بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 2 أبريل 2018

مختصر تاريخ الجزائر للإمام محمد البشير الإبراهيمي




بين يدي الموضوع


____





الجزائر- أيها الشباب- قطعة ثمينة من وطنكم العربي الأكبر وجزء قيّم من تلك المملكة العزيزة التي شادها أسلافكم على الإيمان،

وساسوها بالإنصاف، وحاطوها بالعدل، وعمروها بالعلم والخلق، ولم يكن فتحهم لها فتحًا ممّا يعرفه العسكريون في جميع الأزمنة،

ولا استعمارًا يسود فريق على فريق، ويذلّ فيه صاحب الدار لعزة الفاتح، وإنما كان فتحًا للأذهان، وغرسًا للدين والإيمان،

ونشرًا للعدل والإحسان، وإعزازًا للسكّان، وإنقاذًا لهم من عتو الرومان.


ولكن هذه القطعة وجارتيها تونس ومراكش مجهولات عندكم، لم يعرفكم بهن الآباء ولا المدارس ولا الكتب ولا الكتاب،

فإذا أسمعوكم عنهن شيئًا فالشيء الذي ينفر ولا يحبّب، ويزهد ولا يغري، أو الكلام الذي يردّده عنها الاستعمار،

يخدّر به الشواعر، ويبعد به الأخ عن أخيه، وليس الذنب في جهلكم بها ذنبكم، وإنما هو ذنب محيطكم العام،

وقد عدت على هذه القطعة من وطنكم العوادي، منذ قرن وربع، فما تحرّك لنصرتها ساكن في هذا الشرق،

ولا فهم أبناء العمومة فيه أن احتلال الجزائر من دولة أجنبية نذير من النذر بانتثار السلك، وضياع الملك،

لأن الأحوال السيّئة التي جرت ذلك الاحتلال كانت متشابهة والسلطة العثمانية الجافية الغليظة كانت تشمل شرق العرب وغربهم.


والجزائريون إخوانكم الأقربون فكلّهم عرب وكلّهم مسلمون، والأخوة في حقيقتها العليا نصرة وتعاون، لا غفلة وتهاون،

فأين نحن من ثمرات هذه الأخوة؟ ... قد ذللنا حتى ذلّت العقائد في نفوسنا،

والكلمات في ألسنتنا، فلم تبق للعقائد في نفوسنا تلك القوّة التي تتصرّف في الإرادات،

ولم تبق للكلمات في ألسنتنا تلك الحرارة التي كانت تحرّك الأعمال.


فتن الاستعمار الغربي بعضنا عن بعض ثم فتننا عن أنفسنا، ورمانا بمقوّماته ومنوّماته فأصمانا ...

رمانا بمقوّماته من قوة وعلم وصناعة، وبمنوّماته من كل ما يضعنا ويرفعه، ويضرّنا وينفعه، وراضنا على هذا جيلًا بعد جيل،

حتى ماتت فينا نزعة السيادة والقيادة، وأصبحنا نعتقد أننا خلقنا من طينة غير طينته،

وأن عقولنا صيغت من جوهر غير جوهره، فاستخفّ بنا كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه،

وأمكناه من نفوسنا فقادها بخطام الشهوات كما يحب إلى حيث يحب، ومن عقولنا فاستهواها، ومن رقابنا فاستذلّها،

ومن أوطاننا فاستغلّها، ومن وحدتنا فمزّقها، ولم نصحُ من ذلك التنويم - إن صحّ أننا صحونا- إلا والأخ متنكّر لأخيه،

والحكومات متعددة متنافرة، والشعوب كثرة، ولكنها كغثاء السيل، تعبد أصنام البشر، بعد أن أنقذها الإسلام من أصنام الحجر،

ملك الجهل عليها أمرها، فهي لا تذكر ماضيها، ولا تحفل بحاضرها ولا تفكّر في مستقبلها،

فهي تعيش بلا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، وهي لذلك تصحب الدنيا بلا أمل في المستقبل، ولا صلة بالماضي.

أما حاضرها فهو كحاضر الغنم، يطرقها الذئب فترتاع ويغيب عنها فترتع.


الجزائر- يا شباب العرب- عربية الأنساب واللسان، شرقية النزعات والنفحات، مسلمة الدين والآداب،

كانت وما زالت كذلك من يوم طلعت عليها خيول عقبة والغزاة الفاتحين من أجدادكم،

ومن يوم غطّت سهولها أبناء هلال بن عامر بن صعصعة، آتية من صعيد مصر، في أواسط المائة الخامسة،

وكان لبني هلال في تلك الإغارة الكبرى قصد، وكان لله من ورائها حكمة.

كان بنو هلال يريدون من تلك الإغارة على افريقيا الشمالية مراعي واسعة لإبلهم وشائهم، وسهولًا خصبة لتنقلهم وانتجاعهم،

وكان لله في تلك الغارة حكمة وهي تعريب هذه الأقاليم التي استقامت على الإسلام أفئدتها، ولم تستقم على العربيه ألسنتها،

والفاتحون الأولون فتحوا الأذهان لتعاليم الإسلام، والإسلام يستتبع لغته، فحيثما كان كانت،

ولكنهم- لقلّتهم- لم يستطيعوا تعريب هذه الأوطان الواسعة، ولا كان زمانهم يتّسع لذلك، وإنما يتّسع لنشر الإسلام وإقامة حدوده،

\وكتابة علومه، فبهذه اللغة ازدهرت العلوم الإسلامية في حواضر المغرب وأمصاره، وبها دوّنت أصولها،

أما جماهير العامة فلم يعلقوا منها إلا بما تؤدى به شعائر الإسلام،

فلما جاءت الغارة الهلالية كانت هي المعرّبة الحقيقية للشمال الأفريقي وجباله وقراه وخيامه.


فمن حق الجزائر عليكم أن تعرفوها وتصلوا رحمها وأن تدرسوا تاريخها الذي هو جزء من تاريخكم،

وأن تعدوا محنتها محنتكم، وقضيتها جزءًا من قضيتكم، وإذا كانت قضايا بلدانكم الخاصة عقدًا تحتاج إلى الحل،

فمن الخطإ أن تعتقدوا أن كل قضية تحلّ وحدها، فهذا طمع في محال، وتعلّق بخيال،

فاجعلوها قضية واحدة تسهل عليكم تصفية الحساب، والقوا عدوّكم جميعًا، تلقوا أصمّهم سميعًا.


خدرنا الغرب بالوطنيات الضيّقة فأصبح كل فريق منا قانعًا بجحر الضب يناضل عنه بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزّقت الأطراف أن يحفظ القلب.


أصبحنا والمصري يتغنّى بمصر، واللبناني لا يرى إلا جبله، ودمشق تفخر بالمجد الغابر الذي شاده فيها مروان وعبد الملك، وبغداد مزهوّة بعهد الرشيد، من غير أن تطمح إلى أعمال الرشيد.


خدّرنا الغرب بهذا ليقسم الخبزة إلى لقم فيسهل عليه مضغها وازدرادها ثم هضمها، وقد حقّق غايته في الأولى والثانية ونحن معه في عملية الهضم، فإما أن نكون مغصًا في أمعائه، وعلة لموته، وإما أن يهضمنا فنستحيل غذاء له ومزيدًا في قوّته.


أغرانا الغرب بنبذ الجنسيات واعتناق المبادئ في الوقت الذي يدين فيه هو بالجنسيات ويكفر بالمبادئ. فصهيون قائمة على العنصرية الإسرائيلية، والهتلرية بالأمس قائمة على العنصرية الجرمانية، وروسيا اليوم رغمًا عما تزعمه من النزعة العالمية قائمة على العنصرية السلافية، والانكليز على السكسونية، وأمريكا كشكول جمعته القوانين المصلحية والاجتماع المادي، وسيأتي يوم ينتشر فيه الحقد، فينتثر ذلك العقد.


وليس العرب دون هذه الأجناس استعدادًا ولا عددًا لو دانوا بهذه العقيدة، ودعوا إلى هذه الدعوة، وأنا بصفتي عالمًا مُسْلِمًا لا أقول بالعصبيات الجنسية، والوطنيات الضيّقة، وإنما أدعو إلى الوطنية الواسعة، والعقيدة الروحية الجامعة، فإذا تمّت ورسخت أصولها في النفوس فإنها لا تنافي التمسّك بالجنسيات من غير تعصّب، وذلك هو التحقيق لسنّة الله الذي جعل الناس شعوبًا وقبائل ليتعارفوا.


أيها الشباب:

نقتصد في الوقت لنوفّر للموضوع المطلوب بعض حقّه وحقّكم فيه، ومن الخير- قبل مسّ صميمه- أن نعرّفكم بالجزائر منذ ظلّلها الإسلام برحمته، ونعرض عليكم- في إيجاز- التقلبات السياسية والاجتماعية التي عرضت لها من لدن الفتح، ونلمح إلى الدول التي نشأت فيها ومن صميمها، وإلى صلتها بجارتيها تونس ومراكش، وإلى عواصم الحكم والعلم فيها، وإلى أقسامها الطبيعية، وإلى تحديداتها الإدارية في العهدين التركي والفرنسي، وإلى ما يفيدكم ويقوّي معلوماتكم عنها مما يجرّه الحديث المرتجل، ثم نمرّ بكم على تاريخ الاحتلال الفرنسي حتى نخرج إلى صميم الموضوع.


كانت كلمة الجزائر التي تطلق اليوم على عاصمة القطر، ثم على القطر كله تستعمل في أوائل ما أطلقت- مضافة، فيُقال "جزائر بني مزغنان"، وبنو مزغنان قبيلة بربرية تعمر ساحل البحر، حيث المدينة الآن، وكانت في هذا الموضع من شواطئ البحر الأبيض صخور بارزة في الماء يصطنعها الصيّادون لصيد السمك، ولسكناهم في السنة أو في معظمها، فيطلق عليها الناس لفظ "جزائر" لتعدّدها وتقاربها وإحاطة الماء بها، ثم هجر المضاف إليه تخفيفًا في الاستعمال، وشاعت كلمة الجزائر المجرّدة علمًا على المدينة التي غطّت الساحل الجميل، واتّسع عمرانها حتى غطّى الجبل الذي تستند إليه. وهي تقع بموضع مدينة قديمة اسمها "إكوسيوم"، ولم تتخذ الجزائر عاصمة لهذا القطر الواسع إلا في العهد التركي.


فتح العرب لأفريقيا الشمالية:

كانت كلمة "إفريقية" تطلق لأوائل الفتح الإسلامي العربي على قطعة صغيرة من هذه القارة العظيمة، هي موقع المملكة التونسية اليوم تقريبًا، أما إطلاقها على القارة كلها فهو استعمال حدث بعد ذلك. ولما شاع هذا الاستعمال الشامل احتيج إلى تميّز الأجزاء بالنسبة إلى الجهات فقيل شمال أفريقيا، كما قيل جنوب أفريقيا، فكانت الجزائر جزءًا من هذا الشمال، ويطلق إخواننا في الشرق على هذا اسم المغرب، ويقسمونه إلى ثلاثة أقاليم: المغرب الأدنى وهو تونس، والمغرب الأوسط وهو الجزائر، والمغرب الأقصى وهو مراكش.


وقد فتح العرب مصر ونشروا فيها الإسلام، وكانت مصر هي قاعدة الفتح لأفريقيا الشمالية، وكان فتح مصر في خلافة عمر بن الخطّاب، ولكن لم يجاوز الفتح مصر إلى المغرب إلا في خلافة عثمان بن عفّان.


ففي سنة سبعة وعشرين للهجرة أمر عثمان واليه على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بغزو أفريقية للمعنى الذي يريده الإسلام من الغزو، وهو نشر الدعوة الإسلامية، فغزاها ابن أبي سرح في عشرين ألفًا، فيهم جماعة من وجوه الصحابة، وفتح في هذه الغزوة مدينة "سبيطلة" الرومانية، والبسائط المحيطة بها، وما زالت هذه المدينة معروفة باسمها وآثارها إلى الآن، وهي واقعة في الجنوب المائل إلى الشرق من المملكة التونسية، وكانت هي المعتصم الباقي لسلطان الرومان، وهي المأوى المنيع لبقايا الرومانيين.


وبعد سنة ونيّف من الفتح رجع ابن أبي سرح إلى مصر بعد عقد صلح مع السبيطليين لمصلحة راجحة رآها.


وفي خلافة معاوية وجّه جيشًا على طريق مصر ففتح افريقية من جديد بقيادة معاوية بن حديج الكندي، والي مصر، ففتح سبيطلة للمرة الثانية، ووسّع رقعة الفتح إلى أبعد مما كان في الفتح الأول، وغزا صقلية من طريق البحر ومكّن للإسلام ولنفوذه في القطعة المفتوحة من افريقية، ثم ولى الخليفة على فتوح افريقية عقبة ابن نافع الفهري الفاتح العظيم، وأمره أن يتوسّع في الفتوحات وفي نشر الإسلام وتثبيت سلطانه، فرأى هذا القائد الموفّق أن يختط مدينة مستقلّة تكون عاصمة للمسلمين، وعاصمة لافريقيا الإسلامية، ومركز قوة للفتوحات المستأنفة، فأسّس مدينة القيروان الشهيرة الباقية إلى الآن، وكان تأسيسها عام خمسين للهجرة، المقارنة لسنة ستمائة وسبعين للميلاد، وجاء بعد عقبة مسلمة بن مخلد والي مصر إذ ذاك، فاستعمل على افريقية مولاه أبا المهاجر دينارًا فتوغّل في الفتوحات ونشر الإسلام إلى أن بلغ تلمسان، وهي آخر حدود القطر الجزائري اليوم مما يلي المغرب الأقصى، فالإسلام إنما انتشر في الجزائر على يد أبي المهاجر دينار، وتمّ تمامه في ولاية عقبة بن نافع الثانية، التي جاس فيها أقطار المغرب إلى أن بلغ طنجة، وقال كلمته المعروفة. ولما رجع من هذه المغزاة البعيدة المدى والأثر قدر له أن يموت شهيدًا في معركة بينه وبين البربر المرتدين بجبل أوراس، فتعرّضوا له في السفوح الصحراوية لهذا الجبل، واستشهد هو وأصحابه ودفن في محل معروف باسمه إلى الآن، وأراد الله لثرى الجزائر أن يضمّ رفات هذا الفاتح الكبير، ليبقى اسمه منارًا يسترشد بنوره أبناء هذا الوطن كلما دجت الأحداث فيه.

وإلى هؤلاء الأبطال العظماء الذين جمعوا بين قيادة الكتائب وقيادة الأرواح، يرجع الفضل في تثبيت الإسلام وإرساء قواعده بافريقيا الشمالية، فلم تتزعزع له قاعدة، ولم ينقض له جدار من ذلك اليوم إلى الآن، على رغم الفورات المعادية له، المنبعثة من الضفة الشمالية للبحر الأبيض.

وشأن الفتح الإسلامي لأفريقية على يد هؤلاء الأبطال كله عجيب يشبه الخوارق، فقد تمّ في ثلاث سنوات تقريبًا وبسط الإسلام ظلّه على تلك الأقطار الواسعة ذات الأمم التي لا يحصيها إلا الله، من حدود ليبيا إلى السوس الأقصى على شواطئ المحيط الأطلسي، مع بعد الشقة ووعورة المسالك وقلة عدد المسلمين، وكثرة أعداء دعوتهم، وجهل الغزاة بمعالم الوطن ومجاهله، وبعادات أهله ولغاتهم، ولكنه الإيمان والإخلاص فيه وصدق العزيمة، وإيثار الحق، ولم تزل هذه الغرائب التي صاحبت الفتح الإسلامي في الشرق والغرب مثارًا لدهشة المؤرّخين من المسلمين وغيرهم، وهم مجمعون على أنها حق وواقع، وإن كانوا يختلفون في تعليلها.


وجاء بعد عقبة نفر يعدّون من بناة التاريخ الإسلامي بالشمال الافريقي: زهير بن قيس البلوي، وحسّان بن النعمان الغسّاني الذي تمّ على يديه فتح البلدان وفتح العقول، وجمع بين المقدرة الحربية والدهاء السياسي والملكة الإدارية، فكان هو الممهّد لهذه المملكة الواسعة التي كانت قاعدتها القيروان، وهو الذي خطا الخطوة الثانية التي تكون بعد الفتوحات الحربية فأقرّ الأمن، ومكّن للعمران والاستثمار، فنشط الصنائع والعلوم، وأفاض عدل الإسلام وإحسانه، فنقل الناس في إقبالهم على هذا الدين من عامل الرهبة إلى عامل الرغبة، إذ رأى البربر أن ثمرات هذا الفتح عائدة عليهم، ورمى ببصره إلى ما وراء البحر فنبتت في أيامه فكرة غزو الأندلس الذي حققه بعده موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد الليثي، عام اثنين وتسعين للهجرة.


والجزائر لم يتبدّل موضعها الجغرافي من الشمال الأفريقي، وإنما تبدّلت أوضاعها السياسية، والحق أنه ليس للجزائر بحدودها الحاضرة وحدة جغرافية، وإنما هي جزء من وحدة جغرافية كبرى، هي مجموع أقطار الشمال الأفريقي، فهذه الأقطار- وإن اتسعت آفاقها- مكوّنة تكوينًا جغرافيًا متّحد الخصائص الطبيعية، فالأطلس يربطها ربطًا محكمًا من مبدئه على تخوم ليبيا شرقًا إلى منقطعه في المحيط الأطلسى غربًا، والصحراء من ورائه خط واحد مسامت لسلاسل الأطلس متشابه السمات والنبات والحيوان، وسواحل البحر الأبيض متّحدة الخصائص إلى مضيق طارق، يُضاف إلى ذلك اتحاد سحن الأناسي ولهجاتهم وعواطفهم وعاداتهم، وإنما ينفرد الجزء الغربي وهو معظم مراكش بوقوع سواحله على المحيط مغربة أولًا، وذاهبة إلى الجنوب آخرًا.


وكانت هذه الأجزاء كلها تابعة في إدارتها للقيروان، خاضعة لسلطان الخلافة الأموية، ثم لسلطان الخلافة العبّاسية، إلى أن قامت الدعوة الإدريسية العلوية مناهضة للخلافة العبّاسية، فاقتطعت مراكش من هذا الوطن الواسع الموحّد.


وبقيت القيروان تتلفى الولاة من الخلفاء بالشرق، إلى أن وُلّيها ابراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي، فبدأت العلائق تتراخى بين القيروان وبين دار الخلافة في بغداد، وكانت ولايته في حدود مائة وأربع وثمانين للهجرة.


كانت الجزائر بحدودها الحالية تابعة للقيروان في هذه المدة كلها إلا ما كان من اقتطاع سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر لتلمسان وأعمالها، وهو مناهض للخلافة العبّاسية، لأنه- كأخيه إدريس - قائم بالدعوة العلوية، والعلويون شرقيون فلم تخرج الإمارات التي أقاموها عن كونها عربية، وكذلك الأغالبة الذين توارثوا إمرة القيروان، لم تخرج إمارتهم عن كونها شرقية عربية.


حقبة المد والجزر للجزائر بين تونس ومراكش:

أول عاصمة للمملكة العربية الإسلامية التابعة للدولتين الأموية والعبّاسية هي مدينة القيروان، وهي واقعة في القطر التونسي، أو ما يسمّى "المغرب الأدنى"، ثم خلفتها مدينة تونس بعد قيامها في ولاية عبد الله بن الحبحاب، في العشر الأول من القرن الثاني، ثم نشأت عاصمة أخرى وهي مدينة فاس التي اختطها إدريس الأصغر، وموقعها في القطر المراكشي الذي اقتطعه إدريس الأكبر من الممالك العبّاسية، وأقام فيه الدعوة العلوية المضادة للعبّاسيين، وقد رسخت شهرة هاتين العاصمتين في الأذهان، مقرونة بذكريات مكينة محترمة. فالقيروان أثر من آثار الفاتح العظيم عقبة بن نافع الفهري الصحابي الجليل، وهي مركز الفتوحات الإسلامية التي انتهت إلى الأندلس، فاحترامها في النفوس شعبة من احترام الدين، ولا تزال في نفوس الناس بقايا من ذلك الاحترام، وفاس مختط إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنّى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، فاحترامها في النفوس شعبة من احترام آل البيت وسلالة الزهراء، ولما انقرضت دولة الأدارسة خلفت فاسًا مدينة مراكش اللمتونية، فكانت الدول المحدثة بعد ذلك تتعاقب على العاصمتين.

لذلك كان اتجاه العصبيات التي تقيم الدول وتقعدها مصولًا دائمًا إلى هاتين العاصمتين التاريخيتين: القيروان وفاس وإلى موقعهما.

ولهذا السبب كان القطر الجزائري، (وهو المغرب الأوسط) في أغلب عهوده الإسلامية، موزّعًا بين مراكش وبين تونس، فكان قسمه الغربي جزءًا من مملكة مراكش، في أيام المرابطين اللمتونيين، وفي أيام الموحّدين، وفي بعض أيام المرينيين، وقد تقوى بعض هذه الدول التي ذكرناها فتضمّ القطر الجزائري كله أو معظمه إلى مراكش، وقد تضم معه تونس، كما وقع في أيام يوسف بن تاشفين مؤسس الدولة اللمتونية، وفي أيام عبد المؤمن بن علي مؤسّس الدولة الموحّدية، وهو بالاعتبار الجغرافي جزائري الأصل والمولد، وفي أيام السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، موسع المملكة المرينية إلى حدود طرابلس. وكان القسم الشرقي من الجزائر يتبع- في بعض الفترات التاريخية- المملكة التونسية، كما وقع في عهد الأغالبة، وفي صدر الدولة الفاطمية، ثم في أيام الدولة الحفصية التي هي فرع من الدولة الموحّدية، استقلّت عن أصلها بتونس، ولما انقرض ذلك الأصل عاشت بعده إلى العهد التركي.


أما البربر سكّان الوطن الأصليون بالجزائر فكانوا خاضعين للحكم الإسلامي والسلطان العربي خضوعًا دينيًا، كأنهم يرون أن الإسلام علم وعمل، والعرب أساتذته ومعلّموه، والخضوع الديني يقتضي السمع والطاعة، ويقضي على النزوات النفسية والأهواء والشهوات والعصبية والفوضى. ولكن تلك النزوات تحرّكت فيهم بعد قليل. وراجعتهم طباعهم الأصلية في الفوضى والعصبيات القبلية، فانتقضوا على الولاة والدول، وأعانهم على ذلك اضطراب حبالها في الداخل والخارج، وتعاقب المجاعات وفساد الولاة، وأعذهم ذلك كله إلى إنشاء إمارات صغيرة ودول كبيرة، يقتطعونها من هذا الجسم الكبير، وكانت دولهم لا تقتصر عما أسّسه إخوانهم برابرة المغرب الأقصى في تناهي الحضارة واستبحار العمران وازدهار العلوم والفنون والصنائع، والبراعة في تخطيط المدن وتمصير الأمصار. ويحسن أن نمرّ بكم قبل الدخول في الموضوع بالدول التي قامت في جهات من صميم القطر الجزائري حتى تتلاقى وتتّصل حلقات تاريخه.


الدولة الرستمية:

نشأت هذه الدولة عام 144 هجرية، وانقرضت عام 296 فكان عمرها 150 عامًا، وهي أول دولة جزائرية قامت في صميم القطر الجزائري من أهله، بالمعنى الجغرافي العصري للجزائر، وقد قامت على نزعة مذهبية انتقلت من المشرق إلى المغرب، وانتشرت أول ما انتشرت في القبائل ذات الشوكة، حوالي طنجة البعيدة عن منال ولاة القيروان، ثم انتشرت في المغارب الثلاثة على أيدي دعاة متشددين، وهذا المذهب لا يرى الخضوع لسلطة عباسية ولا علوية، ولا يرى صحة الإرث لبيت ولا لقبيل في الخلافة الإسلامية، بل يرى الخلافة للأصلح، ويرى استعمال السيف لإقرار هذا المبدإ الذي هو جزء من العقيدة فيه، فاغتنم دعاة هذا المذهب ومعتنقوه فرصة اضطراب الأمر في القيروان، واختلاف الولاة عليه وتوارث آل عقبة بن نافع للإمارة وانهماكهم في حروب صقلية- فلم يضيعوا هذه الفرصة- واستولى أبو الخطاب بن السمح على القيروان، وهو أحد دعاتهم في السلم وقادتهم في الحرب، وهو داعية عربي لمذهب الخوارج، ومعه قائدان مشهوران من قوادهم: أبو حاتم يعقوب بن حبيب وعبد الرحمن ابن رستم، ثم رجعوا عن القيروان إلى حيث الشوكة والعصبية لنحلتهم في صميم الجزائر، واختاروا بقعة في أحضان سلسلة الأطلس لتشييد عاصمة لمملكتهم الجديدة فأنشأوا مدينة (تيهرت) في القسم الجنوبي الغربي للجزائر، ولا تزال بعض آثار هذه المدينة باقية إلى الآن، وقد أنشأ الاستعمار الفرنسي مدينة بالقرب منها وسمّاها باسمها مع تحريف قليل في النطق والكتابة، فهم يكتبونها Tiaret وينطقونها كذلك.


وعبد الرحمن بن رستم الذي نسبت إليه الدولة وتسلسلت إمارتها في أعقابه رجل فارسي الأصل، ولكن المذهب هو الذي هيأ له مبايعة البربر على السمع والطاعة بعد كفاءته الشخصية وشواهد أعماله، ولا ندري كيف خالفوا أصلهم في استخلاف الأصلح، فأورثوا الإمارة بني عبد الرحمن بن رستم، وإن عرف كثير منهم بصدق التدين وإفاضة العدل في الأحكام، وإقامة الحدود الشرعية، وتشجيع الفنون والعلوم والآداب، والمحافظة على الفضائل الإسلامية.


واتسعت رقعة هذه الدولة من شاطئ البحر الأبيض المتوسط، حيث مدينة (تنس) وهي الثغر الذي يصلها بالأندلس، إلى الصحراء حيث مدينة وارجلان في جنوب مقاطعة قسنطينة، ولعلهم كانوا يتصلون من طريق هذه الصحراء بأتباع مذهبهم في طرابلس، ولا تزال بقايا المذهب الأباضي إلى الآن في جنوب مقاطعة الجزائر، وفي جبل نفوسة بطرابلس.



الدولة الصنهاجية بجبل تيطري:

وهذه الدولة أيضًا جزائرية صميمة، نشأت عام 324 هجرية، وانقرضت عام 547 على يد الموحدين، ومؤسّسها زيري بن مناد الصنهاجي أحد فروع الأسرة الباديسية الصنهاجية التي استخلفها الفاطميون على مملكة القيروان حينما فتحوا مصر ونقلوا كرسي خلافتهم إليها، ثم استقل الباديسيون بعد ذلك بالقيروان عندما آنسوا ضعف الدولة الفاطمية في الشرق.

رأى زيري أن ينتبذ مكانًا قصيًا عن القيروان لأوائل قيام الدولة الفاطمية ورسوخ دعوتها وكثرة أنصارها واستقرارها بالمهدية العاصمة التي أسسها المهدي أول الخلفاء الفاطميين على ساحل تونس الجنوبي، وأن يعتصم بالعصبية الصنهاجية ضد قبائل زناتة أحد أعداء صنهاجة الألداء، فاختار جبل أشير إحدى قمم الأطلس على نحو مائتي ميل في جنوبي مدينة الجزائر وأسّس فيه مدينة أشير، وشرع في بنائها عام 324 الذي جعلناه مبدأ لنشأة هذه الدولة، وقد أخذ زيري بدعوة الفاطميين ليزداد قوّة، فاستبحرت بذلك مدينته، وجمعت أسباب الحضارة كلها من علم وفن وصناعة وتجارة، وقصدها الناس من كل قطر، ورحل إليها التجّار وأصحاب الصنائع من الأندلس وغيرها، ولكن عمرها لم يطل، فقد زاحمتها (قلعة حماد) التي أسّسها حفيد زيري حماد بن بلقين بن زيري في جبل كيانة إحدى قمم الأطلس الشامخة شرقي جبل أشير، وجبل كيانة تتفرّع منه عدّة فروع ملاصقة، وفي بعضها منازل قبيلتي ومسقط رأسي، ولم تزل آثار قلعة حماد ماثلة إلى يومنا هذا، ولا يوجد لموقعها نظير في المناعة الطبيعية، وإن آثارها لتنطق بالقوة والاتساع مع وعورة المسالك المؤدّية إليها. وقد احتوت عاصمة حماد على كل ما احتوت عليه عاصمة جده زيري وهي مدينة أشير من حضارة وصناعة وفن، وأريت عليها في كل ذلك وفي ارتقاء العلوم الإسلامية بها وبكثرة المساجد وهجرة العلماء إليها حتى كوّنت مدرسة من المدارس الإسلامية بالشمال الإفريقي، ولكنها باجتذابها للعلماء وأصحاب الفنون والصناعات كانت سببًا في خراب العاصمة الصنهاجية الأولى (أشير)، وبقي عمرانها في ازدياد وحضارتها في اتساع واطراد، إلى أن طرقها الدهر بالغارة الهلالية المعروفة في أواسط المائة الخامسة، فاحتلّت قبائل بني هلال بن عامر المتدفقين من صعيد مصر على شمال إفريقيا البسائط المحيطة بها من الشمال والجنوب، وضايقوا قبائل البربر فيها، ومدينة القلعة متصلة من جنوبها بسهل واسع كان فيه لبني هلال مجالات، فأحسّ ملوك القلعة الحماديون بأنه لا قبل لهم بصدّ هذه القبائل العربية المغيرة، فعزموا على إنشاء عاصمة جديدة، فاختاروا موقع بجاية على خليج من أمنع خلجان البحر الأبيض، وهو موقع حصن فينيقي قديم يسمّى "صلداي"، واقع على مصبّ وادي الساحل في البحر، وتحيط به جبال شاهقة، هي شناخيب الأطلس الأصغر، فاختط بها الناصر أحد الملوك الحماديين، عام 460 هجرية، مدينة ونقل إليها دار الملك فأصبحت عاصمة ثالثة للدولة الحمادية، وكانت أضخمهن وأعمرهن وأجمعهن لأسباب الحضارة، وزادت على سابقتيها بازدهار العلوم الإسلامية وكثرة من أخرجت من الأئمة في تلك العلوم، وكانت ممرًّا لكل قادم من الأندلس إلى الشرق حاجًّا أو طالبًا للعلم، وكانت تحتبس كل عالم أندلسي يردُ عليها سنتين أو ثلاثًا حتى يأخذوا عنه كل ما عنده من علم وأدب، وكما أصبحت بجاية دار علم أصبحت ميناءً تجارًيا وحربيًا لا نظير له في شمال افريقيا، وكان خليجها غاصًّا دائمًا بالسفن التجارية من الأندلس إلى الشام ومن ثغور الفرنجة على الضفة الأوربية، وبالأسطول الحربي الحمادي الذي أنشأ له الحماديون دور صناعة كانت مضرب المثل في زمنها.


الدولة الفاطمية:

وعلاقة هذه الدولة بالجزائر أن الدعوة إليها بدأت في جبال كتامة، بين قبائلها البربرية، وأن داعيتها أو داهيتها الأول أبا عبد الله الشيعي، أقام في هذه الجبال سنوات يدعو إلى المذهب الإسماعيلي الباطني حتى انتشر في قبائل كتامة الشديدة المراس، ثم انتقل بهم إلى إقامة دولة ومبايعة رجل من آل البيت بالخلافة، فكان ذلك الرجل هو عبد الله المهدي أول الخلفاء الفاطميين، وجبال كتامة هي بعض الأطلس الأصغر المحاذي للبحر الأبيض وموقعها قريب من مدينة قسنطينة في الغرب منها، ومدينة "ايكجان" التي أسّسها أبو عبد الله الشيعي وسمّاها دار الهجرة وجعلها مبعث دعوته، ما زالت معروفة بهذا الاسم إلى الآن وهي قريبة من بلدنا بنحو مائة ميل، فنشأة الدولة الفاطمية كانت في الجزائر، وإن انتقلت بعد ذلك إلى القيروان والمهدية، وقد بسطت سلطانها لأول نشأتها على القسم الشرقي من القطر الجزائري، أعني ما يشمل مقاطعة قسنطينة.


فهذه كما ترون علاقة قوية بالجزائر وهي علاقة النشأة، وكانت نشأة هذه الدولة بالجزائر ثم استقرارها بالقيروان أقوى أطوارها، وخلفاؤها الأربعة بالقيروان أجلّ قدرًا من خلفائهم العشرة بمصر.


كانت نشأة هذه الدولة عام 297 هجرية، وانقطاع دعوتها من القيروان عام 341 باستقلال الدولة الباديسية الصنهاجية أيام الخليفة معد المستنصر بن الظاهر رابع خلفائهم بمصر، وانقرضت على يد صلاح الدين الأيولي عام 567.


الدولة الزيانية بتلمسان:

وهذه الدولة أيضًا نشأت في صميم الجزائر من صميم أهل الجزائر، ومن أوسط قبائل زناتة نسبًا، وهم بنو عبد الواد، وكانت قاعدة مملكتهم مدينة تلمسان القريبة من الحدود المراكشية، والواقعة في الجنوب الغربي لمدينة وهران عاصمة المقاطعة الوهرانية، وتلمسان مؤسسة من قبل الفتح الإسلامي، وكانت تسمّى (أقادير) واتخذها سليمان بن عبد الله الكامل أخو إدريس الأكبر قاعدة لمملكته التي اقتسمها بنوه من بعده، أسوة بما فعل أبناء عمومتهم الأدارسة فيما جاور تلمسان من المغرب الأقصى، ثم كانت من بعدهم كرة لصوالجة الدول المجاورة من الشرق والغرب، إلى أن اقتطعها بنو عبد الواد من زناتة فاتخذوها قاعدة للمملكة التي شادوها بسيوفهم، وانتزعوها انتزاعًا من جسم الدولة الموحدية، وكان ابتداء هذه الدولة عام 633 هجرية وانقراضها عام 957، باستيلاء الأتراك عليها، وانتظمت هذه الدولة النصف الغربي من الجزائر الحديثة، وانتهت حدودها في بعض الفترات إلى مدينة الجزائر، واستشرف بعض ملوكهم إلى انتزاع بجاية من يد الحفصيين ملوك تونس، وهذا أعظم توسّع لهذه الدولة.


لم تلقَ دولة من الدول المغربية من المحن والحروب ما لقيته هذه الدولة، ولم تلق مدينة من المدن المغربية ما لقيته تلمسان في أيام بني زيان من تكرّر الحصار ومعاناة بلائه، ولم تعرف الأسر التي طلبت الملك بالمغرب من بأس الحروب والكرّ والفرّ وتعاقب الجلاء عن دار الملك ثم استرجاعها بالسيف مثل ما عرف ملوك بني زيان، وكان ذلك كله مع دولة الموحّدين ودولة المرينيين، وكان سبب هذا الصراع كله هي مدينة تلمسان الجميلة.


ومع هذه الوقائع المثيرة التي كانت تدور حول تلمسان، فإنها كانت لا تزيد إلا عمرانا وحضارة، وإنجابًا للأبطال وللعلماء الذين كانوا نجوم الدنيا، ولا توجد مدينة في المغارب الثلاثة ولدت من أئمة الدين والأدب والعلم بجميع أنواعه مثل ما ولدت تلمسان، لا تفوقها في هذا إلا أمصار الأندلس، ومن العجيب أن عصرنا الزياني المضطرب المتقلّب في الحرب هو أزهر عصورها في العلوم والفنون وازدهار الحضارة. ففي هذا العصر نبغ أبو عبد الله بن خميس، شاعر العروبة في المائة السابعة، وفيه نبغ الحافظ الخطيب ابن مرزوق الأكبر، عالم الدنيا وخطيبها وابنه وحفيده، وفيه نبغ أبو سعيد المقري جد صاحب "نفح الطيب"، وفيه نبغ أبو عبد الله الشريف التلمساني وابنا الإمام وسعيد العقباني وقاسم العقباني، وغيرهم ممن لا يعدون كثرة.


وكان للمؤرّخ ابن خلدون ملابسات بهذه المدينة وبملوكها الزيانيين، ولأخيه يحيى بن خلدون إقامة فيها وكتابة عن ملوكها، وقد كتب يحيى هذا تاريخًا لدولتهم، اسمه "بغية أو نجعة الرواد في ملوك بني عبد الواد" وهو مطبوع في الجزائر ومترجم إلى الفرنسية.


هذه الدول الكبيرة التي قامت في هذه الرقعة من شمال افريقيا التي تُطلق عليها كلمة (الجزائر).

وهناك إمارات صغرى قامت في بعض أجزاء من هذا القطر، وهي كثيرة، وأشهرها إمارة بني حمدون بالمحمدية التي تسمّى اليوم (المسيلة) ومنها إمارة بني مزني ببسكرة في أيام ابن خلدون المؤرّخ، وقد استظلّ هذا المؤرّخ بظل هذه الإمارة سنين وأقام ببسكرة تحت إنعامهم ورعايتهم. ومنها إمارات حفصية كان يقتطعها طلاب الملك من الأسر الحفصية كإمارة بعضهم في قسنطينة وآخر في بجاية، وليس لهذه الإمارات شغوف بشيء من علم أو فن يرفع ذكرها.

نقف بكم هنا وقفة اعتبار وإعجاب، وهي أن جميع الدول البربرية التي قامت بالشمال الافريقي- وفيهن من بلغت من القوة والصولة مبلغًا لا يقصر بها عن الدول الأعجمية الكبيرة التي قامت- لم تصطنع واحدة منهن اللغة البربرية لغة رسمية في مخاطباتها ومراسيمها وخطبها ومدائحها، وإنما كن جميعًا تصطنعن اللغة العربية، وتتبارين في انتقاء كتابها وخطبائها وتتنافس في إكرام علمائها وشعرائها، وجوائز ملوكها الثمينة هي التي شجّعت على تبريز الشعراء والكتّاب، وإن تعداد أسمائهم يطول، وأين هذا مما فعله الأتراك العثمانيون، أو المغوليون، أو ملوك فارس المسلمون؟


الدولة التركية

تاريخ الدولة التركية معروف، وتاريخ احتلالها لمصر وأرض العرب على زمن السلطان سليم مشهور، وكل ذلك لا صلة له بموضوعنا، وإنما يهمّنا احتلال الأتراك للجزائر وإلحاقها بالممالك العثمانية.

كانت نكبة الإسلام في الأندلس، وتخاذل المسلمين عن نجدة إخوانهم فيها، مقتضية لنتيجتها الطبيعية، وهي ضراوة الإسبان وتكالبهم على المسلمين أينما كانوا، وأقرب بلاد المسلمين إليهم شمال افريقيا، والقضية من أساسها صليبية سافرة، وأول الانتصار يغري تآخره، وإخراج الإسبان للمسلمين من الأندلس كان شفاءً للنفوس المسيحية الموتورة، ولكن ما رأته الدول المسيحية اللاتينية من موقف الحكومات الإسلامية وشعوبها من عمليات إجلاء المسلمين واكتساح الإسلام، شجّعها على الإمعان في التنكيل بهم وعلى غزوهم في عقر دورهم، واحتلال أوطانهم الواقعة على السواحل الافريقية، وسواء أكانت الخطة قديمة أو أوحت بها نتائج الانتصار والتنصير والإجلاء فهي طبيعية كامنة في النفوس.

بدأ الإسبان والبرتغال باحتلال عدة مدن على سواحل مراكش وفي سنة 1509 ميلادية احتلّوا المرسى الكبير ووهران من الثغور الجزائرية، وتداعت القرصنة الاستعمارية من إسبانيا وفرنسا والبرتغال إلى احتلال ما يمكن من الثغور الجزائرية والتونسية، ومطاردة الإسلام بمطاردة أبنائه واستعبادهم، مثل ما تمّ لهم بالأندلس.

ولولا أن قيض الله لنجدة المسلمين ونصرة الإسلام القائد التركي البحري العظيم بابا عروج وأخاه وقريعه القائد خير الدين، لتمّ في شمال إفريقيا ما تمّ في الأندلس من استعباد المسلمين وإكراههم على التنصر.

والقائدان الأخوان تركيان، ولدا بجزيرة (ميديللي) وامتهنا البحارة واتخذاها وسيلة للجهاد في سبيل الله. فخاضا لجج البحر الأبيض وتمرّسا به وعرفا أعماقه وشطآنه، وتطوّعا بنقل طوائف من المسلمين الذين أجلاهم الإسبان من شواطئ الأندلس إلى شواطئ شمال افريقيا فأنقذوهم من حكم الرهبان ومحاكم التفتيش ومن التنصر الجبري أو الإحراق.

ولما أدرك الأخوان القائدان تداعي الدول المسيحية للإغارة على ثغور المسلمين كلها، وعزمها على استئصال الإسلام منها، اتفقا مع الأمير الحفصي في تونس إذ ذاك، على أن يجعلا من تونس قاعدة لأعمالهما البحرية، ودفاعهما عن المسلمين واسترجاع ما احتلته تلك الدول، وكانت الدولة الحفصية تلفظ أنفاسها الأخيرة، حتّى أن الإسبان احتلّوا عاصمتها تونس مرّتين، وأفحشوا بالنكاية في المسلمين، واتخذوا من جامع الزيتونة اصطبلًا لدوابهم.

كان من نتائج ذلك التداعي اللاتيني الكاثوليكي أن احتلّت دول أجنبية كثيرًا من الثغور الجزائرية، ومنها ثغر بجاية احتلّه الإسبان، وثغر جيجل الواقع شرقي بجاية، احتلّه الجنويون، فبدأ القائدان بإنقاذ بجاية من يد الإسبان، ودحرا الإسبانيين برًّا وبحرًا، ثم استنقذوا ثغر جيجل، وكان ذلك في سنة 1512 ميلادية، فكانت هذه السنة بداية تاريخ العهد التركي بالجزائر، وفي سنة 1516، احتلّ القائدان الأخوان مدينة الجزائر، واتخذا منها قاعدة ثابتة للهجوم والدفاع والعمليات الحربية بريّة وبحرية، وأهمها قمع القرصنة اللاتينية في البحر الأبيض، ومن هذه السنة أصبحت مدينة الجزائر عاصمة إلى الآن.

كانت نجدة القائدين لمدينة الجزائر تلبية لاستغاثة إسلامية بهما من شيخ تلك المدينة إذ ذاك سليم التومي، ولقي القائدان من رجال الجزائر ما يريدان من تأييد وإعانة وطاعة وثبات وبطولة، وكان رجال أسطول القائدين الذين يدير بهم المعارك البحرية لا يزيدون على ثمانمائة، فعزّزهم بثلاثة آلاف جندي جزائري، وبهذا العدد القليل مع الشجاعة وحسن التدبير، أوقع القائدان بالقرصان اللاتينيين الهزائم المأثورة وطردا حكوماتهم من جميع ما احتلّوه من ثغور تونس والجزائر في مدة قصيرة، وامتدّ ميدان النزال بين الفريقين برًّا وبحرًا من مدينة تلمسان وسواحلها وثغورها إلى تونس وسواحلها وشواطئها، وهو ميدان طوله أكثر من ألف وخمسمائة ميل.

من توفيق الله للقائدين التركيين، ومن دلائل إخلاصهما في نصر الإسلام، تسهيله احتلال مدينة الجزائر لهما، وجعلهما إياها قاعدة لأعمالهما، وإدارة حروبهما، ومركزًا لتنظيم الأمور الإدارية والعسكرية، فقد انتقل شأنهما من حال إلى حال تخالفها، وبعد أن كانا رئيسين بحريين يديران حركة غزو ونهب وتعرّض لأمثالهما ممن يحترف حرفتهما، لا يرجعان فيما يصنعان إلى أحد، حتى الدولة العثمانية لم يكونا يأتمران بأمرها ولا يرجعان إليها، إلا من حيث الجنسية والدين، وإنما كانا يدافعان عنها إن اقتضى الحال، ويجلبان لها الفخر بانتصاراتهما، بعد أن كانا على تلك الحال، أصبحا أميرين مسؤولين عن إنقاذ شعوب إسلامية من الكفر وأوطان إسلامية من احتلال الأجانب.

ومدينة الجزائر ذات مزايا لا تُحصى، وأهم مزاياها توسطها للشمال الإفريقي كله، ووقوعها على البحر، وإشرافها على كل ما يجري فيه، فهي قاعدة حرب وسلم، وإدارة وحكم، وقد تعاون موضعها ووضعها على إكسابها هذه المزايا، وما ذكرنا منها إلا القليل، وقد تفطن الاستعمار الفرنسي فيما تفطن إلى هذه المزايا الطبيعية، وأضاف إليها بعض المزايا الصناعية فاستغلها لمصالحه، وإن هذا لهو الذي يحمله على الاستمساك بها حتى انه ليتمنى خروج روحه قبل الخروج منها، وسيكون العكس فيخرج منها قبل أن تخرج روحه من جسده ليذوق طعم الحسرات التي أذاقنا إياها.

وكان بابا عروج بعد استقراره بالجزائر مطمئنًا إلى الانتصار على أعدائه، وقد زاد عددهم وتمكّنت عداوتهم له بتمكّنه من هذا المركز الحصين، ومطمئنًا إلى ثقة الشعب الجزائري المسلم به، ولكنه كان ممتعضًا من موقف البقية المهينة من سلالة بني زيان أمراء تلمسان، ومن سلالة بني حفص أمراء تونس، فقد كان كل من هذين الأميرين يصانع الأعداء ويماسهم ليحتفظ بلقب الإمارة ولو تحت حمايتهم.

والمتتبع لسيرة القائدين الأخوين حق التتبع لا يستخرج منها أنهما كانا طامحين إلى تأسيس مملكة يستقلان بسلطانها، كما يطمح إلى ذلك من تهيّأت له الأسباب مثلهما، أو يستعملان قوّتهما ضدّ الدولة العثمانية، كما فعل محمد علي حينما ملك مصر، وإنما هما رجلان كانت لهما لذة وذوق في هذا النحو الذي توجّها إليه، وزادت النزعة الإسلامية هذا الذوق فيهما تمكّنًا لأنّ فيه مع اللذة أجر الجهاد وحسن المثوبة عند الله، وإذا كان الجزائريون قد أسندوا إليهما الإمارة عليهم، فإنما ذلك للمصلحة العامة.

وعليه فما كانا يمتعضان لسلوك الأمير الزياني والأمير الحفصي في تمكين الأعداء من الوطن الإسلامي، طمعًا في ملكهما، وإنما كانا يمتعضان لاتخاذ العدو لهما مطية تخفف عنه العناء في الاستيلاء على أوطان المسلمين. ولذلك أقدم بابا عروج على حرب صاحب تلمسان فانتصر عليه واستولى على تلمسان، فتكشف الأمير الزياني عن خزية الدهر واستعان بالإسبان على بابا عروج، واستشهد بابا عروج في أثناء حرب تلمسان سنة 1518.

وولي الحكم بعده أخوه خير الدّين، فاضطلع بالحكم أقدر ما كان عليه، وبالحرب أقوى ما كان تمرّسًا بها واطلاعًا على أحوال أعدائه فيها. أما اضطلاعه بالحكم فللثقة المتبادلة بينه وبين الجزائريين وسكان الجهات التي انضمت إليهم باختيارها أو تغلّبوا عليها عسكريًا، ولأن سيرة أخيه بابا عروج الصالحة زرعت لهما المحبة في قلوب الناس، فهيّأت له أسباب الاطمئنان، وأما اضطلاعه بالحرب فإن الولاية لم تلهه عن مواصلة الحرب مع الإسبان وغيرهم هجومًا ودفاعًا، وتوالت انتصاراته عليهم في البرّ والبحر، ومن وقائعه المشهورة فيهم، الوقعة التي انتصر فيها على الجيش الذي قاده شارلكان بنفسه، فكسره خير الدين شرّ كسرة.

ولما اشتهر اسمه، وعلا نجمه، واتسقت انتصاراته البحرية في البحر الأبيض، والبرية في سواحله الافريقية التي احتلّها اللاتينيون، وقع ذلك كله موقع الرضى والاغتباط في نفس الخليفة العثماني ورجال حكومته، لأنهم يعدون القائدين الأخوين من رجال دولتهم، ويعدون مفاخرهما الحربية جزءًا من مفاخرهم، وللدولة العثمانية من البحر الأبيض جزء عظيم وهو حوضه الشرقي: سواحل البلقان والأناضول وسوريا ومصر وليبيا، فإذا أضاف هذان القائدان إلى هذا الجزء العظيم سواحل افريقيا الشمالية إلى نهايتها في مضيق طارق، فقد حقّقا لها أغلى ما كانت تطمح إليه الدول العظيمة من آمال في بسط سلطانها على هذا البحر العجيب الذي يقول فيه شوقي:

أَيُّ المَمَالِكِ أَيُّهَا … فِي الدَّهْرِ مَا رَفَعَتْ شِرَاعَكَ

وما زال هذا البحر مجال غلاب بين الدول الناشئة على ضفتيه، وما زالت الحرب سجالًا بين ضفته الافريقية وبين ضفته الأوربية، ولم تجتمع الضفتان في يد واحدة كاملة لدولة واحدة بل لم تجتمع إحداهما إلا قليلًا، تهيّأ ذلك في بعض أجزائهما للفينيقيين ولليونان وفي معظمها للرومان، ولم تبسط ظلها على معظم سواحله إلا الدولة العربية والدول الإسلامية التي تفرّعت عنها، حتى سمّاه بعض المؤرخين (البحر العربي).

ووقائع خير الدين هي التي أيأست الإسبان من بلوغ أملهم في شمال افريقيا وهو أمل طويل عريض يفوق آمالهم في أمريكا الجنوبية، لقرب افريقيا منهم واتصالها بهم، وهي التي أخّرت الاستعمار الأوروبي لافريقيا قرونًا وهذا الشمال هو مفتاح افريقيا كلها ومن ملك المفتاح سهل عليه دخول الدار.

وافتقرت الدولة العثمانية إلى كفاءة خير الدين الحربية والبحرية، التي قامت الشواهد عليها من وقائعه وانتصاراته، فاستدعته إلى دار الخلافة وأسندت إليه قيادة أسطول الدولة، ليدع عنها العوادي التي بدأت تعدو عليها في هذا البحر. فاعجبوا لثلاثة أشياء تجتمع في ذلك الوقت، واذكروا ماذا يكون من آثار اجتماعها: أسطول دولة كامل، بقيادة خير الدين في البحر الأبيض، ونسبة البحر الأبيض من خير الدين نسبة عرين الأسد من الأسد، والأسطول أنيابه وأظفاره.

وتولّى ولاية الجزائر في غيبة خير الدين حسن آغا، من سنة 1533 ميلادية إلى سنة 1544. وفي أيام ولايته استولى خير الدين على تونس وألحقها بممالك الدولة العثمانية، ومحا الدولة الحفصية من الوجود وقطع طمع الطامعين في إرثها، وانتظمت هذه الشطوط التي تبتدئ من القسطنطينية في مملك واحد.

وتولّى ولاية الجزائر- بعد موت حسن آغا- حسن باشا بن خير الدين، من سنة 1544 ميلادية إلى سنة 1552 ولم تزل من آثاره في مدينة الجزائر قلعة تُعرف (بحصن الآمبرور) (1)، ثم استدعي إلى دار الخلافة بأمر الدولة.

فتولّى ولاية الجزائر بعده صالح رايس من سنة 1552 ميلادية إلى سنة 1556، فزاد في رقعة الولاية قطعًا ثمينة اتسعت بها: أضاف إليها صحراء المقاطعة القسنطينية، ومدنها التي كانت مراكز إمارات صغيرة من بقايا المرينيين وغيرهم، وهي: تقرت وورقلة (وارجلان) المذكورة في حديث الدولة الرستمية، وهذا الوالي هو الذي قضى على بقايا الزيانيين ودولتهم بتلمسان، وضمّها إلى الجزائر، وهو أول من غزا المملكة المراكشية من الولاة الأتراك، في عهد ملوكها السعديين، فهاجمهم برًّا وبحرًا، ونصب في فاس ملكًا من أعقاب المرينيين، وما هذه المحاولة إلا تحقيق لأمنية كانت تنطوي عليها نفسا القائد الأكبر بابا عروج وأخيه خير الدين، وقربها ما تسنّى لهما من الفتوحات المظفّرة. هذه الأمنية هي أن يضما المملكة المراكشية إلى ممالك الشمال الافريقي التي أنقذوها من الاستعمار اللاتيني، وهما يرميان بذلك إلى غرضين: الأول إلحاقها بالدولة العثمانية دولة الخلافة، والثاني قطع أطماع الإسبان فيها، ولعلّ لهما غرضًا آخر أشرف، ينتج عن النجاح في هذه المحاولة، وهو إعادة الكرة على الأندلس، والأخذ بثارات الإسلام من الإسبان، وهذه الكرة لا تتصوّر في ذلك الحين إلا باجتماع مراكش والجزائر وتونس في يد كيد بابا عروج وأخيه، وإدارة عسكرية موحّدة كإدارتهما، وقيادة كقيادتهما، ذلك لأن الإسبان تمرّسوا بهذه الدول التي نشأت بالمغرب الإسلامي في جميع عهودها، ونزعت هيبتها من نفوسهم من لدن يوسف بن تاشفين وعبد المؤمن وأبي الحسن، وما أقدم الإسبان على ضربتهم التاريخية الجريئة لمسلمي الأندلس إلا بعد أن استيقنوا أن هذه الدويلات لم تبق فيها فضلة إنجاد لِمستصرخ.

إن ايمان الرجلين مضافًا إليه ما تحدثه الانتصارات المتوالية في نفوس القوّاد الشجعان، لا يبعد بهما عن هذه (التهمة) تهمة العزم على استرجاع الأندلس إلى حظيرة الإسلام، أما كونها كانت أمنية لهما فهذا ما نتحقّقه لأنها كانت أمنية كل مسلم على وجه الأرض. ولقد تجدّدت محاولة إلحاق مراكش بالممالك العثمانية مرّة أخرى من والٍ آخر من ولاة الجزائر، وهو قائد رمضان، بعد هذه المحاولة ببضع وعشرين سنة، ولكنها لم تفلح، ثم لم تتكرّر المحاولات الجدية بعد ذلك.



ثم تعاقب الولاة على الجزائر بالتعيين الرسمي من الدولة العثمانية، ولا يتسع الوقت لسرد أسمائهم، وذكر أعمالهم وشرح سياستهم، ولكن واحدًا منهم لا يحسن بنا عدم التنويه باسمه، ولا يحسن بكم جهله، وهو (قلج علي)، تولّى الجزائر من سنة 1568 ميلادية إلى سنة 1571.

اشتهر هذا الوالي بالشجاعة والقوّة والحزم والبراعة في قيادة الأساطيل الحربية، وشارك بأسطول الجزائر في الموقعة البحرية الكبرى التي تألبت فيها الأساطيل الأوربية، على الأسطول التركي حتى حطمته، ولم ينجح منه إلا الأسطول الجزائري الذي يقوده قلج علي هذا، ولم يغنم النجاة بأسطوله فقط، بل غنم من أعدائه مغانم أهمها في المغزى، المركب الذي يحمل علم البابا. وكانت من عواقب هذه البطولة أن نقلته الدولة العثمانية من الجزائر إلى دار الخلافة ليقوم بتجديد الأسطول وتنظيمه، وليس في ولاة الجزائر بعده من يحتفظ له التاريخ بمنقبة حربية بكر، وإن كانت لبعضهم مآثر دينية أو عمرانية تستحق التخليد.

بفشل المحاولات الرامية إلى الاستيلاء على المملكة المراكشية وإلحاقها بالممالك العثمانية، وبتقسيم الجزائر إلى ثلاثة أقسام مركزها الجزائر العاصمة، وبالاستيلاء على المناطق الصحراوية وضمّها إلى ما يسامتها من تلك الأقسام الثلاثة، بذلك كله تميّزت حدود الجزائر الحالية تقريبًا، ولم تبقَ إلا مواطن للقبائل المتداخلة لم تزل محل نزاع إلى وقت قريب، وطالما اتخذت منها فرنسا ذرائع للشقاق والتحرّش في عهد استعمارها، وهذه الحدود كلها إدارية لا تشهد لها الطبيعة بحق، ولا يهم إنسان بوضع العلامات الفارقة فيها إلا طمستها الجوامع من صنع الله فكان كالراقم على الماء، وأول ما حدّدت هذه الحدود الإدارية في العهد التركي.

والعهد التركي هو أطول عهود الحكومات المتعاقبة على الجزائر في تاريخها الإسلامي، ولم تتسع رقعة الجزائر على دولة من الدول التي نشأت مثل ما اتسعت في العهد التركي.

فمدة العهد التركي العثماني في الجزائر ثلاثمائة سنة وتسع عشرة سنة، وينقسم إلى خمسة أدوار، بحسب نوع الولاة الذين تعاقبوا على حكم الجزائر.


ـ[الدور الأول]ـ: حكم بابا عروج وأخيه خير الدين، من سنة 1512 إلى سنة 1546، فمدّته 34 سنة.

ـ[الدور الثاني]ـ: حكم البايلاربايات، من سنة 1546 إلى سنة 1587، فمدّته 41 سنة.

ـ[الدور الثالث]ـ: حكم الباشوات الثُّلاثِيني (2) من سنة 1587 إلى سنة 1659، فمدّته 72 سنة.

ـ[الدور الرابع]ـ: حكم الأغوات من سنة 1659 إلى سنة 1671، فمدّته 12 سنة.

ـ[الدور الخامس]ـ: حكم الدايات من سنة 1671 إلى سنة 1830، فمدّته 160 سنة.



هذه إلمامة عاجلة بالعهد التركي في الجزائر، وتاريخ هذا العهد حافل بالأحداث، ملوّن بألوان الولاة، إذ كان منهم الظالم لنفسه وللناس، ومنهم المقتصد، ومنهم الصالح، ولكن صلاح الصالح منهم كان من ذلك النوع التركي الذي يظهر في بناء مسجد حيث تكثر المساجد، فلا يكون جامعًا بل مفرّقًا، أو في بناء ميضأة للوضوء أو سبيل للشرب أو إقامة ضريح أو قبّة لولي حقيقي أو وهمي، أو وقف مال على سبيل الخير، وهذا النوع هو أنفع أعمالهم لو دام.



أما تاريخهم السياسي والإداري، فصفحاته الأولى كانت مشرقة بأعمال بابا عروج وخير الدين الحربية وانتصاراتهما فيها، وقد غطّت المحاسن فيها على المساوئ، واعتبرهما الناس منقذين للإسلام وأوطانه- وهو الحق- فلم تبقِ عين الرضى لعين السخط مجالًا، وجاء مَن بعدهما فخلطوا عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، وطال العهد فثقلت الوطأة وساء الجوار، وفشت الرشوة والمصادرات وسفك الدماء ففسدت القلوب والنيّات، واختلّت الأحوال تبعًا لاختلالها في أهل الدولة العثمانية، فعمّ الظلم من الولاة وأتباعهم إلى آخر موظف في الدولة، واستبدّ كل وال بالمقاطعة التي يحكمها من المقاطعات الثلاث قسنطينة والجزائر ووهران، وكانت آثار تلك الحالة في الأمّة شقاقًا وتمرّدًا على النظام وسوء أخلاق، ومع ذلك التناهي في فساد الإدارة وانفصام العلائق بين الحاكم والمحكوم، فإن قوة الجزائر العسكرية كانت مرهوبة عند خصومها اللاتينيين حتى أن بعضهم كان يستعدي الجزائر على بعض، وكان يستنجدها فتنجده عسكريًا، ويستتقرض منها المال فتقرضه، وكان استقلال الجزائر بذلك محفوظًا في الخارج، وإن كان ضائعًا في الداخل، وكان ضياعه في الداخل هو الذي مهّد للطامة الكبرى، وهي احتلال فرنسا للجزائر.


وأما الحالة العلمية في ذلك العهد فهي الصفحة المغسولة من ذلك التاريخ، بل هي الصفحة السوداء في تاريخ الجزائر العلمي، فما رأت الجزائر عهدًا من عهودها أجدب من العهد التركي في العلم، ولا أزهد من حكوماته فيه، ويعلّل كثير من الناس ذلك بأن من خصائص الشعب التركي أنه شعب حرب لا علم، وقد يكون هذا التعليل قريبًا من الحق، لأنه اطرد في كثير من الشعوب التي حكموها باسم الخلافة الإسلامية، يعنيه شوقي بقوله فيهم:
رفعوا على السيف البناء فلم يدم … ما للبناء على السيوف دوام

ومن العجيب أن تكون الدول البربرية التي قامت بالجزائر أحفظ لذمام العلم واللغة العربية من دولة الخلافة الإسلامية، فالدولة الرستمية والدولة الصنهاجية والدولة الزيانية جرت في العناية بنشر العلم وتسهيل وسائله وتشجيع أهله شوطًا لم تقصر فيه عن شأو دولة الخلافة بالشرق، وتيهرت وقلعة حماد والمسيلة وبجاية وطبنة وقسنطينة أخرجت للعالم الإسلامي من أئمة العلم في الدين والدنيا، وفحول البلاغة من الشعراء وفرسان المنابر من الخطباء من كان الشرق يقف أمامهم مبهوتًا من العجب، وناهيكم بتلمسان في العهد الزياني فقد سايرت بغداد في عنان واحد في هذا الميدان.


____


الإحتلال الفرنسي____


احتلّت فرنسا مدينة الجزائر وأطرافها في شهر يوليو من سنة 1830 احتلالًا عسكريًا بعد دفاع عنيف من الحامية التركية ومن الأهالي، فُصّلت أخباره في كتب التاريخ الفرنسية، وفي تلك الكتب شيء من الإنصاف والاعتراف بعنف الدفاع والاستماتة فيه، وفيها كثير من الاعتراف بما فعله الجيش الفرنسي من أعمال وحشية، خصوصًا حينما اشتدّت المقاومة العامة. ومن المحزن أن أخبار ذلك الاحتلال الظالم، وأخبار تلك الحرب وما ارتكبه الجيش الفرنسي فيها من موبقات وأخبار الدفاع الشريف الذي قام به الشعب الجزائري، وما أظهر فيه من بطولة وما ظهر فيه من أبطال، كل ذلك لم يسطر فيه حرف بالعربية من أبناء الجزائر، إلا أن تكون مذكرات خصوصية، ماتت بموت أصحابها، أو تناستها الأجيال اللاحقة لأسباب بعضها يرجع إلى تمكن الاستعمار وحرصه على طمس الحقائق التي لا تجري مع هواه، وعمله على نسيان الشعب الجزائري لأمجاده وعلى تصوّره للحقائق مقلوبة أو مشوّهة، حتى تضعف فيه ملكة التأسي ثم تموت، وقد رأيناه بعد استقرار الأمر يحارب التاريخ الإسلامي والتاريخ العربي والآداب العربية من أساسها، لولا أن أحيتها- على أكمل وجه- الحركة الأخيرة القائمة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما يأتي بيانه، ذلك لما يعلمه من تأثير التاريخ والآداب في إحياء الشعوب، خصوصًا التاريخ العامر بالمفاخر المملوء بالمآثر، كتاريخ الإسلام عمومًا، وتاريخ العرب بوجه خاص. والسبب في إهمال الجزائريين لتدوين وقائع الاحتلال والمقاومة يرجع إلى أمور، منها أن العهد التركي الذي طال أمده ثلاثة قرون وزيادة لم يكن عهد علم ومعرفة وفن، ولا مشجّعًا عليها، فتناسى الجزائري فيه تلك العهود الزاخرة بالمعارف وتدوينها، عهود بجاية وتلمسان وقسنطينة وتيهرت وقلعة حماد وغيرها من عواصم العلم التي اشتمل عليها القطر الجزائري قبل العهد التركي.


والعهد التركي جاء بعد تناقص العمران المستتبع لتقلص العلوم والمعارف في تلك العواصم العلمية، وليس من طبيعة الاحتلال التركي إحياء المفقود من العلوم، ولا تشجيع الموجود، فكان في الجزائر ضغثًا على إبالة، وكل هذا لا يعفي علماء الجزائر في ذلك العصر من تبعة التقصير في تدوين تلك الأحداث العظيمة لهم أو عليهم.


وتمّ الاحتلال الفرنسي للجزائر كلها في نحو ثماني عشرة سنة، هي سنوات جهاد الأمير عبد القادر بن محيي الدين المختاري، ومقاومته الرائعة للفرنسيين، وبطولة ذلك الأمير، وصدق جهاده، وقوّة دفاعه عن الجزائر، وعظمته في العلم والرأي والحرب، ووقائعه التي انتصر في كثير منها على الجيش الفرنسي، كل أولئك أمور اشتهرت حتى غنيت عن البرهان، وحتى لقد شهدت بها فرنسا وقادتها قبل غيرهم.


وبعد تسليم الأمير عبد القادر خُيّر في محل الإقامة فاختار الشرق وانتقل بأهله وحاشيته إلى اسطمبول، ثم إلى دمشق مشتغلًا ببث العلم والقيام على أسرته وعلى المهاجرين الذين التحق به آلاف منهم، إلى أن مات بدمشق في شهر مايو عام 1883.


ولقد قال لي أحد الأصدقاء الأدباء، في هذا الأسبوع، وهو يحاورني في شأن من شؤون الأمير عبد القادر: إنه يعدّ تسليم هذا الأمير ونجاته بنفسه غميزة في قيمته التاريخية بل في دينه، وكان من مقتضيات إمارته وزعامته وبطولته أن يقاتل حتى يموت، وأن لا يختم أعماله بهذه الخاتمة السيّئة التي سن بها لمن بعده سنة التسليم والرضى بالهجرة الاختيارية، ومن معاني هذا الرضى أنه حرص على الحياة.


هذا معنى كلامه ببعض ألفاظه، فقلت له: إنه لم يكن بدعًا من قادة الحرب في التسليم فقد اتبع سنة من قبله، أما أسباب تسليمه فنحن نعرف منها أشياء، ونظن به أشياء، هي الأشبه بحاله ومقامه، أما ما نعرفه فهو اختلال صفوفه، وخذلان كثير من المارقين له- ومنهم بعض مشايخ الزوايا الصوفية وبعض الأمراء من الجيران- خذلانًا تكون نتيجته اللازمة الاضطرار إلى قتالهم، ومعنى هذا أنه بين عدوين، ومضطرٌّ إلى الحرب في ميدانين. وأما ما نظنه به فهو أنه كان ينوي إعادة الحرب مع الفرنسيين، بعد اتصاله بمقرّ الخلافة واجتماعه بأهل الحل والعقد فيه، وهذا ما نفسّر به اختياره اسطمبول دار هجرة، ويؤيّد هذا التفسير تلكؤ فرنسا في السماح له بالسفر إليها، كأنما خامرها شيء من هذا المعنى، أو استدلّت بالقرائن عليه.


ولم تنقطع المقاومة بتسليم الأمير، بل بقيت المناوشات والثورات المحلية المتكرّرة تقلق الجيش الفرنسي وتقضّ مضجعه وتسلبه القرار إلى أن جاءت حرب السبعين وكان ما يأتي.


وهنا نقطة يكثر عنها السؤال، وهي: كيف لم يقم بعد الأمير عبد القادر قائد آخر من رجال جيشه يقود المقاومة سنة أو سنوات، مع أنه كان له جيش مدرّب يقوده رجال حربيون من أبناء الجزائر، بل ان الأمير كونّ حكومة أرقى من حكومة الترك التي لم يبقَ لها أثر بعد الاحتلال الفرنسي، وضرب السكة باسمها ونظّم القضاء والإدارة والحرب وجميع مقوّمات الحكومة.


والجواب ما قدمنا الإشارة إليه، من اختلاف الكلمة عليه من مشائخ الزوايا ورؤساء القبائل المخذولين الطامعين في الإمارة المنافسين للأمير فيها، وقد تفاقم هذا الشرّ واستحكم، والقطر واسع طويل عريض، والحكم التركي هيّأ النفوس للانتقاض الأرعن على كل حكومة. وأعتقد أن الأمير عبد القادر لو اقتصر على قيادة الثورة وساسها سياسة حربية باسم الجهاد في عدو مجمع على عداوته ولم يكوّن حكومة مدنية منظمة لاستقام له بعض الأمر، ولكنه بتكوينه لحكومة لها كل خصائص الحكومات أثار النزعات الكامنة في النفوس المريضة.


حرب السبعين وثورة المقراني:

في سنة 1870 أي بعد احتلال فرنسا للجزائر بأربعين سنة قامت الحرب بينها وبين جيرانها الجرمانيين أو البروس كما كانوا يسمّونهم، وكان المسيطر على جرمانيا داهيتها ومكوّن وحدتها "بسمرك"، فاغتنم الحاج أحمد المقراني أحد الرؤساء بمقاطعة قسنطينة فرصة اشتباك فرنسا مع الألمان في تلك الحرب، وأعلن الثورة عليها في الجزائر، وكان يعتقد هو ومؤازروه على تلك الثورة أن فرنسا لا تقوى على القيام بحربين، وأن انشغالها بحرب في أوربا فرصة لا تتكرّر. فهي أصلح الفرص للثورة والانتقاض على الحكم الفرنسي، فثار وكادت ثورته تعمّ المقاطعة القسنطينية، ولو تكرّرت انتصاراتها الأولى لعمّت الجزائر كلها، وأعادت المقاومة أقوى مما كانت، وقسنطينة أوسع المقاطعات الثلاث وأكثرها سكانًا، وأقواها عصبية قبلية ودينية، وكان إعلان هذه الثورة سنة 1871.


وشاء الله أن تسقط فرنسا أمام الجيوش الجرمانية، وتهزم شرّ هزيمة، وتفرض عليها تلك الضريبة الثقيلة فتعطيها وهي صاغرة، ثم تجمع فلول جيشها وتجهّزها لتحطيم ثورة المقراني، فتمّ لها ذلك.


من يوم فشل ثورة المقراني تحطمت المقاومة الجماعية بالجزائر، وكان لذلك الفشل أثر بليغ في نفوس الأمّة كلها، من الملل واليأس وسوء الظن بالزعماء، وتبارى الطامعون وأصحاب الدخائل السيّئة في الزلفى إلى فرنسا واكتساب رضاها وجرّ المغانم الزائفة إلى ذويهم والظهور على خصومهم، يريدون بذلك كسب المال والجاه وخلق زعامة لأنفسهم ما كانوا لينالوها لو نجحت الثورة وتخفصت الجزائر من فرنسا، ومن ذلك الحين غابت طبقة من أصحاب البيوتات والمجد التليد، وأنشأت فرنسا طبقة أخرى من هؤلاء المتقرّبين إليها، صنعتها بيدها وعلى عينها، فكانوا هم وذرّيتهم نكبة على الجزائر إلى يومنا هذا، ويسميهم الاستعمار الفرنسي (العائلات الكبيرة).


ثورة المقراني هي آخر الثورات الجماعية بالجزائر وقد شهدها جدي ووالدي، وعمره سبع عشرة سنة حاملين للسلاح، واستشهد فيها جماعة من قبيلتنا، وكان المقراني- رحمه الله- يعتمد على قبيلتنا لمكان الجوار والعصبية، وعلى جدي لمكانه في العلم والكلمة النافذة، وكان والدي- رحمه الله- يقص عليّ أخبار الوقائع التي شهدها هو وأبوه، فكنت أفهم إذ ذاك أن الثورة ينقصها التدبير المحكم، وأن في بواعثها عنصرين ضعيفين جدًّا لا يحسن الاعتماد عليهما في الثورات، الأول أن مدبّريها اغتنموا فرصة اشتباك فرنسا مع بروسيا في حرب السبعين فاعتمدوا على هذا وحده من غير أن يقرأوا حسابًا للاستعداد الداخلي العام بقسميه النفسي والمادي، وهذا نوع من الاغترار يقبح بمدبري الثورات، والاعتماد على انهماك العدو في حرب غير موفق دائمًا، لأنه إنما ينجح ما دام الشاغل موجودًا والاشتباك قائمًا، أما على الاحتمالين الآخرين، وهما انتصاره العاجل أو انهزامه السريع، فلا ينفع اعتبارهما في التدبير، لأن العدوّ إذا انتصر على من هو أقوى من الثائرين عليه، فإن نخوة النصر وفراغ الجند يعينانه على قمع الثورة، وإذا انكسر أمام العدو القوي فإنه يأنف أن يجتمع عليه انكساران في آن واحد، فيجمع فلوله ويتصدّى بهم لقمع الثورة، وهذا هو ما وقع من فرنسا في قمع ثورة المقراني، فإن استراحتها من الحرب البروسية ولو كانت مغلوبة، هيّأ لها أن تجمع قوّتها وفلول جيشها المنهزم وتنقلهم إلى الجزائر لتحطيم الثورة القائمة بها.


والحاج أحمد المقراني رجل شجاع مؤمن، ولكنه كرجال عصره متوسط الشخصية تنقصه الحنكة والبصيرة، وفت في عضده شيء آخر وهو تخاذل بعض شركائه في تدبير الثورة، وقيام بعض الوجهاء ذوي النفوذ بثورة لا صلة لها بثورته في رأي ولا تدبير ولا قيادة، فكانت هذه المنافسة مفسدة لنيّات كثير من الناس، على أن بعض القبائل لم تشارك في الثورة تربّصًا وانتظارًا، وبعضها- وهي قليلة- تعاونت مع فرنسا، فهذه العوامل مجتمعة أدّت إلى فشل ثورة المقراني.


ولم تقع بعد ثورة المقراني ثورة ذات بال، وإنما وقعت انتفاضات محلية مرتجلة من بعض الرؤساء وقبائلهم المحدودة العدّ، ولم تكلّف فرنسا في القضاء عليها إلا أسابيع أو أشهرًا.


يصحّ أن نقسم حالة الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي بحسب تأثيره فيهم وتأثرهم به، إلى ثلاث مراحل، تبتدئ المرحلة الأولى منها من سنة 1830، وتنتهي سنة 1871 ومدّتها أربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثانية من سنة 1871 وتنتهي سنة 1914، ومدّتها ثلاث وأربعون سنة، وتبتدئ المرحلة الثالثة من سنة 1914 وتمتد إلى يومنا هذا، فمدّتها إحدى وأربعون سنة. ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائص وألوان نفسية من التأثّر والتأثير مسبّبة من المعاملات بين الفريقين، تجعل كل مرحلة تمتاز عن الأُخريين وتظهر الفوارق بينهن ظهورًا واضحًا مع اتصال المراحل بعضها ببعض، وسبب وضوح تلك الفوارق عظم أثر الحادثة التي تفصل بين المرحلة والمرحلة، فالفاصل بين المرحلتين الأولى والثانية حرب السبعين وأثرها في الأمّة الفرنسية كأمّة، وثورة المقراني وأثرها المتعاكس في الأمّتين الجزائرية والفرنسية، والفاصل بين المرحلتين الثانية والثالثة، الحرب العالمية الأولى وآثارها الخاصة والعامة.


ونحن نمرّ بكم على هذه المراحل ونعدّ لكم آثارها بإجمال، حتى تلموا بأصول الأحكام التي تسمعونها على المرحلة الثالثة وهي المرحلة ذات الموضوع الذي طلب منا الحديث عنه.


أما ـ[المرحلة الأولى]ـ:

فهي ثورات متصلة الحلقات في أغلب نواحي القطر، تتخلّلها هدن، كلها على دخن، وقد استغرقت حروب الأمير عبد القادر وحدها نصف تلك المرحلة تقريبًا، فالخصائص البارزة لتلك المرحلة هي الحرب والحديد والنار: فرنسا مصمّمة على تثبيت قدمها في الجزائر تطبيقًا لخطة مرسومة لا رجوع فيها ولا هوادة في الوسائل الموصلة إليها، والجزائريون مصمّمون على الدفاع عن وطنهم وإنقاذه من براثن الغاصب، فإذا شذّ عن ذلك جبان، أو استسلم ضعيف إيمان، فذلك ما لا تخلو منه أمّة ولا زمان، وفي فرنسا نفسها كانت توجد طوائف ناقمة على غزو الجزائر غير راضية به. وإذا كانت هذه المرحلة مرحلة دماء وأشلاء وموت فماذا ننتظر أن تكون الألوان التي تصطبغ بها النفوس في هذا الجو؟ إنه العداوة والبغضاء والحقد والانتقام يتداولها الفريقان، وعلى هذه الصورة مرّت المرحلة كلها، فإذا خفّ القتال في آخرها ورقأت الدماء، فإن العداوة والحقد والتربّص لم تخفّ، بل كانت تزداد شدّة واضطرامًا كلما ازدادت أسبابها، وأسبابها كل يوم تتجدد.


ففي هذه المرحلة كانت الأحوال متشابهة الأواخر بالأوائل، ولا علاقة بين الأهلي والمستعمر إلا العداوة وآثارها، وإن كانت هناك ظواهر هدوء في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة فهي إلى حين، والأحكام في الجهات التي اضطرّت إلى الخضوع عسكرية صارمة لا تزيد شقة العداوة إلا اتساعًا، على أن فرنسا لم تنسَ في تلك المرحلة مكايدها من التضريب بين الرؤساء والإغراء بين القبائل، والاستمالة بالمال والوظائف والوعود، وقد أثّر سحرها بين طوائف ما زالت تطلق على أعقابهم (أولاد أحباب فرنسا).


وأما ـ[المرحلة الثانية]ـ:

التي تبتدئ من حرب السبعين وثورة المقراني، فإن الأحوال انتقلت فيها من الضدّ إلى الضدّ في الفريقين.


فأما الجزائريون فإن فشل الثورة أثّر في معنوياتهم أسوأ الآثار، وجاء احتلال فرنسا لتونس في تلك الظروف جرحًا على جرح، وقرحًا على قرح، وساءت ظنونهم بكل شيء، حتى أوشكوا أن يقنطوا.


واستغلّ الدجّالون من المتصوفة والدراويش، الذين اصطنعتهم فرنسا لغاية التخدير، هذه الحالة النفسية في الشعب، فتعاهدوه بمنوّمات ينسبونها إلى الدين وما هي من الدين، وفحوى تلك المنومات أن الرضا بالاستعمار إيمان بالقدر. {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}.


وأما الفرنسيون المستعمرون فقد شعروا لأوائل هذه المرحلة أن أقدامهم ثبتت في أرض الجزائر، وأن المقاومة لم يبقَ لها شأن يخاف منه، وأنه آن للاستعمار أن يبسط ظلّه على الأرض، وسلطانه على الأبدان، ولكنهم أضاعوا الرشد في أول هذه المرحلة، وركبهم الطبع اللاتيني المركّب من الغرور والأنانية، فعموا عن تلك الحقيقة المجرّدة وهي أن القلوب لا تملك بالسيف، وإنما تملك بالإحسان، وخطوا لسياستهم في الجزائر السنن التي هم سائرون عليها إلى الآن، ومبناها على أن الأوربي سيّد، والأهلي عبد، ويتفرّع على هذا أنه لا حق للأهلي في الوظائف كيفما كانت مؤهلاته، ولا نصيب له من خيرات بلاده كيفما كان استعداده، وفروع أخرى كلها خبيث نكد.


بدأ الاستعمار على أثر فشل ثورة المقراني بانتزاع الأرض الخصبة في مقاطعة قسنطينة، واتخذ من الثورة ذريعة لذلك، وأقرّ فيها آلاف الأسر من سكان الالزاس واللورين، المقاطعتين اللتين انتزعتهما ألمانيا المنصورة من فرنسا المقهورة، وجاءوا بهم حفاة عراة جياعًا، وأحفادهم الآن هم ملوك الأرض بالجزائر وهم المسيرون لسياستها، لا على رغمنا بل على رغم فرنسا أيضًا، وطالما هدّدوها بالانفصال، وقد أضافت إلى هؤلاء بعد ذلك أخلاطًا من الطليان والإسبان والكورسيكيين، وسلطتهم على الأرض ومن فيها، وأطلقت أيديهم في انتزاعها من الأهلي بكل وسيلة، فهذا سلاح عزّزته بسلاح ثان، وهو قانون الانديجينا ( code de l'indigénat) الخاص بالأهالي وهو يبيح لأصغر حاكم فرنسي أن يسجن الأهلي خمسة أيام ويغرمه خمسة عشر فرنكًا، وله أن يضاعفها عشرات المرّات من غير سؤال ولا جواب ولا استئذان ممن هو أعلى منه، ولا تمكين من دفاع ولو بكلمة، وقد تكون الكلمة الواحدة من فم السجين موجبة لسجنه خمسة أيام، أو عشرة أيام أو ما شاء حضرة الحاكم، وكانت كلمة واحدة من معمّر أوروبي يلقيها إلى الحاكم بأن فلانًا الأهلي امتنع من أن يبيع لي أرضه كافية في بقائه في السجن أشهرًا مع مضاعفة التغريم حتى يبيع أرضه بالقيمة التي يرضاها المعمّر.


لا ريب أن هذا القانون الجائر الذي تضيق العبارات عن وصفه هو أمضى سلاح وأفتك سهم قضى به الاستعمار الفرنسي على البقية الباقية من نخوة الأمّة ورجولتها، وهذه العقوبة التي ذكرناها تترقّى مع رتبة الحاكم، فإذا كانت رتبته أعلى من المتصرف ففي قبضته من هذا القانون أن يسجن الأهلي البريء الماشي في الشارع أو المنعزل في بيته شهرًا كاملًا وله أن يضاعفه قبل نهايته بساعة واحدة، وله أن يغرم بما يناسب عقوبة السجن، حتى ينتهي الأمر إلى الوالي العام الذي هو صاحب أعلى منصب في الجزائر، فمن سلطته التي يخوّلها له هذا القانون أن ينفي أعلى جزائري قدرًا سنة كاملة بلفظة واحدة من غير مدافعة ولا محاكمة.


وعزّز السلاحين بسلاح ثالث وهو قانون استثنائي آخر سمّاه "ريبريسّيف" ( Répressif) (3) وهو عبارة عن محاكم زجرية خاصة بالأهالي، وكَّلَ فيها الأمر إلى صغار القضاة الأوربيين للحكم على المسلمين في جنايات تافهة، بأقسى العقوبات التي تستمد قسوتها من الحقد لا من القانون، ولا تقبل هذه الأحكام النقض ولا الاستئناف.


ثم عزّز هذه الأسلحة برابع، وهو "الضمان المشترك" وهو من القوانين الوحشية في عصور الظلمات، أحيته فرنسا المتمدنة في عصور المدنية، لتتخذ منه دليلًا على مدنيتها، ومعناه ما قاله زياد ابن أبيه (أخذ البريء بذنب المجرم)، ويقلد عليه بما يتفق مع روح الحضارة الفرنسية، بأنه (أخذ الأبرياء بلا ذنب اقترفوه).


وأصل هذا القانون أن الجزائر تكثر فيها الغابات الطبيعية وكلها محتكرة للحكومة، وهي من الموارد الدارّة على خزينتها العامة، ومعظم هذه الغابات شجرة الفلين وهي شجرة سريعة الاحتراق لمجرّد الاحتكاك، وكثيرًا ما تشتعل بهذا السبب (السماوي) مساحات واسعة من الغابات، فكان من عدالة الشرع الاستعماري أنه كلما وقع حريق من هذا الشكل حكم على جميع السكان الأهليين في وسط الغابة وفي أطرافها وقريبًا منها، على مسافة حدّدها، بغرامة تساوي ما يدفعونه جميعًا من الضرائب الاعتيادية لسنة واحدة.


والحكمة العليا للاستعمار من القانونين الأولين هي إذلال المسلم العربي الجزائري، والحكمة من القانون الثالث هي إفقاره. والإذلال والإفقار والتجهيل هي الأقانيم الثلاثة في عقيدة الاستعمار التي يتعبّد بها في معاملة المسلمين الجزائريين.


فاحكموا- رعاكم الله- هل يبقى لأمّة تساس بمثل هذه القوانين شيء من الكرامة الإنسانية، وهل يبقى لحكومة تسوس من أوقعهم القدر في قبضتها بمثل هذه القوانين، شيء من الاعتبار الإنساني؟ ولو كان لأحفاد أولئك الاستعماريين الذين شرعوا تلك القوانين ونفّذوها شيء من عرفان القيمة الشخصية لذابوا خجلًا من أعمال آبائهم وأجدادهم، ولتبرّأوا من الانتساب إليهم، وليعذرونا حين نقول فيهم هذا الكلام، فإن أجدادهم وآباءهم هم الذين سنّوا لنا قانون (الضمان المشترك) فإذا حملناهم ضمان ما اجترح آباؤهم فلنا في آبائهم أسوة سيّئة، والبادي أظلم، على أن أعمال هؤلاء الأحفاد أفظع وأشنع وأسوأ أثرًا، ولكنها بأسماء أخرى، وفي صور أخرى.


ثم اعجبوا- أسعدكم الله- لإخوانكم العرب المسلمين الجزائريين كيف احتفظوا بمميزاتهم من جنس ولغة ودين، مع هذا البلاء المبين، لعمركم ... إنهم ما احتفظوا بذلك إلا لخصلتين لا تنعدم الشعوب مع وجودهما: أصالة العرق، ومتانة العقيدة، وأخوكم الجزائري يضيع كل شيء حين يأخذ البلاء منه مأخذه، ولكنه لا يضيع هاتين ولو جهد البلاء جهده، وأصالة العرق هي التي حمته من الذوبان، ومتانة العقيدة هي التي حفظت عليه صلته بالله فلم تنقطع، وصلته بالشرق فلم يتغرّب. ولو أن شعبًا غير الشعب الجزائري أصيب بمثل ما أصيب به من الاستعمار الفرنسي لَلَحِق بطسم وجديس.


ـ[المرحلة الثالثة]ـ:

كل ما أصاب الأمّة الجزائرية من وهن وفتور واستكانة للعدوّ المستعمر فقد أصابه في المرحلة الثانية، وبسبب السياسة الاستعمارية وقوانينها التي ذكرناها، وجاءت حرب 14 - 18 فنقلت الجزائري من طور إلى طور.


فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى، والجزائري على ما أجملنا وصفه، ولكنها انتهت والجزائري على حالة غير التي كان عليها، فكانت تلك الحرب بالنسبة للحالة الفكرية النفسية رحمة عليه، فكأنها مدرسة علّمت وربّت، أو حمّام رَحَضَ وطهَّر، وخرج منها بشعور جديد، وتطوّر غريب، ووجدان صحيح، وعرفان بقيمة نفسه، وما هذا بالشيء القليل على الجزائري الذي كان بالأمس "أنديجانًا" فأصبح بفضل تلك الحرب إنسانًا، ولا يفقه قيمة ما نقول إلا من عرف الجزائري في أمسه، ثم عرفه في يومه، وقارن بين حالين في زمنين.


وأسباب هذا التطور ترجع إلى الأشياء الآتية، ومنها ما هو متداخل ولكننا نعددها للتوضيح.


ـ[الأول]ـ: أثر الحرب الذاتي في النفوس، فإن الحرب تترك في النفوس آثارًا متحدة لا فرق فيها بين الجندي الذي خاضها وصارع الموت في ميادينها، وبين من تركه وراءه من بنين وأهل وآباء وأقارب وصحابة، وبين المدني الذي مسّته في حريته أو ماله، وبين الذي فاءت عليه بالخير الكثير، والمال الوفير. كل هؤلاء يشعرون بأن الحرب غير السلم،
وأن اسمها مقرون بالموت والدمار والخسارة.

ـ[الثاني]ـ: إن الجزائري- بسبب ما أبقته فيه أحداث المرحلة الثانية- كان يستعذب الذل خوفًا من الموت، ولا يفقه أنه من خوف الموت في موت، ذلك لبعد عهده بالثورات والمَقاتل، فأصبح يفرّق بين الموت الذي اسمه الموت وبين الموت الذي اسمه الذل، ويؤثر أولهما على آخرهما، وكل هذا من بركة الحرب.

ـ[الثالث]ـ: من بركات الحرب على الجزائري أنه أصبح يحتقر الفرنسي بعد ما رآه جبانًا في الميدان، وذليلًا أمام عدوّه، ومتملّقًا للأهلي في سبيل المصالح التافهة بعد ما كان يحتقره بالأمس، وبذلك ارتفعت هيبته من نفس الجزائري.

ـ[الرابع]ـ: ما تحققه الجندي والمدني الجزائريان على السواء من انكسار فرنسا، لولا تدارك أمريكا لها في آخر الأمر.

ـ[الخامس]ـ: شعور الجندي الجزائري بالعزة من تنازل الفرنسي أمامه عن كبريائه بعض الشيء خوفًا على نفسه وعلى دولته، ومن سماعه لعبارات الإطراء بالشجاعة من قوّاده الفرنسيين، ومن الحكام المدنيين، ومكافأته بالنياشين العسكرية.

ـ[السادس]ـ: اللين الذي ظهر من الحكومة الفرنسية في سياستها المحلية مع الجزائريين، وكثير من حسن المعاملة لهم نظرًا لظروف الحرب، وكانت تصطنع ذلك كيدًا، ولكن الله فضحها بكيدها، فشعر الجزائري بوجوده من جديد، وانتعشت معنوياته وحييت آماله وتجرّأ على الكلام الذي كان محرمًا عليه.


ـ[السابع]ـ: تصريحات الرئيس الأمريكي (ولسن) على أثر الحرب، ومنها ذلك الفصل المطرب الذي اهتزّت له الأمم الضعيفة، وهو حق الأمم في تقرير مصيرها، وهذا الفصل وإن لم يتحقق منه شيء، ترك في نفوس الجزائريين أثره الحسن، وفتح عيونهم، وأفاض عليهم شيئًا من الجرأة، وبسط لهم الآمال في الحرية.


ـ[الثامن]ـ: إن فرنسا ألغت تلك الأحكام الاستثناثية الزاجرة في أثناء الحرب إلغاءً سكوتيًا، ثم ألغتها على أثر الحرب قانونيًا وعمليًا، ولم تبق منها إلا بقايا في يد الوالي العام، مصحوبة بتنفيس عظيم، وهو أن الحكم لا يصدره إلا مجلس الولاية، 

وأن يعطى للمتهم حق الدفاع، وقد أُلغيت تلك البقايا بعد ذلك، وقارن إلغاء تلك القوانين الاستثنائية بعض تعديلات في قوانين الانتخاب للمجالس النيابية، فأشربت شيئًا قليلًا

من الإنصاف للجزائري، خوّله أن يمارس بعض حقّه مُنتخِبًا ومُنتخَبًا.

بدأت آثار هذا التطور الفكري تظهر بجلاء على أثر انتهاء الحرب ورجوع المجنّدين الجزائريين إلى ديارهم، وكثير منهم يحمل الأوسمة العسكرية وشهادات البطولة ويتقاضى المرتبات الوافرة طول عمره، وأهم من هذا كله أنه يحمل فكرة جديدة عن نفسه وعن الفرنسي زميله في الحرب وجاره في السلم، وسيّده الموهوم بالأمس، وكأن لسان حال الجندي الجزائري يقول لزميله الفرنسي:
قد عرفناكم ... فلا سيادة بعد اليوم ...

وكان من آثار هذه الروح الجديدة أن ارتفعت أصوات فردية تطالب بحق الجزائري في الحياة السياسية، وتسويته بالأوربيين في الحقوق، بعد أن سوّت بينهما الحرب في الواجبات.

ولو أن المجنّدين الجزائريين كانوا على حظ من الثقافة العامة، لكانوا قوة في هذه المطالبة، وعضدًا للمطالبين بالحقوق السياسية وهم أصحاب الحجة الناهضة لاستحقاق هذا الحق، ولكن من حسن حظ فرنسا بل من صنع يدها أن معظمهم كانوا أميين أدركوا ما أدركوه من فهم للحقائق وشعور بالوجود واستحقاق للحياة، بالفطرة: والأمية جند من جنود الله يصرفه الأقوياء والعالمون دائمًا فيما ينفعهم ولمثل هذه العواقب كانت فرنسا تمكن للأمية في الجزائر وتسدّ منافذ العلم والتثقيف في وجه الجزائري.

ارتفعت أصوات المطالبة بالحقوق السياسية، وتردّدت أصداؤها حتى في الأوساط العامة، وأصبح كل صاحب صوت سياسي يجد له أنصارًا يلتفون حوله ويتعصبون له ويتفننون في الدعاية لمذهبه السياسي، ولانتخابه نائبًا إذا رشّح نفسه لذلك، وكانت أنواع المجالس النيابية المفتوحة في وجه الجزائري إذ ذاك ثلاثة: المجالس البلدية في الدوائر التي يسمّيها الفرنسيون: الدوائر التامة التهذيب، والمجالس العَمَالِية في المقاطعات الثلاث (4)، والمجلس المالي بالعاصمة، وهو الذي يتحكم إذ ذاك في مالية الجزائر لأنها مستقلة عن مالية فرنسا، وهذا المجلس هو أعلى المجالس وأقواها نفوذًا وللعضو فيه قيمته وسمعته، غير أن النسبة العددية فيه مجحفة، فالثلثان من أعضائه أوربيون وإن كانوا لا يمثّلون إلا عشر السكان، وثلث الأعضاء من الجزائريين، مع أنهم يمثّلون تسعة أعشار السكان. وهذه النقطة هي إحدى مظاهر الأنانية الفرنسية.



اشتهر من الأفراد الذين رفعوا أصواتهم بالمطالبة بحق الجزائري في السنوات الأولى لما بعد الحرب، الأمير خالد بن الهاشمي بن الأمير عبد القادر الكبير، وهو رجل شجاع جريء رجع أبوه الهاشمي من دمشق إلى الجزائر في حياة أبيه مغاضبًا له، واستوطن قرية صحراوية من الجنوب الشرقي لمقاطعة الجزائر تسمّى (بو سعادة) وسهّلت فرنسا لولده خالد الدخول في أشهر كلية حربية بفرنسا، وهي كلية (سانسير)، فتخرج منها برتبة ضابط (قبطان) (5) وانخرط في كتيبة الخيّالة الجزائرية بتلك الرتبة، واشتهرت عنه صفات عسكرية ممتازة. فلما أحيل على المعاش في أواخر الحرب الأولى كان من أول من رفع صوته مطالبًا- في جرأة وإلحاح- بحقوق الجزائريين، وكان الظرف كما وصفنا مناسبًا، وأعانه على ذلك سمعته النَّسَبية وسمعته العسكرية، واقتحم المعارك الانتخابية للنيابة لأول ظهورها في الجزائر ففاز في جميعها، لما رأى المنتخبون فيه من الإقدام على فتح باب كان محرّمًا عليهم دخوله، وكانت فيه صفات أخرى يزنها العامة بالوزن الثقيل، وهي التي أحلته من نفوسهم في موضع الإكبار، منها أنه محافظ على الدين قولًا وعملًا، ومنها أنه شعبي في مظهره ومخبره، ومنها أنه خطيب مبين قوي الحجة، قوي التأثير، فخم المنطق باللغتين العربية العامية والفرنسية، وقد انضم إليه أفراد من كاملي الثقافة الفرنسية، ثم انقطعوا عنه لاستبداد كان فيه واعتداد بالرأي، وأنانية فظّة، وتهم أخرى يصح بعضها ولا يصح أكثرها، ومنها ما صدقتها خواتمه، وناوأه آخرون، فكان أولئك وهؤلاء مزيدًا في قوّته والتعصّب له، وطار ذكره وكثر الحديث عليه، فكان ذلك كله موثّرًا في طبقات الشعب تأثيره الحسن.


أحدث خالد حركة قوية كانت هي الحركة الأولى أو النواة لما تطورت إليه الحركة السياسية الوطنية في الجزائر، إلى درجة أن ضاقت به فرنسا ذرعًا، وعرضت عليه أثمانًا مما تشتري به الأحرار فأباها، فألزمته بالخروج من الجزائر إلى حيث يشاء، فارتحل بأهله إلى الاسكندرية، ثم انتقل منها إلى دمشق حيث تقطن البقية من أعمامه وبنو أعمامه، وكان فقيرًا لا يملك إلا مرتّبه العسكري من الخزينة الفرنسية، لأن أباه لم يرث شيئًا من تركة الأمير عبد القادر الواسعة، ولعلّ بعض أقاربه كانوا يعينونه على الحياة، ولكن مذهبه القديم في عداوة فرنسا قد تغيّر في أخريات أيامه، وكثرت فيه أقاويل سهل مداخلها إلى النفوس أن فرنسا كانت محتلة للشام إذ ذاك، فمن القريب أن ارتداد خالد عن وطنيته غير صحيح، أما في الجزائر فقد ترعرعت الوطنية بعده وقطعت المطالبة السياسية مراحل فغطت على اسمه وسمعته ومذهبه، وأي ذكر يبقى لمثل خالد مع ضحايا الوطنية وشهدائها؟


الأمير خالد هو أول سياسي في الجزائر اصطنع جريدة لخدمة سياسته، وقد سبقت جريدته جريدتان فتحتا الباب لنقد الإدارة ورجالها ولم تخدما سياسة مرسومة، أما خالد فقد أنشأ جريدة "الإقدام" باللسانين العربي والفرنسي لتكون سلاحه في السياسة الوطنية، وكانت هي الجريدة الجزائرية السياسية في السنين الأولى لبدء الحركة، وكانت لها مواقف في التشهير بالإدارة الحكومية الاستعمارية، وآثار في تنبيه الأذهان، والتخطيط الأول لمنهاج التربية السياسية، وكانت خطب خالد وجريدة خالد هما الصوت السياسي المردّد المحكي في ذلك الحين.


ولكن معاني تلك الخطب والمقالات أصبحت اليوم عبث لاعب بعد أن انتشر الوعي السياسي واستحكمت الآراء الوطنية، وصهرتها التضحيات وأريقت على جوانبها الدماء، وبرز فرسان الخطابة والكتابة في ميدانها. وعلى هذا كله، فهل يحسن بالجزائر أن تنسى فضل خالد؟ إن نسيته فإن التاريخ لا ينسى فضل البادئ، ولا يطمس المبادئ بالخواتم.


وظهر في أيام خالد رجلان كان لهما صوت مؤثّر في التكوين السياسي بالجزائر، كل في الإقليم الذي نشأ فيه، ولكن لم تكن لهما مشايعة لخالد تقوّيه أو تظهره بمظهر زعيم سياسي لمبدإ أو لطائفة، أو تظهرهم جميعًا كبداية لحزب ذي نهج معروف.


أحد الرجلين هو الشيخ الحاج محمد بن رحّال، من ذوي البيوتات العريقة في بلدة "ندرومة" بالشمال الغربي لمقاطعة وهران، وندرومة هي القرية التي خرج من أحوازها عبد المؤمن بن علي الكومي خليفة المهدي بن تومرت ومؤسّس دولة المُوحّدِين العظيمة وأحد الذين نظموا الشمال الأفريقي ومعه الأندلس، في مملكة واحدة.


والشيخ الحاج محمد بن رحّال كان زميلًا للأمير خالد في النيابة بالمجلس المالي الجزائري، وكان أقرب الناس إلى تأييده، ولكنه كان رجلًا بعيد النظر واقعيًا ينظر إلى الأشياء بعين الحكيم لا بعين السياسي، وينظر إلى الجزائريين بعين المسلم فيرى أنهم بلاء على أنفسهم قبل بلاء الاستعمار، وأن الواجب أن يصلحوا أنفسهم بجمع الكلمة والمحافظة على الدين، إلى غير ذلك من أنواع الإصلاح الداخلي الممكن، وكان- رحمه الله- محترمًا من جميع العناصر، يتمتعّ بجلال البيت، وجلال السن، وجلال الدين، وجلال العلم، وكان وقور الطلعة، نيّر الشيبة، محافظًا على تقاليد البيوتات في اللباس العربي والعمامة وجميع طرز الحياة، وكان خطيبًا مفوّهًا باللغة الفرنسية، جهيرًا بكلمة الحق، مسدّد الرأي، ولم تزل خطبه الفرنسية محفوظة كنماذج عالية من الأدب وأنماط غالية في الرأي.


ولقد سمعته في حدود سنة 1921 ميلادية يخطب في المجلس المالي الجزائري بالفرنسية، وأنا لا أفقه كلمة منها، فرأيت السامعين خاشعين منصتين، من نوّاب مسلمين وأوربيين وصحافيين ونظارة، كأنما على رؤوسهم الطير، مع أن حديثه كان شرحًا ودفاعًا في نقطة مالية، في ضرائب حظ الأهالي منها وافر، ومصالح حظهم فيها مغبون، وقال لي أحد الحاضرين من أبناء ذلك اللسان وممن يحسن العربية: ان هذا الرجل يسحر ببيانه ويؤثّر به في خصومه، وكانت تحفه في موقفه ذلك هالة من الجلال، يبدو كأنه قطعة من الثلج: وجه جميل ولحية بيضاء وألبسة صوفية وطنية بيضاء.


ويجتمع ابن رحّال والأمير خالد في عدة خلال، منها علو الهمّة الموروث عن البيت، والصدق الموروث من الدين، وإن كان وزن ابن رحّال في هذا أرجح، ومنها الشعبية الصميمة البارزة في كل مخبر منهما وكل مظهر، ومنها البيان وقوّة الحجة والاقتدار على الإقناع وامتلاك ناصية اللسان الفرنسي.


ويفترق الرجلان في خصال: فابن رحّال هيّن لين هشّ يجمع الصفات التي وردت في المؤمن، ما لم يصل الأمر إلى الدين، فإذا مسّ الدين استحال ذلك الهدوء إلى غضبة لا يقوم لها شيء؛ والأمير يمتاز بالصلابة، ولا يخلو من الاعتداد بنفسه وبنسبه إلى الأمير عبد القادر، وقد يبدو من بعض بداوته أن نفسه تنطوي على مطمع بعيد وهو أن يصبح ملكًا على الجزائر، وهذه إحدى الثغر التي نفذ منها خصومه إلى الطعن في صدق وطنيته. ولعلّه لو طالت حياته السياسية، ولم تفسدها عليه التطورات الوطنية الجارفة، وانتهت به إلى المساومة والمفاوضة، لرضي بلقب ملك ولو تحت حماية فرنسا، فإن أصحاب النزعات الملكية، المفتونين بالألقاب الموروثة، أقرب الناس إلى الزلل. ويمتاز الشيخ ابن رحّال بالحكمة والأناة وبُعد النظر وحسن التقدير للأشياء والتزام الصدق مع العدو والصديق، وعدم الاغرار بالبيت والجاه والمنصب.


وثاني الرجلين المشاركين للأمير خالد في بدء الحركة السياسية هو الدكتور موسى، وهو دكتور في الطب بمدينة قسنطينة عاصمة المقاطعة الكبرى المنسوبة إليها، ولم تكن للدكتور موسى شهرة الأمير خالد، ولا سمعة ابن رحّال، ولا بيت كبيتهما، ولكنه كان جريئًا مقدامًا، فجرّأ الألسنة على النطق، وساهم في نزع هيبة الاستعمار ورهبته من النفوس، أما الشعبية والتديّن والبيت والنسب وهي الخلال التي اشترك فيها الرجلان فإن الدكتور خالٍ منها، وإنما اشتهر بشجاعته ورفع صوته مطالبًا بحقوق الجزائر السياسية، فتعلّق به بعض شباب ذلك العهد وأصبحوا تلامذة له وأنصارًا لمذهبه وأتباعًا. ولتعلّق الشباب به، وهو لِدَتُهُم- أو قريب منهم في السن- كوّن شبه مدرسة سياسية بقيت بعد موته إلى أن اتصلت بمبدإ الحركة السياسية المنظّمة وكانت إحدى قواعدها.


أما طريقة ابن رحّال والأمير خالد فلم تتكوّن لها مدرسة للتخريج السياسي أو الوطني، فماتت طريقة ابن رحّال بموته، وخمدت حركة الأمير خالد بإخراجه من الجزائر، ولم يرث أحد عنهما مشربهما في السياسة، وإن بقي اسمهما عامرًا لحقبة من أوائل التاريخ السياسي الحديث في الجزائر.


وبالجملة فلا يستطيع المؤرّخ المنصف أن يغفل هذه الأسماء الثلاثة اللامعة، لأن إغفالها طي لعدة صحائف من هذا التاريخ، وإنما يجب على المؤرّخ أن يعطي كل واحد منهم حقّه بالقسط، فإن لا يكونوا سواء في أشياء، فهم سواء في فتح الباب وإحياء الشعور، وتنبيه النزعة الوطنية، رحمهم الله جميعًا.


كان هذا كله في أوائل العقد الثالث من هذا القرن، وكان هذا البذر مسايرًا في نموّه لنمو الشعور العام في الشعب، وقد يحار المفكّر لأول وهلة في نقطة تبدو غامضة وهي: أيّهما كان المؤثر في الآخر والمغذّي له؟ هل شعور الشعب هو الذي كان يحرّك السياسيين، أم أن أصوات السياسيين هي التي كانت تحرّك الشعب وتهزّه فتثير إحساسه وتنبّه شعوره؟ والحق أن الشعوب التي كمل نضجها أو قارب، يتفاعل فيها إحساس الساسة بإحساسها ويتجاوبان، وقد يطغى أحدهما على الآخر حينما يندفع الشعب إلى مهواة على غير هدى فيردّه الساسة الصالحون إلى الجادة، أو ينزلق الساسة في عمايتهم وضلالهم فتردّهم صيحات الشعب إلى الصواب. وإنما نقول هذا في الساسة الناضجين الذين لا تختلف بهم السبل ولا تعمى عليهم وجوه الرأي والمصلحة إلا قليلًا وعن اجتهاد، وفي الشعوب الرشيدة أو المراهقة للرشد، أما شعبنا وأمثاله من الشعوب البدائية التي هي في عقابيل من أمراض اجتماعية، ولم يتمّ صحوها من سكر الجهل وسكر الغفلة وسكر التقليد، فإن هذا التفاعل والتجاوب بينها وبين قادتها السياسيين يكون مفقودًا في هذه الفترة، وليست هذه الفترة فصل نباته، والغالب على الشعوب البدائية في السياسة أن تكون على بقية من وثنية، أصنامها الشخصيات، فيكون إحساسها تابعًا لإحساسهم وحركاتهم منوطة بتحريكهم ولو إلى الضياع والشر، وهذه هي الحالة السائدة في شرقنا، وقد تفطن الغربيون لهذه النقيصة فينا، بل إلى هذه الثغرة الواسعة في نفوسنا، فأصبحوا ينصبون لنا التماثيل من الرجال ويحكموننا بها ويصرفون حياتنا من ورائها لمصلحتهم.


لذلك يكون من الطبيعي أن الشعب مع شعوره العام بوجوده وبتبدّل الحالة ولزوم تغيير الأوضاع، بدأ يتحرّك بنفاذ ما يصل إليه من إجراءات أولئك الأفراد الذين ذكرنا أسماءهم وبمن أتى بعدهم، لأن هذه الفترة التي نتحدّث عليها لم تنته بانتهاء حياة أولئك الأشخاص، وإنما تطوّرت واستحكمت وانتقلت من نطاق الشخصيات إلى نطاق المبادئ، ومن حركة سياسية كلامية إلى حركة وطنية عملية تعتمد على الضحايا والدماء، ومن أسماء الأشخاص إلى أسماء الأحزاب المنظّمة، وكان تطوّرها سريعًا مدهشًا للاستعمار نفسه.



وظهر في الميدان السياسي لأوائل هذه الفترة رجل غريب الأطوار وهو الدكتور صالح ابن جلّول، من البيوتات المتوسطة الشهرة بمدينة قسنطينة وله عرق من جهة الأمومة يتصل بأحد بايات قسنطينة الأتراك، لعلّه هو الذي نقل بيته من الخمول إلى شيء من النباهة، فظهر وارثًا لحركة الدكتور موسى ومتوسّعًا فيها بما يقتضيه الحال وتمليه التأثّرات المتزايدة، وابتدأ جريئًا مدوي الصوت، واقتحم معارك الانتخابات النيابية ففاز فيها بقوة الشعب، واكتسح هو وأصحابه بقايا النوّاب الذين كانت تعيّنهم فرنسا تعيينًا، وكان اقتحامه مع أصحابه لمجالس النيابات فتحًا جديدًا في النيابة الأهلية أفشى فيها الحركة والحياة، وأشعرها بشيء من الاعتبار والاعتزاز، وبدأت الموضوعات الأهلية الحسّاسة تطرق على منابر النيابة العَمَالية وتثار ويدافع عنها فتحرج فيها الحكومة أحيانًا، بعد أن كانت تلك الموضوعات كقبر المسلم لا ينبش ولا يمشى عليه ... وبالجملة فقد كانت نيابة الدكتور ابن جلّول إنشاء للمعارضة البرلمانية في مجالس النيابات الجزائرية، ويصحّ للمؤرّخ المنصف أن يقول: ان ابن جلول قاد السياسة الجزائرية في السنوات الأولى بقوة وجرأة ارتاعت لها فرنسا، وخرج بها من الميدان الفردي، فانضمّ إليه- لأول مرة- في تاريخ الاستعمار بالجزائر، جماعة من النوّاب الأحرار الذين ظهروا في فجر اليقظة، وغالبهم دكاترة وحقوقيون فتكوّنت منهم هيئة تشبه الحزب السياسي تحت اسم "اتحاد النوّاب"، وكان هذا الاتحاد خاصًّا بعمالة قسنطينة، ولكنه كان في طريقه إلى التعميم في الجزائر ووهران، لأن اسم ابن جلول وزعامته السياسية تجاوزتا مقاطعة قسنطينة إلى المقاطعتين الأخريين، ولكن الرجل تملّكه الغرور وتذبذبت سياسته بين الفردية والأنانية، وبين الوطنية التي تذوب فيها الفردية والأنانية، وتكشف عن خلال كلها غميزة في وطنية السياسي، وظهر بعده سياسيون أصدق منه وطنية، وأثبت فيها لونًا، وإن كانوا أقل منه ثقافة وعلمًا، فضاق بهم ذرعًا، ولم تتّسع أنانيته للتعاون معهم كما هو الواجب على السياسي المخلص، وكان أقوى الأسباب في سقوطه اصطدامه بجمعية العلماء وهي التي كوّنته وأذاعت اسمه وعبّدت له الطريق إلى النيابات، فأرادت الجمعية أن تستصلحه فلم يصلح، فنبذت إليه على سواء، ورأت أن سكوتها عليه غش للأمة به فأشعرتها بذلك فانفضّت الأمة من حوله، وهو الآن عضو في البرلمان الفرنسي يقارض فرنسا تأييدًا بتأييد، تشدّ أزره في الانتخابات، ويشدّ أزرها بأن صوته دائمًا معها، فهي حين تشتريه إنما تشتري صوتًا لا شخصًا، ونعوذ بالله من مصارع السوء.


وفي هذا الرجل خصلة لا نعرفها إلا نحن الذين لابسناه مؤيدين وناصحين ومستصلحين ومنابذين، وهي أنه شجاع اللسان جبان القلب، مذبذب الرأي بين ذلك، وانه قبل ذلك رجل سياسة لا وطنية، ونصفه بالسياسي تجاوزًا، لأن سياسته من النوع النيابي الذي يعتمد على الخطابة والمعارضة وإثارة المناقشات العقيمة.


قلنا انه في أوائل عهد الدكتور ابن جلّول ارتفع شأن النيابة الأهلية، ونقول إن ميدانها اتّسع قليلًا، وكأن الحكومة الاستعمارية التي تدرس نفسية الشعوب قبل كل شيء لتبني معاملتها لها على أساس نفسي، كأنها درست النفسية الجزائرية العامة وعرفت مواطن الضعف ومداخل الشر إليها، فرأت أن الانتخابات النيابية هي الفتنة الكبرى للزعماء وأتباعهم معًا، ومدعاة لتنافسهم، ومجلبة للحزازات بينهم، فنصبتها صنمًا يصطرعون حوله، ويتعصّب كل فريق منهم لصاحبه، فتشتدّ المصارعة وتضيع الأموال والعلائق، وتنشأ العداوة بين الأُسر والقبائل والمجموعات الحزبية تبقى على الدهر، وفي هذا من الفوائد للاستعمار إلهاء الأمة بغير المفيد عن المفيد، وغرس لأسباب العداوة بينها حتى يشتغل بعض أبنائها ببعض ويستريح الاستعمار، وما رأينا سببًا من أسباب العداوة يدوم وتبقى آثاره- حتى القتل- مثل ما تبقى آثار العداوات الناشئة عن الانتخابات النيابية بالجزائر.


تفطن الاستعمار المتدسّس في خبايا النفوس إلى هذه النقطة وعلم خيرها له، فاتّخذ منها أداة جديدة للتفريق والتمزيق، حينما علم أن الذهن الجزائري تطوّر، وأن النزعة الوطنية بدأت في الظهور، وأنه سيعقبها تيّار وطني جارف، وأن الأمر سيؤول إلى اتحاد سياسي يقتضيه اتحاد المقوّمات من جنس ولغة ودين، فرمى الجزائر بهذه النكبة المفرقة المشتتة للشمل، وهو على بيّنة من أمرها وعلى يقين من آثارها السيّئة في الأمم الضعيفة، وزاد في ضرر هذه النكبة أنه لا يشترط في المرشّح الأهلي للنيابة أن يكون عارفًا للقراءة والكتابة، وأن الحكومة الاستعمارية تتدخّل بالترغيب والترهيب، لفوز أتباعها وأنصارها، وقد تتدخل أحيانًا بقوة البوليس والسلاح، وقد أدّى هذا التدخّل مرّات إلى سفك الدماء، وقد تتعمّد كثيرًا تزوير الانتخابات، بل لم تخلُ من التزوير ولا مرة، فإذا اتفق فوز واحد أو اثنين من خصومها البارزين فذلك لتدفع عن نفسها العين، وتذرّ الرماد في الأعين، ولتتخذ من ذلك دليلًا على حرية الانتخابات، وأن عدد النوّاب الأهليين لا يزيد عن الثلث في جميع المجالس، في جنب ثلثين من الأوربيين الأحرار القارئين الكاتبين، وأكثرهم من المثقفين ثقافة عالية، العارفين بوجوه المصالح، وقد عدّل في السنوات الأخيرة قانون التحديد بالثلث، فارتفع إلى الخمسين في جنب ثلاثة أخماس من الأوربيين، ثم جاء الدستور الجزائري الأعرج الذي سنتحدّث عنه فساوى في العدد بين أعضاء المجلس الجزائري من العنصرين، لا إنصافًا للعنصر الأهلي، ولكن اعتمادًا على حكومة الجزائر (6) التي برعت في تزوير الانتخابات الأهلية حتى أصبحت تضرب بها الأمثال في ذلك، خصوصًا وأسلحة الترغيب والترهيب كلها في يدها، والعارف بدخائل الحكومة الجزائرية يعلم أنه لا معنى لتنصيص الدستور الجزائري على العدد، ما دام العدد لا مفهوم له في أصول تلك الحكومة، حتى لو أن القانون أعطى للجزائريين تسعة أعشار الكراسي النيابية وأعطى للأوربيين العشر لكان التسعون كلهم من أنصار الحكومة، وقد يكونون أجدى عليها بفضل تلك البراعة في التزوير، وبفضل حسن اختيارها للأنصار، ومع إخلاص من تختارهم لها فإنها تبالغ في الاستيثاق منهم فتشترط عليهم قبل الترشيح أن يمضوا نسخة استعفاء بخطوطهم من غير تاريخ، فإذا نطق أحدهم بما يخالف مصلحة الحكومة ولو غلطًا، أو تظاهر بمؤازرة النوّاب الأحرار ولو بإشارة، أو سكت حيث يجب أن يتكلم في تأييدها أو تغيّب عن جلسة مما يحتشد فيه أنصارها- أَرَّخَتْ تلك النسخة ونشرتها- فيصبح صاحبها مستعفيًا بإكراه في صورة اختيار، ولا تكتفي بهذا في عقابه، بل تسجّل عليه سخطها وغضبها، حتى يتوب ويسعى في استرضائها من جديد.


كل هذا التفاوت بين عدد النوّاب يقابله تفاوت عكسي في عدد المنتخبين (بالكسر) فهذه الأقلية من النوّاب تمثّل عشرة ملايين جزائريين، وهذه الأكثرية الساحقة منهم تمثّل أقلية من الأورييين لم تجاوز المليون إلا في السنوات الأخيرة، ولكنه العدل الفرنسي، والمدنية الفرنسية، والحرية الفرنسية التي ملأت العالم.


واحكموا أنتم في تلخيص القضية على هذه الصورة ... إذا كان عدد النوّاب الأهليين في المجالس النيابية بالجزائر لا يساوي عدد النوّاب الأوربيين كمًا ولا كيفًا ولا حرية، فأي خير يكون للجزائريين أو يرجى لهم من هذه الانتخابات؟ أوَلا يكون صحيحًا ما وصفتها به من أنها نكبة مدبّرة متعمّدة من الاستعمار لما يعلم من آثارها في مصلحته؟ مثله أن تقول لعبدك: أنت حر في تصرفاتك، ولكن يجب عليك أن لا تفعل شيئًا ولا تتحرّك ولا تسكن إلا بإذني.


النظام الانتخابي في النيابات إنما يكون مفيدًا ونافعًا ودليلًا على الحكم الشوروي وإثبات سلطة الأمة في الأمم التي استوفى أفرادها حريتهم، وتقاربت ثقافتهم باشتراكهم في المعارف العامّة، واتّحدت مصالحهم، وكان لكل واحد منهم حظ ثابت في تلك المصالح، وسوّت الحرية بينهم في طرد الانتخاب وعكسه، فكل من ينتخب ينتخب، أما فيما عدا هذا كما هي حال الجزائر مع فرنسا، فإن الانتخاب والنيابة وما أشبههما من هذه الألفاظ التي ليس لها مدلول إنما هي خداع من القوي للضعيف ليأكله بفتوى، ويقتله بحجة، ويستعبده إذا استبقاه بحكم.


وإذا كان الشر ينطوي على شيء من الخير، أو يكون في بعض الأوقات أو بعض الجوانب خيرًا، فإن من جهات الخير في هذه الانتخابات التي يمنّ بها الاستعمار على الجزائريين أنها تدريب لهم وشحذ لأذهانهم، ونوع من الارتياض على المقاومة، وكشف صريح عن مساوئ الاستعمار ونيّاته، وتمرّس عملي برجاله، وتمرين على أساليب الدعاية، وقد أصبح الجزائريون اليوم من أحذق الناس بتسيير الانتخابات وحيلها والدعاية لها، وهو في جملته خطوة أولى عرجاء سيقوّمها استمرار الزمان وتزايد الشعور وإلحاح المطالبة ويسدّدها، وقد يقول الراضون عنها: ما دمنا في الجهاد والمغالبة مع خصم عنيد فهذه إحدى وسائله، والحق لا يؤخذ دفعة واحدة، ولا بدّ من المصابرة، ولكن الشر المحض فيه أنه أصبح فتنة للزعماء السياسيين وللأحزاب التي يقودونها، فصاروا يتهافتون عليه ويحتربون كاحتراب الأحزاب الفرنسية أو أشدّ، والأحزاب الفرنسية إنما تختلف في وجوه المصلحة لا في المصلحة نفسها، فهي محل اتفاق بينهم، على تباعد الطرفين، أما أحزابنا التي ليس في مصلحة الوطن أن تتعدد فإن تهافتها على الانتخابات مشغلة لها عن السياسة والاهتمام بها، على أنهم بإعطائهم هذه العناية للانتخابات توهّموا وأوهموا أن النيابة هي السياسة أو هي غاية السياسة قياسًا لشعبهم على الشعب الفرنسي، وعلّتهم في ذلك أنهم يفهمون النيابة فهمًا جمهوريًا ممّا يقرأونه في الكتب، لا فهمًا استعمارًيا مما يقرأونه في كتاب الواقع. والنائب بالمعنى الجمهوري يمثّل الشعب الحرّ الذي انتخبه انتخابًا حرًا ليحرس حقوقه ومصالحه من الحكومة، ويحامي عنها، فصوته هو صوت ذلك الشعب، أما النائب بالمعنى الاستعماري، فهو عامر (خانة) كما يقولون، وانتخابه صوري، وهو نائب الحكومة لا نائب الشعب، وقصارى أمره إن كان شعبيًا، وكان انتخابه شعبيًا، أن يساوم بصوته حينما تحتاج الحكومة إلى صوته، وقلّما يكون هذا.


زعماؤنا السياسيون بالجزائر- سامحهم الله- تهوّروا في الانتخابات وفتنتها وعداوتها، نتيجة لذلك الفهم الخاطئ فتهوّروا- تبعًا لذلك- في النيابات العرجاء الناقصة، وعلم الاستعمار منهم ذلك فزادهم إغراء بها، وتشويقًا إليها، وكلّما رأى منهم افتتانًا بها زاد إمعانًا في تزويرها ومسخها، وقد ظهرت الحقائق لعقلاء الأمة، فظهر لهم معها أن هؤلاء الزعماء متهافتون على كراسي النيابة طمعًا في مرتباتها الضخمة وامتيازاتها الشخصية، من ركوب مجاني ومقابلات رسمية وما أشبه هذا من هذه التوافه التي يترفع عنها ذوو الهمم، فضلًا عن رجال السياسة، الذين ينظر إليهم الناس نظرة الإمامة والقدوة الصالحة، وهذه النظرة الناقصة من عقلاء الأمة لرجال السياسة هي بعض مقاصد الاستعمار وغاياته، فإن مما يفيده ارتفاع الثقة بين الساسة وأتباع مبادئهم.


ويدخل النائب ذو المبدإ السياسي هذه المجالس فيضيع صوته الوطني في ضجيج أصوات الأكثرية المناوئة له، ويضيع تمثيله للشعب بين من يسمّيهم العرف الوطني في الجزائر (بني وي وي) (7) فكلما ارتفع صوت من نائب حر عارضه الاستعمار بعشرات الأصوات من زملائه وبني جلدته بدعوى أنهم ممثّلون للشعب أيضًا، وهم جماعة وهو واحد، (ويد الاستعمار مع الجماعة). وهكذا أصبحت الانتخابات والنيابات في الجزائر مهزلة مضحكة مبكية، وأصبح النوّاب الأحرار أصحاب المبادئ الحزبية صورًا لا قيمة لها إلا في تكميل النصاب في الكراسي. ولو أن رجالنا السياسيين، ورؤساء الأحزاب بصفة خاصة، والمثقفين منهم ثقافة عالية بصفة أخصّ، صرفوا عنايتهم إلى تربية الأمة تربية سياسية وطنية صحيحة عملية لكانت أعمالهم أعود بالخير والنفع على الأمة الجزائرية من جميع الانتخابات والنيابات.


ورأي في الزعيم السياسي المثقف في أمة كأممنا الشرقية- ولا أحاشي الأمة المصرية- أنه يجب عليه أن يترفّع عن الميادين التي تشغله عن المهم، وتلهيه بالصغائر، وتفتنه بالمحقرات، وتخلق له الخصوم من الأمة التي يعمل لها ولخيرها، وأن يصرف همّه كله إلى تربية الأمة وجمع صفوفها على حقّها الوطني وتحريك الساكن منها، وإيقاظ النائم، وتنبيه الغافل، وتأليف الشارد، فإذا تمّ له ذلك أصبح مرهوبًا من الحكومة، وأصبح محبوبًا عند الأمة، قليل الخصوم، وبذلك يصبح متحكّمًا في عدة ميادين ... متحكمًا في الانتخابات الأهلية يسيّرها في المصلحة الوطنية ويقدّم لها من يقدّم على أساس الكفاءة، لا على الاعتبارات الحزبية والشخصية، وبتحكّمه في الانتخابات يكثر النوّاب الصالحون، وبهيمنته على النوّاب يوحّد كلمتهم ويوجّههم إلى التي هي أنفع فيصبحون قوة ذات بال.


وعندي أن إمام الزعماء السياسيين في الشرق سعد زغلول نقصت قيمة زعامته السياسية بنزوله لميدان النيابة والحكم بشخصه، ولو أنه تعالى عنها وترفّع، وبقي في أفق الزعامة مشرفًا على تربية الأمة تربية سياسية كاملة، لحطّم في الاستعمار حطمة تقصر عمره.


أطلت فضل إطالة في الحديث عن الانتخابات النيابية وآثارها السيّئة في الجزائر معتمدًا على ما رأيت بعيني وبلوت بنفسي، ولو عممت الحكم عليها في جميع شعوبنا الشرقية لما كنت بعيدًا عن الحقيقة، فإن الانتخابات اختيار للمصلحة العامة، وشعوبنا ما زالت مضللة مسخّرة، ومخدوعة مسحرة، لا تفقه للمصلحة العامة معنى، فضلًا عن اعتبارها، فضلًا عن حسن الاختيار لها، فما أحوجها في هذه الفترة المضطربة إلى مستبد عادل، ومن لها بالمستبد العادل؟


ولنرجع لفصل كلامنا على بدء الحركات السياسية الوطنية بما يتمّمه.


كانت الحركة التي بدأت كلامًا من الشيخ الحاج محمد بن رحّال والأمير خالد والدكتور موسى، وانتهت بظهور الدكتور صالح بن جلول في الميدان، حركة ضعيفة، شأن بدايات الأشياء، وكانت حركة الدكتور بن جلول على نشاطها واتّساع دائرتها بالنسبة إلى سابقتها حركة سياسية تدور على محور مخصوص، لا وطنية تدور على مبدإٍ وطني عام. ومن وصفها بأنها وطنية فهو متجوز أو هو لا يحسن تصوير الأشياء على حقائقها.


أما الحركة الوطنية، بمعناها الصحيح المنطبق على لفظها، فقد قامت بها في الجزائر ثلاث هيئات، تتفاوت في القوة والضعف، وفي الشدة والتسامح وفي التسرّع والأناة، وفي وضوح المبدإ وغموضه، وفي استقامة الاتجاه والتوائه، ولكنها لا تختلف في الغاية وهي العمل والإعداد لاستقلال الجزائر وإنقاذها من الاستعمار الفرنسي، ولا تختلف في صدق التوجّه إلى هذه الغاية.


أما الهيئة الأولى فهي ـ[جمعية العلماء المسلمين الجزائريين]ـ.

وأما الهيئة الثانية فهي ـ[حزب الشعب الجزائري]ـ.

وأما الهيئة الثالثة فهي ـ[حزب البيان الجزائري]ـ.


سنحدّتكم عن الهيئات الثلاث حديثًا يعرّفكم بها، وبطبيعة كل واحدة منها، وبالفروق والجوامع بين مبادئها وأعمالها، ولا يتأتى لنا أن نصل في حديثنا إلى ما يصل إليه التاريخ المدقق الغائص على الدقيقة والجليلة، ذلك أن هذه الجماعات الثلاث حديثة العهد، لم تجاوز أطولهن عمرًا عقدين ونصفًا من السنين، ولم يدوّن الزمن إلا الصفحة الأولى من تاريخها بما فيه من نقص وكمال، ونظم واختلال، وإنما الممكن المتأتي لي أن أحدّثكم عنها حديث المعرّف بها، المصاحب لها من يوم نشأتها إلى الآن، المشارك فيها بالرأي والعمل، المتّصل الأسباب برجالها وأحداثها، فقد قدِّر لي أن أشهد ميلاد الجماعات الثلاث، وأن تكون لي يد في إنشاء أكبرها وهي جمعية العلماء التي أتشرّف برئاستها الآن، وأن ألابس الجماعتين الأخريين ملابسة الإرشاد والنصح والمشاركة في الرأي والعمل أحيانًا، بحكم وظيفتي الدينية والثقافية في المجتمع، ولا تطمعوا أن تسمعوا الكلام المبوّب، في الأسلوب المرتّب، وإنما املاءات يمليها الخاطر، وصبابة مما وعته الذاكرة التي أجهدها الحمل، ورماها السن بالنسيان والإضاعة، ومن سمت به همّته منكم إلى التوسّع في العلم بحال إخوانه في الجزائر، فعليه بمراجعة مجلدات «البصائر» خصوصًا فيما يتعلق بجمعية العلماء وحملاتها على الاستعمار ووقائعها معه.





____________________________________________________



1) حصن الآمبرور: حصن الامبراطور، ويسمّى قلعة مولاي حسن، وهو ابن خير الدين بربروس. والامبراطور المقصود هو شارل الخامس الذي أغار على الجزائر سنة 1541، وهزم هزيمة ساحقة.

2) الثلاثيني: كان الحاكم العثماني في الجزائر في هذه الفترة يحكم ثلاث سنوات ثم يخلفه حاكم آخر لنفس المدة ...

3) Répressif : قَمْعي .. زَجْري.

4) المقاطعات الثلاث: هي مقاطعة وهران، والجزائر، وقسنطينة.

5) قبطان: كلمة فرنسية، يقابلها رتبة نقيب.

6) حكومة الجزائر / الحكومة الجزائرية: الولاية العامة الفرنسية.

7) بني وِي وِي: أبناء "نعم .. نعم " لأنهم كانوا ينفذون ويطبّقون ويساندون كل ما تأمرهم به السلطات الفرنسية.


آثَارُ الإِمَام مُحَمَّد البَشِير الإِبْرَاهِيمِي 5 / 100 - 137


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق