للأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
ومادمنا قد ترجمنا للفتح بن خاقان صاحب مطمح الأنفس وقلائد العقيان، وقد بان لك من هذه الترجمة أن ابن بسام كان معاصراً للفتح، وأنهما يتشابهان من وجوه شتى أن لم يكن منها إلا أنهما كليهما تصديا للكلام على أدباء عصرهما وشعرائه لكفى؛ نقول مادام الأمر كذلك كان جميلاً بنا أن نردف ترجمة الفتح بترجمة ضريبه ابن بسام. . . .
وسيمر بك قربا ما نتعرف به سبب ذكرنا الشاعر أبا مروان الطُّبْني مع ابن بسام في ترجمة واحدة. . .
(ثم وإما بعد) فإنا إلى هذه اللحظة التي تترجم فيها لابن بسام لم نعثر على ترجمة قد عقدها له وأفردها للقول عليه، وإن كان مؤرخو الأندلس وغير الأندلس كثيراً ما ينقلون عن هذا الأديب كعمدة لهم، وثبت فيما يعالجون من تاريخ أدباء الأندلس، حتى أن المقري ذكره في نحو من أربعين موضعاً من نفح الطيب ولم يفرد له على ذلك ترجمة، وكذلك كثيراً ما ينقل عنه ابن خلكان وغير ابن خلكان. . . .
ومن غريب الأمر في هذا الباب، ومن سوء حظ هذا الأديب، بل من تخبط الناس في أمره، أنك ترى النسخ المخطوطة للذخيرة في دار الكتب سواء أكانت المكتوبة بخط مغربي أم المنقولة عنها بخط مصري قد غُمَّ على نساخها وشبه لهم، واختلط الليل بالنهار، فظنوا أن صاحب الذخيرة هو ابن بسام المعروف بالبَسَّامي الشاعر الهجاء البغدادي المتوفى سنة ثلاث وثلثمائة، ونقلوا ترجمة هذا الشاعر من ابن خلكان كما هي وألصقوها بصاحب الذخيرة، وصدق فيهم بهذا التخبط الغريب قول عمر ابن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عْمرَكَ الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقال يمان
واقْعَدُ من هذا في باب التخبط والتخليط أن خطبة الذخيرة الحقيقية كما سيمر بك. . وقد مر على واضعي فهرس دار الكتب هذا التخليط فلم يتفطنوا إليه، وظنوه صحيحاً، وقالوا إن الذخيرة هي لابن بسام المعروف بالبسامي الشاعر الخ الخ ونقلوا نتفاً من هذه الخطبة المفتلة، وإن كان لهم في هذا الصنيع كل المعذرة. . . (وبعد) فأنا على هذا كله سنقدم إليك صورة وان مُصغَّرة لهذا الأديب الأندلسي العظيم لقد التقطنا أجزاءها من ههنا وههنا
أزلفنا في ترجمة الفتح أن أبا الحسن علي ابن بسام صاحب الذخيرة كان في زمن الملثمين - يوسف بن تاشفين وأولاده - ونزيد هنا أن حياته امتدت إلى أيام أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي رأس دولة الموحدين الذين أدبل لهم من الملثمين وآضوا بذلك ملوك المغرب والأندلس، إذ جاء في نفخ الطيب ما نصه: (وتأخرت وفاته - أي وفاة ابن بسام - إلى سنة 524) ويبدو من هذا أن ابن بسام عاش بعد الفتح بن خاقان نحواً من سبعة عشر عاماً. . .
ولد ابن بسام في شنترين وهي بلدة من الُكوَر الغربية البحرية من أعمال بطليوس، ومن ثم يقال له الشَنْتريني، ومن مؤرخي الأندلس من يقول الشَّنْتمَري نسبة إلى بلدة بالأندلس في الشمال الشرقي لقرطبة يقال لها شنْت مَريّه (أي مريم المقدسة)، وفي هذه البلدة يقول الأديب النحوي أبو محمد بن السيد البطليوسي:
تنكرت الدنيا لنا من بُعدكم ... وحفَّت بنا من معضل الخطب ألوان
أناخت بنا في أرض َشنْتَ مرِيَّة ... هواجس ظن خان والظٌّن خَوّان
رحلنا سَوامَ الحمد عنها لغيرها ... فلا ماءها صدَّا ولا النبتُ سعدان
ولم يحدثنا المؤرخون عن مولده ونشأته، ولا عن مشيخته وكيف تعلم، فلا علينا إذا نحن تخطينا هذا واكتفينا بالكلام عليه من ناحية منزلته الأدبية وإيراد شيء من منظومه ومنثوره والقول على أثره الخالد كتاب الذخيرة. . .
كان أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة أديباً كاتباً شاعراً، وكان المنثور أغلب عليه من المنظوم، مثله في ذلك مثل الفتح، فكان منثوره فائقاً بارعاً جميلاً وأن كان يغلب عليه السجع كسائر معاصريه، أما شعره فقد كان دون نثره. ومما عثرنا عليه من شعره أبيات أوردها العالم الأديب أبو الوليد إسماعيل بن محمد الشقندي الأندلسي المتوفي سنة 629 في رسالته البديعة التي يفضل فيها الأندلس وأهل الأندلس على بر العُدوه - مراكش - وأهل بر العدوه، قال الشقندي: وهل منكم من يقول منادياً لنديمه، وقد باكر روضا بمحبوب وكأس، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك وهو أبو الحسن بن بسام:
ألا بادر فلا ثان سوى ما ... عهدت الكأس والبدر والتمام
ولا تكسل برؤيته ضبابا ... تغص به الحديقة والمدام
فان الروض ملتثم إلى أن ... توافيه فينحط اللثام
وجاء في نفح الطيب ما نصه: (وقال أبو الحسن علي بن بسام صاحب الذخيرة، وشهرته تُغني عن ذكره، ونظمه دون نثره يخاطب أبا بكر بن عبد العزيز
أبا بكر المجتَبىَ للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب
أيلحن فيك الزمان الخؤون ... وُيعرب عنك لسان العرب
وان لم يكن أفقنا واحدا ... فينظمنا شمل الأدب
أَصَدَّقْتَ أن منظومه دون منثوره! أذن لا تتوقع من ابن بسام الأديب الكاتب شعراً من النسق الأعلى، وهكذا شأن أكثر الكتاب كما نبهنا في كلامنا عن الفتح بن خاقان؛ وكذلك ترى أكثر الشعراء الفحول لا يجيدون المنثور وأظنك لا تجهل ما أورده العلامة ابن خلدون في مقدمته شرحاً لهذه الظاهرة: ويبدو لنا أن لابن بسام شعراً كثيراً في أكثر أبواب الشعر لم يتيسر لنا الوقوف عليه، يدل على ذلك تلك الأبيات التي يقولها الشاعر الوشاح الأندلسي أبو بكر بن عبادة القزَّاز في ابن بسام وهي:
يا منيفا على السماكين سامى ... حزت خصل السباق عن بسام
أن تحك مدحة فأنت زهير ... أو تشيب فعروة بن حزان
أو تباكر صيد المها فابن حجر ... أو تبكي الديار فابن خذام
أو نذم الزمان وهو حقيق ... فأبو الطيب البعيد المرامي
وعلى هذا فلنضرب عن ابن بسام الشاعر، ولنعرض لابن بسام الكاتب ولأثره الفذ الخالد كتاب الذخيرة. . .
نقول أن ابن بسام يمتاز من الفتح بأشياء: أهمها أنك لا ترى في أسلوبه ذلك التقعّر وتلك الطنطنة التي تراها في أسلوب الفتح، وإنما ترى أسلوبا هادئ متزنا رصينا جميلا،:. وانك ترى ابن بسام ناقداً بارعاً كثيراً ما يُعقب على ما يختار تعقيباً يدل على تمكنه ورسوخه في الأدب، ومن ثم كان أكثر من الفتح تقييداً، وعلماً مفيدا،. . وانك تراه أعفَّ لساناً، وأنزه بياناً من الفتح، فلا ترى منه ذلك الإقذاع الذي تراه من الفتح. واليك نموذجاً من تراجمه هو مصداق لما نقول، وهو ترجمته للشاعر الأندلسي أبى مروان بن زيادة الله الطُّبْني.
قال ابن بسام: كان أبو مروان هذا أحد حماة سرح الكلام، وحملة ألوية الأقلام، من أهل بيت اشتهروا بالشعر، اشتهار المنازل بالبدر. أراهم طرأوا على قرطبة قبل افتراق الجماعة، وانتثار شمل الطاعة، وأناخوا في ظلها، ولحقوا بسروات أهلها. . . وأبو مضر أبوه زيادة الله بن علي التميمي الطبني هو أول من بنى بيت شرفهم، ورفع في الأندلس صوته بنباهة سلفهم. قال ابن حيان: وكان أبو مضر نديم محمد بن أبي عامر أمتع الناس حديثاً ومشاهدة وأنصعهم ظرفاً، وأحذقهم بأبواب الشحذ والملاطفة، وآخذهم بقلوب الملوك والجلة، وأنظمهم لشمل إفادة ونجعة، وابخلهم بدرهم وكسرة، وأذبَّهم عن حريم نشب ونعمة، له في ذلك أخبار بديعة من رجل شديد الخلابة يضحك من حضر، ولا يضحك هو إذا ندر، رفيع الطبقة في صنعة الشعر، كثير الإصابة في البديهة والروية. انتهى كلام ابن حيان. قال ابن بسام: وشعر أبي مضر ليس من شرط هذا المجموع لتقدم زمانه؛ فأما ابنه مروان هذا فكان من أهل الحديث والرواية ورحل إلى المشرق وسمع من جماعة المحدثين بمصر والحجاز، وقتل بقرطبة سنة سبع وخمسين وأربعمائة. . إلى أن قال: وجدت في بعض التعاليق بخط بعض أدباء قرطبة قال: لما عدا أبو عامر أحمد بن محمد بن أبي عامر على الحذلمي في مجلسه وضربه ضرباً موجعاً وأقر بذلك أعين مطاليبه، قال أبو مروان الطبني فيه:
شكرت للعامري ما صنعا ... ولم أقل للحذيلمي لعا
ليث عرين غدا بعزته ... مفترساً في وجاره ضبعا
لا برحت كفه مُمَكَّنَةً ... من الأماني فنعم ما صنعا
وددت لو كنت شاهداً لهما ... حتى ترى العين ذل من خضعا
إن طال منه سجوده فلقد ... طال لغير السجود ما ركعا
وابن رشيق القائل قبله:
كم ركعة ركع الضبْعان تحت يدي ... ولم يقل سمع الله لمن حمدهْ
والعرب تقول فلان يركع لغير صلاة إذا كنوا عن عهر الخلوة. .
قال ابن بسام: ولما صنفت كتابي هذا عن شين الهجاء، وأكبرته أن يكون ميداناً للسفهاء، أجريت ههنا طرفاً من مليح التعريض، في إيجاز القريض، مما لا أدب على قائليه ولا وصمة على من قيل فيه. والهجاء ينقسم قسمين: فقسم يسمونه هجو الأشراف، وهو ما لم يبلغ أن يكون سباباً مقذعاً، ولا هجراً مستبشعاً؛ وهو طأطأ قديماً من الأوائل، وثل عرش القبائل. إنما هو توبيخ وتعيير، وتقديم وتأخير، كقول النجاشي في بني العجلان، وشهرة شعره منعتني عن ذكره. واستَعْدَوا عليه عمر وأنشدوه قول النجاشي فيهم فدرأ الحد بالشبهات. وفعل مثل ذلك بالزبرقان حين شكا الحطيئة وسأله أن ينشده ما قال فيه فأنشده قوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فسأل عن ذلك كعب بن زهير فقال: والله ما أودّ له بما قال حمر النعم. . . وقال حسان لم يهجه ولكن سلح عليه بعد أن أكل الشُبْرُم. . فهمّ عمر بعقابه ثم استعطفه بشعره المشهور. . وقد قال عبد الملك بن مروان يوما: أحسابَكم يا بني أمية فما أود أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس وأن الأعشى قال فيّ:
تبيتون في المَشْتىَ مِلاَءً بطونكم ... وجاراتكم غَرثى يبتن خمائصا
ولما سمع علقمة بن علاثة هذا البيت بكى وقال: أنحن نفعل بجاراتنا هذا؟ ودعا عليه. . . فما ظنك بشيء يبكي علقمة بن علاثة وقد كان عندهم لو ضرب بالسيف ما قال: حس!. . . وقد كان الراعي يقول: هجوت جماعة من الشعراء وما قلت فيهم ما تستحي العذراء أن تنشده في خدرها. ولما قال جرَير:
فَغُضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
أطفأ مصباحه ونام - وقد كان بات ليلته يتململ - لأنه رأى أنه قد بلغ حاجته وشفى غيظه. . قال الراعي: فخرجنا من البصرة فما وردنا ماء من مياه العرب إلا وسمعنا البيت قد سبقنا إليه حتى أتينا حاضر بني نمير فخرج إلينا النساء والصبيان يقولون قبحكم الله وقبح ما جئتمونا به. . والقسم الثاني هو السباب الذي أحدثه جرير أيضاً وطبقته، وكان يقول إذا هجوتم فأضحكوا، وهذا النوع منه لم يهدم قط بيتاً ولا عبرت به قبيلة، وهو الذي صُنّا هذا المجموع عنه، وأغفيناه أن يكون فيه شيء منة، فإن أبا منصور الثعالبي كتب منة في يتيمته ما شابه اسمه، وبقي عليه إثمه.
وحكى أبو عامر بن شهيد عن نفسه قال: عاتبت بعض الأخوان عتاباً شديداً عن أمر أوجع فيه قلبي، وكان آخر الشعر
الذي خاطبته به هذا البيت:
وإني على ما هاج صدري وغاظني ... ليأمنني من كان عندي له سر
فكان هذا البيت أشد عليه من عظ الحديد؛ ولم يزل يقلق به حتى بكى إلي منه بالدموع. وهذا الباب ممتد الإطناب، ويكفي ما مر ويمر منه في تضاعيف هذا الكتاب. ومن شعر أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن زيادة الله الطبني مما أخذته عنه قولة:
كم بالهوادج يوم البين من رشأٍ ... يحفو علية وشاح جائر قلق
وكم برامة من ريم يفارقها ... لهفان يثنيه عن توديعها الفرق
ونرجس كفرند السيف ساومني ... ممللاً بنسم عَرقُه عبق
نادمته وشباب الليل مقتبل ... والنجم كَفٌّ يحيينا به الأفق
وفتية كنجوم السعد أوجههم ... في أوجه الحادثات الجُوزِ تأتنق
نلهو برقراقة صفراء صافيةٍ ... يكاد ينجاب عن أضوائها الغسق
يسعى بها مرهف كالغصن نعَّمه ... ماء النعيم عليه النوُر والورَق
وأنشدني أيضاً:
يا سالياً عاشقِيهِ ... وعاشقاً كل تِيهِ
ومَن مدامي ونقلي ... بوجنتيه وفيه
هلا حزبت فؤادي ... ببعض مالك فيه
وأنشدني أيضاً لنفسه:
عجباً أن يكون ساكن قلبي ... راتعاً منه في بساتين حبي
ويجازي على الوفاء بِغَدرٍ ... حسبي الله ثم حسبي وحسبي
جازني كيف شئت لا أترك الذن ... ب إذا كان فرط حبك ذنبي
وهذا كقول أبي بكر بن عمار:
لئن كان ذنبي للزمان محبتي ... فذلك شيء لست منه أتوب
وقول عباس بن الأحنف:
إن كان ذنبي في الزيارة فاعلمي ... أني على كسب الذنوب مجاهد
أَلاَ يحسن بنا بعد أن أوردنا ترجمة ابن بسام للشاعر أبي مروان الطبني أن نردفها بترجمة الفتح بن خاقان لهذا الشاعر حتى ترى فرق ما بين الترجمتين فتتم الموازنة بذلك بين هذين الأديبين من جهة، وحتى نوفي ترجمة هذا الشاعر حقها بما في ترجمة الفتح من زيادة على مما في ترجمة ابن بسام من الجهة الأخرى. نعم، قال الفتح في المطمح في حق الطبني: من ثنية شرف وحسب، ومن أهل حديث وأدب، إمام في اللغة متقدم، فارع لرتب الشعر متسنم، له رواية بالأندلس ورحلة إلى المشرق، ثم عاد وقد توج بالمعارف المفرق، وأقام بقرطبة علماً من أعلامها، ومتسنما لترفعها وإعظامها، تؤثره الدول، وتصطفيه أملاكها الأول، ومازال فيها مقيما، ولا برح عن طريق أحانيها مستقيما، إلى أن اغتيل في إحدى الليالي بقضية يطول شرحها، فأصبح مقتولا في فراشه، مذهولا كل أحد من انبساط الضرب إليه على انكماشه؛ وقد أثبت من محاسنه ما يعجب السامع، وتصغي إليه المسامع؛ فمن ذلك قوله:
وضاعف ما بالقلب يوم رحيلهم ... على ما به منهم حنين الأباعر
وأصبر عن أحباب قلب ترحلوا ... ألا إن قلبي سائر غير صابر
ولما رجع إلى قرطبة وجلس ليرى ما احتقبه من العلوم، اجتمع إليه في المجلس خلق عظيم، فلما رأى تلك الكثرة، وماله عندهم من الأثرة قال:
إني إذا حضرتني ألف محبرة ... يكتبن: حدّثني طوراً وأخبرني
نادت بمفخرتي الأقلام معلنة ... هذي المفاخر لا قعبان من لبن
وكتب إلى ذي الوزارتين أبي الوليد ابن زيدون:
أبا الوليد وما شطت بنا الدار ... وقلّ منا ومنك اليوم زوّار
وبيننا كل ما تدريه من ذمم ... وللصبي ورق خضر وأنوار
وكل عتب وإعتاب جرى فله ... بدائع حلوة عندي وآثار
فاذكر أخاك بخير كلما لعبت ... به الليالي فان الدهر دوار
عود إلى الذخيرة
(وأما بعد) فقد آن لنا أن نعود إلى القول على كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وهو الأثر الفذ الباقي للمترجم له أبي الحسن علي بن بسام؛ ولولا أن لهذا الكتاب شأناً غير شأن سائر نظائره لما عرضنا للقول عليه والتعريف به، إذن لنلق عليه نظرة ليس منها بد؛ ولا سيما بعد أن بشرنا صديقنا الأستاذ الكبير محمد كرد علي بك بأن هناك لجنة من أفاضل المستشرقين تألفت برياسة العلامة المستشرق الفرنسي الأستاذ ليفي بروفنسال لا خراج هذا الكتاب الضخم الخالد الذي حُرِمت منه المكتبة العربية هذا الزمن الأطول. . .
وضع قديماً أبو عبد الله هرون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي المتوفى سنة 288هـ كتاباً اسمه (البارع) في أخبار الشعراء المولدين جمع فيه مائة وواحداً وستين شاعراً، وافتتحه بذكر بشار بن برد وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح، واختار فيه من شعر كل واحد عيونه، وقال في أوله: إني لما عملت كتابي في أخبار شعراء المولدين ذكرت ما اخترته من أشعارهم وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي؛ والعلماء يقولون: دل على عاقل اختياره. وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله. وقال بعضهم: شعر الرجل قطعة من كلامه، وظنه قطعة من عقله، واختياره قطعة من علمه. وطول الكلام في هذا وذكر أن هذا الكتاب مختصر من كتاب ألفه قبل هذا في هذا الفن، وأنه كان طويلاً فحذف منه أشياء واقتصر على هذا القدر. ثم جاء بعده أبو منصور الثعالبي المتوفى سنة 429هـ ووضع كتابه (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب البارع؛ هذا ثم جاء أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي المتوفى سنة 467هـ؛ وألف كتاباً اسمه (دمية القصر وعُصرة أهل العصر)، وجعله ذيلاً لكتاب يتيمة الدهر؛ ثم جاء أبو المعالي سعد بن علي الوراق الحظيري المتوفى سنة 568هـ وصنّف كتاباً أسماه (زينة الدهر)، وجعله ذيلاً على دمية القصر؛ وأخيراً ظهر العماد الكاتب الأصبهاني المعروف بابن أخي العزيز والمتوفى سنة 597هـ، ووضع كتابه المسمى (خريدة القصر وجريدة أهل العصر)، وجعله ذيلاً على زينة الدهر للحظيري. هذا في المشرق، وأنت فانك تعلم أن الأندلسيون كثيرا ما يحذون حذو المشارقة في سائر مناحيهم؛ ومن ثم نحوا نحوهم في وضع هذا النوع من التواليف، فوضع الأديب الكاتب الشاعر أبو عمر أحمد بن فرج - وكان معاصراً للخليفة الحكم المستنصر بن عبد الرحمن الناصر - كتاباً اسمه (الحدائق) قدمه للخليفة المستنصر وعارض به (كتاب الزهور) لأبي محمد بن داود الأصبهاني ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئاً - وسنترجم لهذا الأديب - ثم جاء من بعده صاحبنا أبو الحسن علي بن بسام فوضع كتاب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة) وجعله ذيلا على حدائق ابن فرج. وفي عصره صنف الفتح بن خاقان كتابي القلائد والمطمح، وجاء بعدهما الأديب أبو عمر بن الإمام وذيل على الذخيرة والقلائد بكتاب اسمه سمط (الجمان وسقيط المرجان) ذكر فيه من أخل ابن بسام والفتح بتوفية حقه من الفضلاء، واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة؛ وذيل على هذا الكتاب أبو بحر صفوان بن إدريس الكاتب الأندلسي الكبير بكتاب سماه (زاد المسافر) ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة. وهنا نذكر أن أكثر هذه الكتب مفقود كما أن هناك تواليف كثيرة من هذا القبيل لم نسمع بها فضلا عن أنها غير موجودة. فلقد أخبرنا الإمام أبو محمد بن حزم في رسالته التي يشيد فيها بفضائل الأندلس أن للشاعر الوشاح أبي بكر عبادة بن ماء السماء كتاباً في أخبار شعراء الأندلس أثنى عليه وقال أنه كتاب حسن معناه. وحدثنا أيضاً بأغرب من هذا وهو أن من بين الكتب التي وضعت للخليفة الحكم المستنصر كتاباً في أخبار شعراء (أًلبِيَره) في نحو عشرة أجزاء. . . فتأمل. . . ومما يتصل بهذا وما هو أقعد في باب الغرابة ما حدثنا به ابن حزام أيضاً من أن هناك شاعراً أندلسياً كان في عصر جرير والفرزدق اسمه أبو الأجرب جَعْونَة بن الصِّمّة الكلابي يقول ابن حزم في حقه: ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب في الشعر لم نباه إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما؛ ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين. وحكى ابن سعيد صاحب كتاب المغرب قال: إن عباس ابن ناصح الشاعر الأندلسي لما توجه من قرطبة إلى بغداد ولقي أبا نواس قال له أنشدني لأبي الأجرب قال: فأنشدته، ثم قال: أنشدني لبكر الكناني، فأنشدته؛ فأين شعر هذين الشاعرين الأندلسيين العظيمين؟ إنا وا أسفاه لم نعثر لهما على شيء قط. . . . . . ثم وأين كتاب المسهب للحجاري، وكتاب المغرب لابن سعيد، وكتابا المبين والمقتبس لمؤرخ الأندلس الأكبر أبي مروان حيان ابن خلف!؟. . . وأين وأين. . .!؟
أين سكناك لا أين لهم ... أحجازا أوطنوها أم شاما
فاسألنها واجعل بكاك جواباً ... تجد الدمع سائلا ومجيباً
أما كتاب الذخيرة فليس أصدق في التعريف به مما جاء في تصديره أو مقدمته أو مدخله أو خطبته، وإذ أن خطبة هذا الكتاب طويلة فلنجتزئ بذكر ما يهمنا منها، وهنا ننبه القارئ إلى أن مستهل هذا الكتاب الموجود في النسخ الموجودة بدار الكتب المصرية هو غير مستهل الخطبة الحقيقي. وإليك هذا المستهل كما هو في النسخ المذكورة:
(الحمد لله الذي أبرز قمر الآداب في سماء الكمال، وجعل لها أهلا كالنجوم يقتدى بهم ويهتدى مدى الأيام والليال، وصلاةً وسلاما على السيد السند الرسول المفضال، وأصحابه وأزواجه والآل، ما صدح هزار الفصاحة على أغصان فنن البلبال، وبعد: فيقول صاحب العزلة والانفراد أبو عبد الله عبد الملك بن المنصور بن عبد البر بن عدي بن هشام بن أحمد بن بسام: أني كلِفْتُ منذ زمان بأن أعد محاسن أهل جزيرة الأندلس، ورأيت العزلة والانفراد عن هذا العالم في هذا الزمان، واجبةً بحسب الإمكان، وأردت قطع التردد عن مجالسة الرجال، لا سيما والفكر مشغول في بحر التفكير فيما كلفت به وأدركته بعد أمة. ولا أدعي أني اخترعته ولكني لعلي أحسنت حيث أتبعت، وانتقيت ما جمعت، وتألّفت على الشارد، واغتنيت عن الغائب بالشاهد. . . الخ الخ) وهذا كلام كما ترى غث بارد مغسول لا يصدر عن مثل ابن بسام، ولعله تلفيق حَمْقىَ النساخين، يضاف إلى ذلك أنه ورد فيه اسم ابن بسام وخطأ فليس اسم ابن بسام عبد الملك ابن المنصور. . . وإنما اسمه عليّ وكنيته أبو الحسن لا أبو عبد الله. . . إذن هذا كلام مفتعل. ومستهلّ الخطبة الحقيقي هو كما ورد في نفح الطيب ما يأتي:
(أما بعد) حمداً لله ولي الحمد وأهله، والصلاة على سيدنا محمد خاتم رسله، فأن ثمرة هذا الأدب، العالي الرتب، رسالة تنثر وترسل، وأبيات تنظم وتفصل، تنثال تلك انثيال القطار، على صفحات الأزهار، وتتصل هذه اتصال القلائد، على نحور الخرائد، ومازال في أفقنا هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الْفَنَّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيبَ مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدجن بجفون المؤرق، وجدّوا بفنون السِحْر المنمّق، جد الأعشى ببنات المحلق، فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثّيّر ما نسب ولا مدح، وتتبعه جَرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لحنوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتاباً محكما، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيه، ومناخ الرديه، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذْت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غَيرةً لهذا الأفق الغريب أن تعود بدُورُهُ أهِلَّة، وتصبح بحورُه ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان، وقد كتبت لأرباب هذا الشان، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتاب، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النَصفه، وذهب مذهبي من الأنفَه، فأملى في محاسن أهل زمانه، كتاب الحدائق معارضاً لكتاب الزهرة للأصفهاني، فأضربت أنا عما ألّف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعدّيت أهل عصري ممن شاهدته بعمري، أو لحقه أهل دهري، إذ كل مردّد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مَجَّت الأسماع (يا دار ميَة بالعلياء فالسّند) إلى أن قال بعد ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف الرضي والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي، وغيرهم ممن يطول ما صورته. . . وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم بيتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر. . .
هذا هو كل ما أورده المقري من خطبة الذخيرة، ومن هذا الموضع تبتدئ بقية الخطبة المثبتة في النسخ الموجودة في دار الكتب، فإذا أردت أن تجمع أطراف خطبة الذخيرة فهذا الذي أوردناه هنا هو الشطر الأول منها، لا ما هو مذكور في النسخ التي بين أيدينا حتى إذا وصلت إلى هذا الموضع وهو: - وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور في تأليفه المشهور المترجم بيتيمة الدهر في محاسن أهل العصر - وهذا هو ما أراده المقري واقتصر عليه - فارجع إلى هذا الموضع في خطبة الذخيرة الملفقة وامض منه إلى نهايتها وبذلك تجتمع لك الخطبة وتكمل، وهي خطبة على طولها بارعة جميلة، فارجع إليها في الذخيرة إن شئت؛ وما حفزنا إلى القول عليها وإيراد ما أوردناه منها إلا هذا التخليط الذي اعتور النسخ بأيدينا. . .
هذا وقد كسر ابن بسام الكتاب على أربعة أقسام: القسم الأول لأهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من موسطة بلاد الأندلس، وهذا يشتمل من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب والشعراء على جماعة. . . الخ الخ، والقسم الثاني لأهل الجانب الغربي من الأندلس وذكر حضرة أشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب جملة موفورة. . . الخ الخ، والقسم الثالث ذكر فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى إلى منتهى كلمة الإسلام هنالك. . . الخ الخ، والقسم الرابع لمن طرأ على هذه الجزيرة من أديب شاعر وكاتب ماهر ووصل بهم ذكر طائفة من مشهوري المشارقة ممن نجم في عصره. . . الخ الخ
(وبعد) فأنا نضرع إلى الله سبحانه أن يوفق جماعة المستشرقين الذين أزمعوا طبع هذا الأثر النفيس حتى يخرجوه سليما معافى بارئاً مما ألمّ به من التحريف الذي شوه محاسنه، وكاد يطمس معالمه إنه سميع الدعاء.
عبد الرحمن البرقوقي
منشئ مجلة البيان ورئيس قلم المراجعة بمجلس النواب
___________________________________________
مجلة الرسالة الأعداد 138 / 139 / 140 / 141
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق