط حضارة المغاربة والعبرانيين والمسيو آلماني مدرس اليونانية والعالم المشهور بالعربية والمسيو فيف عضو المجمع العلمي التاريخي والمؤرخ الأثري المحقق والمسيو كونزالفو خازن كتب السجلات الوطنية والمسيو فيلالتا الذي قضى شطراً مهماً من حياته في مزغان والدار البيضاء وطنجة.

وقد كانت غرناطة فيما مضى مثل مجريط اليوم عاصمة الأندلس فحق لها أن تكون مركز الدروس العربية وكان الدكتور فرنسيسكو جافيه سيمونه هو الذي رفع مقام هذه اللغة وعد تحصيلها فرضاً رسمياً على الطلاب في غرناطة. مات مؤخراً وهو مشهور بأبحاثه العديدة في الجغرافيا والتاريخ وأصول اللغة والآداب الإسبانية الإسلامية وأخصى في حل الخطوط العربية ومثله الدكتور ليوبولد أكويلاز والدكتور ماريانو كاسبار ريميير وامتازت إشبيلية بأبحاثها الكتابية المتعلقة بغرناطة وهو الفرع الذي برز فيه الأستاذ الماكرو كاردناس ولكل من مدينتي برشلونة وسالامنكة صفان لتدريس العربية العامية وتجد مثل هذين الصفين في مالقة وقادش وبالمادي ولورقة وتنيريف في قناريا.

ولا يسعنا أن ننسى ما أصدره كل من الدكتور كودرا والدكتور ريبرا تاراغو من الأثر النفيس باسم المكتبة العربية الإسبانية فإنهما لم ينشرا منذ سنة 1882 إلى 1892 أقل من عشرة مجلدات في أصول اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب والنقود العربية في إسبانيا. ومما لا يصح السكوت عليه ما نشر باسم مجموعة الدروس العربية بمساعي الدكتور ماريانو دي بانو والدكتور دودرا وقد بلغ ما نشروه حتى الآن سبعة مجلدات.

وإنك لتجد في إسبانيا ميداناً عجيباً للدرس وذلك لأن المخطوطات والكتابات كثيرة فيها على الرغم مما أصابها من التلف منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر كما تقرأ ذكرى الحكومة العربية في كل حجر يقع نظرك عليه بل في كل وجه يتمتع طرفك بمرآه وتجد العاملين المدربين على العمل كثاراً فلا يعوزك إلا أن تدعوهم فيستخرجون معك الدفائن والكنوز. ولولا الصفات الشخصية التي فطر عليها المشتغلون بالعربية من الإسبانيين بالنظر لانفرادهم وقلة معونة الحكومة لهم وجهل الأمة قيمة ما يشتغلون به لما كان للعربية في إسبانيا ذاك المقام المحمود فقد رأينا الحكومة تتشدد في توصيد تدريس العربية في الكليات إذا خلت من مدرسيها فتقتصد بذلك رواتب المدرسين أو تعهد بالتدريس إلى أناس غير متمكنين منها حق التمكن كما فعلت في سالامنكة وبرشلونة ووسدت التعليم فيهما إلى مدرس اللغة العبرية. والمعلوم أن العلم كلما ارتقى احتاج إلى أناس متحجرين وأخصائيين. والأخصاء في فن يفتح لصاحبه السبيل فيبذل جهده في نقطة واحدة وبذلك يبرع ويبرز.

__________________________________

محمَّد كُرْد عَلي 
مجلة المقتبس الأعداد 
39 بتاريخ: 1 - 4 - 1909
40 بتاريخ: 1 - 5 - 1909

الاثنين، 13 فبراير 2017

أين ما أبحر في التاريخ أجد سواحل الأندلس


بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على معلم الناس الخير أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين

ولله الحمد والفضل انتهيت من كتابي " الحضارة الصينية في التراث العربي " وعند مراجعتي للمراجع وجدت كثير من المراجع أندلسية!!

سبحان الله
أين ما أقرأ في التاريخ أجد علماء الأندلس أمامي، لله درهم من شعب محب للعلم.

يقول العلامة اللغوي الهندي عبد العزيز الميمني (ت:1398هـ) رحمه الله تعالى:
" أهل الأندلس يستحقون كل فضل وثناء، وقد مضت مئات السنين ولكن لم يظهر شعب على مسرح العالم يعشق العلم كما يعشقه أهل الأندلس ". <بحوث وتحقيقات >
وأتعجب كيف يذكرون أخبار حضارة أقصى الشرق، وهم أقصى الغرب.
ولكنهم أهل الأندلس…..


ذكرت في الكتاب الحديث المشهور عن نبينا وقدوتنا سيد ولد آدم أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( اطلبوا العلم ولو بالصين )).
وإن كان هناك خلاف بين العلماء عن صحة الحديث مع شهرته.
والمصدر هو < جامع بيان العلم وفضله > لحافظ المغرب الإمام ابن عبد البر (ت: 463هـ) رحمه الله تعالى، وذكر الحديث في ثلاث مواضع.

و يقول في كتابه < القصد والأمم> بعدما ذكر ملوك الصين ومدنها:
" وفي الصين عجائب كثيرة "
وذكر كذلك في الكتاب السابق استخدامهم لقرن الكركدن، يقول:
" وأشرف حلي أهل الصين قرن الكركدن لأنها متى قطعت قرونها ظهر فيها صور عجيبة مختلفة فيتخذون منها مناطق تبلغ المنطقة منها أربعة آلاف مثقال ذهباً، والذهب عندهم هين عليهم حتى يتخذون منه لجام دوابهم وسلاسل كلابهم، ولهم ثياب الحرير المنسوجة بالذهب "


و في مقدمة الكتاب استفتحت بمقولة الإمام ابن حزم (ت: 456هـ) رحمه الله تعالى:
" أن أخبار الصين لم تصلهم كما وصلتهم أخبار باقي الأمم ".  < رسائل ابن حزم >

وكذلك الإمام الطرطوشي (ت: 520هـ) رحمه الله تعالى:
" يذكر أن سبب قلة النقل عن أخبار ملوك الصين وحكمائها إلى أرض العرب راجع إلى بُعد الشقة وطول المسافة ".
وكذلك ذكر تحري ملوكهم للعدل:
" وكانت من عادة ملوكهم وضع ناقوس موصول بسلسلة وطرف سلسلة في خارج الطريق، وعليها أمناء للسلطان وحفظة، فيأتي المظلوم فيحرك السلسلة فيسمع الملك صوت الناقوس، فيأمر بإدخال المظلوم، فكل من حرك تلك السلسلة تمسكه تلك الحفظة حتى يدخل على السلطان " < سراج الملوك >

وذكر البكري الأندلسي (ت:487 هـ) مدينة خمدان واصفاً إياها بأوصاف تدعو إلى الدهشة والعجب وكأنه يتحدث عن مدينة في العصر الحديث، حيث يقول:
"وسكك هذه المدينة مظلّلة بخشب السّاج، وتكنس في كلّ يوم ثلاث مرّات. ودورهم واسعة مبخّرة المجالس"
وكذلك علق على فتنة حدثت في الصين قبل عصر ملوك الطوائف في الأندلس، وهذه الفتنة مزقت الإمبراطورية الصينية إلى ممالك صغيرة،ويقارن البكري بين ما حصل عندهم وبين ما عاصره في الأندلس، يقول:
" وتغلّب رأس كلّ ناحية من بلاد الصين على ناحيته كتغلّب ملوك الطوائف حين قتل الإسكندر [دارا ملك الفرس] وكنحو ما نحن بسبيله. فرضي ملك الصين منهم بالطاعة، وأغار كلّ فريق منهم على من يليه، فعدم انتظام ملكهم إلى الآن "
وكذلك ذكر إستخدام أهل الصين للعاج وتطيرهم من الفيلة، فيقول:
" وأكثر ما يستعمل العاج بأرض الصين لأنّهم يتّخذون منه الأعمدة، فبها يدخلون على ملوكهم، ولا يدخل عليهم أحد من حشمهم وقوّادهم بحديد.
وأهل الصين لا يتّخذون الفيلة في الحروب كاتّخاذ الهند ويتطيّرون بذلك لخبر؛ كان لهم في قديم الزمان في بعض حروبهم " <المسالك والممالك>


والإمام أبو الربيع سليمان الكلاعي (ت: 634هـ) رحمه الله تعالى ذكر في كتابه < الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والثلاثة الخلفاء > قصة رسول كسرى مع إمبراطور الصين عندما استنجد به لرد المسلمين، وفي نهاية الحوار نصح إمبراطور الصين رسول كسرى بأن يسالم المسلمين بعدما عرف أخلاقهم الطيبة.

و الأديب ابن عبد ربه الأندلسي (ت: 328هـ) نقل حوار رائع بين عابد والخليفة أبو جعفر المنصور في مكة المكرمة، وذكر العابد قصة عجيبة لأحد ملوك الصين وحرصهم على العدل مهما كانت الظروف فيقول ناصح للخليفة:
" وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصَين فقدِمتها مرةً وقد أصِيبَ مَلِكُها بسمعه، فبكى يوماً بكاءً شديداً فحثه جلساؤه على الصبر.
فقال: أمَا إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرُخُ ولا أسمعُ صوتَه.
ثم قال: أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادُوا في الناس ألاً يلبَسَ ثوباً أحمرَ إلا متظلمٌ، ثم كان يركب الفيل طرفَيْ نهاره، وينظر هل يرى مظلوماً ". < العقد الفريد >

ونقل الحِميرى (ت: 900هـ) بعض من المدن الصينية وفصل في ذكرها منها:
" انمو، اسنخوا، اسقيريا، باجة، خانفو أو خانقو، خيغون، طوقين "

وفي عجائب البحر ذكر:
" وفي بحر الصين دابة لها جناحان تنشرهما في الجو، تحمل على المراكب فتقلبها، يكون طول الدابة مائة ذراع ونحوها، وإذا رأى أهل المراكب هذه الدابة ضربوا الخشب بعضه ببعض فتنفر منها تلك الدابة وتخرج لهم عن الطريق، وقد قيض الله سبحانه وتعالى لهذه الدابة سمكة صغيرة إذا رأتها هذه الدابة الكبيرة نفرت منها، فمرت على وجهها فلا يستقر بها مكان من البحر ما دامت السمكة تتبعها" < الروض المعطار في خبر الأقطار >


وكذلك ذكرت في الكتاب أعظم وأول رحالة من مغرب الأرض إلى مشرقها وهو العالم الرحالة الإمام سعد الخير البلنسي الأندلسي الصيني (ت: 541هـ : 1146م)  رحمه الله تعالى والذي سبق الرحالة الشهير ابن بطوطة (ت: 779هـ : 1377م)  وكذلك الرحالة الشهير ماركو بولو (ت: 724هـ : 1324م) إلى الصين.
ولكن مع الأسف لم ينل شهرة كما نالها من بعده...


وآخر فصل في الكتاب بعنوان: الصين في الشعر العربي
وكان لأهل الأندلس مشاركة وكان خير من يمثلهم الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى :
                   جرى الحب مني مجرى النفس       وأعطيت عيني عنان الفر
ولي   سيد    لم  يزل     نافراً       وربتما   جاد لي  في الخلس
فقـــبلته طالبــــــــــاً راحـــــــة        فزاد    أليلاً   بقلبي   اليبس
وكـــــان  فؤادي  كنبت هــــشيم        يبيس   رمى   فيه  رام قبس
ويا جوهر الصــــــين سحقاً  فقد        غنيت بياقوتــــة الأنـــــــدلس

وله كذلك:
أرى دارها في كل حين وساعة     ولكن من في الدار عني مغيب
وهل نافعي قرب الديار  وأهلها     على وصلهم مني رقيب مرقب
فيا لك جار الجنب أسمع   حسه       وأعلم أن الصين أدنى وأقرب
كصاد يرى ماء   الطوي  بعينه   وليس  إليه من  سبيل  يسبب
كذلك من في اللحد عنك  مغيب      وما دونه إلا الصفيح المنصب <طوق الحمامة>

وكذلك مفخرة غرناطة لسان الدين الخطيب (ت: 776هـ) رحمه الله تعالى له أبيات ذكر الصين:
إذا قلت روضاً فالنجوم أزاهر       سقاها الصبا والدل صوب غوادي
وإن قلت للأقمار أسعد  مطلع       صدعت  بمحض الحق دون عناد
تقر ملوك الصين بالفخر كلما       فخرت    بفضل    حزته    لتلاد
وثامن أملاك الجهاد   أقامني       مطية   سلم   في   محل    جهاد <ديوان ابن الخطيب>



وتبقى الأندلس منارة العلم للعالم على مر التاريخ........

فيصل بن سويد
يوم الأثنين
16 من جمادى الأول 1438هـ
13 فبراير 2017م

على سور (جينان)


بتاريخ: 30 - 08 - 1937

لما رجع (هونغ سين) إلى المنزل قال لأخيه: (هل سمعت أن اليابانيين يريدون أن يحتلوا مدينة (جينان)؟)
فأخذ أخوه يشك في وفاء جنود الصين وقال: (ألم يقاومهم جنودنا؟)
قال وهو يريد أن ينوه بكرامة جنود الصين إخلاصهم: (بلى!)
فجعل أخوه يرتاب في كفايتهم قائلاً: (هل في المدينة قوة كافية؟)
قال: (لا بد أن تسقط المدينة في أيدي اليابانيين عاجلاً أو آجلا! ولكن الواجب علينا أن ندافع عنها باذلين أقصى جهدنا، فإن خضعت لهم في آخر الأمر قوتنا فلن تخضع لهم روحنا.) ثم رفع رأسه وأصلح بيده شعره.
فطفق أخوه يرتاب في توازن القوتين المتحاربتين قائلا: (بلغني أنه قد وصل إلى (جينان) خمسة آلاف من جنود اليابان.)
قال، وهو يتمشى في الغرفة: (اسمع! قد شرع اليابانيون يطلقون المدافع! لا يتوقف الانتصار على كثرة الجنود، فإذا اشتدت حمية قومنا وتطوع نصفهم للدفاع فلا تخش سوء العاقبة ولو. . .)
ثم توقف عن الكلام لأن قلم الرصاص الذي في يد أخيه انكسر ونشأ عن ذلك فرقعة صغيرة، ووقف ينظر إلى أخيه بعين الريبة وسكت هنيهة ثم قال: (هل كتبت في هذه الأيام إلى السيدة الوالدة؟)
قال أخوه: (لا. قد انقطعت المواصلات بين (جينان) و (تسينغ تاو) منذ أيام كما علمت فلا يمكن أن يصل إليها الخطاب لو بعثت به.)
- (إذا لم يصلها خطاب منا فلا محالة يشتد اضطرابها. ولا أمل في الدراسة هذا العام مع هذه الحالة، فان استطعت أن تعود إلى البلد مبكراً فعلت. إن السيدة الوالدة بعد وفاة السيد الوالد في حاجة إلى من يعولها، ويكفي أن يتطوع أحدنا للدفاع)
ولما سكت تأمل فيه أخوه شاكا في أمره.
وقد أكثر من الكلام، وبعد أن دار في الغرفة دورتين جلس إلى مكتبه فأخذ كتاباً ينظر فيه كأنه يطالعه.
قد تتابعت في ضواحي المدينة أصوات المدافع وارتفعت الصيحات داخل المدينة.
تذكر فجأة أمراً ما فوضع الكتاب على المكتب ورمق أخاه حزيناً كئيباً يقول: (شانغ سين!)
(مالك يا هونغ سين؟)
قال لأخيه بكل لطف: (اذهب إلى الآنسة (لوس) لعلها هي وأمها في حال سيئة من الذعر)
فأومأ أخوه برأسه أن سمعاً وطاعة.
وبعد خمس دقائق جلجلت أصوات المدافع تتخللها فترات قصار، فقام أخوه يقصد الباب فصافحه قائلاً: (يا أخي!)
وقد خالف في ندائه هذا عادته فإنه كان دائماً يدعو أخاه باسمه فتلاقى بصره ببصر أخيه ثم قال: (إلى اللقاء!)
فنظر إليه أخوه نظرة المحزون المهموم وقال: (ألا تخرج الليلة فتكتب خطاباً إلى السيدة الوالدة؟)
فأشار برأسه أنه سيفعل، وخرج أخوه، وكان ذلك بعد الظهر.
وبعد المغرب أخذت أصوات المدافع تتكاثر وتتعالى في ضواحي المدينة، وارتفعت الصيحات بالويلات؛ ولما كاد الليل ينتصف خفتت أصوات المدافع شيئاً فشيئاً وأخذت تقل، وكان (هونغ سين) يتمشى في غرفته ويظن أن أخاه في منزل الآنسة (لوس) فدعا له بالأمن والسلامة، ثم فتح خزانة الثياب وأخرج منها ثوباً من ثياب الألعاب الرياضية فلبسه، وشد رباط حذائه ثم أقفل باب المنزل وخرج.
وكان القمر وهو في أيام التربيع الثاني ممتقعاً لونه معلقاً في جو الشرق تحيط به غيوم فاحمة كأنها تحاول أن تبتلعه.
وكانت الرصاصات وقنابل المدافع تتطاير هنا وهناك، وأصوات البكاء والعويل تملأ أذنيه.
جعل يمشي في أقرب طريق إلى البوابة الغربية لسور المدينة: ولم يخطُ إلا خطوات قلائل حتى طارت قنبلة من فوق رأسه فوقعت على جدار بعض البيوت فَمُلئت أذناه جلبة وضوضاء من تهدم الجدران يعقبه أصوات الفزع والصراخ والبكاء؛ ثم عاد الجو بعد هنيهة إلى ما كان عليه من سكون وهدوء.
ولما اجتاز عدة شوارع رأى بيتاً تشتعل فيه النيران اشتعالاً هائلاً، ورأى جماعة من الرجال والنساء، منهم من يحمل على ظهره أمه الفانية، ومنهم من يقود أباه الهرم، ومنهم من تحمل على ذراعها رضيعها، وهم يهيمون على وجوهم في الشوارع باكين صارخين لا يدرون إلى أين يلتجئون. وبيناهم كذلك إذا بقنبلة تسقط بينهم فانفجرت فمليء الجو صراخاً وأنيناً: أنين الذين يشرفون على الموت الزؤام، فأغمض عينه ومضى في سبيله قدماً بخطوات واسعة. ثم ارتبكت رجلاه فجأة ارتباكاً كاد يعثر منه، فنظر إلى الأرض فإذا بجثة سيدة ملقاة على الثرى تبين في نور القمر أن قنبلة قد ذهبت بإحدى رجليها وتركتها غارقة في دمائها البريئة، وطفل لم يمض على ولادته حول كامل مكب على صدرها يرضعها
ولما بلغ جانب السور رأى نور القمر يسطع من بين الغيوم السوداء، وشاهد كثيراً من جثث الجند مبعثرة على مسند السور هنا وهنالك يئن فيها من لم تزهق نفسه بعد، فالتقط من الأرض بندقية وسلب إحدى الجثث كنانة الرصاص ثم أخذ يصعد على السور، وما كد ينتهي إلى شرفاته حتى تدحرجت جثة من فوق السور عثر فيها ثم نهض من عثرته على الفور، ولما انتهى إلى الشرفات التفت يمنة ويسرة فوجد مسافة نيف وخمسين متراُ خالية من حراسة الجند، ثم أخرج رأسه من بين شرفتين ليعرف حالة العدو، فطار نحوه الرصاص ومر بجانب أذنه، فأنسحب سريعاً وانتقل إلى ما بين الشرفتين الخامسة والسادسة من يساره، وأخرج رأسه مرة أخرى فرأى بأشعة القمر بضعة عشر جندياً يحاولون تسلق السور من هذا المكان الخالي من الحراسة، بعضهم على أكتاف بعض، فصوب بندقيته إلى أحدهم في الطبقة السفلى وأطلق عليه رصاصة فأصابته بالمصادفة فانهارت الطبقة السفلى وتدحرج الذين فوقها إلى الخندق كلهم أجمعون.
ولكن بعد هنيهة اجتمعوا عند السور مرة أخرى فأطلق عليهم رصاصتين فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر، وبينا هو في اضطراب وغضب إذا برجل يناديه من وراء ظهره: (من أنت يا رجل؟!)
أجابه (هونغ سين) بدون تروّ ولا تردد: (من عساكر الخفية.)
ولما التفت إلى خلفه وجد بضعة عشر جندياً قد أتوا إلى النقطة التي يدافع عنها وحده فدلهم على اليابانيين تحت السور، فأطلقوا عليهم وابلا من الرصاص فأصابوا شرذمة منهم وتوارى الباقون في حقول القمح بجانب السور، ولم لم يحسوا بحركتهم ظنوا أنهم قد فروا من وجوههم، فأخرجوا مطمئنين رءوسهم من خلال الشرفات، وإنهم لكذلك إذا بنار تلألأت أمامهم عن بعد، وإذا بقنبلة طارت نحوهم فذهبت بإحدى الشرفات وتطايرت شظايا القنبلة في كل صوب، ومات عقب انفجارها أكثر المدافعين عن السور؛ فأنسحب الباقون إلى نقطة أخرى بعيدة عن مسقط القنبلة ثم جاءت قنبلة أخرى لم تصب شيئاً.
وبعد بضع دقائق اقترب بضعة عشر جندياً يابانياً من السور فأطلق عليهم وابل من الرصاص فاختفوا في حقول القمح
واستمروا على الكر والفر، وبعد مدة مات المدافعون عن السور من قنابل المدافع ولم يبق منهم إلا جندي واحد مع (هونغ سين) الذي أصيب في ذراعه اليسرى فعصبها بمنديله.
انفجر الليل واجتمع الأعداء في شرقي السور الشمالي وخف الضغط على نقطتهما فأخرج (هونغ سين) من جيبه علبة لفائف التبغ وقدمها إلى زميله الجندي قائلاً: (دخن لفافة)
ثم جلسا خلف شرفات السور ورأيا مئات من آثار قنابل المدافع على السور وقد أشتمل ضباب الصباح على وحشة واكتئاب
قال (هونغ سين): (لولا عرقلة اليابانيين لوصلت جيوشنا إلى مدينة (ديجو):)
وقال الجندي: (يسوءني جداً أنهم أهلكوا الليلة خلقاً كثيراً من إخواننا.) ثم أمتص الدخان بقوة.
وعبر (هونغ سين) عن آماله قائلاً: (لعل عدد الباقين منا يكفي للدفاع عن المدينة يوماً آخر.)
فهز الجندي رأسه ثم أخرج من جيبه رغيفاً من الخبز وقال لزميله: (أتحب أن تتناول شيئاً من هذا؟) فهز (هونغ سين) رأسه وأخرج لفافة من لفائف التبغ ليسد بها جوعه
دار الجندي بعينيه حول وجه (هونغ سين) وأطرافه وهو يأكل من خبزه ثم قال: (يا أخي! إنك لا تشبه الجندي في الصورة.)
فسأله (هونغ سين) مبتسماً: (لا يهمني هل أشبه الجندي في الصورة أو لا أشبهه. قل لي هل أشبه الجندي في الدفاع؟)
قال الجندي معجباً به: (نعم ما رأيت قط جندياً باسلاً داهية مثلك!)
ثم شبع الجندي فكثر حديثه فقال. (ألا إن المتطوعين في هذه المرة كثيرون، وكنا بعد ظهر أمس ندافع في جهة الجنوب فجاء طالب من طلبة المدارس ليساعدنا على الدفاع، وما كان أشجعه في القتال! ولكنه واأسفاه لم يكن يدري كيف يختفي وراء شرفات السور فأصيب بعد قليل بجرح.)
قال (هونغ سين): (أكان ذلك بعد ظهر أمس!)
(نعم.)
(كيف شكله؟)
(أقصر منك بقليل ويشبهك في السحنة غاية الشبه.)
قال ذلك وهو يديم النظر إلى عيني (هونغ سين)
فسقط على الأرض ما بقي في يد (هونغ سين) من لفافة التبغ
فسأل الجندي فزعاً: (هل يلبس الزي الأزرق الخاص بالطلبة؟)
(نعم.)
(أجرحه في خطر؟) قال هذا وهو فاغر فاه ينتظر جواب صاحبه الذي قال:
(جرح في ترقوته اليسرى، فإذا أتيح له من يسعفه أمكن أن يشفى؛ ولكن أنى يكون لنا فراغ لنعتني بجرحه؟ فتساقط المسكين على الأرض وجعل ينادي: (يا أماه!) فسأله على سبيل المزاح
(يا رجل! أفتريد أن ترضع أمك؟)
فنهض (هونغ سين) من فوره.
فقال له الجندي: (أتريد أن تعود إلى المنزل؟)
(لا. بل إلى جهة الجنوب.)
(لإسعاف الجرحى؟)
(لإسعاف شقيقي؟) ثم مشى نحو الجنوب.
فقال الجندي: (وا أسفاه!)
في هذه اللحظة نفسها اشتد هجوم الأعداء في شرق السور الشمالي وتوالت أصوات المدافع وتعالت معمعة المدافعين على السور وأصوات البكاء والعويل والصراخ داخل المدينة كأن الأعداء قد اقتربوا من جانب السور هناك.
فأدبر (هونغ سين) ودنا إلى شرقي السور الشمالي ساكتاً صامتاً يسمع الجندي يقول: (يا للخطر! إن عدد المدافعين هناك غير كاف، وإني لذاهب إلى مساعدتهم.)
رأى الجندي ينهض من مكانه فيضع على كتفه بندقيته ويمشي نحو الشرق الشمالي.
فناداه (هونغ سين): (أنتظر!)
فأقبل الجندي ووجده واقفاً واجماً رانياً إلى شرقي السور الشمالي ولا يذهب إلى الجنوب.
فسأله الجندي: (مالك يا أخي؟)
فلم يجبه ببنت شفة وهو لا يزال واقفاً في مكانه شاخصاً ببصره.
قال الجندي: (أنا ذاهب)
(نذهب معاً)
فهز (هونغ سين) رأسه هزة ومسح بكمه مدامعه وأخذ يعدو مع الجندي نحو شرقي السور الشمالي الذي اشتدت عليه قنابل المدافع اليابانية.

محمد مكين الصيني
أحد أعضاء البعثة الصينية في الأزهر

___________________________

مجلة الرسالة