بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

الآثار المشهورة / من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعمري (المتوفى سنة: 749هـ)


ومما نُتبع به هذه الهياكل من الآثار المشهورة في الأرض مما بقي، لقي جسمه أو رسمه، ما يُذكر: فمن ذلك صنم الخطا المحجوج في نهاية الشرق المتشامل. وهو قريب من السند.
ومن ذلك قصر الدهاك. ما بين مدينة طَغُورا وبين مدينة باش بالق، شرقيّ طغورا وغربيّ باش بالق.
ومن ذلك حائط القلاص. ويعرف بالحائط المحيط. ويعرف بحائط عبد الله ابن حُمَيد جنوبيّ بلاد الغربة وأسبيجاب.
ومن ذلك مدينة إصطخر. وهي مدينة عجيبة البناء، من بناء سليمان، عليه السلام.
ومن ذلك قصر سِندَاد. وهو بالعراق. قريب النيل، بأرض الأزيز، على نهر سنداد. وكان مسكن آل مُحَرَّق. وفيه قال الأسود بن يَعفُر.
ماذا أؤمِّل بعد آل مُحرَّق ... تركوا منازلهم وبعد أيادِ؟
أهل الخَوَرنَق والسَّديرِ ومأرِبٍ ... والقصر ذي الشُرُفات مِن سنْداد
دارٌ تخيَّرها لطيب مَقليها ... كعبُ بْنُ مامة وابن أمِّ دُؤَادِ
جرتِ الرياح على محلِّ ديارهمْ ... فكأنما كانوا على ميعادِ
ومن ذلك قصور الحيرة، بين العراق والشام.
ومن ذلك الخورنق والسدير. وهما من أشهر الآثار. بناها شخص اسمه سِنِمَّار للنُّعمان بن قيس، وكمّله في عشرين سنة. فلما وقف عليه النّعمان، استجاده وأثنى على سِنِمَّار. فقال له سِنِمَّار: لو شئت أن أجعله يدور مع الشمس، لفعلتُ. فأمر به أن يُطرح من أعلى شُرُفاته. فضُرِب به المثل " جزاه جزاء سنمار " . وفي ذلك يقول الشاعر:
جزتْني بنُو قيسٍ وما كنت مذنباً ... جزاء سِنِمَّارٍ وما كان ذا ذنبِ
بنى القصر للنعمان عشرين حَجَّةٌ ... يعلّ عليه بالقراميد والخُشْبِ
فلما استوى البنيان واشتدّ رصفُه ... وآد كمثل الطود والشامخ الصعْبِ
رمى بسِسِنَّمارٍ على أمِّ رأسهِ ... وذاك لعمرُ الله من أعظم الخَطبِ
ثم ترهب هذا النعمان في الجاهلية، وانخلع عن ملكه، ولبس المُسُوح. وفيه قال عدِيُّ بن زيد:
وتذكَّر ربَّ الخورنق إذ فكّ ... ر يوما وللهدى تفكيرُ
راقه مالهُ وكثرةُ ما يم ... لك والنهر معرضا والسديرُ
فرعوى قلبهُ وقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصيرُ
ومن ذلك قصر سَنَافاد.
ومن ذلك الرصيف الممتدّ بين صَرْخَد والعراق، ممتدّا في البرية. يقال إنه من عمل سليمان بن داود، عليهما السلام. وهو يتصل في مواضع وينقطع في أخرى. يتوصل السالك معه من الشام إلى العراق، ومن العراق إلى الشام في أقرب مدّة.
ومن ذلك مدينة تَدّمُر بين العراق وبين الشام، وما فيها من عجائب البناء وكبار العمد.
ومن ذلك ملعب بعلبك. والباقي منه عمد بقلعته الآن، وما في سورها من الأحجار العظام والصخور الراسية كالجبال. يقال إنه من بناء سليمان بن داود، عليهما السلام.
ومن ذلك مدينة شُهْبَة من بلاد حوران. بها من الأبنية الباقية والعمد العالية والآثار الدالَّة ما هو من جلائل الآثار.
ومن ذلك مدينة جُرَش من بلاد حوران. يحكى الهول من غرائب آثارها. وقد أضحت خاوية على عروشها، خالية من أهلها وسُكَّانها، لا يُحسّ بها حسيس، ولا يوجد بها أنيس.
ومن ذلك جُبُّ يوسف، وهو قرب قرية اسمها شورى.
ويدانيها جسر يعقوب، وهو معروف مشهور.
كلّ ذلك ببلاد صَفَد.
ومن ذلك منازل ثمود بين الحجاز والشام. وبيوتهم المنحوتة في الجبال باقية إلى الآن. وهي المعنيَّة بقوله تعالى (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَرِهِينَ). وبها البئران: بئر الناقة، وبئر ثمود، المقسوم بينهما الشِّرب. ولما مرّ رسول الله " صلى الله عليه وسلم " بأرض ثمود في غزوة تَبُوكَ، وجد بعض من سَبَق من أصحابه قد ملأ من بئر الحِجر. فأمر بأن يُراق الماء. فقالوا: يا رسول الله قد عجنّا منه العجين. فأمر بأن يُطعموه الإبل، وأن يشربوا من بئر الناقة. وهما معروفان هناك.
وهذه فائدة أردنا التنبيه عليها.
ومن ذلك جُبُّ بابل، وهو الذي حُبس به دانيال. ألقاه فيه بُخت نَصَّر. وألقى وألقى معه أسدين حتّى أتاه، بأمر من الله، نبيُّ من أنبياء بني إسرائيل. فقال: يا صاحب الجُبِّ! فأجابه دانيال: قد أسمعتَ! ماذا تريد؟ قال: أنا رسول الله إليك، لأستخرجك من موضعك. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى مَن ذَكَره! والحمد لله الذي لا يَكِلُ من توكّل عليه إلى غيره! والحمد لله الذي يُجزي بالإحسان إحسانا! والحمد لله الذي يجزي بالإساءة غفرانا! والحمد لله الذي يكشف ضرنا عن كربنا؛ واستخرجه وإن الأسدين لعن يمينه وشماله يمشيان معه حتّى عزم عليهما دانيال أن يرجعا، وعن ابن عباس، قال: من قال عند كلّ سبع: " اللَّهُمَّ ربَّ دانيال وربَّ الجبِّ وربَّ كل أسد مستأسد! احفظني واحفظ عليّ " لم يضره السبع.
والأخدود المُحتفر لأصحاب الأُخدود المذكورين في القرآن الكريم. وهو بنجران من اليمن.
ومن ذلك البئر المعَطَّلة والقصر المَشِيد. وهما قريب الفج الخالي بمشاريق اليمن.
ومن ذلك سدّ مأرب. وهو ببلاد سبإ من اليمن.
وبه قصر القَشِيب. كان لبلقيس.
ومن ذلك قصر غُمدان. بصنعاء اليمن. وهو من أشهر الآثار وأظهر المعالم. كان مسكن التببابعة من حِمِيَر، ومنهم شَمِر بن مالك وأسعد أبو كَرِب. وكفا بذكرهما. طافا الأرض وبلغا الآفاق. وقصر غُمدان هذا هو المذكور في الأشعار، والمشهور في الأخبار. وفيه يقول ابن أبي الصَّلت.
اِشربْ هنيئاً عليك التاج مغتبِقاً ... في قصر غُمْدان دار ملك مِحْلالا
تلك المكارم لا قَعْبانِ من لَبنٍ ... شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبْوالا
ومن ذلك بئر بَرَهُوت. ببلاد حَضْرمَوْت من بلاد اليمن. وهو الذي لم يُعرف عمقه، ولا عُلم أن إنسانا نزله.
ومن ذلك قصر زَيدان. المشهور بمدينة ظَفَار باليمن. وكانت تُسمى قديما مدينة يَحْصِب.
ومن ذلك قصر الشَّاذِيَاخ. وهو بباب نيسابور، من خراسان. كان دار السلطنة لبعض ملوكها. ولم نؤخر ذكره إلا لأنه شُبِّه ببناء غُمدان. فكان كأن لذكره به تعلقا:
اِشرب هنيئا عليك التاج مرتَفِقاً ... بالشَّاذِياحِ ودع غُمدان لِليَمَنِ
فأنت أولى بتاج الملك تلبَسُه ... من هَوْذَة بن عليّ وابن ذي يَزَنِ
وعلى باب قصر الشاذياج، صُلب عليّ بن الجهم. فقال حين صُلب، ارتجالا
لم ينصِبوا بالشاذِياج عشيَّة ال ... إثنين مسبوقا ولا مجهولا
نَصَبوا بحمد الله مِلءَ قلوبهم ... شرفا وملء صدورهم تبجيلا
ما عابه أن بُزَّ عنه ثيابه ... فالسيف أهول ما يُرى مسلولا
ومن ذلك دار الأنماط. وكانت بفسطاط مصر، يباع بها قماش النساء، وفاخر اللباس والأمتعة. تجلب إليها من كل أرض. وكان يجلس على حوانيتها أهل الفراغ واللهو. من عجائب المباني، وغرائب الآثار.
وحكى ابن ظافر أن ابن قلاقس جلس بمصر فيها مع جماعة، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك. وهي شمس تحت سماء النقَّاب، وغصن في أوراق الشباب. فحدّقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب. فجعلت تتلفَّت تلفُّت الظبي المذعور، أفرقه القانص فهرب، وتثنَّى تثنِّي الغصن الممطور، عانقه النسيم فاضطرب. فسألوه العمل في وصفها. فقال هذا يصلح أن يعكس فيه قول ابن القطَّان الأزديّ القيروانيّ:
أعرضْن لما أن عَرَضْن فإن يكن ... حذرا فأين تلفُّتُ الغِزْلانِ
ثم صنع:
لها ناظرٌ في ذرى ناضر ... كما رُكِّب السِّنُّ فوق القناةِ
لَوَت حين وَلَّت لنا جيدهَا ... فأيُّ حياةٍ بَدَتْ من وفاةِ
كما ذُعر الظبيُ من قانصٍ ... فمرَّ وكرّر في الالتفاتِ
ثم صنع:
ولطيفةِ الألفاظِ لكنْ قلبها ... لم أشكُ منه لوعةً إلا عَتَا
كلمتْ محاسنُها فودَّ البدرُ أنْ ... يًحضى ببعض صفاتها أو يُنعتا
قد قلتُ لما أعرضَتْ وتعرَّضَتْ ... يا مؤيسا يا مُطعما قُلْ لي متى
قالت: أنا الظبيُ العزيز وإنما ... ولّى وأوْجس خِيفةً فتلفَّتا
ومن ذلك الأهرام بمصر. وأجلُّها الهرمان بجيزة مصر. وقد أكثر الناس القول في سبب ما بُنيا له. فقيل: " هياكل للكواكب " . وقيل: " قبور ومستودع مال وكتب " . وقيل: " ملجأ من الطوفان " . وهو أبعد ما قيل فيها. لأنها ليست شبيهة بالمساكن.
وأقربها إلى الصحة " والله أعلم " إما هياكل كواكب، وإما مواضع قبور. ولقد فُتح أكبرها في زمن المأمون، حين قدِم مصر. فلم يظهر منه ما يدلُّ على ما وَضع له. وعلى ألسنة الناس أنه وجد ذهبا فوزنه، وحسب مقدار ما أنفقه، فوجدهما سواء بسواء، لا يزيد أحدهما على الآخر بشيء، لعلمهم السابق أنه سيُنفق عليه مثل هذا المقدار. فوُضع هذا المقدار بإزاء ما ينفق عليه. ووجدتُ هذا في كثير من الكتب. فراجعت التواريخ الصحيحة والكتب المسكون إليها، فلم أجد المأمون وجد بها شيئا ولا استفاد زائدا عما يعلم الناس به علما.
وأدلُّ الأدلة على أحدها هيكل بعض الكواكب، أن الصابئة كانت تأتي حقيقة تَحُجُّ الواحد وتزور الآخر، ولا تبلغ به مبلغ الأوّل في التعظيم. والله أعلم بحقيقة أمورها وجليّة أحوالها.
وهي أشكال لهبيَّة. كأنّ كلّ هرم لهبة سراج. آخذة في أسافلها على التربيع مسلوبة في عمود الهواء، آخذة في الجوّ حتّى إلى التثليث. لولا استدارة سفل أبلوج السُّكَّر لشبهناها به. ويحتمل أن يكون هذا الشكل موضوعا لبعض الكواكب لمناسبة اقتضته.
ولقد أصْعَدْتُ غير مرَّة، مارّا على الأهرام بجميع بلاد الجيزة، ورأيت منها ما دثر بعضه، وما دثر كله. فإذا هي مصفحة البناء، شيئا على شيء، لا فُسحةفي أوساطها، كما تكون ساحات الدور بين الجدران. وإنما هي بناء ماتصق على بناء، بعضها فوق بعض. ووجدتُ بعض الأهرام مبنيّة بالطوب. وهذا أكبر دليل على أنها لم تُتَّخذ ملجأ من الطوفان.
فأما مقدار الهرمين المشار إليهما، في ارتفاعهما ومساحة أقطارهما، فإنه مذكور في الكتب ذكرا مستوعبا لم أحققه بالقياس. وأبى لي تحقيقي في هذا الكتاب أن أذكره بمجرَّد التقليد، مع إمكان التحقيق، مع كثرة تردّدي عليها، وسكني في القاهرة في جوارها. ولعذر مانع في وقت هذا التأليف، قعدتُ عن معاودتها بالنظر والتحقيق.
على أن الهدم قد شرع في قلع هذه الآثار، ونقل أحجارها إلى الأبنية والمساكن. نبّه لها الدهر طرفا غافيا، وقلبا غافلا، فأصبحت هاوية الأركان، تابعة السكان. فلقد صدق عليها المتنبِّي قوله:
أين الذي الهَرَمان من بُنيانه؟ ... مَنْ قومه؟ ما يومُه؟ ما المصرع؟
تتخلَّف الآثار عن سُكَّانها ... حينا ويدركه الفناء فتتبع
وإن فيها لعبرة للمعتبر، وتذكرة للمدّكر، وآية لمن أناب، وتبصرة في الدنيا لمن يلد للفناء ويعمِّر للخراب.
وحكى ابن ظافر، قال: ذُكر لي أن جماعة من الشعراء في أيام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام، ليروا عجائب مبانيها، وليتأملوا غرائب ما سطّره الدهر من العِبَر فيها، فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها. فصنع أبو الصَّلت أميّة بن عبد العزيز " الأندلسي " :
بعيشِك هل أبصَرْتَ أحسَن منظَراً ... على ما رأتْ عيناك من هَرَمَيْ مِصرِ؟
أنَافَا بأعنان السماء وأشرفا ... على الجوّ إشرافَ السِّماك على النَّسرِ
وقد وافيا نَشْزاً من الأرض عالياً ... كأنهما نَهْدَانِ قامَا على صدر
ومن ذلك أبو الهول. وهو اسم لصنم يقارب الهرم الكبير. وفي وَهدة منخفضة تقع دونه شرقا بغرب. لا يبين من فوق سطح الأرض إلا رأس ذلك الصنم وعنقه. أشبه شيء برأس راهب حبشيّ، عليه غفّارية. على وجهه صباغ أحمر إلى حُوَّة، لم يَحُلْ على طول الأزمان، وقديم الآباد. وهو كبير. ولو كان شاخصا كله، لما قصّر عن عشرين ذراعا طوله. في غاية مناسبة التخطيط.
يُقال أنه طَلسَم يمنع الرمل عن المزدَرَع. وزاد تحسين هذا القول إليهم وتصويره لهم أنه على نهاية الرمل إلى جهة المزدَرَع.
وفي أبي الهول يقول " أبو منصور " ظافر الحدَّاد:
تأمّل هيئة الهَرَمَينِ وانْظُر ... وبينهما أبو الهَوْلِ العجيبُ
كَعَمَّارِيتين على رحيل ... بمحبوبين بينهما رقيب
وفَيْضُ البحر عندهما دموعٌ ... وصوت الريح بينهما نحيبُ
وظاهِرُ سِجْنِ يوسفَ مثلُ صَبٍّ ... تخلّف فهو محزون كئيب
وأما سجن يوسف، فشمال الأهرام، على بُعد منه، في ذيل خرجة من جبل في طرَف الهاجر.
ومن ذلك حائط العجوز. وهو حائط يستدير بالديار المصرية، ممتدّا على جانب المزدرع بها، كأنه قد جُعل حاجزا بين الرمل المزدرع. على أنه غير عالي الذُّرى.
مشيتُ معه إلى دَنْدارا، من الصعيد الأعلى. ورأيته قد دَثَر غالبه، ومنقطعه أكثر من متصله. وهو مبنيّ من طوب. ليس بعريض السَّمْك ولا عالي الجدار.
ووقفتُ على الكتب المؤلفة في أخبار مصر انه من بناء امرأة اسمها دلوك، وأنه يصل إلى ما بين العريش ورَفَح، منتهى الحدّ الفاصل بين مصر وبين الشام. وليس له هناك أثر، بل ولا في أسافل أرض مصر.
ويُذكر في تلك الكتب " بسبب بناء العجوز له " خُرافة لسنا نرضى ذكرها.
ولا يُعرف من بنى هذا الحائط حقيقة، ولاما بُني له عن يقين. ولكنا قلنا على الظن الغالب.
ومن ذلك شامة وطامة. وهما صنمان من حجر، على قاعدتين، ببلاد الصعيد.
ومن ذلك البَرابِي. بالصعيد، في أماكن منه.
وأشهرها برباة إخيم. من ورائها على شرقيّ النيل، حيث ينعطف الرمل ملتفّاً على الريف.
رأيت بها مختلفات من صور الحيوان: من نوع الإنسان والدوابّ والوحش والطير. على صور مختلفة، وأشكال متباينة، مصبَّغة بأنواع الأصباغ، مرسومة في الجُدُر والسقوف والأركان، من باطن البناء وظاهره، لم تنطمس رسومها، ولا حالت أصباغها: كأنَّ يد الصانع ما فارقت صورها، وكفَّ الصبّاغ ما مسح دهانها.
قال لي الحكيم المحقق شمس الدين محمد النقاش: إنه سافر قصدا إليها وأقام مدّة يردّد نظره فيها، ويحدّد نظره في أوضاعها. فرآها تشتمل على هيئة العُلْوِيَّات المرصودة بأسرها، مما لا يُعمل كلّ موضوع منها إلا برصد محرِّر مما لا يسع زمان واحد بعضه. فقال: فعلمت أنها ما عُملت في زمان واحد، بوضع حكيم واحد: لقِصَر مدد الأعمار عن زمان يفي برصد تلك الهيئة الكاملة. قال: وإنما تكون " والله أعلم " مما توارث عَمَلَهَا على حكم الأرصاد المحررة عدَّة حكماء في أزمنة طويلة، حتّى استقلَّ ذلك المجموع وتمَّت تلك الهيئة.
ومن ذلك عمود الصواري. بظاهر الإسكندرية. وهو عمود مرتفع في الهواء تحته قاعدة، وفوقه قاعدة. يقال إنه لا نظير له من العمد في علوّه ولا في استدارته. ويُحكى عنه حكايات منها ما هو مسطَّر في الصحف، ومنها ما هو مستفيض على الألسنة، مما لا نرى ذكره.
ومن ذلك المنارة بها. وشهرتها كافية. ولم يبق منها إلا ما هو في حكم الأطلال الدوارس، والرسوم الطوامس.
وقد كانت المنارة مسرح ناظر، ومطمح أمل حاضر، طالما جمعت أخدانا، وكانت لجياد الخواطر ميدانا.
حكى ابن ظافر أن ابن قلاقس والوجيه " أبا الحسن عليّا " بن الدرويُ طلعا المنارة. والوجيه يومئذ في عنفوان " شبابه " وصباه، وهبوب شماله في الجنوب وصَباه. وابن قلاقس مغرم به،مغرى بحبه، مكبٌّ على تهذيبه، مبالغ في تفضيض شعره وتذهيبه. ولم تكن وقت بينهما تلك الهناه. ولا استحكمت بينهما أسباب المهاجاة. فاقترح عليه ابن قلاقس أن يصف المنارة. فقال " بديها " :
وساميةِ الأرجاء تُهدي أخا السُّرى ... ضِياءً إذا ما حِندِسُ الليل أظلما
لبستُ بها بُرْداً من الأنس ضافياً ... فكان بتَذكار الأحبّة مُعْلَمَا
وقد ظلّلَتني من ذُراها بقبّة ... أُلاحظ فيها من صِحابيَ أنجما
فَخُيِّل أن البحر تحتي غَمَامةٌ ... وأنِّيَ قد خيَّمتُ في كَبِد السَّما
فاشتدّ سرور ابن قلاقس وفرحه، وقال يصفها ويمدحه:
ومنزلٍ جَاوَرَ الجوزْاء مرتقيا ... كأنَّما فيه للنَّسْرَيْن أوْكَارُ
راسِي القرارةِ سامِي الفرع في يده ... للنُّون والنُّور أخبارٌ وآثارُ
أطلقتُ فيه عِنان النظم فاطَّردتْ ... خيلٌ لها في بديع الشِّعرِ مِضمارُ
ولم يَدَعْ حَسَناً فيه أبو حَسَنٍ ... إلا تحكّم فيه كيف يختارُ
حلَّى المنارةَ لما حلّ ذِرْوتَها ... بجوهر الشعر بحرٌ منه زخَّارُ
ما زال يُذْكِي بها نار الذكاء إلى ... أن أصبحت عَلَماً في رأسه نارُ
ومن ذلك الملعب بها. وقد كان له عيد يجتمعون إليه فيه، في كل سنة، وتُرمى به كُرة. فمن وقعت في كُمُه، آل إليه المُلك. وحضره عمرو بن العاص في الجاهلية، ووقعت الكرة في كمّه. فقالوا: أخَرَمت العادة؟ قال فإن مثل هذا لا يُمَلَّك. وهذه واقعة مشهورة، لا حاجة إلى الإطالة بها.
ومكان هذا اللعب عمّر بنو حُلَيف القصر المنسوب إليهم.
وحكى ابن ظافر أن ابن قلاقس حضر يوما عند بني خليف " بظاهر الإسكندرية " في قصر رسا بناؤه وسما، وكاد يُمزِّق بمزاحمته أثواب السما، قد ارتدى جلابيب السحائب، ولاث عمائم الغمائم. وابتسمت ثنايا شُرُفاته، واتَّسمت بالحُسن حنايا عُرُفاته. وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها، وحَبَتْه السحائب بما اؤْتُمِنَتْ عليه من ودائع أمطارها. والرمل بفنائه قد نشر تبره في زبرجد كرومه، والجوّ قد بعث بذخائر الطيب إليه لطيمة نسيمه. والنخل قد أظهرت جواهرها، ونشرت غدائرها. والطلّ ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه، والبحر يرعد " غيظا " من عَبَث الرياح به. فسأله بعض الحضور أن يصف الموضع الذي تمت محاسنه، وغُبط به ساكنه. فجاشت لذلك لُجَجُ بحره، وألقَت إليه جواهره لترصيع لبَّة ذلك القصر ونحره، فقال:
قَصْرٌ بمَدْرَجَة النسيم تحدّثتْ ... فيه الرياضُ بسرّها المستورِ
خفَضَ الخورنقَ والسديرَ سمُوُّه ... وثنى قصور الرُّوم ذاتَ قُصورِ
لاث الغَمام عِمامةً مسْكيَّة ... وأقام في أرضٍ من الكافور
غنّى الربيعُ به محاسن وصفه ... فافتَرَّ عن نَوْرٍ يروق " ونُورِ "
فالدَّوْح يسحب حُلَّةً من سُنْدُس ... تزهو بلؤلؤ طلِّها الموفُور
والنخل كالغِيد الحِسان تقرّطتْ ... بسبائك المنظوم والمنثور
والرمل في حُبُك النسيم كأنما ... أبدى غُضُون سوالف المذعور
والبحر يرعُد متنه فكأنه ... درع تُسَنُّ بمَعْطِفيْ مقرور
وكأننا، والقصرُ يجمعُ شَمْلنا ... في الأفق، بين كواكِبٍ وبُدُور
وكذاك بني خُلَيف لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور
ومن ذلك مدينة لبدة. وهي خراب يَبَاب. بها صنمان عظمان من الرُّخام الأبيض، في زيّ امرأتين. وغالب بناء هذه المدينة " في جدرها وسقوفها وفرش دياراتها وأرضها " من الرخام الأبيض. وكان يجري إليها وادٍ يصب إلى البحر الشاميّ وترسى السفن البحرية إليه. وطفَّات الوادي ومجاري الماء مرصوفة بالرخام. فغلب عليها سافي الرمل، فقطع مدد الوادي، وأخلى أوطانها، وأجلى سُكَّانها. وهذه المدينة ببَرْقة، يقابل أطرابُلُس الغربية.
ومن ذلك المُعَلَّقة. وهي مدينة بإفريقية. على ساحل البحر الشاميّ على نحو ستة عشر ميلا من تونس. يقال إنها كانت لبنة الملك الذي قال الله، وقوله الحق، في حقه: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً). بها آثار عظيمة، وأحجار كبيرة، ومهاوٍ بعيدة، وأشراب عميقة. تُظْهر لمن تأملها العجب العُجاب، واللُّبّ اللباب. ومن عظيم ما حوته من الأحجار، أنه على طول المُدد، وتراخي عِنان الأبد، أنه ينقل من أحجارها إلى ما جاورها ولا ينقطع مددها، ولا يظهر نقص في كثرتها.
ومن ذلك مدينة شرشال. وهي مدينة تقابل مِلْيانةَ، بالغرب الأوسط، على ساحل البحر الشاميّ. يقال إنها كانت مدينة الملك الغاصب للسفن، المعنيِّة بقوله تعالى في سورة الكهف. وقد تقدّمت الآية عند ذكر ابنه هذا الملك، في ما قبلُ، وهي مدينة تزيد على الوصف، في أتساع الأفنية، وارتفاع الأبنية، وعظم القناطر المرفوعة، والأقبية المعقودة، والقواعد المشيدة، والجدر السميكة، مما يشهد له جُوَّال الأرض، وسُفَّار الآفاق، وسُمَّار الحديث، بأنه لا شبيه له في تخشيم بنائها، وتحسين صناعاتها.
ومن ذلك صخرة سبتَة. يقال إنها المعنية بقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ إِذْ آَوَيْنَا الصّخرةِ فإّني نَسَيْتُ الحُوْتَ). وهي مشهورة هناك.
ومن ذلك هيكل الزُّهَرَة. بالأندلس، في ذيل الجبل الآخذ بين طُلَيْطلة ووادي آش في شرقيه بشمال. مطلُّ البحر المحيط. وقد تقدّمت الإشارة إليه.
ومن ذلك باب الصُّفر. في شرقيّ الأندلس يفضل بينه وبين الأرض الكبيرة. ذات الألسن العديدة من سكان الشمال. عمل الباب على نقب كان فتح في جبل حيث خرجت من البحر الشامّي طريقا للأندلس إلى البر المتصل.
وقد رأيت أن أعقب ذكر هذه الآثار، بما هو مماثلها أو أبلغ في الاعتبار، وهو: قصر العبَّاس. وهو: قصر العَبَّاس. وهو بين سنجار ونصيبين. وهو وإن لم يكن في القدم بالنسبة ما ذكرناه. فإنه في العبرة كما أشرنا. حكى قاتضي القضاء أبو العباس أحمد بن خلكان في تاريخه قال: مر أبو الربيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب بقصر العباس بن عمرو الغنويّ وكان مطلاًّ على بساتين ومياه كثيرة. ومياه كثيره فتأمله، فإذا في حائط منه مكتوب:
يا قصر عَبَّاسَ بن عَمْ ... روٍ، كيف فارقك أبْنَ عَمْركْ؟
قد كنتَ تغال الدُّهور ... فكيف غالَك ريب دهْرِكْ؟
واهاً لعِزِّك بل لجُو ... دك بل لمجدك بل لفخرِكْ!
وكتبه عليّ بن عبد الله بن حمدان بن بخطة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
" وهذا هو الأمير سيف الدولة بن حمدان " .
وتحته مكتوب:
يا قصرُ، ضَعْضعك الزما ... نُ وحطَّ من عَلْياء فخرِكْ!
ومحا محاسن أسطُرٍ ... شَرُفت بهنّ مُتُون جُدْرِكْ!
واهاً لكاتبها الكري ... م وقدره المُوفيِ بقَدْرِكْ!
وكتبه الغضنفر بن الحسن بن عليّ بن حمدان بخطة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
" وهذا هو عدّة الدولة أبن الأمير ناصر الدولة أخى سيف الدولة " .
وتحته مكتوب:
يا قصرُ، ما فعل الأُولى ... ضُربَتْ قِبابُهُمُ بِعُقْركْ؟
أخْنى الزمانُ عليهِمُ ... وطَواهُمُ لطوِيلِ نَشْرك!
واهاً لقاصِرِ عُمْر مَن ... يختال فيك، وطُول عُمْرك!
" وكتبه المقلَّد بن المسيب بن رافع بخطه في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة " .
" وهذا هو والد قرواش " .
فكتب ولده قرواش تحته:
ياقَصْرُ ما صنعَ الكرا ... مُ الساكنُونَ قديمَ عَصْرِك؟
عاصَرْتَهم فبذَذْتَهم ... وشأَوْتهم طُرّاً بصبرك!


ولقد أثارَ تفجُّعِي ... يا ابن المسيَّب رَقْمُ سطرِك!
وعلمتُ أنِّي لاحِقٌ ... بك دائبٌ في قَفْو إثْرك!
وكتبه قرواش بن المقلد بن المسيب بخطه في سنة إحدى وأربعمائة.
وعزم على هدمه، وقال: هذا مشؤوم. ثم تركه.
وباني هذا القصر العباس بن عمرو الغنويّ من أهل تَلِّ سَيَّار، باني الرقة ورأس عين من حصن مَسْلَمة بن عبد الملك بن مروان. وكان يتولّى اليمامة والبحرين. وسيّره المعتضد لحرب القرامطة في عشرة آلاف فارس. فقُتل الجميع، وسلِم وحدَه.
" وعمرو بن الصفا حارب إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان في خمسين ألف فارس فأخذوه وسلم الباقون " .
وكذلك قصر البصرة. وكان قبل أن تُختطَّ البصرة منزلا تنزله الأكاسرة في متصيَّداتهم، وتخرج إليه الأساورة في متنزَّهاتهم. وتهدّم حتّى جدّده الحجاج، فعرف به، فقيل قصر الحجاج. وكان يعرف بقصر قُباذَ. وقال: قال أبو الغرّاف: قال الحجاج لجرير والفرزدق، وهو في قصره بالبصرة بالجزيرة: " إيتِياني في لباس آبائكما في الجاهلية " . فلبس الفرزدق الديباج والخزَّ، وقعد في قبَّة. وشور جرير دهاة بني يربوع وشيوخهم، فقالوا: " ما لبس آبائنا إلا الحديد " . فلبس درعا وتقلد سيفا وتأبط رُمْحا وركب فرسا، وأقبل في أربعين من بني يربوع. وجاء الفرزدق في هيئته. فتقاولا. فقال جرير:
لَبِست سلاحِي ، والفَرزْدق لُعبةٌ ... عليه وِشاحَا حَلْيهِ وخلاخِلُهْ
أَعِدّوا مع الخَزِّ المَلابَ؛ فإنّما ... جريرٌ لكم بعلٌ وأنتم حلائلُهُ!
ثم رجعا. فوقف جرير في معرّة بني حصن، ووقف الفرزدق بالمِربَد. وقد أبرَّ جرير عليه.
وكذلك قصر الكوفة. وقد هُدم، فلم تبق منه باقية.
وله حكاية مشهورة. ولهذا ذكرناه.
قال عبد الملك بن عُمير: كنت مع عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة، حين جيء برأس مُصْعَب بن الزبير. فوُضِع بين يديه، فرآني قد ارتعدتُ فقال لي: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله، يا أمير المؤمنين! كنت بهذا القصر، في هذا الموضع، مع عبيد الله ابن زياد، فرأيت رأس الحسين بين يديه. ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد، فرأيت رأس ابن زياد بين يديه. ثم كنت فيه مع مُصْعَب بن الزبير. فرأيت رأس المختار بين يديه. ثم ها أنا فيه معك، ورأس مصعب بين يديك. فقام عبد الملك من مقامه ذلك. وأمر بهدم ذلك الطاق.
ولمناسبة هاتين الواقعتين، ذكرنا هذين القصرين، لما فيهما من العبرة لمن تفكر. فسبحان الله الباقي، وكل شيء هالك؛ الدائم، وما سواه ليس كذلك! ومنها قصر هِرَقْل. وهو بالشَّرَف الأعلى الشماليّ. ويُعرف في زماننا بقصر شمس الملوك. ولم يبق منه اليوم إلا الجوسق والحمام. والجوسق الآن خانقاه للفقراء. ولم يزل منزلا للملوك ومنزها لأهل البلد، لإشرافه على نهر بَرَدَى والوادي. ونزله السلطان صلاح الدين.
وحكى ابن ظافر قال: دخل أبو خالد بن صقير القيسرانيّ على الأمير تاج الملوك أبي سعيد نور بخت، أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وبين يديه بركة فسيحة الِفناء، صحيحة البناء، قد راق ماؤها وصفا، وجرّ النسيم عليها مارقّ من أذياله وضفا. وهو تارة يرشُف رضابها، ويجعِّد ثيابها، وتارة يسكبها مِبْردا، ويحبكها مسْردا. فأمره بوصفها، فقال:
أَوَ مَا تَرى طَرَبَ النسي ... م إلى الغدير إذا تحَّركْ؟
بَلْ لو رأيتَ الماء يل ... عب في جوانبه، لسرَّكْ!
وإذا الصَّبا هبّت علي ... ه، أتاك في ثوبٍ مُفَرَّكْ.
ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو القاسم عليّ بن عساكر، في ترجمة إسماعيل بن أبي هاشم. قال: قرأت بخط أبي الحسن رشإِ بن نظيف، وأنبأنيه أبو القاسم عليّ إبراهيم وأبو الوحش سبيع بن المسلم، عنه: أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن الحسن ابن عليّ بن محمد بن يحيى الدقاق: حدثني أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن سلامة الطحاويّ: حدثنا إسماعيل بن أبي هاشم، قال: قرأت على قصرٍ بدمشق لبنى أُمَيَّة:
ليتَ شِعْري! ما حالُ أهلك يا قَصْ ... رُ وأيْنَ الذين عالَوْا بِنَا كا؟
ما لأرْبابِك الجبابِرَةِ الأم ... لاك شادُوك ثم حَلُّوا سِوَاكا؟
أَلِزُهْدٍ يا قصْرُ فيك تحامَوْ ... ك ألا تُبْتَنى ولستَ هُناكا؟
ليت شِعْري! وليتني كنتُ أدرِي! ... ما دهاهُمْ، يا قصر، ثُمَّ دهاكا؟
ومن خلفه: هذا جواب عنهم:
أيُّها السائلُ المفَكِّرُ فيهم! ... ما إلى ذاك السُّؤال " قل لي " دَعَاكا؟
أوَ ما تعْرِف المَنُونَ إذا حلّ ... ت دِيَارا فلن تُراعِي هَلاَكا!
إنّ في نفسك الضعيفةِ شُغْلا ... فاعتَبِر وامض فالمَنُون وَرَاكا!
قال: وحدثني أبو الحسن بن الطحاويّ: حدثني ابن أبي هاشم قال: قرأت بحُلوان " مصر " لقصر لعبد العزيز بن مروان:
أيْنَ ربُّ القَصْر الذي شيَّد القص ... ر، وأين العَبِيدُ والأجنادُ؟
أيْن تلكَ الجُموعُ والأمر والنه ... يُ وأعوانُهم وذاك السَّوادُ؟
أين عَبدُ العزيز، أيْنَ ابن مَروا ... نَ، وأيْنَ الحُماةُ والأولادُ؟
مالنا لا نُحِسُّهم ونَرَاهم! ... أتُرى، ما الذي دهاهم، فبادُوا؟
قال: وقرأت تحته: هذا جواب عنهم:
أيُّها السائلُ المُفَكِّر فيهم: ... كيْفَ بادَتْ جُمُوعُهم والسَّوادُ،
ثم في القَصْر والذين بَنَوْه ... أسَفاً، حين فارقوه وبادُوا.
أيْنَ كِسْرى وتُبَّعٌ قبل مَرْوا ... نَ ومِن قبلِ تُبَّعٍ شَدّادُ.
أيْنَ نُمْرودُ؟ أيْنَ فِرْعونُ مُوسى؟ ... أيْنَ مِن قبلهم ثمودُ وعادُ؟
كلُّهمْ في التراب أضحى رَهِينا ... حينَ لم تُغْنِ عنهم الأجْنَادُ!
إنّ في الموت يا أخي لك شُغْلا ... عن سِواه، والموَقْف المِيعادُ!
ومما ينسحب على ذيل ذلك، أنني نزلت في مسجد بقُنَيَّة السلاّر، من اليرموك بالشام " وكانت قديما منازل غسَّان، ثم نزلها قوم من آل يَسَار، ثم صارت إلى بني السلاَّر، وكانوا أمراء نبلاء، وسادة أجلاء، ثم أبادهم الحدثان " . فقرأت على بعض جدران المسجد:
أرأيتَ أيُّ منازلٍ وديارِ ... أمسَتْ خَلاءً مِنْ بني السَّلاَّرِ
العامرين مساجداً لإِلههم ... الغامرين ندىً ذَوِي الإعسارِ
وقد كتب آخر تحتها:
قلْبي المَشُوقُ إلى بَنِي السَّلاَّر ... أبداً يُقلَّبُ فوق جَذوة نارِ
قومٌ لحُسْن صَنِيعهم أحببتُهم ... حُبِّي لآل محمدِ الأطْهارِ
فكتبت تحتها:
لا تنكرنَّ تَنكُّر الآثار ... وتغيُّر الأوْطانِ والأوطار
يا مَن تعجَّب للقُنَيَّة إذْ خَلَتْ ... من ساكنيها من بني السَّلاَّر
لا تعْجَبنّ فهم سُلاَلة آدم ... أُكْل المَنُون وعُرْضةُ الأقدار!
إنْ تخلُ منهم فهي من قبلٍ خلَتْ ... من آل غَسَّانٍ وآل يَسَار
لا تعجَبنّ من الفِراق فإنَّهُ ... ما هذه الدُّنْيا بدارِ قَرار!
جاؤُوا على آثارِ غيرِهُم وقد ... ذهَبُوا كما ذهَبُوا على الآثار!
وسَبِيلُنا لمَّا أتيْنا بعْدَهم ... كسبيلِهم في الوِرْد والإصْدارِ!
كلُّ الذي حازُوه عارِيَةٌ ولا ... عَجَبٌ إذا ردّ المُعارُ عَوَارِي!
قلت: ومن هذا النوع أنني مررت بعد حين من الدهر بمعاهد كنت آلفها أوّل عمري، والشيب ما عارض عارضي ولا عذري؛ وعقد الاجتماع منظوم، وأهلها أهلَّة ونجوم. فوجدتها خالية بعد أهلها، ظامية بعد عَلِّها ونهلها؛ وقد أصبحت عارية من ريفها وظلِّها، عادمة لكثرها وقُلِّها. وقد كتب عليها بعض من ولِع:
هذه دارُهمْ وماتُوا جَميعا ... هكذا هكذا يُعادِي الزمانُ!
فحرّكني هذا البيت، لسكان ذلك البيت، وأيامنا نحن وساكنه الميت، وتذكرت تلك الأيام الماضية، والعيشة الراضية، ثم ما غرت الحوادث، وسدّت من الأبواب والبواعث، فقلت ارتجالا:
أين دهْرٌ مضى لنا أول العُمْ ... ر وأينَ الزمانُ والإخْوانُ!
حَدَثَتْ بعدَنا عليهم أمورٌ! ... هاتِ شيئاً ما اغتَالَهُ الحَدَثانُ؟
ذهب الكُلُّ في زمانٍ تقضّى ... كلُّ شيءٍ يأتي عليه الزمانُ!
ما تَبَقّى لنا من الكُلِّ إلاَّ ... قولُنا للتَّذْكار: كُنَّا وكانُوا!
ثم أمرت من كتبها تحت الباب وانصرفت باكيا، وشكوت لو أنصف الدهر شاكيا.

_____________________________________

الكتاب : مسالك الأبصار في ممالك الأمصار
المؤلف : ابن فضل الله العمري (المتوفى سنة: 749هـ)
مصدر الكتاب : موقع الوراق
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق