ملك شمر يرعش بن ناشر النعم
وقال شمر يرثي أباه ناشر النعم:
بمغاني الأيك والسمر ... ملك أشفى على قدر
ما على الأرضين إن ونيت ... عن سنا الدنيا أبي شمر
ماتت الدنيا لميتته ... ونأى بالسمع والبصر
يا منار العز عدت صدى ... بنهاوند ودينور
ثم قفل بالجيوش يريد أرض المغرب، فاخذ على باب ونزل بغمدان، وولي الملك شمر
يرعش وهو تبع الأكبر الذي ذكره الله سبحانه في القرآن لأنه لم يقم للعرب قائم قط
أحفظ لهم منه لم يكن عنده من العرب طرف أغنى وأقنى يتجاوز عن مسيئهم ويحسن إلى
محسنهم فكان جميع العرب بنو قحطان وبنو عدنان شاكرين لأيامه، وكان أعقل من رأوه من
الملوك وأعلاهم همة وأبعدهم غوراً وأشدهم مكراً لمن حارب فضربت به العرب الأمثال
وهو عندهم تبع الأكبر وإن كان قبله تبابعة عظماء أعظم منه ولكن لمحبتهم فيه وعظمته
في قلوبهم.
وإن الصغد والكرد والخوز والزط والقوط كلهم بنو يافث بن نوح النبي صلى الله
عليه وسلم بعثوا إلى إخوانهم من بني يافث من كان منهم بأرض أرمينية إلى بلجا وجاجا
فقالوا لهم: ألا تغضبون لما نزل بنا من ناشر النعم سبى منا مائة ألف بكر وقتل منا
مائة ألف مقاتل فأجابهم إخوانهم من بني يافث إلى النصرة والقيام وهم: الترك
والديلم والغور والخوز وبلغ ذلك بني فارس بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح. فاجتمعوا
اللسان الأعجمي وكرهوا أيام التبابعة لما يكلفونهم من السخرة في المغازي وغير ذلك
من أصناف العمل من المتاع والسلاح. فقدم بنو فارس قباذ بن شهريار الفارسي في الملك
وتوجوه وإن الصغد والكرد وأهل نهاوند ودينور عمدوا إلى قبر ناشر النعم فهدموه
وفرقوا رخامه وزجاجه وما كان فيه من جزع وغيره وبلغ ذلك تبعاً شمر يرعش فنذر الله
نذراً ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلاً منيعاً شامخاً كما كان وغضب
غضباً شديداً وغضبت العرب لغضبه، وكان بنى قبر أبيه ناشر النعم بالرخام الأبيض
والأحمر والجزع الأزرق والأحمر حتى جعله جبلاً منيفاً شامخاً وأمر جميع من حوله من
القبائل ألا تقرب منه ولا يقطنون حوله فيدمونه وما حوله فأمر تبع شمر يرعش بالجيوش
فبرزت وخرج جميع أهل جزيرة العرب طوعاً وغضباً لغضب شمر يرعش بمحبتهم فيه فخرج في
عساكر لم يجمع أحد مثلها من التبابعة من بعد ذي القرنين وبلغ ذلك بني يافث وقدمت
فارس قباذ إلى قتال تبع شمر يرعش وأقبل بنو يافث بأجمعهم يناصرون قباذ وهم: الترك
والديلم والخزر والغور والتبت والصغد والكرد والزط والخوز، وبلغ ذلك شمر يرعش وكان
انتصاب قباذ بن شهريار ومن معه من فارس وبني يافث بجبال الري، فسار تبع شمر يرعش
حتى نزل بالمشلل فخلف ابنه عمراً الأقرن بالمشلل في مائة ألف فارس وخلف ابنه
صيفياً بعمان في مائة ألف، ثم سار فترك العراق الذي فيه جمع فارس وبني يافث وقصد
الجزيرة وأخذ على الفرات يريد أرمينية وأنشأ يقول:
اثن على الله بالآية ... وارغب إلى الحق عن الباطل
لعله ينسى مدى إنه ... ويرسل العاجل للآجل
إلى مجوس الصغد والكرد أو ... خزر محل الأرذل السافل
فقل لقحطان حلوم النهى ... أهل المقام الباذخ الهائل
وقل لعدنان سليل الرضى ... قوموا فإن الرشد للفاعل
أنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بعلم فاصل عاجل
لا نجعل الجاهل في أمره ... يوماً ولا الأنوك كالعاقل
ولا ذوي الغفل كأهل الحجا ... ولا رشيد الرأي كالجاهل
نقضي على ذا وعلى ذا بما ... نقضي على العالم والواهل
لعام أحلام لها منصب ... يجلي عمى الجهل عن السائل
برزت في جمع كمثل الحصى ... يقذف بالرامح والنابل
تسعين ألفا كالدبا يلقها ... والدهم مثل العارض الوابل
والكمت والشقر وأسرابها ... مثل القطا المستورد الناهل
والخيل تشتد بفرسانها ... بكب قرم ماجد باسل
يا لك من جمع إذا ما دنا ... ليس بموهون ولا خاذل
أقسم لا أنفك حتى أرى ... جماجماً تسحج بالآفل
والسيف يمضي والردى حاكم ... يحكم بالمقتول للقاتل
إن أغفلوا العهد وآياته ... فإن شمراً ليس بالغافل
سيصبحوا يوماً على ذلة ... تجحف بالمأكول للآكل
كم من فتاة طفلة غادة ... تصبح بالفيء إلى النافل
نكاح نمي غير ذي رشدة ... تفرح أو تحزن للعاقل
إن صبحوا الأمن فلابد من ... ساعة شغل في مدى شاغل
حتى يذيقوهم حتوفاً كما ... ذاقت ثمود الحتف في العاجل
لنا وجوه الأرض مأمورة ... نطاع باليم وبالساحل
والذهب الأحمر يجبي لنا ... يحمله الرق مع الجامل
والمسك والأنجوج من صيته ... والدر في أصدافه الذابل
لا شين إلا الموت يحدو بنا ... محلول الموت في تائل
وإن تبعا شمر يرعش بلغ أرمينية فبلغ ذلك قباذ فأمر الترك بالمسير إلى
أرمينية، فسارت الترك تريد أرمينية فقاتلهم قتالاً شديداً، ثم هزمهم فقتلهم قتلاً
ذريعاً إلا من تحصن له في قلة جبل وسبى وخرب المدائن من أرض أرمينية وإن قباذاً
زحف من موضعه بمن معه من فارس وفرغان والصغد والكرد والزط والخوز يريد أرض العرب
لما بلغه أن تبع يرعش بأرمينية فسار قباذ بن شهريار حتى بلغ
حنوقراقر من ارض العراق وبلغ ذلك عمراً الأقرن ابن شمر يرعش تبع فلقيه
بالمشلل فاقتتلوا أياماً وبعث الأقرن إلى أخيه صيفي فآتاه من عمان في مائة ألف
ونفر إليه المخلفون من أهل اليمن في مائة ألف فلما وصل صيفي إلى أخيه الاقرن هزم
قباذ فهرب إلى القادسية فطلبوه، فهرب إلى القصر الأبيض من جبال خراسان وتحصن في
رؤوس الجبال، وبعث الأقرن وصيفي إلى أبيهما فاعلماه بما كان من أمر قباذ، فرجع من
بلجا وجاجا، وقد أمعن في قتل أهل المشرق فعبر الفرات وسار يريد أرض بابل، ثم قصد
قباذ بن شهريار وقد تمنع في رأس جبل، فلما رأى قباذ الغلبة قال لابنه بلاس بن قباذ:
اقتلني يا بلاس فاني ميت على يد تبع قال له بلاس: لا تطاوعني يدي على ذلك، قال له:
إن لم تفعل قتلت أنا وأخوتك وقومك وطلب من بقي من فارس، ولكن اقتلني وامض برأسي
فخذ أماناً لك ولأخوتك وقومك ولولدك من بعدك، فقال له بلاس: لست أقتلك ولكن إذا
رأيت ذلك هو الرأي فانظر أي ميتة أهون عليك فمت بها، قال فعمد نفسه ففجر الأكحلين
ثم تركهما يجريان حتى مات ثم عمد بلاس إلى رأسه فجزه وسار إلى تبع شمر يرعش فقال
له: أيها الملك هذا رأس قباذ، هذا سبيل من عصاك فما يكون سبيل من أطاعك ولجأ إليك
ورغب في رضاك، قال تبع: من طلب رضاي فله رضاه، قتلت أباك في رضاي فلك رضاك، قال
بلاس: أيها الملك ليس أبي ممن أراد هلاكي ولكن أبي ممن أراد بقائي، قال له تبع:
فما تريد يا بلاس؟ قال له أماني وآمان أخوتي وقومي ومن بقي من فارس ويجعلني الملك
من بعض خدمه، قال له تبع: لك ما سألت. وكان يرعش أكرم ملك على الأرض وأعقلهم
وأكثرهم عفواً وأقربهم رأفة. فقال له بلاس: نحن فارس بنو حام حاشية الملك، قال له:
أما أني لم أرد قتلكم يا آل فارس لأنكم أخواننا الكرام من بني سام ولكن اعترضتم
دون بني يافث وقد عدلت اتقاء عليكم وقد سألتني يا بلاس أن أجعلك من خدمي، فإن
خدمتني في أرضي وفي قومي، لم تطب لك معيشة ولا وفيت لك بانقطاعك إلي ولا كافيتك
فيما صنعت فإنه ما سبقك أحد ممن كان قبلك إلى مثل فعلك وقد كرهنا لك قتل أبيك
ورضينا لك قصدنا، فقد وليتك على قومك فارس، فخذ جيشاً من فارس ثم تقدم بين يدي إلى
الصغد والكرد قال: أيها الملك إن أنا لم أنبلهم بين يديك بالسهام الكرمانية
والنصال الهندية لم أف لك، فسار بلاس إلى أرض نهاوند ودينور فقتل الصغد والكرد
والزط وأكثر القتل في الصغد والخوز والزط فهم أقل بني يافث إلى اليوم وكانوا
أكثرهم، وأخذ من كل أمة غلب عليها أمماً يستخدمهم في الصناعات كل قوم فيما أحكموه
فيما أحكموه من الصناعات، ثم بلغ سنجار إلى قبر أبيه مالك ناش النعم فأمر ببناء
قبر أبيه تبع ناشر النعم وكان نذر لله إنه إن ظفر بالزط والكرد والصغد أن يبني قبر
أبيه بجماجم الصغد والكرد حتى يعود جبلاً منيعاً كما كان وأنه أمر بقبر أبيه فبني
بجماجم الصغد والكرد حتى عاد كما كان فمشى إليه أشراف حمير فقالوا: أيها الملك وما
في هذا من الشرف أن تبني قبر الملك ناشر النعم بجيف هؤلاء العلوج، وقد بلغ الملك
أربه وقضى نذره فأمر به فهدم وأمر الكرد والصغد والزط أن يبنوه بأنواع الرخام
الأبيض والأحمر والأزرق والأخضر ورصعوه بالجزع اليماني حتى عاد جبلاً شامخاً كما
كان فطاف به ومشى في داخله، فلم يعجبه من بنائهم شيء فأمرهم يهدمه فهدموه وأمر
الفرس ببنائه فبنوه بأنواع الرخام وأنواع الجزع والزجاج والدر والياقوت، وأنه طاف
به ومشى في داخله فلم يعجبه من بنائهم شيء.
قال: ائتوني ببقايا سحرة سليمان بن داود بلقيس بنت الهدهاد فآتوه بهم فأمرهم
ببنيانه فبنوه بالكلس الأزرق وأجادوا فيه الصنعة بالدهن والصقل حتى صار جبلاً
منيفاً وصار كالمرآة السجنجل ثم إنه طاف به فرأى نفسه وفرسه وجميع من معه فيه كما
رأى نفسه فيه من خارجه في جميع جهاته، فأعجبه. فرأى الطير إذا همت أن تنزل عليه
رأت تمثالها فيه فنفرت فلا ينزل عليه طائر، فأمرهم بعقد الجن حوله أن لا يدنوه منه
أحد من الناس ففعلوا ذلك فمن نزل حوله رجمته الجن، فانه كذلك إلى اليوم بسنجار بين
نهاوند ودينور.
ثم هدم المدائن بدينور وسنجار فجميع الأرض التي خرب شمر يرعش سماها بنو فارس
شمر كند أي شمر خرب باللسان الفارسي فأعربته العرب بلسانها فقالوا: سمرقند وهو
اسمها إلى اليوم. ثم رجع إلى قطربيل وسار يريد أرض الصين، وكان ملك الهند بأرض
الصين نفير الهندي - والهند والسند والحبشة والنوبة والقبط بنو حام بن نوح عليه
السلام - فلما بلغ نفير خروج تبع من بابسير من ارض قطربيل جمع الهند من جميع أرض
الصين وانتصب إلى تبع من بابسير من ارض وعش، وخلف تبع الجرحى والزمني والمرضى بأرض
نهاوند وسنجار ودينور، ثم أن تبعاً لقي نفير العندي ومن معه فقاتله قتالاً شديداً
أياماً، ثم غلب عليه تبع فقتل أمماً من الهند وغلب على أرض الصين وتمنع نفير ومن
معه في جبل عظيم، فلما رأى غلبة تبع وتثاقله في أرض الصين ضاق من ذلك واشتد عليه،
فدعا آهل مملكته وجنده فقال: لي فيما تقدم من دهري عمر يرضاه المرء لم يبق لي من
آخره إلا ما آسف به على أوله وإن شيئاً يكون الفناء آخره وغايته لحقيق على الحازم
أن يزهد فيه وقد أردت أمراً فيه الموت والشقاء، ثم جمع أهل المكر والسحر فقال لهم:
ماذا ترون في تبع وأجناده؟ قال له أهل المكر: أيها الملك (المحاجزه قبل المناجزة -
والمكر قبل القسر - وليس بعد القسر إلا الرضا للأمر)، فقال لهم: سمعتكم، فقالوا
أيها السحرة، قال له السحرة: أيها الملك الموت أعجل والسحر أنبل وقد سبق المثل
الدهر عبد الدول وأنى ينفع سحرنا وقد سقط جدنا قال نفير: عرف الرأي أهله، ثم عمد
إلى أذنيه فقطعهما وجدع انفه وأمرهم فضربوه بالسياط، ثم أتى تبعاً فقال له: أيها الملك
إن قومي الهند هم في هذا الجبل الوعر وهم أهل غدر ومكر، وقد أمرتهم أن يسمعوا
للملك ويطيعوا فأبوا ذلك وفعلوا في ما ترى، ولكن أيها الملك أقود بك وبعسا كرك إلى
موضع تطلع منه إلى هذا الجبل فلا يعلمون حتى يؤخذ عليهم الجبل فتقتل من أحببت وتدع
من أحببت؟
قال له تبع: ليس لعساكري في أرضكم ما يحملها أجمع ولكنني أرسل معك عسكراً
جحفلاً أهل النجدة والبأس والفضل في الرأي والسابقة، قال له نفير: افعل أيها
الملك. فأمر تبع بعسكر لم يدع من أهل الفضل والبأس أحداً إلا بعث معهم وتقدمهم
نفير فسار بهم حتى أتى ماء فقال لهم: خذوا الماء لثلاثة أيام، فأخذوا، ثم مضى بهم
إلى مجانة لا آخر لها فلجج بهم في المجانة فقال لهم: اتقوا من الماء فاني ذاهب إلى
موضع الماء فاحتسبوا معهم شيئاً من الماء، فاسرع بهم في المجانة وهم يتعللون بذلك
الماء اليسير الذي معهم فأبعدهم مسيرة أيام في المجانة وفرغ الماء الذي معهم، وقد
خلفوا خلفهم من المجانة ما لا يقدرون أن يقطعوه بلا ماء مسيرة أيام، فقالوا: ويلك
يا هندي أين الماء ومتى نقطع هذه المجانة؟ فقال لهم: إلى الأبد الآبد تقطعونها
وترون الماء، ويلكم أسعدتكم أيامكم فحملتم أموركم على الغرور وصحبتموها بالجهل، هل
أبصرتم طائراً ووحشاً يدلكم على أن بين أيديكم ماء والله إنها مجانة لا تخرجون
منها أبد الأبد أيها العرب لكم الصبر ولا تعلمون الغدر، أتدرون من أنا؟ قالوا له:
لا قال لهم: أنا نفير ملك الهند فعلت بنفسي ما ترون لأقتلكم وأشتفي منكم نقمة
لقومي وشفقة عليهم فأخذوه ورجعوا في طريقهم.
قال أبو محمد: لما سار نفير عن تبع بعسكره جمع حمير فقال: معاشر حمير أن
العجم قليل صبرهم عند اللقاء وسريع غدرهم عند البلاء وقد مضى هذا الهندي بجميع
رجالي ولم يمض بهم إلا إلى معاطش فإني لا أرى في أرضهم شيئاً يكاد به إلا المجانة
فأخرج ذا جدن بن المسكين الحميري وأمره بحمل الماء على الجمال ففعل ذو جدن ما أمره
به تبع، وتبع أثرهم فلقيهم وهم يتساقطون عطشاً
فشربوا وسقوا خيولهم ورجعوا. فلما نظر إليهم نفير لم يمت منهم إلا اليسير من
الأتباع قال: يا نفير دافعت القضاء بالمنى، ولكن أنت بين أمرين إن خلصت ناصحت لتبع
وإن مت وفيت لقومك وكلا الحالين كرم. ثم إن عسكر تبع رجع إليه وأمر بنفير فمثل بين
يديه فقال له تبع: أنت نفير؟ قال له: نعم أيها الملك، قال له تبع: لم غدرت؟ قال له
نفير: أيها الملك إني لم أغدر لأني لم أعهد بل وفيت لقومي ومكرت بعدوهم فإذا
قتلتني قتلت مانحاً وإن تركتني تركت ناصحاً والعفو أخلق بقدرة الكريم.
قال له تبع: يا نفير وفيت لقومك وقد يكون لك منهم العدو الكاشح والحسود
الضاغن والمماري الملحد فكيف بك أن أحسن؟ فاني يا نفير قد عفوت عنك وصفحت عن زلتك
وذنبك ووليتك على قومك، قال له نفير: أيها الملك أسأت إليهم وأحسنت إلي فأوثقت به
عهدي وملكت به رقي وهل أنت مطيعي أيها الملك؟ قال تبع: قل، قال نفير: أيها الملك
أرض الهند وبيئة لطارئها فلا تقارعها بالمهج فمن تاجر بروحه لم يربح وقومي في جبل
كما تراهم يموتون اجمع فيه ولا ينزلون فيطلق يدي الملك افعل برأيي. فطلع نفير إلى
قومه الهند إلى الجبل فأنزلهم وأنزل جميع أولاده حتى أتى بهم تبعاً - قال له يا
نفير: أمنهم وأنزلهم منازلهم وبلغهم مراتبهم فإن كل أمة لم تبلغ مراتبها دخلت
صدورها ووغرت قلوبها فاستخفت فتكها وهانت عليها أعمارها وملك أمورها أشرارها وأنت
أعلم بها - ففعل نفير ما أمره به تبع، ثم جمع بنيه ودخل بهم على تبع فقال: أيها
الملك غرست ولم تأكل ثمر غرسك هؤلاء أولادي وهم بقايا عفوك وغرس نعمتك فامنحهم
بالطاعة لك فمن أوفى فقد كافى ومن غدر ففي سيفك الوزر والحكم لمن غدر، قال تبع:
أنا لا آمرك فيهم ولا أنهاك، لأن المرء أعلم بولده. فقال له نفير: أيها الملك هذا
أحزم أولادي وأضبطهم للملك وأصلبهم حجراً وأحسنهم عقلاً فقدمه تبع على أرض الصين
وكان اسمه جلهم بن نفير فهو أول من تتوج بأرض الصين تأسى في ذلك بتبع.
قال تبع لنفير: أنت أقوم بهذا الأمر؟ قال له نفير: أيها الملك أزعجني عن أرض
الصين فإن قومي الهند قد أدركهم ثلاث خلال: أما واحدة فإنه مات من قومي ما بغضت
إلي أرض الصين إلا بعدهم، والثانية ذهب أنفي وأذناي فكرهت أن ينظر إلى بالنقص من
يعرفني بالتمام، والثالثة وهي أعظمهن عندي إن عجزت عن خدمتك لم أكافئك بإحسانك
وإني لبصير بكيد الملوك وإدارة الحرب ولن يستغنى عني الملك لأن رجال الملك لهم
آلات كآلات الصناع رجال للمشورة ورجال للحجابة ورجال إدارة الحرب عند اللقاء ورجال
يصلون الناس ورجال للخدمة، فلا يقوم للملك ملك ما لم يجمع هذه الطبقات من الرجال،
وأنا أيها الملك معي عامة الخصال المحمودة وأنا أيها الملك من خاصتك ما عشت. فشكر
له تبع قوله وفعله، ثم جمع نفير بنيه فقال: يا بني عليكم بالسمع والطاعة لجلهم ولا
تنازعوا فتهدموا ملككم ولا تخالفوا أمره فيجيش صدره عليكم، ثم أقبل إلى جلهم فقال
له: ساجلهم لا تستأثر عنهم لملكك فيحسدوك ولا تطاول عليهم فيقتلوك ولا ترغب في
أموالهم فيغضبوك، ابسط لهم وجهك ويدك وجنبهم سخطك وبطشك وكن لهم معقلا ومرتقى،
أحسنوا حالكم يا بني فإنكم لن تروني بعدها ولن تخشى علي من سطوة تبع ولا من غدر
العرب، إن لم أوت من قبلي لم أحذر ولكن أفي للملك بإحسانه وأكون بين يديه عمري. ثم
رجع إلى تبع فقال له تبع: يا نفير أي وجه من الأرض آخذ عليها راجعاً عن بلدك، قال
له نفير: العلم كثير والخير قليل والأرض واسعة والرأي يصيب ويخطئ وأنت أيها الملك
امرؤ نبيل والطريق قطربيل والأمر يحدث والسيف حيث أراد، وإني أيها الملك أرى ما لا
تراه، فقال له تبع: وما هو يا نفير؟ قال: أنتم العرب لكم بأس عند اللقاء وسلامة
صدور عند الرضا وأراك أكثرت في عساكرك من الأعاجم وهم قليل صبرهم عند اللقاء كبير
غدرهم عند الرضا، فأخرجهم عن عساكرك لا يوغرون صدور العرب فإن الفرس السوء تملي،
واعلم أيها الملك أن الأعجمي يضطرب إلى الغدر كما يضطرب البازي إلى صيده.
فأمر بهم تبع فشردهم من عساكره ثم قفل من أرض الصين ومعه نفير ملك الهند حتى
بلغ إلى قطربيل، فآتاه أن الزط والكرد والخوز غدروا عساكره التي كانت عندهم من
المرضى والجرحى، وكان أسباب علوم الدهر عن ذي القرنين وموسى الخضر وسليمان بن داود
عليهم السلام وكان قريب العهد من سليمان فقال:
أرقت وما ذاك بي من طرب ... ولكن بدا لي وهنا سبب
قتلت جموعاً فأفنيتها ... وفي الأرض مني لقومي أرب
وخبرت بالصين لي بغية ... ثياب الحرير وكنز الذهب
فسرت إليهم بجيش لهام ... كثير اللهاء شديد اللجب
لقيت من الترك آسادها ... فقتلتها حين جد الوصب
فغادرت أيامها سدفة ... وموطنها بالقنا منهب
لها عاصفات إذا وجهت ... تكاد الجباتل لها تنقلب
وبالشرق والغرب آثارها ... وبالخافقين رياح تهب
بأبناء قحطان من حمير ... بهاليل أسد صميم العرب
رزان الحلوم نجوم العلوم ... خفاف المعاذير بيض النقب
فلما نزلت بأرض العراق ... عبرت العراق بعزم حرب
فسار قباذ إلى فارس ... إلى البحر يسعى لأمر كتب
فبادره الأقرن المستطيل ... سريعاً حثيثاً شديد الأرب
واقبل صيفي من ارض عمان ... لمن شذ منهم ومن قد قرب
فكان ببابل يوم عبوس ... بقتل ذريع أليم النصب
فخام قباذ وأشياعه ... وولي سريعاً حثيث الهرب
رأى الموت تحت ظلال السيوف ... وحتى النفوس له يضطرب
تجر المنية أذيالها ... فكان العزيز بها من غلب
فأضحوا كأن لم يكونوا بها ... كذاك العزيز بها من غلب
فأضحوا كأن لم يكونوا بها ... كذام الزمان إذا ما انقلب
فاتبعه شمر في جمعه ... إلى القصر ذي شرفات الحجب
سقينا البرية في دهرنا ... سماماً مدوناً بضرب القضب
نقود الجياد لأقصى البلاد ... إذا ما قضينا قضاء وجب
نهضت بجمع كمثل الدبا ... صباح الوجوه صلاب الحسب
ربيعة منها هداة السبيل ... علوم المجال لنول الشعب
وبأس إياد رفيع القذال ... طويل العنان شديد الكلب
وانمار عند اللقا سادة ... تزيل النفوس وترجي السلب
ترى مضراً عند ارزامها ... مكللة روسها بالذهب
لها لجة عند نار الوطيس ... ببيض مضار بها تلتهب
تصاممت عن نبأة أسمعت ... لقد صرحت عن حديث عجب
لقد جد غدر بني يافث ... وجد المنون بهم فاقترب
عذيري لحرب تلافيتها ... لقد ألهبوا بأسها والتهب
جموع ليافث لما بدت ... تريد النزال فتمسي حصب
لقد غدروا بعدما أكدوا ... مهاريق عهد يقوم غيب
سيعلوا المشيب على طلفها ... بيوم مخوف ولما يشب
وسوف إذا ما اقتضاني الردى ... يلي الملك بعدي كآل قسب
ويستلب الملك من حمير ... مجوس وسود عليها رهب
وينقلب الدهر عن وجهه ... ويضحى به الرأس تحت الذنب
للعشرين حولاً بها يقتلون ... ويستلب الجمع منها الحلب
إلى أن يلي الملك من هاشم ... نبي أمين كريم النسب
رسول من الله أتباعه ... على الحق منا رجال غلب
فلو مد عمري إلى عمره ... لفرجت عنه جميع الكرب
واني أدين بما دانه ... ولا أقول له قد كذب
فيبلى به الله من خلقه ... قرونا من الناس أعطوا الغلب
وتأتي العجائب من بعده ... إذا ما بدا نجمها ذو الذنب
وتأتي الدلائل حتى ترى ... لهم الشم عن أسرها تنقلب
ويرقى الدخان بآفاقها ... ويعلو بيثرب صوت صخب
إذا قتل الروح روح الرضا ... وسالت دماء بني المطلب
هنالك خسف بأرض الحجاز ... فلا تنظر العين غير الشهب
ويأتي على النيل حيشانه ... إلى البيت قصداً لها بالقضب
يهدون منه ذرى سمكه ... ويعلون أركابه بالصلب
كأنه لم يكن حرماً قبلها ... إذا أعاد نهباً محالاً خرب
يقوم بها من بني حمير ... كريم شجاع كريم النسب
حديد السلاح رفيع الصياح ... ربيط الجنان لها محتسب
فيأتي بقوم من أقصى العراق ... ومن حضر موت ومن ذي حلب
ثمانين ألفاً على نجبها ... فليس لهم عندنا منتصب
ويقتل بالنيل أملاكهم ... ويعطب في لجة من عطب
ومن بعده الملك في حمير ... يقوم به الماجد المغترب
ومن بعده الموت يزجى بنا ... إلى البعث والفصل غير الكذب
قال أبو محمد: ثم سار تبع شمر يرعش حتى بلغ دينور ونهاوند وسنجار فقتل من
أصاب بها من بني يافث وهم الزط والكرد والصغد والخوز وسبى النساء فقال لهم تبع: احبسوا
ما أخذتم من نساء الصغد والزط ولا تحسبوا من نساء الكرد والخوز سباء بيعوهن فإنهن
يفسدن النسل ويغيرن العقل ويدلن الألسن ففعلوا ومضى تبع حتى بلغ أرض فارس، فقدم
على فارس بلاس بن قباذ وجعله بأرض فارس وأرض خراسان، ومضى تبع فسار على الشام إلى
أرض بابليون فأصاب الحبشة على النيل نازلين، فلما علموا بتبع وقد قاتلوا مصر شهراً
بعثوا إلى تبع بهدية ليداروه بها حتى يخلصوا من بين يديه من أرض بابليون، فلما
انتهت الهدية إليه أي إلى تبع جمع رجاله فقال: هذه هدية الحبشة فما رأيكم؟
فقال المعترف بن عامر الحميري: أيها الملك لن يجوز سخر هذه الخدعة عن ذي لب
رصين، قال له نفير: أيها الملك من رام أن يخدعك حمل النقص على عقلك، قال مقداد بن
ينفر بن شرحبيل الحميري: أيها الملك لو راموا مسألتك لم يزحفوا إلى قومك ولو
أرادوا برك أهدوا إليك من أرضهم إلى أرضك ولا يخدع بهذا الخدع إلا أم عامر فتمكن
من عدوها نفسها في بيتها ونصف حمق الدنيا في رؤوس السود وقد راموا أن يسخروا من
الملك فهلا قدموا هديتهم قبل الزحف إليك كما قدموها قبل الهرب. فعبر إليهم النيل
فقاتلهم بالقس والبهنسة أياماً، ثم هزمهم وتبعهم على النيل يقتلهم، فلما رأوه أمعن
في طلبهم زالوا له عن النيل إلى الرمل فافترقوا له في الرمل فقتل من قتل وتلف من
تلف في الرمل وبقي أياماً فكاد يهلك ويهلك معه عطشاً حتى أفضوا إلى ماء معين ورمل
مبسوط فنزل وأقام بها عشرين سنة يغرس النخيل ويبني القصور ويتخذ المصانع حتى بعث
الرواد والأدلاء إلى أرض الحبشة وعلموا مسالكها ومناهلها، ثم رجعوا إليه. فرجع
إليهم فدخل عليهم أرضهم فانتصب له أملاك الحبشة من ارض فقاتلهم قتالاً ذريعاً فلم
يكن لهم به طاقة غلبهم بالنبل، ولم تكن الحبشة ترمي بالنيل إلا من زمان تبع شمر
يرعش - فداس أرض الحبشة وقتلهم قتلاً ذريعاً فهربوا إلى غربي الأرض إلى البحر
المحيط وتبعهم تبع فهبت عليهم ريح سوداء من نحو البحر المحيط فهلك جمع من عساكره.
فقفل عنهم راجعاً فجعل طريقه على أرض بني ماريع بن كنعان فقتل أمماً وهربوا إلى
فنن الجبال فبلغ البحر المحيط، ثم رجع قافلاً إلى المشرق فمر إلى قمونية وتمادى
إلى أرض بابليون ثم مر على الشام وعبر الفرات والدجلة يريد زيارة قبر أبيه تبع
ناشر النعم بسنجار، فبلغ سنجار، ثم أمر أن يكتب على باب مدينة سنجار - وهي أعظم
مدينة بأرض سمرقند - جنبيه وكتب فيها بالمسند: هذا ملك عرب لا عجم لشمر يرعش الأشم
نزلها في الشهر الأصم فروى السيف من مهج ودم من فعل فعلي بعدي فهو مثلي ومن جاوزه
فهو أفضل مني بريت قسمي ووفيت لذمتي.
قال أبو محمد: حدثني عامر بن جرهم الأنصاري عن مكحول عن الشعبي، قال: حدثني
رجل من خيوان همدان يقال له عبد الله قال: بينما نحن بالصغد مع قتبية بن مسلم
الباهلي حين افتتح سمرقند ونظر إلى حجر في جنبة باب مدينة سمرقند وفيه خطوط كأنها
بالعربية وليست هي قال قتيبة: والله إني لأظن هذا حمقات حمير اطلبوا في الجند
رجلاً حديث العهد باليمن يعرف كتاب حمير فوجد فانطلق به إلى قتيبة فقال له: اقرأ
هذا الكتاب. فقرأه فقال قتيبة: ما أرى بتبع من حمير إلا الآثار فما في هذا أعظم
شيء وهذا أنا بلغتها. قال له الخيواني: يا قتيبة لم تصغر بالأول ولكن بالآخر إن
بلغت الصين وجاجا وقطربيل فقل - فاسكت قتيبة - ثم قال: يا قتيبة تقدم فرسخاً وإلا
اشمت بضعف الإسلام. قال: فرجع من سمرقند.
قال أبو محمد: ورجع تبع إلى اليمن يريد غمدان فقال الباني بن قطن ابن مالك
بن همدان بن منتاب الحميري شعراً:
تقول عرسي حين جد النجا ... حتى متى أنت تريد النوى
أليس في عيش قد أوتيته ... مقام ذي الدهر بعيش غلا
قلت فقد قلت فما خيرنا ... بعد الذي فيه الطيب الثنا
إنا نرى أن أك ذا هبوة ... جليسكن اليوم دون الوغى
وجارح اقصدني سهمه ... ماذا عليه في الهوى لو وفا
يرمي ولم يرم فما أخطأن ... وراش بالسهمين لما رما
رمى بطرف العين الطرف غيري فما ... جادت به عيني سهام الردى
ويحك يامي على ما الذي ... قلت على ماذا تطيل النوى
وحمير تسمو بأفعالها ... فيها أسود البأس يوم اللقا
وشمر رعش ذو النهى قادها ... يريد بالشرق اغتنام النسا
فقد وطئنا أرض حمر بها ... وساعفت منا ليوثاً ضرا
وكان يوم شانه معظم ... وقرت العيان يوم الفنا
فسائلي يا مي عن يومنا ... في مغرب الأرض بيوم الوفا
يخبرك من يعلم أفعالنا ... بصبرنا عند حلول اللقا
إنا لنعتام رؤوس الوغى ... فقد جميع الناس ذبح وحى
كانت لنا الأيام مأمورة ... والدهر نجريها بحكم القضا
فآبت الفرسان من حمير ... بكل بيضاء كعفر الظبا
وحل من سنجار قطانة ... فشيد القصر بصم الصفا
وغودر الصين على بابه ... يجيب للداعي متى ما دعا
فأصبحت جاجا وقطربيل ... يحدوهما الدهر لغير البقا
أثر في آفاقها تبع ... أثراً يزيل الريب عن ذي العمى
تكون للعابران هو رأى ... أمراً إعجاباً منه بعد الثنا
ورجع تبع شمر يرعش بن عمرو ناشر النعم إلى قصر غمدان، وقد ملك الأرض كلها
ودانت له ملوكها. فجمع أبناء ملوك حمير ووجوه العرب فقال: معاشر العرب عندنا علم
مصون مكنون نعمل بأمره ونزدجر لنهيه ونتبع الأثر ويهجم علينا الأمر وقد غيب عنا
القدر فحيناً تخطئ وحيناً نصيب وكل إلى غاية ومدة، وقد جاريت الدهر وقضيت ولم يقض
لي وحاكمت فحكم عليّ، فإذا كان ما هو كائن فإن ابني صيفيا هو تبع ثان، فإن رأيتم
خيرا منه فلكم، وإن رأيتم شراً فالأمر للعام لا للخاص، قدموا أفضل منه. ثم قال:
سرت على الآفاق كالشمس ... بين طلوع السعد والنحس
أجوب غور الأرض في أثره ... بما رج للعلم عن أس
أوجفت بالخلق فلم أنتظر ... أسير في رفق وفي همس
انقل من أرض إلى أرضها ... أصبح في أرض ولا أمسي
كنت على الأرض كشمس بدت ... تشرق للناس بلا حس
حتى إذا عادت إلى حجبها ... عاد ضياء الشمس في طمس
حفظت ما خولت حتى إذا ... سلبته أمهل عن نفسي
من ذا يرجي العيش من بعد من ... حاط جموع الجن والأنس
أفصح ذو القرنين يوماً على ... ترجمه العالم في طرس
لا يصحب الأيام إلا امرء ... غاد وإن خلد كالأمس
والدهر يحدو أهله مسرعاً ... عن زهرة الدنيا إلى رمس
ثم مات تبع شمر يرعش فكان عمره ألف سنة وستين عاماً، وكان قد منع الولد فلم
يولد له إلا بعد ثمانمائة عام. فقال الباني بن قطن ابن همدان بن مالك بن منتاب
الحميري يرثى تبعاً:
أيها السائل الحوادث جهلاً ... هل سألت الزمان عن شمر رعش
ملك أطد الجبال فلت ... وأطاعته حيث يمشي فتمشي
قاد بالصين من تهامة حتى ... ترك الهند بين بهش ونهش
كاد نفير حين كاد وولي ... ترك الجيش بين قفر وعطش
لم يهب للزمان صرفا فأعطاه ... مقاليده على غير غش
وردت خيله نهاوند تسقي ... أهلها المرهفات عن سم رقش
ساعدته الأيام حتى إذا ما جدت ... هفوة أراشت بهش
قصدته من المنون سهام ... حملت شلوه على ظهر نعش
وقال أيضاً:
عاد رهن الهمود والأطلال ... نصباً للصبا وريح الشمال
شمر رعش ومن كشر إذا ما ... طرفت بالعضال إحدى الليالي
بعد ملك وعزه واقتدار ... لم يجد للردى محيداً بحال
وقال تبع الأقرن بن تبع شمر يرعش يرثى أباه:
يا بعد تبع حين شط مزاره ... بل بعد حالي عزتي وفلاحي
لم ترتقي زهر النجوم لموته ... فالموت أفلته عن الإصباح
ناحت مقلقلة فقلت لها اذهبي ... دهري ودهرك هالك الأنواح
قلي العويل أو كثري فلك العزا ... أن المنية منهل الأرواح
هل بعد ملك الصعب يرتجى ... يهدي بكل مسا وكل صباح
ملك السعود بكل أرض حكمه ... تبع الهدى مستبصراً بنجاح
سامي إلى الظلمات عن أسبابه ... والشمس تسجد في حما الضحضاح
ولي وخلف ذكره من بعده ... وهما لنا شبحاً من الأشباح
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أبيه عن جده محمد بن السائب قال: حدثني أبو صالح عن ابن عباس، إنه قال: أول ملك أمر بصنعة الدروع السوابغ المفاضة
التي منها سواعدها وأكفها وهي الأبدان تبع شمر يرعش بن ناشر النعم.
قال أبو محمد: جعل على فارس ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله على فارس
بلاس بن قباذ. وجعل على الروم ألف درع يؤدونها كل عام، وكان عامله على الروم ماهان
بن هرقل، وكان بلاس متوج في فارس وهرقل أول متوج في الروم، وفي استعماله لفارس
الدروع يقول امرؤ القيس مهلهل بن ربيعة بعد ذلك الزمان شعراً:
سيبكي كليباً كل عاق وعامل ... وخطية سمر وخيل عوابس
وتبكيه بيض للخدود لواطم ... وما ذية مما اقتنتهن فارس
وكان أصعب الدروع دروع الروم وهي كذلك إلى اليوم، وجعل على أهل بابل وعمان
والبحرين ألف درع، وكان أهل اليمن ألف درع. وأحسن السيوف اليمانية والدروع
الفارسية، وكان بلاس ملك فارس يرسل بما عملت فارس من الدروع مع إتاوة إلى تبع شمر
يرعش، ويرسل ماهان ملك الروم من الدروع بألف مع إتاوة إلى تبع شمر يرعش وفي ذلك
يقول مسلم بن الوليد في الإسلام:
من حمير نسل العرنجيج إذ جرت ... لهم على حقب الزمان دهور
ملكوا على الدنيا فما أحد بها ... إلا وهو في حكمهم مقهور
أعطاهم ذل الإتاوة قيصر ... وجبي إليهم خرجه سابور
وفي تبع شمر يرعش يقول أبو ذؤيب الهذلي بعد زمانه:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داوداً وصنع السوابغ تبع
وهذا البيت له في شعره الذي رثى به بنيه اذ قتلوا بذات الهجال.
قال أبو محمد: كان يؤتى بها إلى تبع كل عام طول مدته.
______________________________________________
عبد الملك بن هشام: (المتوفى: 213هـ) التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ (232 إلى
251)، الناشر: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية، صنعاء - الجمهورية العربية
اليمنية، الطبعة: الأولى، 1347 هـ.
--------------------------------
لأهمية الكتاب تقرأ التدوينة التالية:
التعريف بكتاب التيجان في ملوك حميرللعلامة المحقق عبد العزيز الميمني رحمه الله تعالى
--------------------------------
لأهمية الكتاب تقرأ التدوينة التالية:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق