بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 ديسمبر 2018

وصايا التبابعة



وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن شداد بن زرعة بن كعب بن زيد ولي الملك دهراً طويلاً لم يعصه أحد من حمير ولا كهلان في ملكه الذي أحاط به بأكثر الأرض ومن فيها. ويقال إنه سار في الناس بسيرة آبائه، وأجراهم على سنن أجداده، وحفظ وصايا الأوائل من أسلافه، وعمل بها، وثبت عليها إلى أن توفي.

وانتقل الملك إلى ابن عمه الحارث الرائش بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس. فالرائش أبو التبابعة السبعة. ويقال: إنه أول ملك استعمل الدروع لأصحابه وألبسهم إياها. ويقال: إنه قسم بلدان اليمن سهلها وجبالها وأوديتها بين عشائره، وأعانهم على عمارتها، وأخرج لهم فيها المستغلات، فارتاشت العشيرة واستغنى بعضها من بعض عن كثير مما كانوا محتاجين إلى الملك مما في يده، ولارتياشهم معه سموه الرائش، وإلا فاسمه الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن الرائش وصى ابنه ذا المنار بن الرائش فقال له: إن أباك حوى لك الملك، وأقره في محتد أنت أوسط الناس فيه، وأولاهم به. وإنه ليوصيك بزيادة ما نالت يدك من الخير أن تفعله إلى من سمع لك وأطاع. واجعل العدل ناصراً، واتخذ الأحساب لك تجده، واصطنع العشيرة ليوم.
وأنشأ يقول:
حويتُ لكَ المُلكَ الذي كانَ حازَهُ ... لأولادِهِ في سلفِ الدَّهر حِميرُ
فكُنْ حافظاً للمُلكِ بعدي عامراً ... فقدْ يُحفظُ المُلكُ الأثيلُ ويعمرُ
وعِمرانُهُ أن يُبسطَ العدلُ دُونهُ ... وبالعدلِ تنهى ما نهيتَ وتأمرُ
وثابِرْ على الأحسابِ إنك لن ترى ... فتىً محسناً إلا يُعانُ ويُنصرُ
وقومكَ واصِلهُم وحِطُهُمْ وإنَّما ... بقومِكَ تعلُو منْ أردتَ فتقهرُ

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن أبرهة ذا المنار بن الرائش ولي الملك بعد أبيه الحارث الرائش، وثبت على ما وصاه به أبوه الرائش وعمل به وحفظه، وهو أول ملك نصب الأعلام وبنى الأميال والعلامات على الطرق والمناهل، ولذلك سمي ذا المنار، وذلك أنه ضرب في الأرض يطلب بلاد في شرقها وغربها ليفتحها، وليأخذ إتاوتها واسمه أبرهة ذو المنار بن الرائش، وهو الذي ذكره صلاءة بن عمرو الأودي في شعره الذي ذكر التبابعة والمثامنة حيث يقول: " من الوافر "
فلَو دامَ البقاءُ إذاً جُدودي ... وأسلافي بنو قحطانَ دامُوا
ودامَ لهم تبابُعُهمْ ملوكاً ... ولم تَمُتِ المثامنةُ الكرامُ
وعاشَ الملكُ ذو الأذغارِ عمروٌ ... وعمروٌ حَولَه النُّجُبُ اللُهامُ
وخُلِّد ذو المنارِ وما تردَّى ... أبُوهُ الرَّائِشُ المَلِكُ الهُمامُ
مُلُوكٌ أدَّتِ الدُّنيا إليهمْ ... إتاوتها ودانَ لها الأنامُ
ولمَّا يَعصِهِم حَامٌ وسَامٌ ... ويافثُ حيثُ ما حَلَّتْ ولامُ

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: أما سام فأبو العرب، وأما حام فأبو النوبة والحبش والزنج والبجاة والبازة. قال: وقرأت في بعض الكتب أن خراسان أخو فارس، وأخوهما كرمان والكرد الأكبر، أبوهم يافث بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن الروم منه من ولد لام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من ولد عيصو بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال: فأما الروم الأولى فمن ولد لام بن نوح النبي صلى الله عليه وسلم، إخوتهم الصقالبة والخزر والغورط والكابل والصين والسند والهند.

وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي أن أبرهة ذا المنار وصى ابنه عمراً ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار، فقال له: يا بني، إن الملك زرع، والملك قيِّمٌ ملك الزرع، فإن أحسن القيم قيامه عليه في سقائه عند حاجته إليه، وفي إجلابه غرائب النبات مما نبته وتعاهده إياه بالكرم وحمايته عن المؤذيات من البهائم والطير زكا حصاده، وكثر محصوله، وحمد القيم، واستكرمت الأرض، وإن كان القيم غير متفقد لذلك الزرع ولا متيقظ لمثابرته على سقياه وكرمه وحمايته وحفظه أوهنه العطش، وأيبسه الخلى، وأكلته الطير، وداسته البهائم، فلا الزرع زاك، ولا الأرض معمورة، ولا القيم محمود.
ثم أنشأ يقول:
يا عمروُ إنَّكَ ما جهلتَ وصيَّتي ... إيَّاكَ فاحفظها فإنَّكَ ترشُدُ
يا عمروُ لا واللهِ ما سادَ الورى ... فيما مضى إلا المعينُ المُرفِدُ
كلُّ امرئٍ يا عمرو حاصدُ زرعِهِ ... والزَّرعُ شيءٌ لا محالةَ يُحصَدُ
إن كانَ مذمُوماً فيعرفُ دُونَهُ ... بالذَّم فيه الزَّارعُ المُتقلِّدُ
أو كانَ محموداً فَتُحمدُ أَرضُهُ ... والزَّرعُ والزَّرَّاع كلٌ يحمدُ
يا عمروُ من نشرَ العلا بنوالِهِ ... كَرَماً يُقالُ له الجواد السيدُ
يا عمرُو أنتَ لكَ المهابةُ والعُلا ... في النَّاسِ والمُلكُ اللقاحُ الأتلدُ
واصِلْ ذوي القُربى وحُطهُم إنَّهمْ ... بِهِمُ تَغَمُّ الأبعدينَ وتصمدُ

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال أن عمراً ذا الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر خرج يطوف للإعمال من شرق البلاد وغربها، فكان لا يسمع به قوم إلا وولوا الأدبار رهبة منه خائفين مذعورين، فلذلك سمي عمراً ذا الأذعار وهو أبو التُبَّع الأول.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن عمراً ذا الأذعار وصى ابنيه تبعاً ورفيدة فقال لهما: غيركما يجهل الملك وسياسته ورعايته وكلاءته وما يحتاج إليه الملك من التيقظ والتدبير والحزم والحلم والموالجة والمحاماة والمناوأة، وما الملك إلا رحى تدور على قطب، فإن جعل لها مع ذلك القطب قطب آخر وقفت الرحى منها. وهذا لتعلما أن الملك لا يستوي لاثنين إلا أن يكون أحدهما المقتدي والآخر المقتدى به. وقد علمتما أن التاج لا يسع الرأسين، ولا يجمع الرأسان في تاج أبداً، كما لا يصلح السيفان في غمد.
ثم أنشأ يقول شعراً يأمر فيه ابنه رفيدة بطاعة أخيه تبع بن عمرو ذي الأذعار وهو التبع الأول:
رُفيدةُ لا تعصِ أباكَ فإنَّهُ ... رأى رأيهُ أن يُعطي المُلكَ تُبَّعَا
ليُعطيكَ الخيلَ المُغيرةَ تُبَّعٌ ... فترعى لهُ المُلكَ اللَّقاحَ المُمنَّعا
ينالُ بكَ العليَا وأنتَ كمِثلِهِ ... تنالُ به طوداً من العِزِّ ميفعا
وتصبحُ ركناً دُونهُ ووزيرَهُ ... منيعاً ويُمسي مؤئلاً لكَ مفزعا
فما عَزَمَ ابنا سيِّدٍ وتعاضدا ... على سَبَبٍ رأياً هُما فيهِ أجمعا
وقاما لهُ إلا ونالاهُ جهرةً ... وفازا بِهِ منْ دونِ من ذاقهُ معا

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن تبع بن عمرو ذي الأذعار ولي الملك بعد أبيه، وقلد أخاه رفيدة بن عمرو الوزارة، فكان إلى التبع ما يكون إلى الملك، وكان إلى رفيدة ما يكون إلى الوزير، فبقيا في ذلك دهراً طويلاً على وصيته أبيهما عمرو ذي الأذعار، وسار الملك تبع في الناس سيرة أبيه ذي الأذعار، وبسط العدل والإحسان في الأرض، ورزق من الهيبة، وأعطي من الطاعة ما لم يعط أحد قبله. وهو الذي يقول فيه الموثبان بن ذي حارث: " من السريع "
مَنْ ذا الذي يسألُ عن تُبَّعٍ ... كأنَّهُ لم يدْرِ ما تُبَّعُ
وتُبَّعٌ في الأرضِ سُلطَانُهُ ... كالشَّمسِ في آفاقها تسطعُ
المَلِكُ المحمُودُ في مُلكِهِ ... والماجِدُ المُهرُ الذي يَمرَعُ
قد ملكَ النَّاس فأحياهُمُ ... ناهيكَ من تُبَّعٍ مُستمتعُ
ذُو الغارةِ السَّوداءِ تجري لهُ ... أوارد العُصْم فلا تُمنعُ
وَخَيلُهُ مُرسلَةٌ في العدا ... زُهواً رِعالاً تمرَعُ
إتاوةُ الأرضِ وَمَنْ حلَّها ... طوعاً إلى تُبَّعٍ تُدفعُ
ما رَفَعَ التُبَّعُ لم يُوهِهِ ... مُوهٍ وما أوهاهُ لا يُرفَعُ

وصية تبع بن عمرو
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن التبع بن عمرو ذي الأذعار وصى ابنه حسان ملك يكرب، وهو الثاني من التبابعة، فقال له: يا بني، إن الملك صنعة والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صنعته استجادها الناس له، واستحكم أمره فيها فكسب بها المال والجاه وكانت له عدة وذخيرة. وإن استهان بها ولم يقم حق قيامه عليها ذهبت الصنعة عن يده، وانقطعت منافعها عنه، واكتسب الذم لنفسه والحرمان، وكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
وأنشأ يقول: " من البسيط "
ما زِلتُ بعدَ أبي بالمُلكِ مُنفرِداً ... أسُوسُهُ بعد أسلافي وأجداديْ
أَحميْ محاسِنَهُ جهدي وأكلؤُهُ ... دَهرِيْ وأحكمهُ بعديْ لأولاديْ
وقدْ ضربتُ لكَ الأمثالَ فِيهِ وقدْ ... عَرفَتَ في المُلكِ إصداريْ وإيراديْ
فاعمَلْ بما لم أَزَلْ مُذْ كُنتُ أَعمَلُهُ ... في المُلكِ يرشِدكَ يا حَسَّانُ إرشاديْ

ويقال: إن حسان هو الأقرن. توفي بأرض المغرب، فولي الملك بعده إفريقيس. ويقال: إنه اسمه إفريقيش، كل ذلك قد قيل. ويقال إنه هو الذي بنى بالمغرب مدينة، يقال لها إفريقية، منسوبة إلى اسمه. وهو الثالث من التبابعة.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن إفريقيس وصى أخاه أسعد أبا كرب، فقال له: قد علمت ما عهد إلي أبونا مما عهد إليه أبوه من وصايا الآباء والأجداد في سياسة هذا الملك الذي أوتينا من دون غيرنا، فعليك بالتمسك بما وجدتني عليه من بث العدل واصطناع الرجال ومكابدة العدو والصفح عند الاقتدار وسد الثغور وإتقاء الخلل.
وأنشأ يقول:
لمْ يروِ عنكَ ذخيرةً ممَّا بها ... مَلِكُ البلادِ أَخوكَ إفريقيسُ
لا تعدِلَنَّ وَصِيَّةً وَصَّاكَهَا ... إن الوصيَّةَ مَقصَدُ مأنوسُ
كُلَّ امرئٍ وبُلُوغُهُ في قومِهِ ... الكُلُّ كُلٌّ والرَّئِيسُ رئيسُ
والنَّاسُ كالأغصانِ غُصنٌ ناضِرٌ ... مِنها وذاوٍ قد علاهُ البُوْسُ
أَوصِيكَ خيراً بالأنامِ فإنَّما ... لَكَ مُلكُهُمْ والمنصِبُ القُدمُوسُ

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن أسعد وهو الرابع من التبابعة ولي الملك بعد أخيه إقريقيس بن حسان بن تبع بن عمرو ذي الأذعار، فسار في الناس سيرة الأوائل من آبائه وأجداده، وملك من البلاد ما لم يملك أحد قبله، وأعطي من العدد والعدد ما لم يعط ملك، وهو الذي يقول: " من السريع "
يا أَيُّها السَّائِلُ عن خَيلِنَا ... ما العَالِمُ المُخبِرُ كالجاهلِ
تسعُونَ ألفاً عَدداً بُلقُها ... وَدُهمُها كالعارضِ الوابلِ
عن مُلكِنَا النَّاس لم تَعصِنَا ... في الأرضِ من حافٍ ومن ناعلِ
أَدَّتْ لنا الخَرجَ أحابيشُها ... والسِّندُ والهِندُ مع كابُلِ
والصِّينُ قد أدَّتْ لنا خرجَهَا ... في عاجِلٍ مِنْهَا وفي آجلِ
وكَمْ لنا في الشَّرقِ والغَربِ مِنْ ... مُستخرِجٍ جابٍ وَمِنْ عَامِلِ
في أرضِ كرمانَ وفي فارسٍ ... وفي خُراسانَ وفي بابلِ
كُلاً فتحناها لَنَا عُنوةً ... تحفِلُ مِثلَ الدَّبَى السَّائلِ
ويقال: إن أسعد الكامل مرض مرضة أشرف منها على التلف، وذلك عند انصرافه من سفره الذي سافر فيه حين دخل الظلمات، وكان له ولد يقال له حسان الأصغر، سماه باسم أبيه، ويقال: إنه لم يملك شيئاً، وهو الذي ذكره أبوه أسعد الكامل في شعره، يوصيه فيه عند مرضته تلك، حيث يقول:
حَضَرتْ وفاةُ أَبِيكَ يا حَسَّانُ ... فانظُر لِنَفسِك والزَّمانُ زمانُ
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن أسعد الكامل وصى، وهو عم أبيه، وهو المعمر من التبابعة، وهو تبع بن زيد بن رفيدة بن عمرو ذي الأذعار، وهو الخامس من التبابعة، فقال له: ما من شيء إلا وله أصل وأساس، وأصل الملك وأساسه الرجال، وأساسها الاحسان إليها، ومن أحسن إلى الرجال أطاعته وسمعت له، ومن سمعت له الرجال دانت له البلاد ومن فيها، وما دانت البلاد ومن فيها إلا لمالكها بعد الله عز وجل، وحكم لمالكها أن يستديم له الملك فيها بالعدل والإحسان، فإنه لا طاعة لمن لا عدل له، ولا ملك لمن لا إحسان له. ثم أنشأ يقول: " من البسيط "
لا مُلكَ إلا الرِّجالُ المُحضِرُونَ لَهُ ... بالمَشرَفيَّةِ والصُّمِّ المَدَاعِيسِ
في الخافقينِ لهُمْ ضربٌ تَطِيُر لَهُ ... أيديْ الحُماةِ وهَامَاتُ القناعيسِ
فَهُمْ أساسُ العُلا والمكرُمَاتِ ... وهُمْ لرائِم المُلكِ عِزٌّ غيرُ مَنْكوسِ
متى أَطاعوهُ وانهَلَّتْ تبابِعَةٌ ... في الرَّحلِ منها وفي الخيلِ الكراديسِ
نالَ العُلا وحوى المُلكَ العظيمَ بهِمْ ... والحظُّ في المُلكَ جاءَ غيرَ منحُوسِ
وَمَنْ عَصَوهُ فمدحُورٌ وَمُنَكشفُ ... ومَنْ أطاعُوهُ عالٍ غيرَ مَنخُوسِ
وعدة المَرءِ دُونَ النَّاس أُسرتُهُ ... وهَلْ تُشادُ العُلا إلا بتأسيسِ

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: ابن التبع بن زيد بن رفيدة بن عمرو بن أبرهة بن الرائش، ولي الملك بعد أسعد بن حسان المعروف بملكيكرب الأقرن، فأحسن سيرته في الناس، وملك ما ملك الأوائل من آبائه وأجداده، ويقال إنه وصى ابنه ياسر ينعم بن تبع بن زيد بن رفيدة بن ذي الأذعار، وهو السادس من التبابعة، فقال له: يا بني إن الملك مصباح، والملك واقد ذلك المصباح، فإن حفظه من ريح يطفئه أو من ذبالة لا تساعفه أو من وقود يقطع به منه أو من مستوقد لا يخونه دام له ذلك المصباح وسلم ضياؤه ونوره ما شاء أن يضيء له، وإن هو غفل عنه بعد أن أوقده، ولم يقم حق قيامه عليه أطفأته الريح، فإن سلم من الريح لم يسلم أن يطفأ عند انقطاع الوقود عنه، فإن سلم من انقطاع الوقود لم يسلم من أن يطفأ عند احتراق الذبالة، ولا يؤمن عند احتراق الذبالة من مستوقد الصباح أن يطير المستوقد قلقاً؛ فلا النور ساطع، ولا المستوقد صحيح، ولا الذبالة سالمة، ولا الواقد محمود. ثم أنشأ يقول:
ضَربتُ لكَ الأمثالَ ياسرُ ينعمُ ... وأنتَ بما يُوحى إليكَ خبيرُ
وأنت غداً للمُلكِ مِنْ دونِ كُلِّ من ... يُحاولُ مُلكاً في البلادِ جديرُ
أَعِنْ واستَعِنْ ما دُمتَ للعِزِّ راكِباً ... وفي كفِّكَ المُلكُ اللَّقاحُ جَريرُ
فإنِّيْ رأيتُ المُلكَ مِصبَاحَ سامرٍ ... إذا نالَهَ أمرٌ فليسَ ينيرُ
فإن لم يخنه بُؤسُهُ ووقُودُهُ ... ويسلمَ مِنْ ريحٍ عليهِ تدورُ
يُضِيُء ومِنْ تحتِ الظَّلامِ سِرَاجُهُ ... يُضيءُ له الديجور فهو بصيرُ
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن ياسر ينعم بن تبع بن زيد بن ذي الأذعار بن ذي المنار بن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر ثبت بعد أبيه على وصايا آبائه وأجداده، وحفظها، وعمل بها في سياسة الملك ما ثبته بين الناس، ولم يتعد سيرة أسلافه وسنن أوائله.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ياسر ينعم بن تبع بن زيد بن رفيدة بن عمرو وصى ابنه شمر ذا الجناح، فقال له: يا بني، دبر الملك، فإن التدبير ثباته، والإحسان أساسه، والعدل قوامه والرجال عزه، والمال نجدته، والعشيرة عدته. ولا ملك لمن لا تدبير له، ولا ثبات لمن لا إحسان له، ولا إحسان لمن لا عدل له، ولا عدل لمن لا قوام له، ولا قوام لمن لا رجال له، ولا رجال لمن لا بذل له.
ثم أنشأ يقول:
أُوصِيكَ شَمَّرُ ذا الجناحِ وصيَّةً ... ما زِلتُ أحفظُها لِجَدِّك تُبَّعِ
ما لاحَ لي دَرْكُ العُلا إلا بِهَا ... وبها اهتديتَ إلى السبيل المهيعِ
ولقد ملكتُ بها البلادَ وحُزتُها ... ما بينَ مغربِ شمسِها والمَطلعِ
فاحفظْ لِملكِكَ ذا الجناحِ وصيَّتي ... وعليكَ شَمَّرُ بالخِصالِ الأرفعِ
حشد الرِّجال وإنهُم لكَ عُدَّةٌ ... وبِهِم تُدافِعُ كلَّ أمرٍ مُفظِع
وعليهمُ وبهِمْ تدورُ رحى العُلا ... والمكرُمَاتُ وَكُلُّ أمرٍ ميفعِ
واعدِلْ فإنَّ العدلَ يُحمدُ غِبُّهُ ... والخيرُ مهما اسطَعتَ مِنهُ فاصنعِ
كُلُّ امرئٍ يُجزَى بما سَبَقتْ لهُ ... فإذا أردتَ حصادَ زَرعِكَ فازرعِ

قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال: إن شمر ذا الجناح ولي الملك بعد أبيه، وهو آخر التبابع وأعظمهم ملكاً وسلطاناً، وهو الذي يقال له الُتَّبع الأكبر، وهو الذي سار في الظلمات بعد أسعد الكامل في منقطع الأرض، يطلب فيها ما طلب ذو القرنين وأسعد الكامل، وهو الذي بنى مدينة سمرقند وإليه نسبت. وكتب على باب مدينة مرو كتابه الذي يعرف به وله إلى اليوم، وكذلك كتب على صنم المغرب الذي ليس وراءه إلا الرمل الذي تتغطمط أمواجه كما تتغطمط أمواج البحر، ويجري كما تجري السيول الطامة في أوديتها. وقد ذكر ذلك الدعبل بن علي الخزاعي في شعره الذي يقول فيه: " من الوافر "
وهُمْ سمَّوا سمرقنداً بِشِمرٍ ... وهُم غَرَسُوا هُناك التُّبتينا
وَهُم كتبُوا الكتابَ ببابِ مروٍ ... وباب الصِّين كانُوا كاتِبينا
وفي صنمِ المغاربِ فوقَ رملٍ ... مسيلُ تُلُولهِ تحكي السَّفِينا

وهذا الُتَّبع المذكور هو أول ملك بشَّر بمحمد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أسعد الكامل وآمن به، وحج واعتمر وطاف بالبيت سبوعاً، ونحر البدن، وكسا الكعبة، وجعل لها باباً وحلقاً. وقد ذكر ذلك في شعر له حيث يقول: " من الخفيف "
وكسونا البيتَ الَّذي حَرَّمَ اللهُ … ملاءً مُعضَّداً وبُرُودا
ثُمَّ طُفنا بهِ من السَّيرِ سبعاً ... وجعلنا لبابهِ إقليدا
ونحرنَا بالشِّعب تسعينَ ألفاً ... فترى النَّاسَ حولهُنَّ وُرُودا
وقد ذكر ذلك حكم بن عباس الكلبي في شعره الذي يقول فيه: " من الوافر "
وتُبَّعُنا الَّذي قد طافَ سبعاً ... وزارَ البيتَ قبلَ الزَّائرينا
وآمنَ بالنَّبيِّ وما رآهُ ... فكانَ من الهُداةِ الفائزينا

ويقال: إنه زين الملوك وأبناء الملوك من قومه من قبائل العرب والعجم ومدائنها وأمصارها. فكان لكل قبيلة من العرب ولكل حي من العجم ملك من قومه إما حميري وإما كهلاني، يسمع له ويطاع. ويقال إنه جمع الملوك وأبناء الملوك الأوائل وأبناء المقاول من قومه فقال لهم: أيها الناس، إن الدهر قد نفد أكثره، ولم يبق إلا أقله، وإن الكثير إذا قل إلى نقصان أحرى منه إلى زيادة، فسارعوا إلى المكارم، فإنها تقربكم إلى الفلاح، واعملوا على أن من سلم من يومه لم يسلم من غده، ومن سلم من غده لم يسلم مما بعده. وإنكم لتؤوبون مآب الآباء والأجداد، وتصيرون إلى ما صاروا إليه الأولون، وكل يوم الموت أقرب إلى المرء من حياته منه، ولكل زمان أهل، ولكل دائرة سبب، وسبب عطلان هذه الفترة التي من عزَّ فيها بزمن هو دونه ظهور نبي، يعزُّ الله به دينه، ويخصه بالكتاب المبين على يأس من المرسلين، رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين، فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم من بعدكم وأبناء أبنائكم قرناً فقرناً وجيلاً فجيلاً، لتتوقعوا ظهوره، ولتؤمنوا به، ولتجتهدوا في نصرته على كافة الأحياء، حتى يفيء الناس له إلى أمر الله.
ثم أنشأ يقول: " من المتقارب "
شَهِدتُ على أحمدٍ أنَّهُ ... رسولُ منَ اللهِ باري النَّسمْ
فلو مُدَّ دهري إلى دهرِهِ ... لكُنُتُ وزيراً لهُ وابنَ عمْ
وَألزمتُ طَاعتَهُ كُلَّ مَنْ ... على الأرضِ منْ عَرَبٍ أو عجمْ
فأَحمَدُنا سَيَّدُ المُرسَلِين ... وأُمَّتهُ تلكَ خيرُ الأممْ
هو المُرتَضَى وهُو المُصطَفَى ... وأكرَمُ مَنْ حملتْهُ القَدَمْ

ويقال: إن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان لم تزل تتوقع ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وتبشر به، وتوصي بالطاعة له والإيمان به والجهاد معه والقيام بنصرته من ذلك العصر إلى أن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا له حين بعث من أحرص الناس على نصرته وطاعته؛ فمنهم من سمع له وأطاعه وآمن به قبل أن يراه، ومنهم من وصل به كتابه فسمع له وأطاع وآمن وصدق، ومنهم من وازره ونصره وأيَّده وجاهد في سبيل الله دونه حتى أتاه اليقين. نطق بذلك كتاب رب العالمين في قوله جلَّ شأنه: { والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }. وقوله تبارك وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم " }. يقال إنهم همدان. وقد كان من خبر سيف بن ذي يزن الحميري في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه وإلقائه إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عند وفوده على سيف بن ذي يزن ما كان. ويقال: إنه لم يكن لسيف بن ذي يزن ذلك العلم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جهة تبع، وما تناهى إليه مما كان ألقاه إليهم تُبَّع وعرّفهم به من أمر النبي صلى الله عليه وسلم.


دعبل الخزاعي (المتوفى: 246هـ):  وصايا الملوك وأبناء الملوك من ولد قحطان بن هود 42  إلى 56 - دار البشائر / الطبعة الأولى / 1417 هـ - 1997 م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق