بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 30 نوفمبر 2019

القرن الأول الفاضل


يقول 
الإمام الذهبي (المتوفى: 748هـ):

وقد كان في هذا القرن الفاضل خلق عظيم من أهل العلم وأئمة الاجتهاد وأبطال الجهاد في أقطار البلاد وسادة عباد ابدال أو أوتاد ولعل في من تركناهم من هو أجل وأعلم وكان الإسلام ظاهرا عاليا قد طبق الأرض وافتتحت بلاد الترك وإقليم الأندلس بعد التسعين في دولة الوليد وجميع الأمة من تحت أوامره بل بعض نوابه وهو الحجاج الظالم في رتبة أعظم سلطان يكون وعمر إذا ذاك مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأكمل زخرفة غرم عليه أموال عظيمة وأنشيء جامع دمشق وغرم عليه ازيد من ستة آلاف ألف دينار وذلك بجاه العمل وكان خراج الدنيا لا يكاد ينحصر كثرة فقد كان عمر رتب الجزية على القبط في العام اثنى عشر ألف ألف دينار فما ظنك بجزية الروم وما ظنك بجزية الفرس.

ولقد كان الخليفة من بني أمية لو شاء أن يبعث بعوثه إلى أقصى الصين لفعل لكثرة الجيوش والأموال فهذا سليمان لما ولي قد اغزى جيوشه في البر والبحر إلى مدينة القسطنطينية وحاصروها نحوا من عشرين شهرا ووقع للمسلمين غلاء وجوع لبعد الديار ولكن بلغنا أنه كان في منزله العسكر عرمة حنطة كالجبل العالي ذخيرة للجند وغيظا للروم فلما استخلف عمر بن عبد العزيز اذن للجيش في الترحل عنها وصالح أهلها وخضعوا له رضي الله عنه.

_____________________________

تذكرة الحفاظ 1 / 56 - دار الكتب العلمية -الطبعة: الأولى، 1419هـ- 1998م>

(فِي فَوَائِد التَّارِيخ)




مِنْهَا وَاقعَة رَئِيس الرؤساء مَعَ الْيَهُودِيّ الَّذِي أظهر كتابا فِيهِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِإِسْقَاط الْجِزْيَة عَن أهل خَيْبَر وَفِيه شَهَادَة الصَّحَابَة مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فَحمل الْكتاب إِلَى رَئِيس الرؤساء وَوَقع النَّاس بِهِ فِي حيرة فعرضه على الْحَافِظ أبي بكر خطيب بَغْدَاد فَتَأَمّله.

وَقَالَ: إِن هَذَا مزوّر فَقيل لَهُ من أَيْن لَك ذَلِك فَقَالَ فِيهِ شَهَادَة مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ اسْلَمْ عَام الْفَتْح وفتوح خَيْبَر سنة سبع وَفِيه شَهَادَة سعد بن معَاذ وَمَات سعد رَضِي الله عَنهُ يَوْم بني قُرَيْظَة قبل خَيْبَر بِسنتَيْنِ.
فَفرج ذَلِك عَن الْمُسلمين غما.

الصفدي (المتوفى: 764هـ): الوافي بالوفيات 1 / 55

أنواع الجمال والزينة لدى النساء في مختلف الشعوب




من عادة النساء في اليابان أن يطلين أسنانهن بطبقة من الذهب.
بينما تراهن في جزر الهند الشرقية يصبغن بالحمرة. 
وفي بلاد (جوزورات) لا تعد الثغور جميلة إلا بإطفاء لألأتها بشبه المداد. 
وإخفاء لآلئها في مثل ثوب الحداد. 
وفي جرينلندة يصبغ النساء وجوههن بزرقة وصفرة. 
والمرأة المسكوفية مهما بلغ من زهاء لونها وبهاء رونقها لا تعد نفسها لا تعد نفسها جميلة إلا إذا كاثفت على وجهها طبقات الدهان. 
والصينيات لا تسترح قلوبهن حتى تصير أقدامهن من فرط الصغر والدقة في حجم ظلف العنزة. 
ولكي يتم لهن هذا تراهن يقضين عصر الطفولة والحداثة في أنكى تباريح العذاب والألم. 
وقد ما كان أهل فارس يرون الأنف الأفتى من أمارات الإمارة والرياسة والوسائل الحرية أن يطلب بها الملك والإمامة فكان إذا تنازع التاج أميران من بيت المملكة حكم لصاحب الأنف الأفتى على قرنه ونظيره.

والأمهات في بعض البلدان يشدخن آناف أطفالهن تحسينا للخلقة. 
وفي بلاد أخرى يكبسن رؤوسهم بين لوحين من الخشب لتصير مربعة بدل الاستدارة والفرس العصريون يمقتون الشعر الأحمر أشد المقت وعلى ضد من ذلك الأتراك فأنهم مولعون بحمرة الشعر إلى الغاية القصوى ومن عادة (الهوتنتوت) (صنف من الزنوج) إن العاشق إذا أراد أن يتحف معشوقته بالحلة القشيبة لم يهدها خزاً ولا ديباجا ولا عطرا ولا زهرا ولكن كرشا وأمعاء من المسمط حارة يتصاعد بخارها لتختال المليحة السوداء منها في أعجب حلة وأطرب حلية.

وفي الصين تشتهى العيون الصغيرة المدورة. ولا تزال الصبيات هنالك ينتفن الحواجب لكي تدق وتستطيل. 
ونساء الأتراك يغمسن فرشة ذهبية في صيبغة مستحضرة من مادة سوداء فيمررنها على حواجبهن فتكون أثناء النهار واضحة جلية ولكنها تصير بالليل مشرقة وضاءة وهن أيضاً يخضبن الأظافر بصبغة وردية. 
ومن شرائط الجمال في الزنجية أن تكون صغيرة العينين غليظة الشفتين فطساء الأنف حالكة السواد. 
ولما عرضت على الإمبراطور مونوموتابا (أحد ملوك الزنج) غادة أوربية من نساء العالمين واقترح عليه أن يتخذها بدلا من محظيته السوداء رفض وأبى.

ونحن لا نرى ضرورة تزيين الأنف بحلية ولكن نساء (بيرو) يرين غير ذلك فهن يعلقن في أرنبة الأنف حلقة صغيرة ثقيلة تكون ثخانتها على قدر لقب الزوج وحسب رتبته ومقامه. 
وعادة خرم الأنف شائعة في كثير من الشعوب والقبائل. 
أما ما يعلق في ثقب الأنف من الحلي فضروب شتى، كالبلور الأخضر والذهب وكرائم الحجارة. وربما علق فيه عدد كثير من الحلقات الذهبية. ولعل هذا يقوم عقبة في سبيل التنخم والتمخط والواقع أن نساء الهنود الحمر (بأمريكا) لا يعملون البتة هذه العملية النافعة المفيدة، أما قناع الرأس النسائي فهذا قد يبالغ فيه لدى بعض الشعوب إلى درجة خارقة. 
فالحسناء الصينية تحمل على رأسها تمثال طائر مصوغ من النحاس أوالذهب حسب مقام صاحبته. وأجنحة هذا الطائر المنشورة تنسدل فوق مقدم القناع وتستر الصدغين. أما ذيل الطائر فسابغ ضاف منتشر الخصل منتفش الريش. وأما منقار الطائر فذلك يغطي قصبة الأنف من الحسناء.
هذا وجيد الطائر منوط إلى جسده بلولب لكي يكون أسرع اهتزازا وأكثر خفقانا واضطرابا لدى أدنى حركة.

مجلة البيان للبرقوقي
العدد 60 - بتاريخ: 15 - 8 - 1921

الجمعة، 18 أكتوبر 2019

الأمير الكبير، العالِم، المحدّث، عَلَمُ الدِّين، أبو مُوسَى التُّركيّ


سَنْجَر .

الأمير الكبير، العالِم، المحدّث، عَلَمُ الدِّين، أبو مُوسَى التُّركيّ، البرلي، الدُّوَيْداريّ، الصالحيّ. وُلِدَ سنة نيَّفٍ وعشرين وستمائة، وقدِم من التّرْك فِي حدود الأربعين وستمائة. وكان مليح الشكل، مهيبا، كبير الوجه، خفيف اللّحية، صغير العَين، ربعَةً من الرجال، حَسَن الخَلْق، والخُلُق.
فارسا، شجاعا، ديِّنًا، خيِّرًا، عالما، فاضلا، مليح الخطّ، حافظا لكتاب اللَّه.
قرأ القرآن بمكة على الشَّيْخ جبريل الدّلاصيّ، وغيره. وحفظ:
«الإشارة» فِي الفقه لسُليم الرّازيّ، وهي فِي أربعة كراريس. وحصل له عناية.
بالحديث وبسماعه سنة بضعٍ وخمسين.
فسمع الكثير، وكتب بخطه، وحصل الأصول. خرج المِزّيّ جزءين «عوالي» ، وخرج له البِرْزاليّ «معجما» فِي أربعة عَشْر جزءا، وخرج له ابن الظاهريّ قبل ذلك شيئا.
وحج ستّ مرّات. وكان يُعرف عند المكّيين بالسّتُوريّ لأنّه أول من سار بكسوة البيت بعد أخْذ بغداد من الدّيار المصرية.
وقبل ذَلِكَ كانت تأتيها الأستار من الخليفة.
وحجَّ مرَّةً هُوَ واثنان من مصر على الهُجن.

وروى عن: الزكي عَبْد العظيم، والرشيد العَطَّار، والكمال الضّرير، وابن عَبْد السلام، والشرف المُرسي، وعبد الغني بْن بنين، وإبراهيم بْن بشارة، وأحمد بْن حامد الأرتاحيّ، وإسماعيل بْن عَزُّون، وسعد اللَّه بْن أبي الفُضَيْل التُّنوخيّ، وعبد اللَّه بْن يُوسُف بْن اللّمط، وعبد الرَّحْمَن بْن يوسف المنبجي، ولا حق الأرتاحيّ، وأبي بَكْر بْن مكارم، وفاطمة بِنْت الملثّم بالقاهرة، وفاطمة بِنْت الحزام الحِمْيريّة بمكة، وابن عَبْد الدّائم، وطائفة بدمشق، وهبة اللَّه بْن زُوين، وأحمد بْن النّحّاس بالإسكندرية، وعبد اللَّه بْن علي بْن معزوز بمُنْية بني خصيب، وبأنطاكيّة، وحلب، وبَعْلَبَكَّ، والقدس، وقوص، والكَرَك، وصفد، وحماة، وحمص، وينبُع، وطيبة، والفيّوم، وجدة. وقل من أنجب من التُّرْك مثله.
وقد سمع منه خَلْقٌ بدمشق والقاهرة. وشهد الوقعة وهو ضعيف، ثُمَّ التجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد فتُوُفيّ به ليلة الجمعة ثالث رجب.
_________________________

الذهبي (المتوفى: 748هـ): تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام 52 / 409-410 - دار الكتاب العربي - الطبعة: الثانية، 1413 هـ - 1993 م.

___________________________
___________________________

دار الحديث الدوادارية والمدرسة والرباط


قال ابن كثير في سنة ثمان وتسعين وستمائة: وفيها وقف الأمير علم الدين سنجر الدوادار رواقه داخل باب الفرج دار حديث ومدرسة وولي مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار وحضر عنده القضاة والأعيان وعمل لهم ضيافة انتهى.

وقال الذهبي في العبر في سنة تسع وتسعين وستمائة: الأمير الكبير علم الدين سنجر التركي الصالحي كان من نجباء الترك وشجعانهم وعلمائهم وله مشاركة جيدة في الفقه والحديث. وفيه ديانة وكرم وسمع الكثير من الزكي المنذري2 والرشيد العطار3 وطبقتهما وله معجم كبير وأوقاف بدمشق والقدس تحيز إلى حصن الأكراد فتوفي به رحمه الله تعالى في شهر رجب عن بضع وسبعين سنة انتهى. وقال الصلاح الصفدي في حرف السين المهملة: سنجر الأمير الكبير العالم المحدث أبو موسى الدواداري ولد سنة نيف وعشرين وستمائه وتوفي رحمه الله تعالى سنة تسع وتسعين وستمائه وقدم من الترك في حدود سنة اربعين وستمائه وكان مليح الشكل مهيبا كبير الوجه خفيف اللحيه صغير العينين ربعه من الرجال حسن الخلق والخلق فارسا شجاعا دينا خيرا عالما فاضلا مليح الخط حافظا لكتاب الله تعالى قرأ القرآن على الشيخ نجيب الدلاصي وغيره وحفظ الإشارة في الفقه للشيخ سليم الرازي1 وحصل له عناية بالحديث وسماعه سنة بضع وخمسين وسمع الكثير وكتب بخطه وحصل الأصول وخرج له المزي جزءين عوالي وخرج له البرزالي معجما في أربعة عشر جزءا وخرج له ابن الظاهري قبل ذلك معجما.

سار بكسوة البيت الشريف بعد أن أخذ بغداد من الديار المصرية وقبل ذلك كان نائبها الاستادار من الخليفة وحج مرة هو واثنان من مصر على الهجن وكان من الاسرى في أيام الظاهر ثم أعطى امرية بحلب ثم قدم دمشق وولي الشدمرة ثم كان من أصحاب سنقر الأشقر ثم أمسك ثم أعيد إلى رتبته وأكثر ثم أعطى خبزا وتقدمة على الالف وتقلبت به الاحوال وعلت رتبته في دولة الملك المنصور حسام الدين لاشين2 وقدمه على الجيش في غزوة سيس وكان لطيفا مع أهل الصلاح والحديث يتواضع لهم ويحادثهم ويؤانسهم ويصلهم وله معروف كثير وأوقاف بدمشق والقدس وكان مجلسه عامرا بالعلماء والشعراء والأعيان وسمع الكثير بمصر والشام والحجاز وروي عن الزكي عبد العظيم3 والرشيد العطار وابن عبد السلام4 والكمال لضرير1 والشرف المرسي وعبد الغني بن بنين2 وإبراهيم بن بشارة وأحمد ابن حامد الأرتاحي وإسماعيل بن عزون3 وسعد الله أبي الفضل الفتوحي وعبد الله بن يوسف بن اللمط4 وعبد الرحمن بن يوسف المنبجي ولاحق الأرتاحي5 وأبي بكر بن مكارم وفاطمة بنت الملثم بالقاهرة وفاطمة بنت الحزام الحميرية بمكة المشرفة وابن عبد الدائم6 وطائفة بدمشق وهبة الله ابن رزين وأحمد بن النحاس7 بالاسكندرية وعبد الله بن علي بن معن وبأنطاكية وحلب المحمية وبعلبك والقدس وقوص والكرك وصفد وحماة وحمص وطيبة والفيوم وجدة وقل من أنجب من الترك مثله وسمع منه خلق بدمشق والقاهرة وشهد الوقعة وهو ضعيف ثم التجأ بأصحابه إلى حصن الأكراد فتوفي به ليلة الجمعة ثالث شهر رجب بتاريخ تقدم انتهى.

قلت وكان الشيخ فتح الدين به خصيصا ينام عنده ويساهره فقال لي: كان الامير علم الدين قد لبس الفقيري وتجرد وجاء مكة فجاور بها وكتب الطباق بخطه وكانت في وجهة آثار الضروب من الحروب وكان إذا خرج إلى غزوة خرج طلبة كذا وهو في زيه وإلى جانبه شخص يقرأ عليه جزءا فيه أحاديث الجهاد وقال: إن السلطان حسام الدين لاجين رتبه في عمارة جامع ابن طولون وفوض أمره إليه فعمره وعمر وقوفه وقرر فيه دروس الفقه والحديث وجعل من جملة ذلك وقفا يختص بالديوك التي تكون في سطح الجامع في مكان مخصوص بها وزعم ان الديوك تعين الموقتين وتوقظ المؤذنين في الاسحار وضمن ذلك كتاب وقف فلما قرئ على السلطان أعجبه ما اعتمده في ذلك فلما انتهى إلى ذكر الديوك أنكر ذلك وقال: ابطلوا هذه لا يضحك الناس علينا وكان سبب أختصاص فتح الدين به أنه سأل الشيخ.

شرف الدين الدمياطي عن وفاة البخاري فلما استحضر تاريخها فسأل فتح الدين عن ذلك فأجابه وغالب رؤساء دمشق وكبارها وعلماؤها نشوءه وجمع الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مدائحه في مجلدين أو واحد وكتب ذلك بخطه وكتب إليه علاء الدين الوداعي1 بولد أسمه عمر ومن خطه نقلت:

قل للآمير وعزه في نجله ... عمر الذي أجرى الدموع أجاجا
حاشاء يظلم ربع صبرك بعدما ... أمسى لسكان الجنان سراجا

ومن خطه نقلت:

علم الدين لم يزل في طلاب الـ ... ـعلم والزهد سائحا زمالا
فيرى الناس رأيين ووراء ... عند الأربعين وأبدالا كذا

وقال فيه لما اخذ في دويرة السميساطي بيتا:

لدويرة الشيخ السميساطي من ... دون البقاع فضيلة لا تجهل
هي موطن للأولياء ونزهة ... في الدين والدنيا لمن يتأمل
كملت معاني فضلها مذ حلها ... العالم الفرد الغياث الموئل
إني لأنشد كلما شاهدتها ... ما مثل منزلة الدويرة منزل

انتهى.
___________________________________________


عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي (المتوفى: 927هـ): الدارس في تاريخ المدارس 49 إلى 52- دار الكتب العلمية - الطبعة: الأولى 1410هـ - 1990م.

بلاد ما وراء النهر قبيل الفتح الإسلامي



بلاد ما وراء النهر؛ تعبير أطلقه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون على المنطقة المحصورة بين نهري، جيحون- آموداريا- في الجنوب، وسيحون- سرداريا- في الشمال، وتقع تلك البلاد في شمال شرق الدولة الفارسية القديمة، وسكانها من العنصر التركي الذي انحدر إليها من الشرق منذ القرن السادس الميلادي وكونوا لهم عدة ممالك مستقلة فيها.

وأهم مصدر حديث يمدنا بمعلومات قيمة عن سكان ما وراء النهر، هو دراسة المؤرخ الروسي الأستاذ/ بارتولد المتخصص في تاريخ الترك في آسيا الوسطى، والذي اعتمد بدوره على آثار أرخون، التي يعتبرها أهم مصدر في الكشف عن ظهور الترك في آسيا الوسطى، يقول عنها: «ومن الآثار التي تهم صاحب الدراسات التركية، وتهم المؤرخ أيضا آثار أرخون، وهي تخلد أقدم ذكر للسان التركي، وقد اكتشفت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وهي أهم آثار تركية أنشأها الترك أنفسهم عن تاريخهم، فأصحاب هذه الآثار قد سموا أنفسهم لأول مرة في التاريخ بالترك.

وهم قوم قد ظهروا في القرن السادس الميلادي واستولوا في زمن قصير على مساحات من حدود الصين إلى حدود إيران وبيزنطية» «1» .

وقد ذهب الأستاذ بارتولد إلى أن سكان ما وراء النهر من أصل تركي وليسوا خليطا من الأتراك والإيرانيين كما يرى الدكتور شكري فيصل «2» .

ومن الكتب الحديثة ذات القيامة أيضا في دراسة هذه المنطقة وسكانها وفتحها وانتشار الإسلام فيها كتاب الأستاذ الدكتور/ حسن أحمد محمود، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة وعنوانه: «الإسلام في آسيا الوسطى، بين الفتحين العربي والتركي» هذا بالإضافة إلى المصادر القديمة تاريخية وجغرافية وكتب الرحلات.. إلخ.

ويرى الأستاذ بارتولد أن سكان ما وراء النهر وإن كانوا قد تأثروا بالثقافة الإيرانية لتفوقها الحضاري، إلا أن الدولة الساسانية لم تستطع أن تفرض نفوذها السياسي عليهم؛ لانشغالها الدائم بصراعها مع الدولة البيزنطية «3» ، وكان هذا الوضع مفيدا لسكان ما وراء النهر؛ حيث مكنهم من إقامة عدة ممالك مستقلة في الفترة السابقة على الفتح الإسلامي، وكانت تلك الممالك كالآتي:

1- مملكة طخارستان، وكانت أهم تلك الممالك وتقع على جانبي نهر جيحون وعاصمتها مدينة بلخ، التي نسب إليها نهر جيحون، حيث كان يطلق عليه نهر بلخ «4» .

2- مملكة الختل، وهي أول مملكة وراء نهر جيحون، وقصبتها مدينة هلبك «5» .

3- مملكة صغانيان، وهي ولاية عظيمة وقصبتها صغانيان أيضا «6» .

4- مملكة الصغد، وقصبتها مدينة سمرقند، ويقال: هما صغدان، صغد سمرقند، وصغد بخارى «7» .

5- مملكة خوارزم، وقصبتها مدينة الجرحانية «9» .

هذه هي أقاليم ما وراء النهر التي فتحها المسلمون في عهد الخليفة الأموي الوليد ابن عبد الملك بن مروان (86- 96 هـ) بقيادة البطل الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي إضافة إلى عدة أقاليم شرقي نهر سيحون، وهي فرعانة والشاش وأشروسنة، ولقد مضى قتيبة في فتوحاته حتى وصل إلى منطقة كاشغر ملامسا الصين فكيف كانت الأوضاع السياسية والاجتماعية لهذه البلاد عند ما فتحها المسلمون؟

تفيد الدراسات الحديثة لهذه المنطقة ومن أهمها كتاب «تاريخ بخارى» للباحث المجري أرمينيوس فامبري، وكتاب «تاريخ الترك في آسيا الوسطى» لبارتولد- الذي سبقت الإشارة إليه- وكذلك كتاب الدكتور حسن أحمد محمود «الإسلام في آسيا الوسطى» ، تفيد هذه الدراسات أن تلك البلاد لم تكن مستقرة سياسيّا وكانت المنازعات بينها تكاد تكون مستمرة وقد شكل هذا الوضع خطرا على الوجود الإسلامي في خراسان، وينبغي ألا ننسى أن سكان بلاد ما وراء النهر كانوا قد عبروا نهر جيحون لمقاتلة المسلمين مع يزدجرد الثالث كسرى فارس، قبل مقتله سنة (31 هـ) في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه «9» .

وهذا يعني أن لهم ماضيا عدائيّا تجاه الإسلام والمسلمين الذين قرروا وضع حد لهذه الفوضى الضاربة في هذه البلاد، وضمها للدولة الإسلامية قبل أن يستفحل خطرها، خاصة وأن هذه الممالك التركية كانت المنازعات بينها مستمرة وعلاقاتها مضطربة، ويكفي أن نشير هنا إلى تلخيص الأستاذ جب في كتابه «غزوات العرب في آسيا الوسطى» للوضع السياسي في هذه المنطقة، حيث يقول: كانت الولايات في هذه المنطقة تعترف بالخان سيدا لها، وتدفع له الجزية، وكانت إمارة صغديان مقسمة إلى ولايات صغيرة مستقلة تقوم بينها معاهدات مرنة، وكان أقوى ما يصل بينها من رباط إنما هو تجارة الحرير مع الصين، وأهم مراكزها سمرقند، وبيكند وكش، وكانت سمرقند أوفرها حظّا من النجاح في عالم التجارة، ومنها كانت ترسل البعوث التجارية إلى بلاد الصين، أما المشتغلون بالزراعة فكانوا كلهم من الجنس الآري، وقد ارتبطت الولايات فيما بينهما- عدا ذلك- برباط ثان؛ وهو سيادة أسرة معينة فيها على جميع الأسر الآخرى، ولكنه لم يكن رباطا وثيقا وكل شيء في هذه الأوضاع الاجتماعية والتفكك السياسي في حياة هذه الولايات كان في صالح الفتح العربي «10» .
 
__________

(1) انظر بارتولد: تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 2، 3) وانظر أيضا د/ حسن أحمد محمود الإسلام في آسيا الوسطى (ص 135) وما بعدها.
(2) حركة الفتح الإسلامي (ص 192) .
(3) بارتولد- تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 40) .
(4) المسعودي- مروج الذهب (1/ 101) .
(5) ياقوت الحموي- معجم البلدان (2/ 346) .
(6) ياقوت (3/ 408، 409) .
(7) ياقوت (3/ 409) .
(8) ياقوت (2/ 395) .
(9) انظر ابن الأثير الكامل في التاريخ (3/ 119) وما بعدها.
(10) انظر الدكتور شكري فيصل- حركة الفتح الإسلامي (ص 209) نقلا عن كتاب جب «غزوات العرب في آسيا الوسطى» .



المصدر:
السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي 261 - 262 - 263 - 264
المؤلف: عبد الشافى محمد عبد اللطيف
الناشر: دار السلام - القاهرة
الطبعة: الأولى - 1428 هـ

الجمعة، 13 سبتمبر 2019

ومازال يرعى ذِمَّتي ويحوطني


وممن أفسد الصديق بحرمته فأقام الكلب بنصرته، انه كان للحارث بن صعصعة ندمان لا يفارقهم، شديد المحبة لهم فبعث أحدهم بزوجته فراسلها، وكان للحارث كلبٌ ربّاه.
فخرج الحارث في بعض متنزَّهاته ومعه ندماؤه، وخلَّف عنهُ ذلك الرجل.
فلما بعد الحارث عن منزله، جاء نديمه إلى زوجته، فأقام عندها يأكل ويشرب فلما سكرا واضّطجعا ورأى الكلب أنه قد صار على بطنها وثب الكلب عليهما فقتلهما.

فلما رجع الحارث إلى منزله ونظر إليهما عرف ووقف ندماؤه على ذلك وأنشأ يقول:
ومازال يرعى ذِمَّتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخونُ
فوا عجبا للخلِّ يهتك حُرمتي ... ويا عجباً للكلب كيف يصونُ

قال وهجر من كان يعاشره واتّخذ كلبه نديما وصاحباً فتحدث به العرب وأنشأ يقول:
فلَلكلبُ خيرٌ من خليل يخونني ... وينكِحُ عِرسي بعد وقتِ رحيلي
سأجعلُ كلبي ما حييتُ منادِمي ... وأمنحُه وُدِّي وصفوَ خليلي

________________________

المراجع:
ابن المرزبان (المتوفى: 309 هـ)
التنوخي (المتوفى: 384هـ): نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة.
ابن الجوزي (المتوفى: 597هـ): كتاب الأذكياء.
أبو الفداء (المتوفى: 1127هـ): روح البيان.
كمال الدين الدميري (المتوفى: 808هـ): حياة الحيوان الكبرى.
الأبشيهي أبو الفتح (المتوفى: 852هـ): المستطرف في كل فن مستطرف.
يوسف بن عبد الهادي (المتوفى: 909 هـ): الاغتراب في أحكام الكلاب.

الاثنين، 9 سبتمبر 2019

كيف كان الأعلام يتعاملون مع الكلاب



خرج عبد الله بن جعفر إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَلَى نَخِيلِ قَوْمٍ وَفِيهِ غُلَامٌ أَسْوَدُ يَعْمَلُ فِيهِ.
إِذْ أَتَى الْغُلَامُ بِقُوتِهِ فَدَخَلَ الْحَائِطَ كَلْبٌ وَدَنَا مِنَ الْغُلَامِ فَرَمَى إِلَيْهِ الْغُلَامُ بِقُرْصٍ فَأَكَلَهُ ثُمَّ رَمَى إِلَيْهِ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فَأَكَلَهُ.
وَعَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: يَا غُلَامُ كَمْ قُوتُكَ كُلَّ يَوْمٍ؟ 
قَالَ: مَا رَأَيْتَ.
قَالَ: فَلِمَ آثَرْتَ بِهِ هَذَا الْكَلْبَ!
قَالَ: مَا هِيَ بِأَرْضِ كِلَابٍ إِنَّهُ جَاءَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ جَائِعًا فَكَرِهْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَهُوَ جَائِعٌ.
قَالَ: فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ الْيَوْمَ.
قَالَ: أَطْوِي يَوْمِي هَذَا.
فبكى عبد الله بن جعفر وقَالَ: أُلَامُ عَلَى السَّخَاءِ إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ لَأَسْخَى مِنِّي فَاشْتَرَى الْحَائِطَ وَالْغُلَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآلَاتِ فَأَعْتَقَ الْغُلَامَ وَوَهَبَهُ مِنْهُ.
فقال الغلام: إن كان ذلك لي فهو في سبيل الله تعالى، فاستعظم عبد الله ذلك منه، فقال: يجود هذا وأبخل أنا؟ لا كان ذلك أبدا.
(أبو حامد الغزالي (المتوفى: 505هـ): إحياء علوم الدين.
الطرطوشي المالكي (المتوفى: 520هـ): سراج الملوك .
سبط ابن الجوزي (المتوفى: 654هـ): مرآة الزمان في تواريخ الأعيان .
كمال الدين الدميري (المتوفى: 808هـ): حياة الحيوان الكبرى .
الأبشيهي أبو الفتح (المتوفى: 852هـ): المستطرف في كل فن مستطرف.)

وكذلك  تروى نفس القصة عن ابن عمة الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ .
(الخطيب البغدادي (المتوفى: 463هـ): تاريخ بغداد 6 / 522.
ابن منظور (المتوفى: 711هـ): مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر.)

وعن الإمام محمد بن واسع.
(ابن حمدون (المتوفى: 562هـ): التذكرة الحمدونية.
الزمخشري (المتوفي: 583 هـ): ربيع الأبرار ونصوص الأخيار.)

وفي مناقب الإمام أحمد، أنه بلغه أن رجلا من وراء النهر عنده أحاديث ثلاثية، فرحل الإمام أحمد إليه، فوجد شيخا يطعم كلبا، فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم اشتغل الشيخ بإطعام الكلب، فوجد الإمام في نفسه إذ أقبل الشيخ على الكلب ولم يقبل عليه، فلما فرغ الشيخ من طعمة الكلب، التفت إلى الإمام أحمد، وقال له: كأنك وجدت في نفسك، إذ أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك؟ 
قال: نعم. 
فقال الشيخ: حدثني أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله منه رجاءه يوم القيامة فلم يلج الجنة» . 
وأرضنا هذه ليست بأرض كلاب، وقد قصدني هذا الكلب، فخفت أن أقطع رجاءه فيقطع الله رجائي منه يوم القيامة. 
فقال الإمام أحمد: هذا الحديث يكفيني ثم رجع.
(كمال الدين الدميري (المتوفى: 808هـ): حياة الحيوان الكبرى .
الأبشيهي أبو الفتح (المتوفى: 852هـ): المستطرف في كل فن مستطرف .
يوسف بن عبد الهادي (المتوفى: 909 هـ): الاغتراب في أحكام الكلاب .)

قال بعضهم: جئت الى مالك بن دينار وهو قاعد وحده وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته.
فذهبت أطرده.
فقال: دعه يا هذا؛ هذا لا يضر ولا يؤذي، وهو خير من جليس السوء.
قال:
لكلب الناس إن فكّرت فيه ... أضر عليك من كلب الكلاب
لأن الكلب لا يؤذي جليسا ... وأنت الدهر من ذا في عذاب
(أبو حامد الغزالي (المتوفى: 505هـ): إحياء علوم الدين.
الزمخشري (المتوفي: 583 هـ): ربيع الأبرار ونصوص الأخيار.
كمال الدين الدميري (المتوفى: 808هـ): حياة الحيوان الكبرى.
يوسف بن عبد الهادي (المتوفى: 909 هـ): الاغتراب في أحكام الكلاب.)


كَانَ يمشي بعض أَصْحَاب الإمام إبراهيم الفيروزآبادي مَعَه فِي طَرِيق فَعرض لَهما كلب.
فَقَالَ الْفَقِيه: لذَلِك الْكَلْب اخْسَأْ وزجره.
فَنَهَاهُ الشَّيْخ وَقَالَ: لم طردته عَن الطَّرِيق أما علمت أَن الطَّرِيق بيني وَبَينه مُشْتَرك.
(تاج الدين السبكي (المتوفى: 771هـ): طبقات الشافعية الكبرى.
القزويني (المتوفى: 682هـ): آثار البلاد وأخبار العباد .)

مر الشَّيْخ أَحْمد الرِّفَاعِي على دَار الطَّعَام فَرَأى الْكلاب يَأْكُلُون التَّمْر من القوصرة وهم يتحارشون فَوقف على الْبَاب لِئَلَّا يدْخل إِلَيْهِم أحد يؤذيهم.

(تاج الدين السبكي (المتوفى: 771هـ): طبقات الشافعية الكبرى.)


مر الإمام مجد الدّين بن دَقِيق الْعِيد فَرَأى كلبةً قد ولدت وَمَاتَتْ.
فقال لتلميذة تَقِيّ الدّين عبد الْملك الأرمنتي: يَا تقيُّ هَات هَذِه السجَّادة فَحمل الجراء وَجعلهَا فِي مَكَان قريب ورتَّب لَهَا لَبَنًا يسقيها حتَّى كَبرت وَذكر لَهُ وقائع من هَذَا النَّوْع.

(صلاح الدين الصفدي (المتوفى: 764هـ): الوافي بالوفيات.)


أبي صادق مرشد المدينيّ المالكيّ المحدّث.
كان فيه حنة على الحيوانات لا سيما على القطط والكلاب، وكان مشارف الجامع وجعل عليه جاريا من الغدد كلّ يوم لأجل القطط، وكان عند داره بزقاق الأقفال من مصر كلاب يطعمها ويسقيها، وربما تبع دابته منها شيء يمشي معه في الأسواق.
قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة في كتاب النقط على الخطط: حدّثني الشيخ منجب غلام أبي صادق قال: كان لمولاي الشيخ أبي صادق كلب لا يفارقه أبدا، إذا كان راكبا يمشي خلفه، فإذا وقفت بغلته قام تحت يديها، فإذا رآه الناس قالوا هذا أبو صادق وكلبه.
وحدّثني قال: ولدت كلبة في مستوقد حمّام، وكان المؤذن يأتي خلف مولاي سحرا كل يوم لقراءة المصحف، وكان مولاي يأخذ في كمه كلّ يوم رغيفا، فإذا حاذى موضع الكلبة قلع طيلسانه وقطع الخبز للكلبة ويرمي لها بنفسه إلى أن تأكل، ثم يستدعي الوقاد ويعطيه قيراطا ويقول له: اغسل قدحها واملأه ماء حلوا، ويستحلفه على ذلك. 
فلما كبر أولادها صار يأخذ بعد رغيفين إلى أن كبروا وتفرّقوا. 
وحدّثني قال: كان قد جعل كراء حانوت برسم القطاط بالجامع العتيق من الأحباس، وكان يؤتي بالغدد مقطعة، فيجلس ويقسم عليها، وإن قطة كانت تحمل شيئا من ذلك وتمضي به، وفعلت ذلك مرارا، فقال مولاي للشيخ أبي الحسن بن فرج امض خلف هذه القطة وانظر إلى أين تؤدّي ذلك، فمضى ابن فرج فإذا بها تؤدّيه إلى أولادها، فعاد إليه وأخبره، فكان بعد ذلك يقطع غددا صغارا على قدر مساغ القطط الصغار، وغددا كبار للكبار، ويرسل بجزء الصغار إليهم إلى أن كبروا.
 (تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ): المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار.)


قال الشيخ تاج الدين ابن السبكي في الترشيح: كنت يوماً في دهليز دارنا في جماعة فمر بنا كلب يقطر ماء يكاد يمس ثيابنا فنهرته وقلت يا كلب يا ابن الكلب.
وإذا بالشيخ الإمام يعني والده الشيخ تقي الدين السبكي يسمعنا من داخل فلما خرج قال : لم شتمته ؟
فقلت: ما قلت إلا حقاً أليس هو بكلب ابن كلب ؟ 
فقال: هو كذلك إلا أنك أخرجت الكلام في مخرج الشتم والإهانة ولا ينبغي ذلك.
فقلت: هذه فائدة لا ينادي مخلوق بصفته إذا لم يخرج الإهانة هذا لفظة في الترشيح.

(جلال الدين السيوطي (المتوفى : 911هـ):  الحاوي للفتاوي في الفقه وعلوم التفسير والحديث والأصول والنحو والإعراب وسائر الفنون )

كلب يضحي بنفسة !!


قدم رجلٌ على بعض السلاطين وكان معه حاكم أرمينيه منصرفا إلى منزله، فمر في طريقه بمقبرة، فإذا قبرٌ غليه قبةٌ مبنية مكتوب عليها، هذا قبر الكلب فمن أحب أن يعلم خبره فليمضِ إلى قرية كذا وكذا فإنّ فيها من يخبره.

فسأل الرجلُ عن القرية فدلّوهُ عليها فقصدها وسأل أهلها، فدلّوه على الشيخ فبعث إليه وأحضره وإذا شيخ قد جاوز المائة سنة فسأله.

فقال: نعم كان في هذه الناحية ملِك عظيمُ الشأن وكان مشهورا بالنُزهةِ والصيد والسفر، وكان له كلب قد ربّاه وسمّاه باسم، وكان لا يُفارقه حيث كان، فإذا كان وقت غدائه وعشائه أطعمه مما يأكل فخرج يوما إلى بعض منتزهاته.

وقال لبعضِ غلمانه: قل للطباخ يصلح لنا ثريدةَ لبن فقد اشتهيتها.

ومضى إلى مُنتزهه.

فوجه الطباخ فجاء بلبن وصنع له ثريدة عظيمة ونسيَ أن يغطّيها بشيء، واشتغل بطبخ شيءٍ آخر.

فخرج من بعض شقوق الغيطان أفعى فكَرعَمن ذلك اللبن ومجَّ في الثريدة من سمُّه والكلبُ رابضٌ يرى ذلك كلّه ولو كان في الأفعى حيلة لمنعها ولكن لا حيلة له.

وكان عند الملك جارية خرساء زمنة قد رأت ما صنع الأفعى.

ووافى الملك من الصيد، فقال: يا غلمان أول ما تقدمون إلى الثريدة فلما قدموها بي يديه أومأت الخرساء إليه فلم يفهموا ما تقول، ونبح الكلب وصاح فلم يلتفت إليه ولج في الصياح ليعلمهم مراده فيه، ثمّ رمى إليه بما كان يرمي إليه في كل يوم، فلم يقربه ولجَّ في الصياح.

فقال لغلمانه: نحُّوه عنّا فإن له قصة، ومدّ يده إلى اللبن فلما رآه الكلب يريد أن يأكل، وثب إلى وسط المائدة وادخل فمه في اللبن وكرع منه فسقط ميِّتا وتناثر لحمه.

وبقي الملك متعجّبا منه ومن فعله، فأومأت الخرساء إليهم فعرفوا مرادها بما صنع الكلب.

فقال الملك لندمائه وحاشيته أن شيئا قد فداني بنفسه لحقيقٌ بالمكافأة وما يحمله ويدفنه غيري، ودفنه بين أبيه وأمّه وبنى عليه قبة وكتب عليها ما قرأت، وهذا ما كان من خبره.
______________________________________________

ابن المرزبان (المتوفى: 309هـ): فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب.

التنوخي (المتوفى: 384هـ): نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة.
ابن الجوزي (المتوفى: 597هـ): كتاب الأذكياء.
كمال الدين الدميري (المتوفى: 808هـ): حياة الحيوان الكبرى.
يوسف بن عبد الهادي (المتوفى: 909 هـ): الاغتراب في أحكام الكلاب.

الكلاب في أمثال العرب


كانت العرب تسمي الكلب داعي الضمير، وهادي الضمير، وداعي الكرم، ومتمم النعم، ومشيد الذكر، لما يجلب من الأضياف بنباحه.
والضمير: الضيف الغريب، من أضمرته البلاد إذا غيبته؛ وكانوا إذا اشتد البرد وهبّت الرياح ولم تثبت النيران فرقوا الكلاب حوالي الحيّ وجعلوا لها مظالّ، وربطوها إلى العمد لتستوحش فتنبح فتهدي الضلّال.
(ابن حمدون (المتوفى: 562هـ): التذكرة الحمدونية)

(آلف من كلب)
وَذَلِكَ أَن صَاحب الْمنزل إِذا رَحل عَنهُ لم يتبعهُ فرس وَلَا بغل وَلَا ديك وَلَا دجَاجَة وَلَا حمامة وَلَا هرة وَلَا شَاة وَلَا عُصْفُور وَلَا شَيْء مِمَّا يعايش النَّاس إِلَّا الْكَلْب فَإِنَّهُ يتبعهُ حَيْثُ يمْضِي ويحميه ويؤثره على وَطنه ومسقط رَأسه.

(أشكر من كلب)
كَمَا قيل (أصح رِعَايَة من كلب) و (أحسن حفاظاً من كلب) قَالَ صَاحب الْمنطق من خِصَال الْكَلْب حبه لمن أحسن إِلَيْهِ وطاعته لَهُ وَحفظه إِيَّاه طبعا من غير تكلّف واقتفاؤه للآثار ومعرفته إِذا شم الْبَوْل أَنه بَوْله أَو بَوْل غَيره وَمن طَاعَته الترضي والبصبصة والبشاشة إِلَى من عرفه.

(الْكَلْب أحب أَهله إِلَيْهِ الظاعن)
يضْرب مثلا للرجل يحب الشخوص وَلَا يكَاد يسْتَقرّ وَالْكَلب إِذا خف أَهله هش وَتبع الظاعن مِنْهُم.

(أَسَاءَ كَارِه مَا عمل)
يضْرب مثلا للرجل يكره على الْأَمر فَلَا يُبَالغ فِيهِ.
وَالْفرس تَقول إِذا أكره الْكَلْب على الصَّيْد لم يسر الصاحب وَلَا الصاحبة.

(أبْصر من الْكَلْب)
وَجَمِيع السبَاع تبصر بِاللَّيْلِ كَمَا تبصر بِالنَّهَارِ وَلَا أعرف لم خص الْكَلْب.
وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا خص بِهِ لقَوْل الشَّاعِر:
(فِي لَيْلَة من جُمَادَى ذَات أندية ... لَا يبصر الْكَلْب من ظلمائها الطنبا)
فَلَو لم يكن عِنْده أبصرهَا لم يَخُصُّهُ.

(أجشع من كلب)
والجشع شدَّة الْحِرْص والشره وَذَلِكَ مَوْجُود فِي طباع كل سبع فتراه إِذا أكل أكل بِسُرْعَة كَأَنَّمَا يُبَادر شَيْئا يجاذبه.

(أسأَل من فلحس)
رجل من بني شَيبَان وَكَانَ سيداً عَزِيزًا يسْأَل سَهْما فِي الْجَيْش وَهُوَ فِي بَيته فيعطاه ثمَّ يسْأَل لامْرَأَته فيعطاه ثمَّ يسْأَل لبعيره
وَقيل: هُوَ الَّذِي يتحين طَعَام النَّاس يُقَال أَتَانَا فلَان يتفلحس كَمَا يُقَال يتطفل.
وَقَالَ ابْن دُرَيْد الفلحس الْحَرِيص وَبِه سمي الْكَلْب فلحساً.

(الشجاع موقى)
مَعْنَاهُ أَن الَّذِي عرف بالشجاعة والإقدام يتحاماه النَّاس هَيْبَة لَهُ وَمِنْه قَول الزبْرِقَان بن بدر:
(تعدو الذئاب على من لَا كلاب لَهُ ... وتتقي مربض المستثفر الحامي)
يُقَال استفر الْكَلْب إِذا أَدخل ذَنبه بَين رجلَيْهِ واستثفر الرجل إِذا اتزر ثمَّ رد طرف إزَاره من بَين رجلَيْهِ وغرزه فِي حجزته من خلف.
وَفِي خِلَافه قَوْلهم (إِن الجبان حتفه من فَوْقه) وَذَلِكَ أَنه إِذا عرف بالجبن قضد وَفِي قريب من الأول قَول المتلمس:
(من كَانَ ذَا عضد يدْرك ظلامته ... إِن الذَّلِيل الَّذِي لَيست لَهُ عضد)
وَفِي خِلَافه قَول الآخر:
(باتت تشجعني سلمى وَقد علمت ... أَن الشجَاعَة مقرون بهَا العطب)

(كلبٌ عس خيرٍ من أسدٍ ربض)
يَقُول الرجل الضَّعِيف المضطرب المحترف خيرٌ لنَفسِهِ ولأهله من الْقوي الكسلان
وعس واعتس إِذا طوف وَالْتمس وَمِنْه سمى الطّواف بِاللَّيْلِ عسسا واحدهم عاس مثل خَادِم وخدم وَقلت:
(لَيْسَ الْفَتى بجماله ... لَكِن بنجدته وحزمه)
(كسل الْفَتى فِي شَأْنه ... سببٌ لفاقته وَعَدَمه)
وَقَالَ الشَّاعِر:
(حضر الهموم وساده وتجنبت ... كسلان يصبح فِي الْمَنَام ثقيلا)

(ألج من الْكَلْب)
لِأَنَّهُ يلج بالهرير على النَّاس.

(نعم كلب فِي بؤس أَهله)
يضْرب مثلا للرجل ينْتَفع بِضَرَر غَيره
أَصله أَن بعض الْأَعْرَاب كَانَ لَهُ بعيرٌ يكريه فينتفع بِمَا يعود مِنْهُ وَله كلب يقصر عَن إطعامه وَهُوَ يتلق جوعا فَمَاتَ الْبَعِير فَدفع الرجل إِلَى سوء حَال وَالْكَلب إِلَى خصب وَقَالَ بعض الْأَعْرَاب:
(إِن السعيد من يَمُوت جمله ... يَأْكُل لَحْمًا ويقل عمله)
وَهَذَا خلاف الأول يَقُول إِنَّه إِذا رَآهُ يَمُوت نَحره فَأكل لَحْمه واستراح من الْعَمَل وَأخذ المتنبى معنى الْمثل فَقَالَ:
(مصائب قوم عِنْد قوم فَوَائِد ... )

(أَهْون من النباح على السَّحَاب)
وَذَلِكَ أَن الْكَلْب بالبادية يبيت تَحت السَّمَاء فَإِذا ألح عَلَيْهِ الْمَطَر والجهد جعل ينبح الْغَيْم وكل غيمٍ رَآهُ نبحه وَرُبمَا نبح الْقَمَر لِأَن الْقَمَر إِذا طلع من الشرق يكون مثل قِطْعَة غيم.

(لَو لَك عويت لم أعو)
يَقُوله الرجل يطْلب الْخَيْر فَيَقَع فِي شَرّ.
قَالُوا: وَأَصله أَن رجلا بقى فِي قفر فنبح لتجيبه الْكلاب إِن كن قَرِيبا فَيعرف مَوضِع الأنيس فَسمِعت صَوته الذئاب فأقبلن يردنه.
فَقَالَ: لَو لَك عويت لم أعو.  

(أبو هلال العسكري (المتوفى: نحو 395هـ): جمهرة الأمثال )