بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 ديسمبر 2013

الغزنوي.. فاتح الهند



أحمد تمام 



اهتم الخلفاء الراشدون بفتح بلاد الهند ؛ فبعثوا منذ عهد عمر بن الخطاب عدة حملات على أطراف هذه البلاد ، غير أن الفتح المنظم بدأ في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك ، حيث قام عامله على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي بهذه المهمة العظيمة ، فأعد حملة عسكرية وجهزها بما يكفل لها النجاح من عدة وعتاد ، وأسند قيادتها إلى واحد من أكفأ القادة وأمهرهم هو ابن أخيه محمد بن القاسم ، وكان دون العشرين من عمره ، فنهض بهذه المهمة على خير وجه ، وتمكن من التوغل في بلاد الهند ، وفتح مدينة "ديبل" وأقام بها مسجدا ، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي ، وأصبحت ديبل أول مدينة عربية في الهند .

وهذه المدينة كان موقعها قريبا من "كراتشي" لكنها اندرست ولم يعد لها وجود الآن ، وواصل القائد المظفر حملته الناجحة في شمال الهند ، وهو ينتقل من نصر إلى نصر ، وأهالي البلاد تقبل عليه ؛ فرحًا به لسماحته وحسن سياسته ، وتعدّه محررَها من ظلم الهندوس واستعبادهم .

غير أن هذا الحلم الجميل بدا يتحطم ويتبدد ؛ فقد توفي الحجاج الثقفي صاحب اليد البيضاء في هذا الفتح ، ومن بعده الخليفة الوليد بن عبد الملك ، وتولى العراق حاكم جديد ، فأوقف الفتح وعزل محمد بن القاسم عن ولاية السند .

وظلت السند تابعة للدولة الأموية ومن بعدها الدولة العباسية ، وحافظ المسلمون على ما فتحوه ، وتوسعوا قليلا في ضم أجزاء أخرى إلى دولتهم ، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والملتان .


قيام الدولة الغزنوية :
كانت "غزنة" بأفغانستان ولاية نائية ، تخضع للدولة السامانية التي تحكم خراسان وما وراء النهر ، ويقوم عليها ولاة من قِبلها ، وشاءت الأقدار أن يلي غزنة سنة (366هـ= 976م) والٍ يسمى "سبكتكين" كان يتمتع بهمة عالية وكفاءة نادرة ، وطموح عظيم ، فنجح في أن يبسط نفوذه على البلاد المجاورة ، وشرع في غزو أطراف الهند ، وسيطر على كثير من المعاقل والحصون هناك ، حتى تمكن من تأسيس دولة كبيرة في جنوبي غرب آسيا ، وتوفي سنة (387هـ=997م) .

ولاية محمود بن سبكتكين :
بعد موت سبكتكين خلفه ابنه إسماعيل ، بعد أن عهد إليه أبوه بالملك من بعده ، غير أن أخاه الأكبر محمود - وكان سند والده في غزواته وحروبه - رفض أن يقر لأخيه بالملك لضعفه وسوء تدبيره ، فنهض عليه واستطاع بعد سبعة أشهر أن ينتزع الملك لنفسه ، ويقبض على زمام الأمور ، وبدأ عهد جديد لم تشهده المنطقة من قبل ، فلم يكد يستقر الأمر له ، حتى بدأ نشاطًا واسعًا في الفتوح ، وأثبت أنه واحد من كبار الفاتحين في تاريخ الإسلام ، حتى قيل إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

قضى محمود الغزنوي الفترة الأولى من حكمه في تثبيت أركان دولته ، وتوسيع رقعتها على حساب الدولة السامانية التي دبّ الضعف في أوصالها ، فرأى الفرصة سانحة للقضاء عليها ، وتم له ذلك في (جمادى الأولى 389هـ= أبريل 999م) بعد انتصاره على عبد الملك بن نوح الساماني في موقعة حاسمة عند مرو ، وأصبحت خراسان خاضعة له ، ثم تصدى للدولة البويهية ، وانتزع منها الري وبلاد الجبل وقزوين .

فتح الهند :
بعد أن استقرت الأحول لمحمود الغزنوي واستتب له الحكم ، وأقرته الخلافة العباسية على ما تحت يده من بلاد ، تطلّع إلى بسط سيطرته على بلاد الهند ، ومد نفوذه إليها ونشر الإسلام بين أهلها ؛ ولذلك تعددت حملاته على الهند حتى بلغت أكثر من سبع عشرة حملة ، وظل يحارب دون فتور نحوًا من سبع وعشرين سنة ، بدأت من عام (390هـ= 1000م) ، حيث قاد حملته الأولى على رأس عشرة آلاف مقاتل ، والتقى عند مدينة بشاور بجيش "جيبال" أحد ملوك الهندوس ، وحقق نصر غاليا ، ووقع الملك الهندي في الأسر ، الذي لم يستطع أن يتحمل هزيمته والعار الذي لحق به ، فأقدم على حرق نفسه ، بعدما أطلق الغزنوي سراحه مقابل فدية كبيرة .

ثم تعددت حملات الغزنوي ، وفي كل مرة كان يحقق نصرا ، ويضيف إلى دولته رقعة جديدة ، ويبشر بالإسلام بين أهالي المناطق المفتوحة ، ويغنم غنائم عظيمة ، حتى توج فتوحاته في الهند بفتح بلاد "الكجرات" ، ثم توجه إلى مدينة "سومنات" سنة (416هـ= 1025م) وكان بها معبد من أكبر معابد الهند ، يحوي صنما اسمه "سومنات" وكان الهندوس يعظمونه ويحملون إليه كل نفيس ، ويغدقون الأموال على سدنته ، وكانت مدينة سومنات تقع في أقصى جنوب الكجرات على شاطئ بحر العرب ، فقطع الغزنوي الصحاري المهلكة حتى بلغها ، واقتحم المعبد ، وهزم الجموع الغفيرة التي حاولت إنقاذ المعبد ، ووقع آلاف الهندوس قتلى ، وسقط المعبد في أيدي المسلمين .

وغنم الغزنوي أموالا عظيمة قُدرت بنحو عشرين مليون دينار ، وعاد إلى غزنة سنة (417هـ=1026م) وظلت ذكرى هدم معبد سومنات عالقة في ذاكرة الهندوس لم يمحها كرّ السنين ، ولا تغيرها الأحول ، حتى إذا ما ظفرت الهند باستقلالها عمدت إلى بناء هذا المعبد من جديد في احتفال مهيب .

ولم يكن الغزنوي مدفوعا في فتوحاته برغبة جامحة في كسب الغنائم أو تحقيق مجد يذكره له التاريخ ، ولكن قاده حماسه لنشر الإسلام ، وإبلاغ كلمة التوحيد في مجتمع وثني ، وكانت تلك الحملات مسبوقة بطلب الدخول في الإسلام ، وإلى هذا أشار السير "توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" بقوله : وفي الحق أن الإسلام قد عُرض في الغالب على الكفار من الهندوس قبل أن يفاجئهم المسلمون .

وكانت حصيلة جهود محمود الغزنوي أن أتمّ فتح شمال شبة القارة الهندية ، ففتح إقليم كابلستان ، وملتان ، وكشمير ، وأخضع البنجاب ، ونشر الإسلام في ربوع الهند ، وفتح طريقا سلكه من جاء بعده .

وقد نظر المؤرخون المسلمون إلى أعماله نظر إعجاب وتقدير ، فقد بلغ بفتوحاته إلى "حيث لم تبلغه في الإسلام راية ، وأقام بدلا من بيوت الأصنام مساجد الإسلام" .

النهضة الحضارية والثقافية 
البيروني :
اكتسب الغزنوي مكانته في التاريخ بفتوحاته التي لم تُسبق ، وبجهوده الحضارية التي لم يشغله عنها فتوحاته وغزواته ، وكان العزنوي نفسه مولعا بعلم الحديث ، يستمع إلى علمائه كما كان فقيها له مؤلفات ، ولا يكاد يسمع بعالمٍ له مكانة حتى يستدعيه إلى دولته ، فاستقدم "أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني" المتوفى سنة (440هـ= 1049م) الذي نبغ في علوم كثيرة ، في مقدمتها الرياضة والفلك ، وعُدّ من أعظم رجال الحضارة الإسلامية ، وتُرجمت كتبه إلى اللغات الأوروبية ، وأطلقت روسيا اسمه على جامعة أنشأتها حديثا .

وعني السلطان بالشعر وكان له به شغف ، ومن أشهر الشعراء الذين ازدانت بهم دولته الشاعر الفارسي "عنصري" وكان نديما للسلطان وشاعرا له ، منحه لقب "ملك الشعراء" في مملكته ، و"المسجدي" ، و"الفرخي" وهو شاعر فارسي عظيم قيل فيه : إن الفرخي لدى الفرس بمثابة المتنبي لدى العرب .

أما أبرز الشعراء في هذا العصر فهو "الفردوسي" صاحب "الشاهنامة" التي نظمها في خمسة وعشرين عاما من الجهد والإبداع ، وتشمل أخبار الفرس القدامى ، وهي من عيون الأدب العالمي .

ومن أبرز كتّاب الدولة ومؤرخيها "أبو الفتح البستي" وكان كاتبا للسلطان وموضع سره ومستشاره في كثير من الأمور ، وله شعر رائق ونظم جيد ، و"أبو نصر محمد بن عبد الجبار العتبي" مؤرخ الدولة الغزنوية وكاتب السلطان مع أبي الفتح البستي ، له كتاب "اليميني" نسبة إلى يمين الدولة لقب السلطان محمود الغزنوي ، تناول فيه تاريخ الدولة الغزنوية .

وأصبحت غزنة في عهد السلطان محمود منارة للعلم ومقصدا للعلماء ، وغدت عامرة بالمساجد والقصور والأبنية التي لا تقل بهاءً وجمالا عن المنشآت الهندية التي اشتهرت بدقة التصميم وجمال العمارة .

وفاة الغزنوي :
ظل السلطان محمود الغزنوي يواصل جهاده حتى مرض ، وطال به مرضه نحو سنتين ، ومع ذلك لم يحتجب عن الناس أو يمنعه المرض من مباشرة أمور رعيته حتى توفي قاعدًا في (23 من شهر ربيع الأول 421هـ= 29 من أبريل 1030م) بعد أن أنشأ دولة واسعة ، ضمّت معظم إيران وبلاد ما وراء النهر وشمال الهند كله ، ونشر دينًا لا يزال له أتباع كثيرون في الهند .

________________________________________________
مصدر الخريطة : أطلس التاريخ العربي والإسلامي  

هوامش ومصادر :
 نظام الدين بخشي الهروي- المسلمون في الهند- ترجمة أحمد عبد القادر الشاذلي- الهيئة العامة للكتاب- القاهرة 1995م.
 عبد المنعم النمر- تاريخ الإسلام في الهند- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر- بيروت 1401هـ=1981م.
 حسن أحمد محمود- الإسلام والحضارة العربية في آسيا الوسطى- دار النهضة العربية- القاهرة 1968م.
 عصام الدين عبد الرؤوف- تاريخ الإسلام في جنوب غرب آسيا- دار الفكر العربي- القاهرة 1975م.
 حسين مؤنس- أطلس تاريخ الإسلام- الزهراء للإعلام العربي- القاهرة 1407هـ=1987م.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/25196/#ixzz2oX6kn0RH

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق