وفَد النُّعمان على كسرى وعنده وفود الصّين والهند والفرس والروم وغيرِهم، فذكروا ملوكَهم وبلادَهم، فافتخر النُّعمان على جميع الأمم بالعرب، ولم يَستثْنِ فارسًا ولا غيرها، فغضب كسرى، وأخذته عِزَّة المُلك، وقال: يا نعمانُ، إني فكَّرت في أمر العرب ومن يَرِدُ عليَّ من الأُمم؛ فوجدت أهلَ الهند والصِّين لهم حظّ في اجتماع آرائها، وكثرة صنائعها، وبُعْدِ هِمَمِها وفُروسِيَّتها، وطِيْبِ بلادها واتساعها، وكَثْرةِ أموالها وحِكَمِها، وكذا الرُّوم في نسبها وعِظَمِ سلطانها، وكثرةِ مدائنها، وأن لها دينًا تتبيَّنُ فيه حلالَها من حرامها، وكذا التُّرك لهم النضارةُ والحُسنُ والشجاعةُ، وكذا جميع الأمم، لكلِّ أمةٍ مَلِكٌ يُدبِّوها ويَجمع كلمتَها. وذكر كلامًا طويلًا ثم قال: ولم أرَ للعرب شيئًا من هذه الخِصال، لا في أمر دينٍ ولا دنيا ولا عقول، مع مهانتها وذُلّها وصِغَر نفوسها، ومخالطتها الوحوشَ النافرة والحشراتِ القبيحة، يقْتُلون أولادهم من الفاقَةِ، ويأكلُ بعضهم بعضًا من الحاجة. قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها وشهواتها ولَذَّاتها، فأفضلُ طعامِهم لحومُ الإبل التي يعافُها كثير من السباع، لِثقَلها وسُوء طَعْمها. وإنْ قَوى أحدهم ضَيفًا عَدَّها مَكْرُمة، وإن أُطعِم طُعْمةً عدَّها غنيمة، تَنطِقُ بذلك أشعارُهم، ويفتخر به رجالُهم، ما عدا هذه التنوخية التي أسَّس جدّي اجتماعَها، وشَدَّ مملكتَها، وحماها من عَدوِّها، يعني اليمن.
فقال له النعمان: أيُّها الملك حقّ لأمَّةٍ أنت منها أن تسموَ بفضلِها، ويَعْظُمَ خَطبُها، وتَعلو درجتُهَا، إلا أن عندي جوابًا عن كل ما نَطق به الملك من غير ردٍّ عليه، فإن أَمِنتُ غضبه قلتُ.
قال: قل، فأنت آمن.
فقال: أصلح الله الملك: إنَّ أُمتَك ليست تُنازَعُ في الفضل لموضعها في عُقولها وأحلامها، وما أكرمها الله به من وِلايتها وأحكامها.
وأما العربُ فإنها تَفْضُل الأمم التي ذكرتَ بعزِّها ومَنَعتها، وبأسها وشجاعتها، وأنسابها, وسخائها، وفصاحتها ولغتها، ودينها، وحُسنِ ألوانها، وشِدَّة عقولها، وأنفتها، ووفائها.
فأمَّا عزُّها ومَنَعتها؛ فإنها لم تَزل مجاورةً لآبائك الذين دوَّخوا البلاد، ووطَّدوا الممالك، وقادوا الجيوشَ، لم يطمع فيها طامعٌ، ولم يَنَلْهم نائل. حصونُهم ظهورُ خيلهم، وجُنّتهم رماحُهم وسيوفُهم، وغيرُهم من الأمم عِزُّهم الطينُ والحجارةُ وجزائر البحور.
وأمّا حُسْنُ ألوانها؛ ففضلُها ظاهرٌ على الهنود المحترقةِ، والتُّركِ المشوّهةِ والروم المقشَّرة.
وأمّا أنسابها؛ فليست أُمّةٌ من الأُمم إلا وقد جَهلت أنسابَها، حتى لو سُئِل واحدٌ عما وراء أبيه لم يَنْسبه، ولم يعرفه، وما في العربِ إلا مَن يُسمّي آباءه أبًا أبًا، وجدًّا جدًّا، يَحفظون بذلك أحسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها؛ فإن الرجل يكون عنده البَكْرُ أو النابُ، عليها بُلْغَتُه من العيش، فيطرقه الطارقُ، فيعقِرُها له وَيرضى أن يَخرجَ من دنياه كلّها بحُسْنِ الأُحدوثة، وجميل الذّكر.
وأما فصاحتُها؛ فإن الله أعطاها في نَظمها ونثرها ما لم يُعْطِه غيرَها من الأمم. ثم إن خيولهم أفضلُ الخيول، ونساءهم أعفُّ النساء.
وأما دينها؛ فإن لها بيتًا محجوجًا، وشهرًا حرامًا، وبلدًا مُحرّمًا يَنسكون فيه نسائكَهم، ويَذبحون ذبائحهم، ويَلقى الرجلُ قاتلَ أبيه، أو ابنه، أو أخيه، فلا يتعرَّض له في الشهر الحرام.
وأما وفاؤُها، فإنَّ أحدَهم إذا عَقد عُقدة لا يَحُلُّها إلا خروج نَفْسه، وإن أحدهم ليرفعُ عودًا من الأرض؛ فيكون رَهْنًا بدينه وذمَّته، فلا يَغْلَق رَهْنه ولا تُخفَر ذِمَّتُه. وإن أحدهم ليَبْلُغُه أن شخصًا استجار به، وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيُصابُ، فلا يرضى حتى يُفني تلك القبيلة التي أصابتْه، أو تَفنى قبيلتُه، لما أُخْفِر من ذِمامه وجِواره، وإنَّه ليَلجأ إليهم المُحْدِثُ المجرمُ من غير معرفةٍ ولا قرابة، فتكون نُفوسُهم دون نَفْسِه، وأموالُهم دون أمواله.
وأما قتلُهم الإناث من أولادهم؛ فليس للفاقَة، بل أنفةً من العار، وغَيْرةً من الأزواج.
وأما أكلُهم لحومَ الإبل؛ فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فجعلوها طعامَهم ومَراكبَهم، مع أنها أكثرُ البهائم شُحومًا، وألذُّها لُحومًا، وأرقُّها ألبانًا، وأقلُّها غائلَةً. وذكر كلامًا طويلًا، فعجب كسرى من كلامه.
وقال: إنَك لموضع الرِّئاسة في أهل مملكتك، وفيما هو أفضل. ثم كساه من كِسوته وسَرَّحه إلى الحيرة.
فكتب النعمانُ إلى رؤساءِ العرب وحكمائها، مثل:
أكثَم بن صَيْفيّ، وحاجِب بن زُرارة التَّميمي، والحارث بن عُبادٍ البَكريّ، وعَمرو بن مَعدي كَرِبٍ الزُّبَيديّ، والحارث بن ظالمٍ، وقيس بن مسعودٍ البَكريِّ، وخالد بن جعفرٍ، وعَلْقمة بن عُلاثة العامِرِيِّ، وعَمرو بن الشَّريد السُّلَمي، فقدموا عليه، فأكرمهم وأخبرهم بما جرى له مع كسرى، وقال:
قد سمعتُ منه مقالةً أَتخوَّف أن يكون لها غَوْرٌ، [أو يكونَ إنما أظهرها لأمر]، وهو أن يَتّخذَ العرب خَوَلًا كبعض طَماطِمته، كما يَفعل بملوك الأمم الذين حوله. وإنما أنا رجلٌ منكم، وما عَزَزتُ إلا بمكانكم، وبما يتخوَّفُ من ناحيتكم. وقد رأيتُ أن تَنطلقوا إليه بكتابي، وأن يَنطِقَ كلّ واحدٍ منكم بما حضره، ليعلمَ أن العرب غير ما ظَنَّ، ولا تَنطِقوا بما يُغْضِبُه، فإنه ملكٌ عظيمُ الشَّأن، كثير الأعوان، ولا تَنخَزِلوا له انخِزالَ الخاضع الذَّليل، وليكن أمرًا بين ذلك تَظهر به وَثاقَةُ حُلومِكم، ورَزانَةُ عقولكم. وليكن أوّل مَن يتكلم منكم أكثمُ بنُ صَيْفي، ثم تتابعوا على الولاء بقَدْر منازلكم التي وصفتكم بها، فإنما دعاني إلى ذلك لئلا يَحرِصَ كلُّ واحدٍ منكم على التَّقدُّم قبل صاحبه، فيَجد في آدابكم مَطعنًا، فإنه ملكٌ مُترَف، وقادرٌ مُسَلَّط.
ثم كساهم الحُلَل الثَّمينة، وحملهم على المَهاري والخيل العِتاق، وكتب معهم كتابًا فيه: أما بعد، أيها الملك، فإني قد أَنفَذتُ إليك وجوهَ العربِ وحكماءهم ورؤساءهم، ومَن لهم حَزمٌ وعَزْمٌ، وفصاحةٌ وصباحةٌ، وأحسابٌ وأنسابٌ. وقد كنتُ أجبتُ الملك عمّا رماهم به، وأَحببتُ أن يكونَ منهم على علمٍ ويقينٍ، فلْيَسمع الملك منهم، ويتغافل عن جَفاءٍ إن ظهر منهم، ويكرمني بإكرامهم، والسلام.
فلما وفدوا على كسرى أكرمهم، وجلس لهم مجلسًا عامًّا، ولبس تاجه، وجمع علماء أهل مملكته، ونصب كراسيّ الذهب والفضَّة للوفود عن يمينه وشماله، ودعا بالأساورة والمَرازِبَة والمَوابِذة، وأجلس العربَ مجالسَهم التي وصفها النُّعمان في كتابه، وأقام التُّرجُمان ليؤدِّي إليه ما يقولون، وأذن لهم في الكلام.
فقام أكثم بن صَيْفي فقال: إن أفضل الأشياء أَعاليها، وأَعلى الرجالِ مُلوكها، وأفضلَ الملوك أعمُّها نفعًا، وخير الأزمنة أخصبُها، وأفضل الخطباء أصدقُها. الصدقُ مَنجاة، والكذبُ مَهواةٌ، والشرُّ لَجاجَةٌ، والخيرُ عادةٌ. وذكر ألفاظًا، فأُعجِبَ كسرى بكلامه وقال: لو لم يكن للعرب غيرُك لكفاها.
ثم قام حاجبُ بن زُرارة التميمي فقال: وَرى زَنْدك، وعَلتْ يدُك، وهِيْبَ سُلطانُك. نحن وُفود العرب إليك، ذِمَمُنا محفوظةٌ، وأنسابُنا مضبوطةٌ، وأحسابُنا ممنوعة، وعشائرُنا فينا سامعة مُطيعةٌ. وذكر ألفاظًا.
ثم قام الحارث بن عُبادٍ البَكري فقال: دامَتْ لك الممالكُ باستكمال جزيل حظِّها، وعُلوِّ شأنها، وارتفاع سلطانها أو سنانها. نحن جيرانُك اللائذون، ومُجاوِروك الأَعلون، خيولُنا مُجمَّة وجيوشُنا جمّة، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحُنا طوال، وأعمارُنا قصار.
فقال كسرى: أَنفُسٌ عزيزة، وآلة ضعيفة.
فقال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل على الكتيبة يقدم على الموت، فهي حيا استدبرها ومنيّة استقبلها، ومتى استَعَرت نارُ الحرب واشتدَّ لظاها، جعلتُ مَقادَها رُمحي، وبَرقَها سيفي، ورَعدَها زَئيري، ولم أقصِّر عن خَوْض ضَحْضاحها حتى أنغمس في غَمرات لُجَجها، فأَترك حُماتَها جَزْرًا للسِّباع وكلِّ نَسْرٍ قَشْعَم.
فقال كسرى للقوم: أهكذا هو؟
قالوا: فعالُه أنطق من لسانه.
فقال كسرى: ما رأيتُ كاليوم وفدًا أحشد، ولا شُهودًا أرفد.
ثم قام عمرو بن مَعدي كَرِب فقال: إنما المرء بأصغَرَيْه: قلبه ولسانه.
فاشتَر طاعتَنا بفضلك، واكظم بادِرَتَنا بحِلمك، وأَلِنْ لنا كَنفَك يَسلُس لك قيادُنا، فإنا أُناسٌ لم يكسر صفاتَنا قِراعُ مناقيرِ من أراد لها قضما، وقد مَنَعْنا حِمانا عن كل من أراد له هضمًا.
ثم قام الحارث بن ظالمٍ فقال: آفةُ المنطق الكذبُ، ومن لؤم الأخلاقِ الملقُ، ومن خَطَل الرّأي خِفَّةُ الملك المُسَلَّط، فإن أعلمناك أن مُواجهتَنا لك عن ائتلافٍ، وانقيادَنا لك عن إنصاف، ما أنت بقبول ذلك منا بخَليقٍ، ولا الاعتمادِ عليه بحَقيقٍ، ولكن الوفاءُ بالعهود، وإحكامُ العقود، والآمرُ بيننا وبينك مُعتدِلّ، ما لم يَأتِ من قِبَلك مَيلٌ.
فقال كسرى: مَن أنت؟
قال: الحارثُ بن ظالمٍ،
قال: إن في اسم أبيك دليلًا على قِلَّة وفائك.
فقال الحارثُ: الحِلم مع القُدرةِ، فلْتُشبه أفعالُك مجلسَك.
فقال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قام قيسُ بن مسعودٍ فقال: أطاب الله لك المَراشِد، إنا لم نَقدم عليك لمُساماة، ولم نَنتسب لمُعاداة، ولا لنُسمِعَك ما يُخشن صَدرَك، وَيزرع لنا الحقدَ في قلبك، ولكن لتعلم ومَن حضرك من الوفود أنا في المَنطق غيرُ مُفحَمين، وفي البَأس غير مُقَصرين، إن جُورينا فغيرُ مسبوقين، وإن سومينا فغيرُ مغلوبين.
فقال له كسرى: غير أنكم إذا عاهدتُم غيرُ موفين، يُعرِّض به في تركه الوفاء بضمانه السَّواد.
فقال قيس: ما كنتُ في ذاك إلا كوافٍ غُدِر به.
ثم قام خالد بن جعفر فقال: أَرشدَ اللهُ المَلك إرشادًا، وزاده إسعادًا. إن لكلِّ مَنطقٍ فُرْصةً، ولكلّ جابَةٍ غُصّة، وعِيُّ المنطق أشدُّ من عيِّ السُّكوت، وعِثار القول أنكى من عِثار الوَعْث، وقد أوفَدَنا إليك ملكُنا النّعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونِعم موضعُ المعروفِ والإحسان. أنفُسنا لك بالطاعة باخعة، ورقابُنا لك بالنَّصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة. فقال كسرى: نطقْتَ بعقلٍ، وسَموتَ بفضلٍ.
ثم قام عَلقمة بن عُلاثَة فقال: نَهَجت لك سُبلُ الرَّشاد، وخضع لك العبادُ والبلاد. إن للأقاويل مناهج، وللآراء مَوالج، وخيرُ القول أصدقُه، وأفضلُ الطلب أَنجَحه. نحن وإن أَحضرَتْنا المحبَّة، فليس من حضرك منّا بأفضلَ ممن غاب عنك.
فقال له كسرى: أبلغْتَ. وذكر كلامًا طويلًا.
ثم قام عمرو بنُ الشَّريد فقال: نَعِم بالُك، ودام في السُّرور حالُك، إن عاقبة الكلام مُتدَبَّرة، وأشكال النّظام مُعتَبرة، وهذا قول ما بعده شرفٌ. إن في أموالنا مرتفدًا، وعلى عِزِّنا المُعتَمد، فلذلك لا نتعرّضُ لرِفدك، وتخلص نِيَّاتنا في قصدِك، ونحن مع هذا لجوارِك حافظون، ولمَن رامَك مُكافحون.
فقال كسرى: قد فَهمتُ ما نَطق به خطباؤكم، وتَفنَّن فيه متكلِّمُوكم، وإني لأكره أن أَجْبَهَ وُفودِي، وأُحنِقَ صُدورَهم، وقد قَبلتُ ما كان في مَنطقكم من صوابٍ، وصَفحتُ عمّا كان فيه من خللٍ، فانصرفوا إلى مَلككم، والزَموا طاعتَه، وأَحسنوا مؤازَرَتَه. ثم وَصَلهم وسَرّحهم.
وأقام النعمان واليًا على الحيرة ثلاثين سنةً.
وكان له ابنتان: هند التي ذكرناها، وحُرَقَة بنتُ النعمان، وهي التي دخلت على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في فتوح القادسية.
_____________________________
«سبط ابن الجوزي» (581 - 654 هـ): مرآة الزمان في تواريخ الأعيان 2 / 478 إلى 484
دار الرسالة العالمية
الطبعة: الأولى، 1434 هـ - 2013 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق