نشر المسيو كاباتون ن علماء المشرقيات بحثاً إضافياً في مجلة العالم الإسلامي الباريزية جاء فيه ما تعريبه: كتب لإسبانيا من دون ساتر بلاد أوربا أن تكون مبعث أشعة التمدن الإسلامي وكهف اللغة العربية على حين ليست هذه الشبه الجزيرة متصلة من حيث موقعها الجغرافي بالشرق الإسلامي مباشرة كما هي حال الممالك البلقانية واليونان مثلاً. وأقرب البلاد بها مساساً وأقربها منها حمى بلاد أفريقية التي كانت منذ قرون ثانوية في النشوء الإسلامي فشغلت إسبانيا مكانة عظمى في تاريخ الإسلام أكثر مما جاور آسيا الصغرى من بلاد الطونة واليونان التي لم تشهد من الإسلام إلا العهد الموغل في التوحش الكثير الفتن القليل المنافع ونعني به عهد الأتراك على حين ذاقت إسبانيا أجمل عهود الإسلام وأخصبها وأعني به عهد العرب فتأصلت مدنيتهم في إسبانيا وأزهرت فيها أي إزهار.
فتح طارق بن زياد وموسى بن نصير إسبانيا من سنة 711 إلى 714 وكانت مستعدة لهذا الفتح لأن الفوضى كانت رافعة عليها أعلامها فاستولى العرب على عرش تلك البلاد من ملكها رودريك الذي هلك في المعركة وأظهر الأشراف ورجال الدين من الإسبانيين من الجبن والنذالة شيئاً كثيراً فهربوا من إشبيلية وقرطبة عندما سقطتا في أيدي العرب ولم يفكروا في الدفاع عنها وبلغ بهم الخوف في طليطلة أن بعضهم هرب إلى غاليسيا ومن رجال الدين من لم يقفوا إلا في رومية لأنهم كانوا يخشون على حياتهم وأموالهم على أن حكومة إسبانيا إذ ذاك كانت مكروهة من العبيد واليهود لأن هؤلاء كانوا مضطهدين. خدم العبيد باديء بدء الدولة الإسبانية قبل دخول العرب ثم قلَّ إخلاصهم لها حتى أن قرطبة سلمها للعرب راهب من العبيد وتمت على أيديهم خيانات أخرى. وكان اليهود أكثر ضرراً على حكومة إسبانيا الغربية ولا يتأتى تقدير عددهم بالتدقيق بل هم فيما يظهر عنصر مهم للغاية انتشروا في قرطبة وإشبيلية والبيرة وغرناطة وطليطلة وغيرها من المدن ولا سيما لوسنا.
وكان اليهود في الأندلس على جانب عظيم من الغنى وحسن معرفة بالتجارة وأرقى علماً من جيرانهم واستحكمت بينهم الصلات حتى أصبحوا حكومة وسط حكومة فخاف الملك ورجال الدين الكاثوليكي من امتداد سلطانهم وأخذوا يضطهدونهم بتحامل شديد فربي الخوف والاضطهاد في نفوسهم البغضاء وحب الانتقام. وفي سنة 694 قبل مجيء طارق والعرب بسبع عشرة سنة دبر الإسرائيليون مكيدة بمعاونة قبائل البربر اليهود من أهل إفريقية وكادوا يستولون على زمام المملكة الإسبانية. فاكتشفت المكيدة التي دبروها وأخذ المسيحيون يعاملون الإسرائيليين معاملة العبيد الأرقاء وكاد يقضى على العنصر اليهودي عندما بدت طلائع الفاتحين من العرب. اعتبر اليهود العرب مخلصين لهم فاطمأن المسلمون إليهم وأخذوا يعاملونهم معاملة حلفاء لهم وكلما كان يفتح العرب مدينة يجعلون نصف حاميتها من اليهود والنصف الآخر من المسلمين ولم يستثن من ذلك إلا مدينة مالقة حيث قصراليهود فلم يتداخلوا في أمرها.
وكان لليهود شأن وأي شأن مع العرب فكان من يناله اضطهاد المسيحيين على أوائل الفتح العربي يدخل في الإسلام ويتحرر من قيود العبودية فمن ثم أصبح اليهود حلفاء المسلمين يتمتعون بأراضيهم وأموالهم وحريتهم في عبادتهم وغدت لهم مكانة في تنظيم شؤون إسبانيا ولاسيما في غرناطة التي ازدهرت بمساعيهم وغدت تسمى في أواخر القرن العاشر مدينة اليهود ثم حدثت م1بحة سنة 1066 فقتل فيها من الإسرائيليين أربعة آلاف رجل في غرناطة وحدها.
ولم يكن المسيحيون الأحرار في الأندلس مثل العبيد واليهود من أعوان الفتح العربي بل كانوا خصومه ومع هذا كنت تراهم على حالة حسنة مع الفاتحين ممتعين بحريتهم المذهبية ومحتفظين بالقسم الأعظم من كنائسهم وكثير منهم دانوا بالإسلام سياسة أو اعتقاداً لاسيما وقد رأوا المسلمين نالوا النصر المؤزر الباهر. والسبب في تسامح العرب مع نصارى إسبانيا أن مركز العرب كان إلى التقلقل وكلمتهم مختلفة وذلك لأن العرب والبربر يكره بعضهم بعضاً. ثم إن العرب بطبيعتهم مفطورون على التسامح الديني وكان النصارى وحدهم يدفعون الجزية حتى إذا أخذوا يدينون بالإسلام فرغت خزائن الحكومة العربية لقلة الجزية الواردة إليها ثم إن المسلمين أخذوا يتزوجون من الإسبانيات اللائي كن بجمالهن أعظم صلة للامتزاج بين الفاتحين وخصومهم.
وكانت تجري على سادات الإسبانيول أحكام الإسلام فيختلطون بأشراف العرب ومن ظل محتفظاً بدينه منهم نسي مبادئه فصار يحجب نساءه كالمسلمين ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم وخلاعتهم ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة العربية وآدابها ويسعى في نيل وظيفة في الجيش الإسلامي أو التعلق بخدمة الخليفة أو أحد رجاله.
ولقد كان القشتاليون والليونيون والنافاريون من سكان إسبانيا المسيحيين يأتون بكثرة للانخراط في خدمة الخليفة المنصور وكان هذا مؤقتاً بأن حب الكسب هو الذي يحمل هؤلاء على الإخلاص له أكثر من أشراف العرب الطائشين فيجري عليهم لذلك الأرزاق والجرايات الوافرة ويشملهم برعايته. وإذا شجر اختلاف بين مسيحي ومسلم من جنده يعطي الحق غالباً للمسيحي. وكانت أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع. ولما انقسمت بلاد الأندلس بين الطوائف أمسى ملوك المسيحيين يتزوجون من بنات الأمراء المسلمين فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية. وإن إسبانيا على ما كان بين العنصرين المسيحي والإسلامي في الأندلس من الاختلاف الذي لا مناص منه قد أصبحت مدة قرنين ونصف أي منذ الفتح العربي إلى زوال الخلافة الأموية (774 ـ 1031) تحت السلطة العربية والمدنية العربية برضاها لا بالرغم منها وقد مزجت تلك المدنية بالمدنية الإسبانية اللاتينية واليهودية التي كانت هناك قبل الفتح الإسلامي وكان ذلك بفضل العقل العربي.
من الظلم أن يقال أن إسبانيا كانت قبل إغارة العرب عليها في حالة الهمجية فقد كانت المدنية اللاتينية زاهرة فيها بفضل رجال الدين فأصبحت إشبيلية بواسطة أسقفها القديس إيزيدورس مركزاً علمياً قوي الدعائم لم يقو الفتح العربي على زعزعته وأنقذت مدرسة إشبيلية التقاليد اللاتينية من الحركة الشرقية فأصبحت البيع والأديار محال الاعتقادات والمعارف ولاسيما طليطلة وقرطبة وإشبيلية فكان يدرس فيها علم العروض والآداب اللاتينية مع علم اللاهوت. وعلى الرغم من سعي الأساقفة انتشرت المدنية العربية بسرعة وكادت تقضي على الوطنية الإسبانية وانحلت تلك المدنية الأصلية حتى ظلت معاهدها من القرن العاشر إلى القرن الثاني عشر مباءة الانحلال والتنبت.
دان كثير من الإسبانيين بالإسلام فأخذوا يتناسون أصولهم ويستعربون بحضارتهم وأخلاقهم وأنشؤا يتكلمون بالعربية بفصاحة لا غبار عليها وتمكنوا من آداب العرب حتى صار الخلفاء يختارونهم فيما بعد عمالاً لإداراتهم وأمناءَ لمشورتهم وأسرارهم أي في جميع الوظائف التي تقتضي أن يكون لصاحبها معرفة واسعة باللغة العربية ومتى قبل أحدهم مدنية الفاتحين لا يلبث أن يعترف بأنها أرقى من غيرها.
كانت مدنية العرب في إسبانيا محسوسة في الأمور المادية وذلك بما استعملوه من الوسائط الزراعية لإخصاب الأراضي البور في إسبانيا بالأساليب العلمية التي اتخذوها لريها وهي أساليب إن لم تكن اختراع العرب فهم الذين أكملوا نواقصها وأحسنوا استخدامها كما أنهم أسسوا معامل للحرير والجلود والبلور وغزل الصوف والقطن والكتان والقصب وأقاموا ما لا يحصى من البنايات العمومية من مثل الجوامع والحمامات ومنها ما يستدعي إعجاب الأمم بأسرها حتى بعد ثمانية قرون من تأسيسه مثل جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة. ثم خدموا العمران بتخطيط المدن الآهلة بالسكان الغنية الرباع التي لم تسترجع بعد الرعب ما كان لها في أيامهم من الحضارة وما برحت أنقاضها وما فيها من جمال رائع وصناعة محكمة ولاسيما في قرطبة وغرناطة شاهدة أبد الدهر بتلك المدنية باعثة على التأسف لزوالها.
نعم إن العرب فاقوا في تقدمهم في شبه جزيرة الأندلس بعلوم الطب والنبات والفلك والطبيعيات سواء كان بالعمليات أو بالنظريات فكيف لا يبتزون في علم البلاغة والفلسفة والشعر وهي العلوم التي كان لهم القدح المعلى فيها. وقد اجتذب حب هذه الحضارة حتى المسيحيين ومنهم من تناسى الأحقاد والمبادئ وما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العبرية وما مضي نصف قرن إلا وقد دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنائسية إلى اللغة العربية ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها.
ولقد اتخذ المسيحيون اللغة العربية ترجماناً لعواطفهم وقلوبهم حتى شكاالفار والقرطبي صديق الشهيد ألوج كما قال دوزي في كتابه تاريخ المسلمين في إسبانيا من أن المسيحيين في الأندلس قد أفرطوا في حبهم للعربية حتى صاروا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم لا ليردوا عليها بل ليحلوا بها منطقهم. قال وكيف السبيل إلى إيجاد رجل من العامة يقرأ التفاسير اللاتينية على الكتب المقدسة ومن منهم يتدارس الأناجيل والأنبياء والرسل ومن الأسف أن جميع صغار المسيحيين الذين اشتهروا بقرائحهم لا يعرفون غير العربية وآدابها فهم يقرؤن الأسفار العربية ويتدارسونها بنشاط لا مزيد عليه ويقتنونها بالأثمان الغالية يؤلفون بها خزائن نفيسة ويذكرون في كل مكان أن آداب العربية مما يعجب به وإذا حدثتهم بالكتب المسيحية يجيبونك بازدراء أن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم. وأي ألم أعظم من أن ينسى المسيحيون حتى لغتهم ولا تجد في ألف واحد منهم من يستطيع أن يكتب كتاباً مناسباً باللغة اللاتينية إلى صديق له وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهوراً يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.
واللوم في قصور الإسبانيين عن شأو العرب أن الحضارة الإسبانية اللاتينية قد نضب معينها وذهبت نضارتها على حين كانت الحضارة العربية على أشد نضرتها على عهد خلفاء بني أمية في الأندلس ولاسيما زمن عبد الرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني وفي أيامهما كان الأمويون في إبان عزهم.
فكان في قرطبة وسكانها نصف مليون نسمة ثلثمائة مسجد جامع وأحواض ماء وحدائق وفيها الآكام المزروعة المعروسة والحدائق الأنيقة وعلى نحو فرسخ من قرطبة قصر الملك الزهراء ودائرة الحريم منها تسع ثمانية آلاف امرأة فكانت قرطبة تنازع بغداد الأولية ببهجتها ونضارتها.
وقد عرف عبد الرحمن الثالث أذكى ملوك عهده جناناً وأكثرهم استدارة وأغناهم وكان في خزانته عشرون مليون ذهب (كذا) ـ بسخائه المتناهي في اجتلاب الشعراء وأرباب الموسيقي ومشاهير العلماء يقتدي في ذلك بأسلافه عامة. وإن المتوسطين من هؤلاء الخلفاء ليدرون النفقات الطائلة على أناس لهم في الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبغداد وكل إليهم أن يوقفوه على الحركة العقلية فيبعثون إليه بأهم المصنفات وأجمل الآثار. مثال ذلك أن إمبراطور القسطنطينية لم ير أحسن من أن يهدي مصنفاً بديعاً من ديوز كوريد مكتوباً بالذهب وقد حمله مع راهب عهد إليه بتعريبه للملك استجلاباً لرضاه.
فاق الحكم الثاني أباه بولعه بالآداب والكتب النادرة فكان يغص قصره بالنساخ والمجلدين والنقاشين وبلغت فهرست كتبه بحسب رواية معاصريه أربعة وأربعين جزءاً وكل جزءٍ عشرون صفحة وقال آخرون أن في كل جزء خمسين صفحة. ولم يكن فيها غير اسم الكتاب ووصفه. وقد قرأ الحكم هذه المصنفات وشرحها وحشاها وعلق عليها تعليقات تدل على طول باعه في تاريخ الأدب العربي. وبذل لأبي الفرج الأصفهاني من علماء العراق خمسة آلاف دينار ليخص الأندلس بتأليفه وهو عبارة عن دائرة معارف حوت أخبار الشعراء والمغنين. وكان العلماء من إسبانيا وغيرها ينهالون على قصره فيحسن فيه لقاءهم ويفرق عليهم الإحسان واشتهرت كلية قرطبة في العالم بأسره وإن لم تكن معروفة بأنها معهد رسمي للخلفاء أكثر من جميع الكليات العربية. وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني يحميان العلماء فيها من تعصب المتنطعين في العبادة. فيأتي الجامع الأعظم ألوف من الأندلسيين والأجانب من كل البلاد لاشتهاره بأنه معهد علمي وذلك من مدينة الأستانة إلى جرمانيا حيث كان هروفستا بقرطبة وهو فيديره. وفي ذاك الجامع كان أبو بكر بن معاوية القرشي يقريءُ الحديث النبوي وأبو علي القالي البغدادي يملي أماليه المشهورة الغنية بالنكات اللغوية والشعرية المأثورة عن العرب القدماء وابن قوطية أعلم نحوي في عصره يدرس النحو.
ورأى الحكم قبيل وفاته أن من الصعب على من بعده نشر المعارف بين الفقراء فأنشأ فيقرطبة سبعة وعشرين مدرسة ينفق على مدرسيها من ماله. ولئن كانت هذه المدارس الصغرى كالكليات لا تنطبق على ما نريده منها اليوم فكانت المدارس الابتدائية لتعليم القراءة وتفسير بعض آيات من القرآن ومع هذا كانت تشهد بما فطر عليه رعاياه من حب المعارف والتعليم.
وإن ذهاب الخلافة من الأندلس سنة 1031 وتقاسمها بين ملوك الطوائف سواء كانوا من أشراف الأسر العربية أو حذاق البربر لم يقف عثرة في سبيل هذه الحمية بل كان شأن عامة ملوك الطوائف شأن أولئك الأمراء في إيطاليا على زمن النهضة يحاولون أن يبرروا مظالمهم بحمايتهم للعلماء ولاسيما للشعراء الذين كانت أماديحهم وأهاجيهم عند العرب ذات شأن كبير حتى كان أعظم الخلفاء في بغداد ودمشق يحاول أن يسالمهم ليسالموه ويحسن إليهم ليمدحوه.
وتقدمت إشبيلية في تلك القصور الخالعة المتحضرة فكان المعتضد ابن عباد ابن القاضي أبي القاسم محمد مؤسس الدولة العبادية من الأمراء الظالمين المتهتكين يزرع الورد في جماجم أعدائه الكثار ويسرح طرفه بالنظر إلى هذه الحديقة ويدمن الخمر ولكنه ينظم الغزل الرقيق ويمنح الأدباء وظل ابنه المعتمد المحبوب الذي هلك في غارة المرابطين أحد المشاهير بنظم الأغاني في الأدب الإسباني العربي وقد أعطى من أجل بيتين فذين لعبد الجلال ألف دينار. وكان ابن عمار رفيق صباه وحاجبه زمناً شاعراً أيضاً ويساوي مولاه برقة الشعر ورشاقته وكانت رومابيكا السلطانة المحبوبة التي استولت طول حياتها على عقل المعتمد وقلبه مشهورة ببديهتها وهكذا كانت غاية هؤلاء المفتونين الظرفاء من الحياة أن ينصموا ويترفهوا ولو لم يضيفوا إليه محبة الآداب والصنائع الفكرية لكانت حقيرة ومريرة.
ولقد نافست مملكة المرية على صغرها مملكة إشبيلية وكان ابن عباس الوزير الجبار لزهير (1028 ـ 1038) يفاخر ببيانه المبرأ من العيوب وما اقتناه في خزانة كتبه التي تبلغ أربعمائة ألف مجلد أكثر من مفاخرته بغناء العظيم بالنسبة لعصره. ذكر المعتصم الذي طرده المرابطون كما طردوا المعتمد بأنه أحسن الملوك العلماء وأعدلهم في بلاد الأندلس فكان سخاؤه على الشعراء متناهياً حتى وهب ابن شرف قرية برمتها لبيت من الشعر قاله. وكانت قطعة من الشعر أو قصيدة من المدح الرقيق تمطر على ناظمها العطايا. وهو يرغب في سماع الأهاجي ولاسيما إذا دلت على صناعة وخلت من رميه بالبخل ولذا كان الأدباء يهرعون إلى قصره ويخدعونه ويبرمونه بمطالبهم التي لا تطاق فخف إليه في المرية طائفة من الشعراء يتبعهم أناس هاجروا إليه من البلاد الأخرى ومن جملتهم أبو الوليد النحلي الذي أغدق عليه المعتصم عطاياه فضحك منه ولكن المعتصم عفا عنه لا بالحط من قدره بل أنه أتبع العفو بالإحسان والإنعام. ومثله ابن شرف وابن أخت غانم من مالقة وهو ابن أخت اللغوي المشهور وغانم غرناطة وابن الحداد من قادش الذي اشتهر بأنه أعظم شاعر أندلسي.
وكان في الأندلس مثل أبي عبيد البكري ابن أحد ملوك الطوائف وهو أعظم جغرافي عربي في إسبانيا وكان له أيضاً حظ وافر من الشعر وله صداقة أكيدة مع المعتصم وكان هذا أو جميع أسرته يتعاطون الشعر ولاسيما ما كان منه في الغزليات والخمريات ومازال غزل أبيه وابنته أم الكرام معروفاً إلى اليوم عند كل من اطلعوا على الآداب العربية.
رسخت قواعد الحضارة العربية منذ القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر وبهرت العقول على ما كان من الفوضى السياسية في جميع إسبانيا الجنوبية بحيث تؤثر تأثيراً شديداً حتى على أعدائها الألداء أي الأمراء النصارى في شمالي إسبانيا. فانتشر هنا استعمال اللغة العربية بكثرة حركة فرسان ليون وأراغون الذين كانوا يذهبون للغزو مع المسلمين. وما كان يراه ملوك نافار وغاليسيا وليون وأراغون من ضرورة الاتحاد مع جيرانهم في الجنوب (العرب) فكانوا يؤدون إليهم الجزية على عهد خلفاء الأندلس وغدا العرب على عهد ألفونس السادس ملك غاليسيا وقشتالة وليون ونافار بعض إقطاعاته فكان في قصر ألفونس السادس ملك أهل الدينين كما كانوا يسمونه أناس من المدققين في اللغة المطلعين كل الاطلاع على دقائق اللسان العربي بحيث تسهل عليهم مكاتبة أمراء الطوائف من المسلمين فقد كان السيد كمبادور يجيد التكلم بالعربية لا فرق بينه وفي العقل والأخلاق وبين مسلمي بلنسية. ولما دخل ألفونس السادس إلى طليطلة سنة 1085 وكانت هذه المدينة عاصمة ألوزغوت القديمة قوي نفوذه من وراء الغاية باستيلائه عليها ولم يأت عملاً يصر بشهرتها بالعلوم الإسلامية وفاءً بعهد تعهده في هذا الشأن وكان نقض العهد من المألوفات في عصره لأن المسيحيين في الشمال ما زالوا متوحشين ينتفعون من الاحتكاك بالعنصر العربي المحط في أخلاقه الراقي بعقله وسار خلفاؤه على قدمه. ناول مدرسة أنشئت في طليطلة أوائل القرن الحادي عشر هي عربية اشتهر أمرها على عهد ملوك قشتالة أي زمن أبي عبد الله محمد بن عيسى المغامي وأحمد بن عبد الرحمن بن المطهر الأنصاري وغيرهما من الأساتذة ومن هذه المدرسة نشأت تربية الإسبانيين على مناحي العرب. وفي سنة 1130 أنشأ ريمون رئيس أساقفة طليطلة في هذه المدينة مدرسة للتراجمة وبها رسخت اللغة العربية والأفكار العربية في إسبانيا المسيحية .
دثرت المدنية الإسلامية الباهرة لا بأيدي المسيحيين الذين كانت تخشى بأسهم بل بصنع أناس من المسلمين أنفسهم نسفوها نسفاً وأعني بهم المرابطين. ولم يلتجيء أمراء العرب في الأندلس إلى هؤلاء الإفريقيين القساة المتبربرين الذين حملوا إلى الإسلام روح تعصبهم المنبعث من ضيق عقولهم الجاهلة إلا بعد أن أوجسوا خيفة على حياتهم وزاد سوء ظنهم في العواقب. هلك المعتضد ونفسهتحدثه بالشر الذي يجره على بلاده وأخلافه. وبينما كان ألفونس السادس ملك طليطلة إذا هو قد أصبح ملكاً على إشبيلية وقرطبة وغرناطة وغدا الأندلسيون مهددين من جهتين فرأوا أن يستسلموا لأبناء دينهم من المرابطين ليدفعوا غارة المسيحي عنهم وهو عدوهم القديم.
وفيسنة 1086 هزم يوسف (بن تاشفين) وعصاباته الإفريقية ألفونس السادس في وقعة الزلاقة شر هزيمة وفي سنة 1100 كتب لهذه العصابات أن تطرد عامة ملوك الطوائف أو تقتلهم وفيعام 1027 استرجعوا مدينة سرقسطة وخضعت إسبانيا كلها لملك مراكش.
وإن الثلاثة الملوك من المرابطين الذين استولوا على الأندلس منذ سنة 1100 إلى 1445 وهم يوسف وعلي وتاشفين كانوا على شجاعة فيهم ضعاف المدارك موسومين بالتعصب لا وقوف لهم على اللغة بل ولا على آداب العرب وأخذوا بتحريض الفقهاء يضطهدون الشعراء والعلماء والفلاسفة باسم الدين حتى اضطر هؤلاء أن يصمتوا أو أن يفروا بأنفسهم إلى بلاد أعدائهم القدماء ملوك قشتالة ونزلوا مدينة طليطلة حيث توفروا على تخريج النصارى يعلمونهم من أحكام الترقي ما كان ينقصهم للحاق بالمسلمين.
ومن الغريب أنه لم ينشأ على عهد عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني على كثرة حرصهم على المعارف علماء متجرون وفلاسفة عظام في البلاد الأندلسية المستعربة. وعلى العكس كنت ترى الفلاسفة يكثرون في عهد الشدة أيام أخذ المتعصبون من أهل الدين يطاردون كل من يجرأ في أرض الأندلس على مخالفة مذهب مالك. نعم كانوا ينبغون على حين غرة من أولئك المتنطعين وينيلون إسبانيا العربية مجداً لم يبلغه المسلمون أيام كانوا مشارقة صرفاً. فجاء الأندلس أمثال ابن باجة وابن الطفيل وابن زهر ولاسيما أبو الوليد ابن رشد الذي تخرج بابن باجة وانتمى إلى ابن الطفيل وصحب ابن زهر.
هذه الفلسفة التي انتقد عليها فيما بعد لخلوها من الإبداع قد كان لها شأن عظيم في حضارة القرون الوسطى بأن كانت واسطة النقل إلى الغربيين الذين أضاعوا حتى الاسم من معارف اليونان على ما تلقتها عنهم مدرسة الإسكندرية وبفضل هذه المدرسة تسنى لعلم الفلسفة واللاهوت (علم الكلام) في القرون الوسطى في الغرب أن تتصل التقاليد المدرسية بآداب النهضة.
كان للشعراء مقام كريم بين الناس بمافطروا عليه من التصورات فكانوا على طبيعتهم الشرقية لا يأتون ما يخالف روح الإسلام وكان الملوك بما فيهم من الاستبداد الطبيعي والأغراض السياسية يمقتون الفلاسفة. هذا إلى ما هنالك من حقد المتنطعين والمتفقهين وما جبل عليه الشعب الإسباني من أخلاق التعصب وكان الإسبانيون بانتحالهم الإسلام يزيدون المسلمين تعصباً إلى تعصبهم.
وكان عبد الرحمن الثالث والحكم الثاني من التسامح على جانب مع العلماء ولقد اتهم المنصور حاجب هشام الثاني بأفكاره الفلسفية فلم يدفع عنه هذه التهمة إلا بتكبير مسجد قرطبة ونسخ القرآن بيد، وإدرار الهدايا والعطايا على العلماء والفقهاء وتخريب خزانة كتب الحكم الثاني لأنها كانت عبارة عن كتب فلك وفلسفة وجغرافيا وطب فأحرقت وبإحراقها بادت إلى الأبد كنوز لا تقدر بثمن ونال لقاء ذلك رضا المتنطعين فخلا له الجو في قصره وأخذ يشتغل بالدروس التي يحظرها على الناس ويشتد في الإنكار عليها. وما أتاه من هذا القبيل سياسة قام به المرابطون مدفوعين إليه بعامل من الاعتقاد ونابل من أمزجتهم.
فكما أحرقت سنة1150 كتب ابن سينا في بغداد بأمر الخليفة رأينا بابن باجة يسجن بدعوى المروق من الدين ويضطر ابن واهب من إشبيلية أن يخلى عن دروسه الفلسفية إبقاءً على حياته ويقتل ابن حبيب من أهل تلك المدينة لاتهامه بالفلسفة. ويضطهد ابن الطفيل حتى يضطر إلى الاعتراف جهاراً بإيمانه الصحيح ومعتقداته الخالية من الشوائب. وهكذا انقضى زهاءُ قرن والكتب تحرق في أطراف إسبانيا الإسلامية وبها يبيد أثمن ذخر من الآداب العربية.
حاول السلطانان الأولان من الموحدين وهما عبد المؤمن ويوسف وكانا يميلان إلى الحرية أن يخففا من تعصب عصاباتهما ومن تشدد المتنطعين من المتصوفة حتى حظر عبد المؤمن إحراق الكتب على نحو ما كان يفعل المرابطون لإبادتها وأحسن معاملة ابن الطفيل وابن زهر وابن باجة. وأغدق يوسف وكان أعلم أمراء عصره على ابن الطفيل من إنعامه الشيء الكثير وقرأ عليه فلسفة ابن رشد وفوض إليه أرقى المناصب ومنها منصب القضاء في إشبيلية ثم أقامه طبيباً أول فيقصره (1183) ووسد إليه منصب قاضي القضاة في قرطبة على نحو ما كان أبوه وجده. وأفاض عليه يعقوب المنصور بالله ما كان له من أسلافه وزاد عليه ولكن إرادة شخص ولو كان ملكاً لا تقوى على صد هجمات تيار الرأي العام ولاسيما في عصر كان فيه سلاطين الموحدين مضطرين إلى إضرام جذوة التعصب فينفوس رعاياهم المسلمين من الأندلسيين لمعاكسة ملوك قشتالة وأراغون الذين كانوا على الدوام يتقدمون إلى الأمام.
وفي سنة 1196 بعد وقعة الأركوس التي كتب فيها النصر للمنصور على ألفونس التاسع صاحب قشتالة قويت شوكة الحزب الديني في القصر السلطاني ونكب ابن رشد على شيخوخته نكبة هائلة تناولت كثيرين من العلماء والأطباء والشعراء بل والفقهاء متهمين بحرية الفكر والخروج عن مقصد الجماعة. وطرد العامة ابن رشد على أبشع صورة من الجامع الأعظم في قرطبة وكان ذهب إليه لأداء الصلاة مع ابنه عبد الله الذي كان من أعظم عمال تلك المدينة ونفي إلى مدينة لوسنا اليهودية. وفي غضون ذلك صدر أمر من المنصور يحظر فيه على مراكش وإسبانيا درس الفلسفة المضرة والعلوم وما يتعلق بها ولم يستثن من هذا الحظر إلا الطب والحساب ومبادئ الفلك. وعهد بتنفيذ أمره إلى ابن أخت ابن زهر وكان فيلسوفاً كخاله فصدع بالأمر والخوف رائده. ثم إن ابن رشد نال الرضا من سلطانه قبل موته بأربع سنين وعاد المنصور يتوفر على دراسة ما كان يحظره على أمته من العلوم ولكن بعد أن ضربت الفلسفة الإسبانية العربية ضربة لا يجبر كسرها.
وإذ طردت العلوم الإسلامية من بغداد ومراكش وإسبانيا لم يبق لها غير مصدر واحد تلجأ إليه في طليطلة حيث طلبت حماية الدول المسيحية التي هي ألد أعدائها وكان سبقها إلى تلك العاصمة كثير من المسيحيين والإسرائيليين من أهل الأندلس فزعوا إليها لتحمي حياتهم ومعتقداتهم. وإذ كان المرابطون والموحدون متعصبين بالفطرة اضطروا أن يتظاهروا بالتعصب سياسة أيضاً فكانوا يعيشون في جهاد دائم لمقابلة المسيحيين من سكان الشمال الذين لم يكونوا دونهم في الانغماس بحمأة التعصب أيضاً للدفاع عن كيانهم في بلادهم ولم ير أولئك المرابطون والموحدون وسيلة إلى بث دعوتهم في نفوس أبناء دينهم أحسن من إثارة روح التعصب في جمهور العامة المتعصب وليس من سبيل إلى إقناعهم إلابتحسين دينهم لهم واضطهاد غيره من الأديان. فلا عجب من ثم إذا عومل نصارة الأندلس بأقصى الشدة وخربت كنائسهم وصودرت أموالهم وغدوا على الدوام مهددين في حياتهم. ولما عيل صبرهم استصرخوا ألفونس السابع المعروف بحبه للحرب والضرب فاقتصر من نجدتهم على غزو المسلمين في عقر دارهم ولكن بدون طائل إذ قاسى مسيحيو الأندلس من تلك الغزوات ضروب النكبات فقتل بعضهم أو نفي إلى إفريقية (1125) على صورة متوحشة بحيث هلكوا بأسرهم قبل أن يبلغوا منفاهم.
وجرى استئصال شأفة النصارى سنة 1136 على أقسى وجه حتى لم يبق منهم باقية في الأندلس ومن نجوا من الموت والتشريد لجؤا إلى قشتالة. وهكذا أسدى المرابطون والموحدون لنصارى الشمال معروفاً عظيماً غير متوقع بما توفروا على القيام به من العسف حتى نقضوا العهد الذي كان عقد بين إسبانيا الجنوبية والمسلمين العرب وقووا الشعور الوطني والتحمس الديني في الأندلسيين وجمعوا بين الإسبانيين من سكان الشمال ومن سكان الجنوب بما بينهم من أواصر الجنس والدين فقاموا قومة رجل واحد في وجوه المسلمين مسوقين إلى ذلك بحب الانتقام المتأصل بين الإسلام ومن يخلفه. وما كان الاضطهاد الذي نال أهل الصناعات الوديعين من المغاربة بعد خمسة قرون إلا جواباً طال التفكر فيه ودعت إليه قسوة المرابطين والموحدين وكان نتيجة تعصب مماثل لذاك التعصب ورأي سياسي مشابه لتلك الآراء وإن كان إلى الصراحة أقرب.
ولم يلبث امتزاج الشعوب الإسبانية على اختلاف العناصر والدين إن أثمر الثمرة المطلوبة فانهارت قوة الموحدين في وقعة لاس نافاس دي تولوزا (1212) وسقطت قرطبة (1238) وإشبيلية (1254) وبلنسية ومرسية في أيدي الإسبانيول وغدا هذا الاسم بعد حين جامعة دينية أكثر مما هو جامعة جنسية لأن جميع من لم يرتدوا عن الإسلام دخلوا في سواد العرب البربر وامتزجوا فيهم أي امتزاج. وإن المغاربة الذين رضوا بأن يعيشوا في الأندلس عيش التنبت إلى القرن السابع عشر ليصعب عليهم أن يبرهنوا على أنهم من دم إفريقي ثم أنه يتعذر على الإسبانيول أيضاً أن يذكروا أنسابهم لأن بعضهم مخضرمون خلاسيون فيهم الدم العربي وقليل منهم سرى إليهم دم البربر إبان الفتح وآخرون أصبحوا إفريقيين صرفاً عند زوال ذاك السلطان وخفوق راية الإخفاق على ربوع الأندلس الإسلامية.
ومما قوى أمل المسلمين في المستقبل وزادهم نشاطاً كثرة عديدهم فقد طرد منهم فرديناند الثالث بعد دخوله إشبيلية زهاءَ ثلثمائة ألف مسلم من أهل هذه المدينة فلجؤا من إشبيلية إلى قرطبة وجيان وبلنسية وغرناطة حيث بقيت دولة بني نصر مائتين وخمسين سنة أيضاً وعلى هذا كانت غرناطة آخر ملجأ للعمران العربي أزهر أي أزهار عندما أوشك بالانقراض فرأت حدائق الحمراء البهجة كبار الشعراء والمؤرخين من العرب أمثال محمد بن الخطيب وابن خلدون يجتازانها هما وابن بطوطة الجغرافي العظيم.
كان من نتائج وقعة لاس نافاس دي تولوزا أن حررت إسبانيا من رق العبودية للمسلمين وأدرك ملوك قشتالة أن ليس من العقل مقاطعة الماضي القديم وأنهم في حاجة بعد إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء ومنافسيهم الألداء (المسلمين) فحاول ألفونس العاشر خليفة القديس فرديناند الثالث واكن أوسع ملوك عصلره مدارك أن يعمل لإسبانيا المسيحية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام وذلك بالأخذ بأحسن ما فيالحضارتين ومزجهما بالحضارة الإسبانية.
فأسس سنة 1254 في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية عربية وحفظ لمدينة مرسية رونقها العربي الصرف واستدعى إلى عاصمته العلماءَ من جميع الملل والأجناس ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية وقوامها اختيار أحسن المعارف النافعة وهي أقرب إلى التسامح من المدرسة الأولى إذ كانت تجمع إلى التقاليد اللاتينية الحضارة العربية والعلم العبراني. وذلك لأن الإسرائيليين على سعة آمالهم في أحكام صلات التآلف بينهم وبين مسلمي الأندلس وما عرفوا فيه من مرونة الأخلاق قد عوملوا أسوأ معاملة وأوذوا في أنفسهم كما آذى المرابطون والموحدون نصارى تلك البلاد. فقتل الإسرائيليون ونفوا ومن سعدهم أن لجؤا إلى أرض ملوك قشتالة وأراغون الذيمن أحسنوا استقبالهم وكان لهم في بلاطهم شأن مهم أواخر القرن الخامس عشر فكان منهم أمناء الخزائن ومستشارون وأطباء للملوك. وبلغ عددهم في طليطلة أيضاً زهاء اثني عشر ألف شخص. وظل اليهود إلى ذاك الحين أقدر التراجمة على نقل الحضارة العربية وبما ترجم منها إلى لغتهم نجت أثمن آثار تلك الحضارة لأن الموحدين والمرابطين أخذوا يبددون كتبها عامة. وكان زان بن زاكت ويهوذا هاكوهن والربان زاك هم الذين نقلوا لألفونس العالم معظم كتب التاريخ والفلسفة والفلك عند العرب مع الشروح التي علقها عليها الشراح. وأتى دهر ظن فيه أن ألفونس العاشر سيحيي إسبانيا بعد موتها.
ظهرت الكنيسة أنها طمع في تنصير المسلمين بالبرهان فوضع أحد الرهبان الدومينيكيين واسمه رامون مارتي أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة 1230 وفي سنة 12 ـ 1311 امتدح البابا كليمان الخامس في إحدى المجامع الدينية من إنشاء كرسي لتعليم العربية في مدرسة سالامنكة. وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومينيكيون مثالاً لغيرهم بإنشاء مدارس لتعليم اللغات الشرقية ليقف رهبان من أهل الغيرة على لغات غير أبناء دينهم ومعتقداتهم ويباحثوهم ويجادلوهم. وقد أنشأ يعقوب الأول صاحب أراغون مدرسة مثل هذه في ميرامار إكراماً لثلاثة عشر راهباً فرنسيسكانياً وأخذ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص ينقطعون إلى دراسة اللغة العربية ليقاوموا الفقهاء والمشايخ بسلاحهم. وعلى هذا التقليد ظلت الجمعيات الدينية ولاسيما الفرنسيسكان إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة الاستشراق أي درس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.
كانت وطنية الإسبانيين متشبعة بروح السخط وحميتهم قائمة على التعصب وعدم التسامح وسياسة ملوكهم إلى الشدة ولذلك نالوا ما طمحت إليه نفوسهم من استتباع المسلمين بدراسة علومهم وقد نشأت من هذا الاحتكاك حضارة ذات قلب وإبدال مركبة من حضارتين مهمتين بغناهما ثم استقل الإسبانيون بعقولهم المرنة الشديدة المروضة وأصبحوا مصدر حضارتهم ومقرري مدنيتهم.
اعترفت إسبانيا بما هي مدينة به للحضارة العربية بما حفظته لها في مدارسها من الشأن حتى بعد أن تحررت من قيودها. كان في سالامنكة التي استحقت أن تجعل في مصاف باريز وأكسفورد وبولونيا إحدى المراكز العلمية الأربعة في الغرب سبعون حلقة للتدريس وربما بلغ عدد طلبتها سبعة آلاف في القرن السادس عشر ولم تنل هذه الشهرة الطائرة أولاً إلا لكونها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب التي كانت إلى ذاك العهد مغشاة بتجارب تافهة وعمليات مضحكة من نحو السحر والطلسمات. ولم يكن في سالامنكة في أواخر القرن الثالث عشر على عهد البابا بونيفاس الثامن غير خمسة وعشرين حلقة للتدريس منها حلقة لليونانية وأخرى للعبرانية وثالثة للعربية.
ولقد أصيبت هذه الحركة المثمرة المباركة بضربة شديدة عندما عاد ملوك الكاثوليك فاستولوا على غرناطة سنة 1492 واستصفوا أرض إسبانيا وأبادوا آخر مملكة إسلامية من شبه جزيرة الأندلس. ومنذ ذاك العهد أعادت حرب لا على دين أصحاب تلك البلاد ونعني بهم المسلمين بل على جنسيتهم ومدنيتهم. وقد جرت العادة بأن تلقي تبعة هذا العمل على رجال الدين من الإسبانيين ممن كانوا في الحقيقة متفانين في تنفيذ هذا العمل وذاهبين بفضل الربح فيما قاموا به من الذرائع على أن هذا الحكم لا يخلو من غلو ووضع المسؤولية في غير موضعها وذلك لأن ملوك الكثلكة مثل شارلكان وفيليب الثاني وفيليب الثالث الذين نسب إليهم الفخار بهذه الأعمال هم اليوم يبوؤن بالقسم الأعظم من العار. فكانت الشدة فيهم منبعثة عن رأي سياسي كاذب أكثر مما هي عن تعصب ديني ويراد بها التوسع في الملك على وجه سخيف. فطمع الإسبانيون بعد الوحدة السياسية والملكية التي نالوها بالصبر عليها قروناً أن يضموا إليها الوحدة الأدبية المتناهية في الخيال وهي التي كان يتصورها لويس الرابع عشر بفكره القاصر وانتهت بفسخ الأمر الصادر في نانت. وكان الفكر السائد منذ عهد فرديناند الكاثوليكي إلى فيليب الخامس بين جميع حكومات إسبانيا أن يعملن كلهن على تطبيقه على ضعاف المغاربة بالشدة التي جرين عليها في الأزمان السالفة فكن يقاومن أمراء المسلمين في الأندلس مقاومة ليس بعدها مقاومة. ومثل ذلك كان يجري على الإسرائيليين بصورة أكثر شدة ولكن لا تكاد يشعر بها لأن اليهود كانوا عبارة عن طائفة أقل من المسلمين وكان الغضب والأحقاد الشخصية تصب عليهم في الفترات متقطعة ثم زاد التعصب الإسباني وعجل بالقضاء على كل مخالف. وأكد فرديناند وإيزابيلا للمغاربة في غرناطة والأندلس بأنهم في حلٍّ من البقاء في أرض إسبانيا وأن يكونوا أحراراً في دينهم على شرط أن لا يدعوا إليه وأن تجعل جميع مساجدهم كنائس كاثوليكية. ولما قضى نحبه الكردينال بدرو كونزالز دي مادوزا سنة 1495 قام الكردينال كسيمنس دي سيسنروس رئيس أساقفة طليطلة ومن قدماء الأساتذة ومن الشاهدين على ما قالته إيزابيلا وحاكم إقليم قشتالة ينقض العهد الذي تم مع المسلمين رياءً ونفاقاً. وكان هذا الرجل معروفاً بسعة نظره وقوة عارضته في العمل بكل رأي يراه صواباً فيدعو على العمياء لتأييد الحكم المطلق للمقام البابوي أو للحكومة الملكية.
وأنشأ القوم بعد ذلك لا يكتفون بدعوة المسلمين إلى النصرانية بل يتطلعون إلى تعميدهم أو طردهم فجرى تعميد ألوف في إشبيلية وطليطلة وقرطبة وغرناطة من أولئك البائسين من المسلمين ممن اضطرتهم المصلحة والخوف واحترام المتغلب وحب الأرض التي ولدوا فيها أن يرضوا بتغيير معتقداتهم وقلوبهم منكرة عليهم أعمالهم ثم تكفل ديوان التفتيش الديني بمراقبتهم لتتبين له طهارة اعتقادهم. ومنذ سنة 1501 ـ 2 طرد من قشتالة ومملكة غرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام ولم يعد للدومينيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا بها من مجادلة الفقهاء وتخلوا عن علومهم لأنها أفسدت أفكارهم وزهد المسيحيون في علوم المسلمين إذ قام في أذهانهم أنها خطرة عليهم. ولذلك رأينا الكاردينال كسيمنس عندما أسس أو أحيا سنة 1499 كلية الكالادي هنار استنكف أن يضيف إلى دروسها حلقة لتعليم العربية مع أنه نسج في تأسيسها على منوال مدرسة سالامنكة وجعل فيها حلقتين لتدريس العبرية واليونانية فرأى أن تكون هذه المدرسة الجامعة لتلقي علوم اللاهوت وأن تبث الدين الذي يريد الملوك والبابا أن يروه غاماً موطداً الدعائم من أقصى إسبانيا إلى أقصاها. وكان أعظم أستاذ في سالامنكة في القرن السادس عشر فري لويس دي ليون شاعراًً لاهوتياً وفيلسوفاً مستشرقاً يحسن اللغة العبرية كل الإحسان ولكنه يجهل العربية.
صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة 1511 بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية ولاسيما من المصاحف المخطوطة أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك بغيرة عمياء مدة نصف قرن ولولا تلك المترجمات إلى العبرية واللاتينية لقضي على الحضارة العربية بجملتها التي امتد رواقها على إسبانيا مدة ثمانية قرون ولم يبق لعينها من أثر. وكاد ديوان التفتيش الديني على ما أخذ به نفسه من إبادة كل أثر للعرب أن يجعل طعاماً للنار تلك المخطوطات العربية التي حفظت في خزانة كتب الأسكوريال لولا أن تلطف الماركيز فيلادا وحال دون إحراقها. أما متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين فلم يكونوا يستطيعون إبداءَ أسفهم إلا سراً وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية أي الإسبانية المكتوبة بحروف عربية دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.
ولم يحظر فيليب الثاني سنة 1556 على متنصرة المسلمين حمل السلاح فقط بل منعهم من استعمال اللغة العربية وأرادهم على أن تنزع من أسمائهم التراكيب العربية ومن أجسامهم الألبسة الشرقية ليدل بذلك على أنه يريد مزجهم في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي. ثم إن قدماء المسيحيين من الإسبان كانوا كل حين يحتقرون أولئك المتنصرة على نحو ما كان العرب قديماً أيام عزهم يزدرون بالمولدين ولما ضاقت صدور المغاربة انتفضوا على احكومة فشتت شملهم في أودية البوجاراس وبعد مقاومة شديدة نفي أولئك المتنصرة أو سجنوا في أواسط بلاد إسبانيا وأصبحوا أمراء (1558).
سيم المسلمون في إسبانيا سوء العذاب فحاولوا ثانية أن يشقوا عصا الطاعة على عهد فيليب الثالث وعندها نفوا آخر مرة وعددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة. ولم يبق إذ ذاك من الحضارة العربية واللغة العربية غير ذكراهما البعيد وأصبحتا مزدرىً بهما. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف بأن الإسبانيول عاملوا الكتب والناس على نحو ما جرى المرابطون والموحدون وكانوا يمقتون أكثر لو لم يستعيضوا عن المدنية التي قضوا عليها بمدينتهم التي كانت إذ ذاك في أوائل أنبلاج فجرها فإن تخالفت النتيجة فالطرق إليها سواءٌ في اللوم والتقريع.
ومما لا يقبله العقل لولا أنه حقيقة أن إسبانيا التي كان للمدنية العربية عليها أيادي بيضاء قد بلغت بها الحال إلى أن تناستها بالكلية. فكان يزهد خلال القرن السابع عشر والثامن عشر بالمرة في تعليم اللغة العربية في أرض إسبانيا ولم يكن له أثر إلا إذا كان على طريقة سرية إفرادية وغدا الاطلاع على العربية نقصاً وربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد ولم تبق مدرسة تريلنك لرهبنة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثراً ضئيلاً فكان يكفي الطالب منها أن يلفظ الأسماء المستعملة ليذهب بعد إلى إفريقية وآسيا داعية للنصرانية ومن كان يحب التقدم منهم في معرفتها مجذوباً بما حوت من الآداب الغنية لم يبلغ شوطاً كبيراً في معرفتها إذ لم يكن يراها أحد عنوان مجد لإسبانيا الكاثوليكية في عصره.
ومن العدل أن يقال أن إسبانيا كانت منذ عهد فيليب الرابع إلى شارل الثالث تتخبط في المسائل الشاقة سواءٌ كان في شؤونها الداخلية أو الخارجية فلم يترك لها انحطاطها السياسي والعملي وقتاً ولا قوة لدرس العربية والتفرغ للبحث في تاريخ الحضارة الإسلامية وقد أوشكت على عهد شارل الثالث ملك الفلاسفة أن تعود العربية وآدابها إلى ما كانت عليه من الحياة في إسبانيا وإن كان بعض الإسبانيين إلى اليوم ينكرون على هذا الملك أفكاره على أنه كان له في إسبانيا الحديثة شأن أقل من فيليب الثاني وإن كان مثله في مكانته وسلامته ففيليب الثاني وشارل الثالث هما الملكان الكاثوليكيان اللذان بلغا بمملكة إسبانيا أوج الفخار أما شارلكان فهو أوربي أكثر منه إسباني وإن كانت إسبانيا بلد أمه. وبآثار ذينك الملكين يعثر في كل خطوة من يزور شبه جزيرة إسبانيا. فقد بلغ من جرأة شارل الثالث أن ضرب الماضي ضربة أدخلت إسبانيا في الحياة الجديدة التي أخذ شعوب الغرب يستمتعون بها فأراد وهو مشغول القلب بماضي مملكته شغله بسمتقبلها أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية فاستدعى لذلك رهباناً موارنة من سورية وأنفق عليهم النفقات الطائلة ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية. وكان هذا العمل من الصعوبة بحيث لم يكف عصر شارل الثالث (1759 ـ 1788) لإتمامه هذا مع ما وقف في سبيله من الأوهام والعثرات حتى إذا مضى لسبيله انقطع العمل الذي قصد إليه. بيد أنه يحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباعي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية أمثال القصيري وكامبومان والأب بلانكري وكوندو وفري باتريسيو دولانور وغيرهم.
جرَّت حروب نابوليون الويلات والاضطرابات على شبه جزيرة الأندلس وانقطع على عهد فرديناند السابع كل عمل يراد به إحياء العلم على نحو ما بدأ به شارل الثالث. ولما تولت الملك إيزابيلا الثانية قويت النهضة وخلصت النيات للتجديد ودخل الإصلاح إلى تلك الكليات القديمة التي كانت تتسكع في ديجور الباطل والعاطل إلا أن مسألة تعلم اللغة العربية كانت في الدرجة الثانية بالنسبة لما شرع فيه من إصلاح التعليم سنة 1845 على يد المسيو جيل دي زارات وبفضل هذا عادت العربية تدرس في الكيات رسمياً.
ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة 1857 زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة الأندلس منذ القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر ثم إن فقد إسبانيا لمستعمراتها في أميركا وآسيا ضاعف حركتها العلمية وطمحت بها آمالها السياسية نحو استعمار أفريقية أي مراكش.
فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية من تلقاء نفسها تدخل في قائمة دروس التعليم العالي وأصبحت المجموعة النفيسة من المخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي ميداناً للمستعربين من الإسبانيين يبحثون فيه ما شاؤا ويضاف إلى تلك الأسفار الثمينة المجموعة النادرة جداً من المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية الت احتفظت بها رهينة الكنيسة الكاتدرائية في طليطلة. دع عنك تلك النفائس التي اقتنتها بعد مكتبة العالم كايانكوس وما اقتناه الأستاذ كودرا في رحلاته إلى مراكش وتونس.
وعندنا أن للمستشرق كايانكوس الفضل في أنه خط للمشتغلين بالعربية في إسبانيا طريقاً مهيعاً فقام على أثره زمرة من العلماء وفي مقدمتهم المحترم الدكتور فرنسيسكو كودرا الذي احتفل بيوبيله احتفالاً دل على عواطف أهل العلم الأوربي. وقد أصبحت مينتان من مدن إسبانيا كهف اللغة العربية ونعني بهما مجريط (مدريد) وغرناطة فنبغ في مجريط الدكتور كودرا أستاذ الكلية الوسطى والدكتور فرناند إيكونزالز والأب لازكانو الذي أخذ يبحث في اللهجة السورية في دير الأسكوريال وهو العمل الذي بدأ به في بيروت. وغير هؤلاء العلماء بالمشرقيات وقد انضم إلى هاته الزمرة الغيورة أناس من الفتيان أخذوا على أنفسهم الجري على آثارهم لإتمام العمل الذي بدأوا به وتقوية روابطه مثل الكاهن المسيو ميكل أسين أستاذ اللغة العربية في الكلية الوسطى والأستاذ ريبرا أستاذ كلية سرقسطة الذي يدرس في مجريط حضارة المغاربة والعبرانيين والمسيو آلماني مدرس اليونانية والعالم المشهور بالعربية والمسيو فيف عضو المجمع العلمي التاريخي والمؤرخ الأثري المحقق والمسيو كونزالفو خازن كتب السجلات الوطنية والمسيو فيلالتا الذي قضى شطراً مهماً من حياته في مزغان والدار البيضاء وطنجة.
وقد كانت غرناطة فيما مضى مثل مجريط اليوم عاصمة الأندلس فحق لها أن تكون مركز الدروس العربية وكان الدكتور فرنسيسكو جافيه سيمونه هو الذي رفع مقام هذه اللغة وعد تحصيلها فرضاً رسمياً على الطلاب في غرناطة. مات مؤخراً وهو مشهور بأبحاثه العديدة في الجغرافيا والتاريخ وأصول اللغة والآداب الإسبانية الإسلامية وأخصى في حل الخطوط العربية ومثله الدكتور ليوبولد أكويلاز والدكتور ماريانو كاسبار ريميير وامتازت إشبيلية بأبحاثها الكتابية المتعلقة بغرناطة وهو الفرع الذي برز فيه الأستاذ الماكرو كاردناس ولكل من مدينتي برشلونة وسالامنكة صفان لتدريس العربية العامية وتجد مثل هذين الصفين في مالقة وقادش وبالمادي ولورقة وتنيريف في قناريا.
ولا يسعنا أن ننسى ما أصدره كل من الدكتور كودرا والدكتور ريبرا تاراغو من الأثر النفيس باسم المكتبة العربية الإسبانية فإنهما لم ينشرا منذ سنة 1882 إلى 1892 أقل من عشرة مجلدات في أصول اللغة والتاريخ والجغرافيا والأدب والنقود العربية في إسبانيا. ومما لا يصح السكوت عليه ما نشر باسم مجموعة الدروس العربية بمساعي الدكتور ماريانو دي بانو والدكتور دودرا وقد بلغ ما نشروه حتى الآن سبعة مجلدات.
وإنك لتجد في إسبانيا ميداناً عجيباً للدرس وذلك لأن المخطوطات والكتابات كثيرة فيها على الرغم مما أصابها من التلف منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر كما تقرأ ذكرى الحكومة العربية في كل حجر يقع نظرك عليه بل في كل وجه يتمتع طرفك بمرآه وتجد العاملين المدربين على العمل كثاراً فلا يعوزك إلا أن تدعوهم فيستخرجون معك الدفائن والكنوز. ولولا الصفات الشخصية التي فطر عليها المشتغلون بالعربية من الإسبانيين بالنظر لانفرادهم وقلة معونة الحكومة لهم وجهل الأمة قيمة ما يشتغلون به لما كان للعربية في إسبانيا ذاك المقام المحمود فقد رأينا الحكومة تتشدد في توصيد تدريس العربية في الكليات إذا خلت من مدرسيها فتقتصد بذلك رواتب المدرسين أو تعهد بالتدريس إلى أناس غير متمكنين منها حق التمكن كما فعلت في سالامنكة وبرشلونة ووسدت التعليم فيهما إلى مدرس اللغة العبرية. والمعلوم أن العلم كلما ارتقى احتاج إلى أناس متحجرين وأخصائيين. والأخصاء في فن يفتح لصاحبه السبيل فيبذل جهده في نقطة واحدة وبذلك يبرع ويبرز.
__________________________________
محمَّد كُرْد عَلي
مجلة المقتبس الأعداد
39 بتاريخ: 1 - 4 - 1909
40 بتاريخ: 1 - 5 - 1909
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق