مسعود عالم الندوي
العرب في السند :
ابتدأت الغزوات البحرية على الهند في زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ذلك بأنه ولي عثمان بن أبي العاصي الثقفي البحرين وعمان بعد العلاء الحضرمي رضي الله عنهما ، فوجه عثمان أخاه الحكم إلى البحرين التي كانت تمر بها سفن البلاد الشرقية جيئة وذهابًا فأنفذ جيشًا إلى الهند ، وحمل على (تانة) حملة - لأنه لم يكن إذ ذاك أثر لبمباي ثم شد الكرة على بروص (بهروج) ووجه أخاه المغيرة بن أبي العاصي إلى خور الديبل .
ابتدأت الحملات البحرية على الهند في عهد سيدنا الفاروق رضي الله عنه ، لكنه كان يشفق على المجاهدين ، عسى أن يلحقهم ضرر أو يصيبهم سوء في الغزوات البحرية ، لعدم مرانهم عليها . ولذلك اشتغلت الجنود الإسلامية في فتح بلاد الفرس والروم حقبة من الزمن ثم لما فتحوا بلاد العجم وقبضوا على أزمة الأمر في (مكران) تتابعت حملاتهم على السند وأشهرها التي حملها المهلب على (بنجاب) سنة 44 أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، وهذه أول حملة ساقها المسلمون بطريق (أفغانستان) .
ومن غريب المصادفات أن الحملات البحرية على الهند كما بدأت بأيدي الشبان الثقفيين ، كذلك بلغت غايتها بيد أحد الشبان من بني ثقيف - ألا وهو القائد المجاهد محمد بن القاسم الثقفي رحمه الله الذي فتح السند تمامًا سنة 92 .
كانت الهند مهوى أفئدة الأمم والسلاطين منذ قديم الزمان ولذلك تتابعت عليها الحملات ولم يخل منها عصر من عصور التاريخ ، والمشهور أنه لم تغزها أمة من وراء البحر غير أهل أوربة لكن الحقيقة تشهد بخلاف ذلك . لأن الحملات التي حملها العرب على الهند ، كانت من البر والبحر .
محمد بن القاسم
لقد رأيت أن الغزوات التي غزيت على (تانة) و(بروص) و(الديبل) زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت كلها بحري . ثم غزوة محمد بن القاسم الثقفي الشهير التي نحن بصدد ذكرها الآن ، كانت برية وبحرية معًا ، لأنه وإن احتشدت جماعة من عسكره إلى السند بطريق البر فقد وصل منها إلى السند جزء غير قليل بطريق البحر ، وجاء في البلاذري (ص 439) أن محمد بن القاسم قدم الديبل ، بطريق مكران يوم جمعة ورافقه سفن كان يحمل فيها الرجال والسلاح والأداة .
كانت هذه الغزوة زمن ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي . وذلك أن سفن العرب التجارية كانت تأتي وتذهب من (سرنديب) واليها . فعرض لها قوم من اللصوص في بوارج فأخذوها بما فيها حتى اضطر الحجاج إلى غزو السند من طريق البر والبحر . ففتح محمد الديبل سنة 92 وما زال يفتح بلدة بعد بلدة حتى استكمل فتح السند 95هـ وكان محمد يريد أن يغزو سائر بلاد الهند ويرفع فيها راية الإسلام ويدعو أهلها بالدعاية الإسلامية ولكن لما ولي سليمان بن عبدالملك سنة 99هـ عزل جميع عمال الحجاج والذين كانوا يمتون إليه بصلة ، فاستعمل يزيد بن أبي كبشة السكسكي على السند ، وحمل محمد بن القاسم مقيدًا إلى العراق ، حتى قضى فيها نحبه .
وهذا البطل المغوار لو أنسأ الله في عمره لفتح الهند كلها وجعلها بلادًا إسلامية عربية ولكن كل ما قدره الرحمن مفعول .
ولما حمل به مقيدًا قال متمثلًا :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر |
لقد صدقت يا أخا ثقيف ، أشهد بالله أنك صدقت في قولك ، لكن السياسة لا تفرق بين ذي ذنب ومن لا ذنب له ، رحمك الله رحمة الأبرار المجاهدين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
وقال حمزة بن بيض الحنفي :
إن المروءة والسماحة والندى لمحمد بن القاسم محمد ساس الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤددًا من مولد |
مقارنة
لقد أطنب المؤرخون في مدح اسكندر الأعظم ، لأنه فتح بلادًا في آسيا الغربية وعمره خمس وعشرون سنة . أما محمد بن القاسم فكما قال الشاعر :
ساس الرجال لسبع عشرة حجة ولذاته عن ذاك في اشتغال |
لم يبلغ السابعة عشرة من عمره حينما ناشب السنديين القتال ، وأذاقهم فيه ما دونه الموت الزؤام ، فأي وزن يقام لاسكندر من هذه الجهة في جانب بطلنا المغوار ، ثم لاحظ أن فتوحات (اسكندر) كانت كسحابة صيف تغشت سماء الهند ، وما لبث أن تقشعت فلم تترك وراءها عينًا ولا أثرًا ، وزد على ذلك أن الملوك الذين جاذبوه حبل الحرب والقتال لم يكن أحد منهم يضاهي (راجة داهر) الذي ناهض محمد بن القاسم وقارعه مقارعة الأبطال ، حتى خر الراجة قتيلًا في ميدان الحرب .
وأيضًا كان (اسكندر) يعمل الحيل والمكايد لفتح البلاد وربما كان يشن الغارة على الفلاحين الآمنين والقاعدين عن الحرب ، ويفتك بهم فتكًا ذريعًا لا تجيزه المروءة والشرائع [1] .
وضغث على إبالة ان (اسكندر) قد ألهبته حمية الكأس فجعل يعجب بنفسه وأعماله بعد عدة فتوحات ، وبلغ منه الشمخ بأنفه أن أباح للناس أن يخروا له سجدًا ، أما محمد بن القاسم ، فلم يعرف الغدر ، ولم يحتل بحيلة ذميمة ولم يظلم أحدًا من المساكين والفلاحين الآمنين والقاعدين عن الحرب ، وكذلك كان متواضعًا لله رفيقًا بعباده ، ولم يعجب بنفسه حتى إنه خضع لأمر الخليفة من غير تلجلج ، ورضي بالحبس والسجن بارًا بما عاهد عليه من طاعة .
أما انه لم يفتح البلاد مثل ما فتح (اسكندر) فلا يضيره شيئًا . لأنه لم يفسح له في أجله ، وإلا ، كما اعترف (Elliot) " لم يكن غير بعيد أن يخترق جدران الهند ويصل الصين فاتحًا الممالك والبلاد " .
وعامل محمد أهل البلاد معاملة ، جعلهم بها يبكون له حينما بلغهم خبر عزله . قال البلاذري : (فبكي أهل الهند على محمد وصوروه بالكبرج) .
فأين (اسكندر) من محمد ، وأين الأرض من السماء ، وأين الثرى من الثريا ؟ وإنما أتينا بشيء من التفصيل في ذكر محمد بن القاسم ، لأن مؤرخي الإفرنج لا يذكرونه ولا ينوهون بمآثره وجلائل أعماله أصلًا ، حتى إن عصر المسلمين في الهند يبتدئ في كتبهم بمحمود الغزنوي ، واقتفى أثرهم أمير البيان في حواشيه ، فبدأ فصله « في تاريخ الممالك الإسلامية الهندية » بالغزونية ولم يعط العرب ما كان لهم من حق في تاريخ الممالك الإسلامية وللأمير - حفظه الله - عذر في هذا الباب لأن اعتماده على كتب الإفرنج وهم قلما ينصفون العرب والمسلمين .
بعد محمد بن القاسم
لم يتغلغل الذين خلفوا محمد بن القاسم في أعماق الهند ولم يتقدموا خطوة لغزو ما وراء لهند ، بل اقتنعوا بما فتح لهم محمد وأصحابه ، ثم لما ضعف أمر الدولة العباسية وتسرب الوهن إليها استقل أمراء العرب بأنفسهم ، وتقطعت ولاية الهند إلى ولايات صغيرة عديدة ، ما زالوا بها إلى أن فتحها محمود الغزنوي في القرن الحادي عشر للهجرة ( الصحيح القرن الحادي عشر الميلادي ) .
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الأولى، العدد الخامس، 1354هـ
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/51254/#ixzz2oOL5QaWZ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق