د. أحمد الشاذلي
دلهي
حاضرة المسلمين لعدة قرون
تفخر مآذنها بماضيها الإسلامي
الهند بلادٌ فريدةٌ في معتقداتها ، عجيبةٌ في تاريخها وآدابها وأجناسها ولغاتها ، تاريخُها طويلٌ يمتدُّ آلاف السنين ، كتب عنها المجلدات الكبيرة : في التاريخ والأدب ، والفلسفة ، والعقائد ، وما زال هناك الكثير لم يُكشَف عنه النقاب بعدُ .
إذا عددنا تاريخ وآداب الهنود ، وسكان شبه القارة الهندية قبل الإسلام ، وجدْنا الإسلام بحضارته وثقافته يحتلُّ مكانًا بارزًا في تاريخ الهند : السياسي ، والفكري ، والعقائدي .
لقد أسَّس المسلمون دولةً واسعةَ الأرجاء ، وحَمَلوا معهم دينَهم ، ولغاتِهم ، وثقافتَهم ، وتراثَهم ، واعتنق كثيرٌ من الهنود الإسلامَ ، وتحدَّثوا بلغة الفاتِحين المسلمين ، وأَسهَموا بإسهاماتٍ كثيرة في الثقافة الإسلامية ، وألَّفوا ، وصنَّفوا آلاف المجلدات النفيسة في العلوم والآداب الإسلامية .
الباحث في تاريخ المسلمين في الهند يجد مجالاً واسعًا ، لا يقف عند حدود المكان أو الزمان ، ويجدُ متَّسعًا في الفكر عند قراءة الآداب الإسلامية .
لقد عمَّر المُسلِمون الهند حين جاؤوا إليها منذ القرن الأوَّل الهجري ؛ حيث بدأ العرب المسلمون يَطرُقون أبوابَها في عهد الوليد بن عبدالملك ، فقد قاد محمد بن القاسم القائد العربي المسلم جيشًا استولى فيه على إقليم السند، وبدأ يخطِّط للتعمير والبناء والتشييد ، وضع أُسُس الحضارة الإسلامية ، حين أسَّس مدينة المنصورة في الملتان ؛ لتكون مقرًّا للحكومة الإسلامية .
لم تكن مدينة المنصورة هي المدينةَ الإسلاميةَ الوحيدة التي أقامها المسلمون في الهند ؛ بل أصبحت كلُّ بقعةٍ من بلادِ الهند على اتِّساعها تَشهَد بالوجود الإسلامي ، سواء في إقامة المدن ، أو تشييد المساجد والمدارس ، أو تعبيد الطرق ، وحفر الآبار .
إن أسماء المدن الهندية ، مثل : حيدر آباد ، والله آباد ، وشمس آباد ، وهمايون آباد ، وتغلق آباد ، وأجرا ، ودهلي - توضِّح الأثر الإسلامي ، والدور الذي قام به المسلمون لتعمير الهند .
عندما تَختَفِي الرؤية الحقيقية للأمور ، وتتدنَّى النفوس الحاقدة ، وتُغمِض عينَها عن الحقائق الدامغة ، يكون لزامًا على المسلمين مواجهةُ الافتراءاتِ والأكاذيب ، وفضح أساليب طَمسِ المعالم الإسلامية ، وهي أساليب أصبحت ظاهرةً من ظواهر هذا العصر .
تحريف الأسماء العربية :
لقد عَمِل الأوربيُّون من قبلُ لتحريفِ الأسماء العربية ، وطمسِ جهود المسلمين ، وإنكار فضلِهم على أوربا والعالم ، وتحوَّلت الأسماء العربية إلى كلمات غربية الإيقاع ، غريبة على السماع ، فحين يقولون عن ابن رشد Averoes "أفيروس" ، وابن سينا Avicenne "أفيسين" ، وأبي معشر Albumazar "البومازار" ، ويحرفون الأسماء تحريفًا متعمدًا لطمس الهُوِيَّة الإسلامية ؛ لذا وجب مواجهةُ هذه الأساليب ، ومجابهة هذه الافتراءات .
المعالِم الإسلامية واضحةٌ تمام الوضوح في كل مكان نزل فيه المسلمون ، العمائر الشامخة تنبئ عن قدرة وعظمة المسلمين ، عندما وطئوا أرض الأندلس زَرَعوا أرضها بالمدن العامرة ، حتى صارت قرطبةُ ، وغرناطةُ، وإشبيلية ، وغيرها من مدن الأندلس - قِبلةً للقادمين من أوربا لتلقي العلم والمعرفة .
المدارس ، والمعاهد ، والمراصد التي ما زالت أطلالُها إلى يومنا هذا تَشهَد للمسلمين بالعظمة ، وتتحدَّى الحاقدين على المسلمين وتراثهم .
والهند واحدةٌ من البلدان التي خَضَعت لسلطان المسلمين سبعة قرون متتالية ، عاشت خلالَها في أمن وأمان ، شَهِد لها الرَّحَّالة الأوربيُّون قبل المسلمين ، حين زارها "ماركو بولو" وجد سلاطين المسلمين يحكمون بالعدل والإنصاف ، في وقتٍ كانت أوربا تَعِيش تحت حكام مستبدِّين .
على الرغم من أن جميع الشعوب الغازية - سواء في العصور القديمة أو الحديثة - تَلْجَأ إلى أساليب التدمير والهدم ، ومحاربة الشعوب والجيوش معًا ، وقد شَهِد التاريخ من أمثال ذلك الكثير في حروب المَغُول ، وغزوات الرومان والفرس ، وحتى في العصر الحديث حين قام الروس بتدمير "جروزني" عاصمة الشيشان ؛ من أجل إخضاع شعبها ، وحين قام الصِّرْب بتدمير "سراييفو" ، و"توزلا" ، و"موستار" ، و"بيهاتش" ؛ من أجل ضمِّها بالقوة ، على الرغم من كل هذا ، إلا أن هذه النظرة لم تكن عند الفاتحين المسلمين .
هذا هو الإسلام :
الفاتحون المسلمون لم يدمِّروا مدنًا ، ولم يحارِبوا شعوبًا ، ولم يَهدِموا عمرانًا ، ولكنهم أقاموا المدن ، وأنشؤوا المراصد والمدارس ، وألفوا بين الشعوب ، لم يدمِّروا تراث السابقين ، ولم يَهدِموا المعابد والكنائس ، لم يَقتَلِعوا زرعًا ، ولم يُبِيدوا نخلاً ؛ وإنما عَمروا الخرابات ، وأصلحوا ما أفسدته عوامل الزمن .
ومن أهم العمائر الإسلامية في الهند مدينة "دهلي" ، وهي المعروفة في الكتابات العربية "دلهي" ، والمعروفة حاليًّا بـ"نيودلهي" عاصمة الدولة الهند ، فهي مدينة إسلامية ، اتخذها المسلمون عاصمةً لدولتهم منذ وطئوا تلك البلاد ، وظلَّت كذلك حتى نهاية دولتهم .
اختار المسلمون مدينة "دهلي" على الضفة اليُمنَى من نهر "جمنه" ، وهو أحد فروع نهر "الجانج" ، واتخذوها قاعدةً لهم ، وحاضرة لدولتهم ، وكانت من قبلُ قريةً مجهولة .
كان الغَزْنَوِيُّون قد فتحوا بلاد الهند ، ولكنهم اتخذوا "لاهور" عاصمة لهم بعد غَزْنَة ، على الرغم من أن جيوشهم كانت قد وصلتْ إلى أقصى بلاد الهند .
وعندما استقر الحكام المسلمون في الهند في عهد المماليك الغُورِية في أوائل القرن السابع الهجري ، اتخذوا "دهلي" عاصمة لهم .
كان السلطان "قطب الدين أيبك" قد استولى على شمال الهند من حاكمها الهندوسي "يرتوي راجا" ، واستقر في "دهلي" ، وأقام عدَّة عمائر وأحياء بالمدينة ، كان من أشهرها المنارة الضخمة التي ما زالت أطلالها باقيةً حتى الآن .
قطب منار :
والمنارة التي تسمَّى باسم "قطب منار" - نسبة إلى قطب الدين أيبك - من العجائب البديعة التي مزجت بين الفن الإسلامي والفن الهندي ، وهي من روائع العمائر الإسلامية في الهند ، ويجاور المنارة برج النصر الذي يرتفع 258 قدمًا .
وكانت "منارة قطب الدين" هي أولَ منارةٍ تقام في "دهلي" على مسجد يسمَّى باسم "مسجد قطب الإسلام" ، وهذا المسجد به العديد من الفنون الإسلامية التي أضيفت إليه في السنوات التالية .
لقد أقام "علاء الدين خلجي" بوابة ضخمة لهذا المسجد تسمَّى "دروازة علائي"، وأدخل تعديلاتٍ على المسجد ، وتوسيعاتٍ كبيرة ، كما أقيمت عدَّة أضرحة لبعض السلاطين المسلمين في ساحة المسجد ، وكان أشهر الأضرحة بهذا المسجد "ضريح الشيخ قطب الدين جشتي" .
ومدينة "دهلي" الإسلامية تتكوَّن من سبع مدنٍ :
أقدمها : المدينة المعروفة "بدهلي" .
وثانيها : مدينة "سيري" ، التي بناها السلطان علاء الدين خلجي في أوائل القرن الثامن الهجري .
وثالثها : المدينة المسمَّاة باسم "جهان بناه" ؛ أي : مَلاذ العالَم .
ورابعها : مدينة "تغلق آباد" ، التي بناها السلطان "تغلق شاه" .
والخامسة : هي مدينة "فيروز آباد" ، التي بناها السلطان "فيروز شاه" .
والسادسة : هي مدينة "أجره" ، التي اتخذها السلطان "بابر شاه" و"همايون شاه" عاصمة لهما .
والمدينة السابعة : هي "شاهجان آباد" .
إسلامية الآثار :
ومدينة "دهلي" تكاد تَنطِق بإسلامية آثارها ، ويكادُ يَنطِق كلُّ حجر في عمائرها معبرًا عن قدرة وعظمة المسلمين .
في كل شبرٍ من المدينة الضخمة نرى الآثار الإسلامية ؛ من قصورٍ ، ومساجدَ ، وقلاعٍ ، ومدارسَ ، وأضرحةٍ ؛ ففيها : مسجد "خركي" المسقوف بأكمله على شاكلة مساجد قرطبة ، والمسجد الجامع الذي بناه "تيمور لنك" ، ومسجد "موتى" ، الذي يعد من أعظم المساجد في المدينة ، والمسجد الجامع الذي بناه "شاهجان" ، ويعد آية من آيات الفن المعماري الإسلامي .
بالإضافة إلى المساجد التي ما زالت أطلالها باقية حتى اليوم ، كانت هناك القصور ، والقلاع ، والحصون ، وأهمها : "قصرُ القلعة الحمراء" الذي أنشأه "شاهجهان" ، و"قصر الحصن" ، و"قصور فيروز شاه" ، و"آل لودي" المغول المسلمين في الهند .
ومن الآثار الإسلامية في "دهلي" قاعة الموسيقا "نقار خانه" ، والديوان العام ، والديوان الخاص ، والأسوار التي أقيمت حول المدينة في عصور مختلفة .
لقد استمرَّ المسلمون يوسِّعون في مدينة "دهلي" حتى أواخر القرن السابع عشر الميلادي ؛ حيث أنشأ السلطان "أورنجزيب" بعض القصور والمساجد .
تاج محل :
وعندما بدأ سلطانُ المسلمين يتوارى ؛ بسبب الهجمات الخارجية ونفوذ الإنجليز في البلاد ، هجر آخر سلاطين المسلمين "شاه عالم الثاني" "دهلي" عاصمة المسلمين سنة 1803م ، حيث استولى عليها الإنجليز .
لقد زار الهندَ بعضُ الرَّحَّالة الأوربيين في القرن العاشر الهجري ، في عهد السلطان أكبر ، الذي فتح بلاطه لجميع الديانات ، وقابل رُسُل ملوك أوربا ، الذين سجَّلوا الأحوال في الهند تحت سلطان المسلمين ، ورصدوا التقدَّم العمراني والحضاري والثقافي ، في ظل سلاطين المسلمين .
وتعدُّ مقبرةُ "تاج محل"، التي بناها السلطان "شاهجان" لزوجته "ممتاز محل" واحدةً من عجائب الدنيا السبع ، والتي ما زالت شامخة حتى الآن في مدينة "أجرا" "بدهلي" ؛ لتعبر عن أصالةِ الفنِّ والمعمار الإسلامي في الهند .
إن "تاج محل" ليست إلا واحدةً من آلافِ الآثار الإسلامية الراقية ، ولعلها واحدةٌ من الآثار التي نالت الاهتمام بين الآلاف من التحف المعمارية الإسلامية في الهند التي تعاني من الإهمال والتعدي .
وإذا كان الاعتداء على مسجد "بابري" وبعض المساجد الإسلامية يهدِف إلى محو الهُوِيَّة الإسلامية ، فإن محوَها لن يتم إلا بمحوِ كل المدن الهندية ، وأولها مدينة "دهلي" عاصمة الهند .
خير أمة أخرجت للناس :
الحضارة الإسلامية هي حضارة أمَّة ليست ككلِّ الأمم ؛ وإنما هي خير أمة أخرجت للناس ، ومن هنا ؛ فإن تراثها الحضاري يجب أن يكون خيرَ تراثٍ يقدَّم للبشرية .
لقد سَعَى الأوربيون لاستبعاد العرب عن أصل الحضارة ، واتَّهموهم باتهاماتٍ باطلة وزائفة ، وحَارَبوا كلَّ فكرٍ عربيٍّ ؛ سعيًا منهم للحدِّ من انتشار الإسلام ، وكانت الاتهامات الموجَّهة ضد العرب وإبرازهم في صورة مُزْرِية - مقصودًا بها الهجوم على الدين الإسلامي ، الذي يمثل عمادَ الحضارة التي أقامها المسلمون .
لقد وُجِدَ المسلمون في الأندلس ، وبعد رحيلِهم قهرًا ، ظلَّت أرض الأندلس تفخَر بوطءِ المسلمين لها ، ووُجِدَ المسلمون في الهند ، فلم يَترُكُوها وظلُّوا بها بعد أن نَزَع المستعمِرون عنهم سلطانَ الحكم والسيادة ، إلا أنهم لم يتمكَّنوا من نزع التراث الإسلامي من تراث الهند ، ولم يتمكَّنوا من محوِ الفكر الإسلامي من الفكر الهندي .
"دهلي" أو "نيودلهي" عاصمة الهند اليوم ، وعاصمة المسلمين بالأمس - ما زالت تفخر بماضيها الإسلامي العريق .
_________________________________________________________
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/45921/#ixzz2oX1SqQ1I
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق