بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 26 أبريل 2018

(فِي ذكر مُلُوك آل عُثْمَان) من كتاب: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي للمؤرخ المكي عبد الملك العاصمي (المتوفى: 1111هـ)









فِي ذكر مُلُوك آل عُثْمَان


خلد الله سلطنتهم الْقَائِمَة إِلَى آخر الزَّمَان، أصلحُ الدول بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ دولتُهم وَذَلِكَ لانقيادهم للشَّرْع، وتمكنهم من رُتْبَة الْعِبَادَة كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج، وَالْجهَاد وملازمة الْجَمَاعَة، وَاتِّبَاع السّنة وَحسن العقيدة، والشفقة على الْأمة، وكشف كل كربَة وغمة، وَقل أَن يُوجد جَمِيع ذَلِك فِي دولة من الدول السَّابِقَة.

فأصلهم ومبدأ ظُهُورهمْ وَسبب ملكهم أَن آل سلجوق لما تركُوا وطنهم من فتْنَة جنكز خَان ملك التتار، وعزموا إِلَى جَانب بِلَاد الرّوم جَاءَ مَعَهم من طَائِفَة أغوز رجل اسْمَع أرطعزل يتَّصل نسبه بياقث بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَ بِصُحْبَتِهِ نَحْو ثَلَاثمِائَة وَأَرْبَعين رجلا، وَكَانَ شجاعاً ثمَّ تشمر فِي خدمَة السُّلْطَان عَلَاء الدّين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن طغرل السلجوقي، وَكَانَ يُحِبهُ السُّلْطَان عَلَاء الدّين لكَونه شجاعاً، وَفتحت على يَدَيْهِ بِلَاد كَثِيرَة من بِلَاد الْكفَّار.


وَلما كَانَت سنة 697 سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة توفّي الْغَازِي أرطغرل فَكتب السُّلْطَان عَلَاء الدّين لعُثْمَان بن أرطغرل بموافقة السلطنة وَأرْسل إِلَيْهِ خلعة وسيفاً ونقارة وَخَصه بالغزو على الْكفَّار، فَسَار عُثْمَان بن أرطغرل فَفتح اينه كولي ويني شهر وكوبري حِصَار وبلجك وَغير ذَلِك.

ثمَّ لما توفّي السُّلْطَان عَلَاء الدّين سنة تسع وَتِسْعين وسِتمِائَة، اجْتمع أَكثر الْغُزَاة عِنْد عُثْمَان بن أرطغرل، فتسلطن عُثْمَان الْغَازِي وَجلسَ على تخت السلطنة فِي السّنة الْمَذْكُورَة، واشتغل بِالْجِهَادِ وافتتاح الْبِلَاد، وَكَانَ مولده سنة سِتّ وَخمسين وسِتمِائَة، دأب فِي خدمَة وَالِده فِي الْجِهَاد، وتمرس بالغزو فِي سَبِيل الله وَاسْتمرّ بعد وَالِده مَعَ الْكفَّار فِي الجلاد فَرَأى السُّلْطَان عَلَاء الدّين السلجوقي جده وجهده فِي الْجِهَاد، وَعلم قابليته ونجابته فِي فتح أَطْرَاف الْبِلَاد، فَأكْرمه وَأمره، وأمده بأنواع الْإِعَانَة والإمداد، وَأرْسل الرَّايَة السُّلْطَانِيَّة والطبل وَالزمر إِلَيْهِ، وَعمِلُوا نوبَة بَين يَدَيْهِ، فَعِنْدَ أول سَمَاعه صَوت الطبل وَالزمر قَامَ على قَدَمَيْهِ تَعْظِيمًا لذَلِك فَصَارَ ذَلِك قانوناً لآل عُثْمَان بَاقِيا مستمراً إِلَى الْآن، فَإِنَّهُم يقومُونَ على أَقْدَامهم عِنْد ضرب النّوبَة على أَبْوَابهم.

وَكَانَ جُلُوس السُّلْطَان عُثْمَان على تخت السلطنة عَام تسع وَتِسْعين بِتَقْدِيم التَّاء فِي الْمَوْضِعَيْنِ وسِتمِائَة، وافتتح فِيهَا كوبري حِصَار من الْكفَّار، وَأمر بِصَلَاة الْجُمُعَة وخطب باسمه فَقِيه حوله من أهل الْعلم اسْمه طورسن، ثمَّ افْتتح قلعة قره حِصَار، ثمَّ قلعة اينه كولي، ثمَّ قلعة يني شهر، وافتتح قلعة يار حِصَار، وَصَارَت من جملَة مَمْلَكَته، فزوج وَلَده أورخان على نيلوفر خَان ابْنه صَاحب يارحصار، وَاسْتمرّ فِي الْغُزَاة وَالْجهَاد وَفتح الْبِلَاد، وَقتل الْكفَّار أهل العناد، إِلَى أَن دَعَاهُ الله إِلَى جنته، وأبدله سلطنة خيرا من سلطنته، فَأجَاب دَاعِي الْحق لما دَعَاهُ، وبادر إِلَى إجَابَته ولبى نداه، فَعَاشَ سعيداً، وَمَات حميدا إِلَى رَحْمَة الله عَن سِتّ وَسِتِّينَ سنة.


وَكَانَ للسيف والضيف كثير الْإِطْعَام فاتك الحسام، كثير الْبَذْل وَاسع الْعَطاء، شجاعاً مقداماً على الْأَعْدَاء، مَا خلف نَقْدا وَلَا مَتَاعا إِلَّا درعاً وسيفاً يُقَاتل بهما الْأَعْدَاء الْكفَّار، وَبَعض خيل وقطيعاً من الْغنم اتخذها للضيفان، وأنسالها بَاقِيَة إِلَى الْآن ترعى حول  بِلَاد بروسا أبقوها تيمناً وتبركاً، وَهُوَ أول من أظهر عَظمَة هَذَا الْملك، وسلك سَبِيل الْعدْل فِيهِ حَتَّى قيل فِيهِ: ثَالِث العمرين.

وَكَانَ جميل الصُّورَة حَتَّى قيل: ثَالِث القمرين. وَكَانَ يحب الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل والأيتام فَيجمع أَنْوَاع الطَّعَام وأصناف الْحَلْوَى، فيطبخ لَهُم بعد كل ثَلَاثَة أَيَّام سماطاً عَظِيما يَأْكُل مِنْهُ الْخَاص وَالْعَام مِمَّن ذكر وَغَيرهم.
وَكَانَ الْمَوْجُود لَهُ عِنْد مَوته فرس وَسيف وَدرع وَنَحْو ذَلِك من اللبَاس والفراش.

كَذَا قَالَه الْعَلامَة مُحَمَّد شلبي وَالِد أَحْمد شلبي النشانجي قَاضِي محكمَة مَكَّة الشَّرِيفَة سَابِقًا، وَهُوَ ابْن أرطغرل بن سُلَيْمَان شاه، وَكَانَ لجده سُلَيْمَان أَرْبَعَة أَوْلَاد مِنْهُم اثْنَان توجها إِلَى بِلَاد الْعَجم وهما سنقر ودندار، وَتوجه إِلَى بِلَاد الرّوم اثْنَان أرطغرل وَكَون وقدما على السُّلْطَان عَلَاء الدّين السلجوقي وَكَانَ سُلْطَان بِلَاد قرمان، فأكرمهما وَأذن لَهما فِي الْإِقَامَة، وَصَارَ دأبهم الْجِهَاد فِي سَبِيل الله إِلَى أَن صَار أَمر أرطغرل إِلَى مَا صَار كَمَا تقدم ذكر ذَلِك.

وَخلف أرطغرل أَوْلَادًا نجباء أقواهم جأشاً السُّلْطَان عُثْمَان، فاستمر إِلَى أَن توفّي سنة خمس وَعشْرين وَسَبْعمائة وَكَانَت مدَّته سِتا وَعشْرين سنة.



ثمَّ تولى السُّلْطَان أورخان الْغَازِي ابْن السُّلْطَان عُثْمَان خَان

مولده سنة سبع وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة، وَجلسَ على تخت السلطنة سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَفتح إزنيق وبروسا وَغَيرهمَا.
وَأرْسل ابْنه سُلَيْمَان باشا إِلَى روم إيلي مَعَ أَرْبَعِينَ نَفرا ففتحوا قلعة ملقرة وأبسالة وبولاير، ووزه، وَكَانَ السُّلْطَان أورخان فاق وَالِده فِي الْجِهَاد وَفتح الْبِلَاد وبذل الِاجْتِهَاد، وَهُوَ الَّذِي افْتتح بروسا فِي حَيَاة وَالِده ثمَّ جعلهَا مقرّ سلطنته، واتسعت مَمْلَكَته ونفذت كَلمته.
وَاجْتمعت مُلُوك النَّصَارَى وَجَمِيع الْكَفَرَة على قتال العساكر السُّلْطَانِيَّة الإسلامية واجتمعوا على أَن يتعدوا من بِلَاد روميلي إِلَى جِهَة أنادول ويقاتلوا السُّلْطَان أورخان، وَكَانَ لَهُ ولد نجيب اسْمه سُلَيْمَان بك، فَاسْتَأْذن وَالِده فِي قِتَالهمْ، فَوَقع حَرْب شَدِيد كَانَ الظفر فِيهِ لِسُلَيْمَان بك.

وَهُوَ أول من كتب على السِّكَّة من آل عُثْمَان فَكتب فِي وجهِ: مُحَمَّد رَسُول الله وَفِي الْوَجْه الآخر اسْمه الشريف.
وَهُوَ أول من رتب طَبَقَات العساكر وسمى الطَّبَقَات الْمَذْكُورَة بأسمائها الْمَشْهُورَة.
وَكَانَ أول سلطنته ب (بروسا) وأعمالها، ثمَّ ملك عدَّة من الْبِلَاد الإسلامية وغزا الْكفَّار وَفتح ممالك مُتعَدِّدَة، وغنم بلاداً وأموالاً، وَبنى الْجَوَامِع ومساجد ومدارس ومطبخاً للمسافرين، وللمقيمين فِي غَالب الممالك الَّتِي تَحت سُلْطَانه، وَعمر فِي الطرقات والمفاوز، ومحال الْخَوْف والمقطعة سبلاً وخانات وقصوراً وجسوراً وأمثال ذَلِك من الْخيرَات العميمة، وسلك سَبِيل الْعدْل والجود وَالْفضل وَالْإِحْسَان على نمط وَالِده المرحوم السَّاكِن بأعالي الْجنان.

وَتُوفِّي السُّلْطَان أورخان حميدا سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة عَن ثَلَاث وَثَمَانِينَ سنة.



ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد خَان الْغَازِي خدا وندكار


ابْن السُّلْطَان أورخان 

وَجلسَ على سَرِير الْملك والسلطنة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة فِي (بروسا) ولي السلطنة وعمره أَربع وَثَلَاثُونَ سنة.
وافتتح كثيرا من الْبِلَاد مِنْهَا أدرنة سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة.
وَهُوَ أول من اتخذ المماليك وَسَمَّاهُمْ ينيشري يَعْنِي: الْعَسْكَر الْجَدِيد، وألبسهم اللباد الْأَبْيَض المثني إِلَى خلف، وسماهُ بُرْكلة بِالضَّمِّ للموحدة وَسُكُون الرَّاء، ثمَّ توجه إِلَى فتح قوصوة، فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا التقى الْجَمْعَانِ، وانهزمت الْكفَّار، ثمَّ اجْتمعت النَّصَارَى على سلطانهم أسبوت فَقَاتلهُمْ السُّلْطَان مُرَاد قتالاً عَظِيما فَقتل سلطانهم، فأظهر وَاحِد من مُلُوكهمْ الطَّاعَة، وَتقدم ليقبل يَد السُّلْطَان، فَلَمَّا قرب أخرج خنجراً فَضرب بِهِ السُّلْطَان مرَادا فاستشهد، فَصَارَ من يَوْمئِذٍ لَا يدْخل على السُّلْطَان أحد بسلاح، بل يدْخل بَين رجلَيْنِ يكتنفانه، وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة.

وَفِي مورد اللطافة فِيمَن ولي السلطنة والخلافة عَن السُّلْطَان مُرَاد مَا نَصه: كَانَ ملكا جَلِيلًا، ذَا هَيْبَة وعظمة، وَشدَّة بَطش، فتح الممالك الْعَظِيمَة كقلعة نكبولي وَنَحْوهَا، وحاصر الفرنج برا وبحراً، وضيق عَلَيْهِم المسالك فَانْتدبَ لحربه بعض مُلُوكهمْ، فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ، وتصاف العسكران تحاربا وتعاركا وتضاربا، فقصد السُّلْطَان ملك الفرنج وَحمل عَلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى فتقاربا وتعاركا وتضاربا وهما على ظُهُور الْخَيل، فسقطا مَعًا على الأَرْض فَانْقَلَبَ عَدو الله على السُّلْطَان وضربه بالخنجر صَادف مَقْتَله، فأدركه عسكره، وَاحْتَمَلُوهُ إِلَى خيمته وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، فعهد بِالْملكِ إِلَى ابْنه يلدرم بايزيد فِي التَّارِيخ الْآتِي ذكره، وَمَات بعد ذَلِك سنة سِتّ وَتِسْعين وَسَبْعمائة رَحمَه الله تَعَالَى.



ثمَّ تولى السُّلْطَان يلدرم با يزِيد ابْن السُّلْطَان مُرَاد الْغَازِي 


وَلما سمع بوفاة أَبِيه خنق أَخَاهُ يَعْقُوب شلبي واشتغل بالفتوحات، فَفتح الأفلاق وقونية وآق سراي ونيكده وقيصرية وسلانيك، وَغَيرهَا من الْبِلَاد، ثمَّ هرب بعض الْأُمَرَاء من خدمَة السُّلْطَان يلدرم ودخلوا عِنْد تيمورلنك، فحركوه وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِلَاد الرّوم، فَالتقى العسكران فِي مَوضِع يُقَال: جبوق أواسي فانكسر السُّلْطَان يلدرم، لِكَثْرَة من مَعَ تيمور من الْعَسْكَر كالجراد الْمُنْتَشِر، فَأخذ السُّلْطَان يلدرم وَحبس ثمَّ توفّي بالحمى المحرقة سنة سبع وَثَمَانمِائَة وَكَانَ ابْنه الْأَمِير مُحَمَّد أَمِير أماسية فَلَمَّا سمع بِذكر ذَلِك خرج بعسكر أماسية خلف تيمور فَأخذ جثة وَالِده بعد حَرْب شَدِيدَة.
وَكَانَت مُدَّة سلطنته سِتّ عشرَة سنة.

وتيمور وَيُقَال: تيمورلنك، واللنك - فِي اللُّغَة الفارسية: الْأَعْرَج؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ عرج، كَانَ ظُهُوره فِي عَام سَبْعمِائة وَثَلَاث وَسبعين، وَكَانَ تَارِيخ ذَلِك لفظ (عَذَاب) قَالَه الْعَلامَة السُّيُوطِيّ فِي (تَارِيخه).

وَكَانَ أول أمره رَاعيا للغنم، ثمَّ صَار أَمِير آخور لبَعض سلاطين الْعَجم فِي سَمَرْقَنْد و (بخارى) فتغلب على مخدومه، وَلم يزل حَتَّى تفرد بالسلطان وَملك الْبِلَاد طرفا بعد طرف فِي أسْرع زمن على أعجب أسلوب، وَذَلِكَ أَنه إِذا قصد محلا ورَّى بِغَيْرِهِ فيهجم على ذَلِك الْمحل وَأَهله غافلون، ثمَّ يبْدَأ بقتل جَمِيع من فِيهِ من كل ذِي روح، ثمَّ يتَمَلَّك الْبِلَاد وَيَأْخُذ جَمِيع مَا فِيهَا من الْأَمْوَال وَالسِّلَاح وَالطَّعَام بِحَيْثُ خربَتْ جَمِيع الممالك الَّتِي دَخلهَا مِمَّا وَرَاء النَّهر.

فَلَمَّا خرج إِلَى الْبِلَاد الإسلامية كبغداد وَالروم وَالشَّام وحلب كَانَ عَادَته يقتل أَعْيَان الْبِلَاد وأركان دولتها، ثمَّ ينصب فِيهَا من يقوم بأمرها من جماعته، فهابته أَكثر سلاطين الْإِسْلَام وملوكه، وقصدوه بالهدايا والتحف اتقاء شَره.

ومولانا السُّلْطَان يلدرم صَاحب التَّرْجَمَة لم يلْتَفت إِلَيْهِ، وَلم يكترث بِشَأْنِهِ لاشتغاله بالغزوات وَمَا فِيهِ سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فهجم على بِلَاد الرّوم على غرَّة وأسرع فِي السّير إِلَى الْمحل الَّذِي فِيهِ السُّلْطَان الْمشَار إِلَيْهِ قبل أَن يعلم أحد بوصوله، فَمَا وسع السُّلْطَان إِلَّا مُقَابلَته لِأَن شهامته أَبَت أَن يعرض عَنهُ وَيتْرك قِتَاله، فاتفق بِمُرَاد الله أَن كسر عَسْكَر السُّلْطَان الْمَذْكُور وحبسه إِلَى أَن كَانَت وَفَاته بالحمى كَمَا تقدم ذكر ذَلِك.

وَفِي (عجائب الْمَقْدُور فِي أَخْبَار تيمور) للْإِمَام الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي عرف بِابْن عرب شاه رَحمَه الله تَعَالَى: وَمعنى يلدرم الْبَرْق فَوجه الْأَخْذ الْمَذْكُور من هَذَا اللقب سرعَة الْحَرَكَة، وَقُوَّة الظُّهُور مَعَ النُّور واللمعان، رَحمَه الله تَعَالَى.

قلت: أَخْبرنِي بعض فضلاء أهل الْهِنْد أَن ملكهم الْآن، وَهُوَ الْمُسَمّى أورنك زيب ابْن شاه جهان يتَّصل نسبه بتيمور هَذَا، وَمِنْه إِلَى جنكزخان طاغية التتار، وَيُنْكِرُونَ كَونه رَاعيا أَو خَادِمًا لبَعض مُلُوك الْعَجم فتغلب على مخدومه فِي السلطنة، وَيدعونَ عراقته فِيهَا. وَالله أعلم بالحقائق.

قلت: وَذكر الإِمَام الْمَذْكُور فِي كِتَابه الْمَذْكُور وَاقعَة لتيمور مَعَ الْعَلامَة القَاضِي محب الدّين أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحلَبِي قاضيها الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الشّحْنَة أَحْبَبْت ذكر نَصهَا:
لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول من عَام ثَمَان وَثَمَانمِائَة أَخذ يَعْنِي تيمور قلعه حلب بالأمان والأيمان الَّتِي لَيْسَ مَعهَا ايمان، فَاسْتَحْضر علماءها وقضاتها فَحَضَرُوا إِلَيْهِ، وَطلب من مَعَه من أهل الْعلم فَقَالَ لكبيرهم عِنْده، وَهُوَ الْمولى عبد الْجَبَّار ابْن الْعَلامَة نعْمَان الدّين الْحَنَفِيّ، قل لَهُم: إِنِّي سائلهم عَن مسَائِل سَأَلت عَنْهَا عُلَمَاء (سَمَرْقَنْد) و(بخارى) و(هراة) و(خراسان)، وَسَائِر الْبِلَاد الَّتِي افتتحتها، فَلم يفصحوا الْجَواب، فَلَا تَكُونُوا مثلهم، وَلَا يجاوبني إِلَّا أعلمكُم وأفضلكم وليعرف مَا يتَكَلَّم بِهِ، فَإِنِّي خالطت الْعلمَاء ولي بهم اخْتِصَاص وألفة، ولي فِي الْعلم طلب قديم.

قَالَ صَاحب الْكتاب: وَكَانَ يبلغنَا عَنهُ أَنه بتعنت الْعلمَاء فِي الأسئلة، وَيجْعَل ذَلِك سَببا إِلَى قَتلهمْ أَو تعذيبهم.
قَالَ القَاضِي ابْن الشّحْنَة: فَقَالَ القَاضِي شرف الدّين مُوسَى الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي: هَذَا شَيخنَا ومدرس هَذِه الْبِلَاد ومفتيها - مُشِيرا إِلَى - سلوه وَالله الْمُسْتَعَان.
قَالَ فَقَالَ لي قاضيه عبد الْجَبَّار: سلطاننا يَقُول إِنَّه بالْأَمْس قتل منا ومنكم، فَمن الشَّهِيد: قتيلنا أم قتيلكم؟
فَوَجَمَ الْجَمِيع، وَقُلْنَا فِي أَنْفُسنَا: هَذَا الَّذِي كَانَ يبلغنَا عَنهُ من التعنت.
وَسكت الْقَوْم، فَفتح الله عَليّ بِجَوَاب سريع بديع. فَقلت: هَذَا سُؤال سُئِلَ عَنهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ،قَالَ لي صَاحِبي شرف الدّين الْمَذْكُور بعد أَن انْقَضتْ الْحَادِثَة: وَالله الْعَظِيم لما قلت: هَذَا السُّؤَال سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنا مُحدث زماني، قلت: عالمنا قد اخْتَلَّ عقله، فَإِن هَذَا سُؤال لَا يُمكن الْجَواب عَنهُ فِي هَذَا الْمقَام، وَوَقع فِي نفس عبد الْجَبَّار قاضيه مثل ذَلِك وَألقى إليّ تيمور سَمعه وبصره، وَقَالَ لعبد الْجَبَّار يسخر من كَلَامي: كَيفَ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن هَذَا، وَكَيف أجَاب؟
فَقلت: جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن الرجل يُقَاتل حمية، وَيُقَاتل ليُري مَكَانَهُ من الشجَاعَة، فأينا الشَّهِيد فِي سَبِيل الله تعالى؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمةُ اللهِ هِيَ العُلْياً فَهُوَ الشَهِيدُ )).
فَقَالَ تيمور لنك: خوب خوب. فانفتح بَاب المؤانسة فَكثر مِنْهُ السُّؤَال، وَكثر مني الْجَواب.
وَكَانَ آخر مَا سَأَلَ أَن قَالَ: مَا تَقولُونَ فِي عَليّ وَمُعَاوِيَة وَيزِيد؟
فَأسر إِلَى القَاضِي شرف الدّين: أَن اعرف كَيفَ تجاوبه فَإِنَّهُ شيعي، فَلم أفرغ من مساع كَلَامه إِلَّا وَقد قَالَ القَاضِي علم الدّين القفصي الْمَالِكِي كلَاما مَعْنَاهُ: إِن الْكل مجتهدون، فَغَضب لذَلِك غَضبا شَدِيدا، وَقَالَ: عَلِي عَلَى الْحق، وَمُعَاوِيَة ظَالِم، وَيزِيد فَاسق، وَأَنْتُم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزِيدُونَ قتلوا الْحُسَيْن.
قَالَ: فَأخذت فِي ملاطفته والاعتذار عَن الْمَالِكِي بِأَنَّهُ أجَاب بِشَيْء وجده فِي كتاب لَا يعرف مَعْنَاهُ، فَعَاد إِلَى دون مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبسط.
قَالَ: وَلما كَانَ آخر شهر ربيع الْمَذْكُور طلبني ورفيقي القَاضِي شرف الدّين وَأعَاد السُّؤَال عَن عَليّ وَمُعَاوِيَة، فَقلت: لَا شكّ أَن الْحق كَانَ مَعَ عَليّ فِي نوبَته، وَلَيْسَ مُعَاوِيَة من الْخُلَفَاء فَإِنَّهُ صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: (( الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة )) وَقد تمت بعلي وَابْنه الْحسن.
فَقَالَ تيمور لنك: قُل عَلِي عَلَى الْحق، وَمُعَاوِيَة ظَالِم.
فَقلت: قَالَ صَاحب الْهِدَايَة يجوز تقلد الْقَضَاء من وُلَاة الْجور فَإِن كثيرا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ تقلدوا الْقَضَاء من مُعَاوِيَة، وَكَانَ الْحق مَعَ عَليّ فِي نوبَته، فأنس لذَلِك انْتهى من الْكتاب الْمَذْكُور مُلَخصا.
قلت: فِي قَوْله (فِي نوبَته) احْتِرَاز لطيف عَن نِسْبَة التَّعَدِّي إِلَى الصّديق، وتالييه كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا معشر أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَمَرَّتْ على تيمور وَلم يفْطن لذَلِك.

وَفِي رِوَايَة: لما استولى على كثير من قلاع النَّصَارَى، هرب بعض وزرائه وَحلق لحيته وحواجبه وَصَارَ فِي صُورَة قلندري، وَوصل مَعَه جمَاعَة إِلَى تيمور، وَشَكوا من السُّلْطَان يلدرم وحسنوا لَهُ الْوُصُول إِلَى بِلَاد الرّوم، فوصل إِلَى الْبِلَاد الشامية والحلبية، وَقتل من بهَا وَأسر وَنهب، وَاسْتمرّ إِلَى أَن وصل أذربيجان، وَخرج إِلَيْهِ السُّلْطَان فغدر بِهِ العساكر، وذهبوا إِلَى تيمور، ووثب هُوَ ومَن بَقِي مَعَه وَقتل وَلَده السُّلْطَان مصطفى وَاسْتمرّ يُقَاتل إِلَى أَن وصل بِسَيْفِهِ إِلَى تيمور، فَألْقى عَلَيْهِ بِسَاط، فَأمْسك وَتُوفِّي كَمَا تقدم ذكر ذَلِك.




ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان يلدرم

وَاسْتقر فِي السلطنة سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة، وَكَانَت مدَّته تسع سِنِين.
وافتتح عدَّة من الْحُصُون مِنْهَا: بَلْدَة اسكب وآق شهر وَغَيرهمَا.
وَكَانَ شجاعاً مقداماً مُجَاهدًا فِي سَبِيل الله تَعَالَى، وَله خيرات مُتعَدِّدَة مِنْهَا ب (برسا) جَامع عَظِيم، ومدرسة علمية، وتربة سلطانية، وَمِنْهَا بِولَايَة مرزفون جدد، وَأَنْشَأَ جامعين وحمامين، وأوقافاً عديدة كَثِيرَة الْغلَّة، وَقفهَا وَشرط أَن تحمل غَلَّتهَا إِلَى الْحَرَمَيْنِ الشريفين.
فَهُوَ أول من عمل الصر لأهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين من آل عُثْمَان أدام الله دولتهم وصولتهم.
وَلما تمّ أَجله الْمُسَمّى فِي أم الْكتاب، دَعَاهُ ملَك الفناء إِلَى دَار الْبَقَاء المستطاب.
فَعَاشَ سعيداً، وَمضى حميداً، وتحول من دَار البلى إِلَى دَار البقا {إِن إلىَ رَبك اَلرُجعى} [العلق: 8].
وَكَانَت وَفَاته بِمَرَض الإسهال، فَتكون لَهُ مرتبَة الشَّهَادَة، وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة.


ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد الثَّانِي ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد بن يلدرم



وَجلسَ على تخت السلطنة سنة خمس وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، وَظهر فِي أَيَّامه رجل وَادّعى أَنه ابْن السُّلْطَان يلدرم، واسْمه مصطفى الَّذِي فقد فِي فتْنَة تيمور، فَظهر تزويره فصلبوه فِي برج قلعة أدرنة.

وَفتح فِي زَمَنه سمندرة ومورة. ثمَّ إِنَّه بِحسن اخْتِيَاره أقعد وَلَده مُحَمَّدًا الْآتِي بعده وَاخْتَارَ التقاعد ببلدة (مغنيسا) مُدَّة.
ثمَّ قَامَت عَلَيْهِ طَائِفَة الينيشرية، فأرسلوا إِلَى مغيسا وَأتوا بوالده مِنْهَا، وأجلسوه ثَانِيًا على سَرِير السلطنة.
فَلَمَّا توفّي أَجْلِس ابْنه السُّلْطَان مُحَمَّد على تخت السلطنة، وعمره ثَمَانِيَة عشر عَاما، وعاش تسعا وَخمسين سنة.
وَكَانَ ملكا عَظِيما مُطَاعًا، عين للحرمين الشريفين من خَاصَّة صدقاته ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة ذَهَبا، وللشرفاء مثلهَا فِي كل عَام، وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ عَاما.

قَالَ ابْن تغري بردي فِي (تَارِيخه): لم يكن فِي زَمَانه شرقاً وَلَا غرباً مثله فِي غَزْو الْكفَّار أهلك الله على يَده الْملك قزال، عَظِيم مُلُوك الفرنج، فِي عَام ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة، وَكَانَت وقْعَة عَظِيمَة مَشْهُورَة هلك فِيهَا من الْفَرِيقَيْنِ مَا يزِيد على عشْرين ألفا، كَانَت طوائف الْكفَّار اجْتَمعُوا من كل نَاحيَة فِي هَذِه الْوَقْعَة، وعزموا على استئصال ثغور الْإِسْلَام خُصُوصا بَيت الْمُقَدّس، فَلَمَّا التقى الْجَمْعَانِ ظهر أَن طَائِفَة الْكفَّار فَوق عدد الْمُسلمين بأضعاف مضاعفة، فَلَمَّا وَقع الْحَرْب ظَهرت الْغَلَبَة على الْمُسلمين.

فَأرْسل الله تَعَالَى ريحًا عاصفاً بِتُرَاب عَظِيم على جَانب الْكفَّار فأدبروا وَركب الْمُسلمُونَ أكتافهم قتلا وأسراً، وغنموا غَنَائِم جزيلة لَا حد لَهَا وَلَا عد، من النُّقُود والخيول وَالسِّلَاح وَغير ذَلِك، ومحاسنه كَثِيرَة ومآثره شهيرة.

ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد خَان فاتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة ابْن مُرَاد

مولده عَام خمسن وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة، جُلُوسه أَولا بفراغ من وَالِده لَهُ فِي عَام سبع وَأَرْبَعين وَثَمَانمِائَة، وتقاعد وَالِده بِولَايَة مغنيسا إِلَى نَيف وَخمسين، فَقَامَتْ طَائِفَة الينيشرية وَاجْتمعت على عود السُّلْطَان مُرَاد خَان لصِغَر وَلَده مُحَمَّد الْمَذْكُور، فَعَاد السُّلْطَان مُرَاد مُدَّة يسيرَة ثمَّ أَدْرَكته الْوَفَاة.

وَاسْتقر السُّلْطَان مُحَمَّد الْمَذْكُور فِي الْملك عَام وَفَاة وَالِده الْمُوَافق لسنة سِتّ وَخمسين وَثَمَانمِائَة.

ثمَّ إِن السُّلْطَان مُحَمَّد سلك طَرِيق الْعدْل وَأقَام نظام الْملك، وَأظْهر أبهة السلطنة وَذَلِكَ جَمِيعه ببركة وَالِده ونفع مَا جمعه لَهُ من المَال وَالرِّجَال، والمدن الواسعة، والأمصار النافعة، وهابته الْمُلُوك وَدخلت فِي طَاعَته أكَابِر الممالك وأعيانها، فَملك تِسْعَة سلاطين أَرْبَعَة من الْمُسلمين وَخَمْسَة من النَّصَارَى.

أما الْمُسلمُونَ فسلطان ولَايَة (قرمن) وسلطان (كرميا) وسلطان (النكا) وسلطان (اسفنديار) وفتوحاته مَشْهُورَة.

وَكَانَ من أعظم سلاطين آل عُثْمَان وَأَقْوَاهُمْ اجْتِهَادًا، لَهُ غزوات كَثِيرَة لَا تحصى، من أعظمها: فتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي الْيَوْم الْحَادِي وَالْخمسين من حصارها، وَهُوَ الرَّابِع وَالْعشْرُونَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَخمسين وَثَمَانمِائَة، وَله كرامات عَجِيبَة واَثار بديعة، وَكَانَت مُدَّة سلطنته إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سنة.

وَلما افْتتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة صلى فِي أكبر كنائسها وَهِي أيا صوفية صَلَاة الْجُمُعَة وَهِي بَاقِيَة تسامي قباب السَّمَاء وتحاكي فِي الاستحكام متين الأهرام، فَمَا وهت وَلَا وهنت كبرا وَلَا هرماً.
دَامَ سُلْطَانه إِلَى أَن مَاتَ سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة.




ثمَّ تولى السُّلْطَان بايزيد ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد



وَجلسَ فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة وافتتح الفتوحات وَفِي أَيَّامه فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ أَو خمس وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة ظهر من بِلَاد الْعَجم شاه إِسْمَاعِيل ابْن حيدر الصفوي وَكَانَ لَهُ ظُهُور عَجِيب وفتك فِي الْبِلَاد، وَسَفك دِمَاء الْعباد، فأظهر مَذْهَب الرَّفْض والإلحاد، وَغير اعْتِقَاد أهل الْعَجم إِلَى الانحلال وَالْفساد بعد الصّلاح والسداد.

وأخرب ممالك الْعَجم، وأزال من أَهلهَا حسن الِاعْتِقَاد، وَالله تَعَالَى يفعل فِي ملكه مَا أَرَادَ، وَتلك الْفِتْنَة بَاقِيَة إِلَى الْآن فِي جَمِيع الْبِلَاد.

وَظهر من أَتبَاع شاه إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور بِبِلَاد الرّوم شخص ملحد زنديق، يُقَال لَهُ: سُلْطَان قولي. أهلك الْحَرْث والنسل، وَعم بِالْفَسَادِ وَالْقَتْل، فَأرْسل السُّلْطَان وزيره الْأَعْظَم على باشا بعسكر كثير إِلَى قتال هَذَا الطاغي وأمده بِجَيْش عَظِيم لقطع جاذرة هَذَا الْبَاغِي فاستشهد عَليّ باشا فِي ذَلِك الْقِتَال، ووفد بأكفان شَهَادَته على الْكَبِير المتعال، وانكسر الشَّيْطَان فولى الْمُفْسد التعيس وَعَسْكَره جنود إِبْلِيس، وأسكن الله تِلْكَ الْفِتْنَة بعد مَا أطلقت، وَكفى الله شَرّ أُولَئِكَ الأشرار بعد أَن عظمت محنتهم وعمت.

وَفِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة قَاتله أَخُوهُ السُّلْطَان جم شيد فبرز، السُّلْطَان بايزيد لقتاله فَهَزَمَهُ، ففر إِلَى مصر ونجح زمن السُّلْطَان قايتباي، وَعَاد فَأكْرمه السُّلْطَان قايتباي إِكْرَاما عَظِيما، فَذهب إِلَى دوسق وَجمع طَائِفَة من الْغُزَاة، وَنَازع أَخَاهُ على الْملك ثانيَاً، فقاتله السُّلْطَان بايزيد فانكسر السُّلْطَان جم ثانيَاً، وفر إِلَى بِلَاد النَّصَارَى فِي سنة 888 ثَمَان وَثَمَانِينَ وَثَمَانمِائَة، فَأرْسل إِلَيْهِ السُّلْطَان بايزيد أحد عبيده فِي صُورَة حلاق، فاستخدمه وَأمره أَن يحلق رَأسه فحلق رَأسه بمُوسَى مَسْمُوم، وهرب فِي الْحَال، وَأثر السم فِي رَأسه وسرى إِلَى بدنه فَمَاتَ سنة خمس عشرَة وَتِسْعمِائَة.

وَكَانَ السُّلْطَان بايزيد ملكا جَلِيلًا عَالما عَاملا، ترقى فِي مَرَاتِب الْكَمَال الجليلة وتسنم ذرى المفاخر الأثيلة، جمع الله لَهُ بَين السلطنة الْعُظْمَى الظَّاهِرِة، والإمامة الْكُبْرَى الْبَاطِنَة حَتَّى نقل عَنهُ أَنه كَانَ يرى الْقبْلَة المعظمة فِي افْتِتَاح كل صَلَاة، وَكَانَت أَيَّامه كَثِيرَة الْخيرَات والفتوحات.

وَكَانَ يُجهز إِلَى أهل الْحَرَمَيْنِ الشريفين فِي كل عَام أَرْبَعَة عشر ألف دِينَار ذَهَبا يصرف نصفهَا على فُقَهَاء مَكَّة والاَخر للمدينة.

وَمِمَّنْ ورد عَلَيْهِ فِي شبابه خطيب مَكَّة الشَّيْخ محيى الدّين عبد الْقَادِر بن عبد الرَّحْمَن الْعِرَاقِيّ، وَالشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن العُليف شَاعِر الْبَطْحَاء، وفاضلها قتالا مِنْهُ خيرا كثيرا.
وصنف لَهُ العليف تَارِيخا سَمَّاهُ (الدّرّ المنظوم فِي مَنَاقِب السُّلْطَان بايزيد ملك الرّوم) وامتدحه بقصيدة رائية طنانة أَولهَا: [من الطَّوِيل]
خُذُوا من ثنائِى موجبَ الحمدِ والشكرِ ... ومِنْ در لفظِى طيب النظمِ والنثْرِ
فيا رَاكِبًا يسري على ظَهْر ضامر … إِلَى الرّوم يهدي نَحْوهَا طيبَ النشْرِ
لَك الْخَيْر إِن وافيت بروص عُجْ بهَا ... رويداً لإسطنبولَ سامية الذكْرِ
لدي ملك لَا يبلغُ الوضْفُ كنهَهُ ... شرِيف المساعي نَافِذ النهْيِ والأمرِ
إِلَى بايزيد الخَيْر وَالْملك الَّذِي ... حمى بَيْضَة الإسلامِ بالبيضِ والسمرِ
وجرد للدّين الحنيفيِّ صَارِمًا ... أباد بِهِ جمع الطَواغيتِ والكُفْرِ
وجاهدهم فِي الله حقَّ جهادِهِ ... رَجَاء لما يبقَى من الفوزِ والأجرِ
لَهُ همة تملا الصُّدُور وصولة ... مقسَّمة بَين المخافةِ والذكْرِ
أطاعَ لَهُ مَا بَيْن رومٍ وفارسٍ ... ودان لَهُ مَا بَين بُصْرى إِلَى مصرِ
هُوَ البحرُ إِلَّا أَنه دائمُ العطا ... وذلكَ لَا يَخْلُو من المدِّ والجزرِ
هُوَ البدرُ إِلَّا أَنه كَامِل الضيَا ... وَذَاكَ حليفُ النقْصِ فِي معظمِ الشهرِ
هُوَ الغيثُ إِلَّا أَن للغيثِ مسكةً ... وَذَا لَا يزالُ الدَّهْر ينهل بالقطرِ
هُوَ السيفُ إِلَّا أَن للسيفِ نبوة ... وفلاَّ وَذَا ماضي العزيمةِ فِي الأمْرِ
سليلُ بني عُثْمَان والقادةِ الألَى ... علا مجدهُمْ فوقَ السماكَيْنِ والنسرِ
ملوكٌ كرامُ الأصلِ طابَتْ فروعُهمْ ... وَهل ينسبُ الدِّينَار إِلَّا إِلَى التبرِ
محا أثر الكفارِ بالسيفِ فاغتدَتْ ... بِهِ حوزة الإسْلامِ ساميةَ القَدْرِ
فيا ملكا فاق الْمُلُوك مكارماً ... فكلٌّ إِلَى أدنى مكارمه يجرِي
لَئِن فقتهُمْ فِي رُتْبَة الملكِ والعلا ... فإنَّ اللَّيَالِي بَعْضهَا ليلةُ القدرِ
فدتك ملوكُ الأرضِ طراَّ لِأَنَّهَا ... سراجٌ وأنتَ البدرُ فِي غرَّة الشهرِ
تَعاليْتَ عَنْهُم رفْعَة ومطانهً ... وذاتاً وأوصافاً تجلُّ عَن الحصرِ
لَك العزةُ القعساءُ والرتبةُ الَّتِي ... قواعدهَا تسمو على أبرجِ النسرِ
سموتَ علوَّا إِذْ دنوتَ تواضعاً ... وقمتَ بِحَق الله فِي السِّرّ والجهرِ
غَدَتْ بك أرضُ الرومِ تزهو ملاحةً ... وترفل فِي ثوبِ الجلالةِ والفجرِ
إِلَيْك ابْن عُثْمَان الَّذِي سَارَ ذكْرُهُ ... مسير ضِيَاء الشمَسِ فِي البَرَّ والبَحْرِ
يمينكَ تروى عَن يسارٍ ونائلٍ ... ووجهُكَ يرْوى فِي البشاشة عَن بشرِ
وَإِنِّي لصوَّانٌ لدرِّ قلائدي ... عَن المدحِ إِلَّا فِيك يَا مَالك العصرِ
فقابل رعاكَ الله شكري بمثلِهِ ... فَإنَّك للمعروف من أعظمِ الذخر
فَلَا زلتَ محروسَ الجنابِ مؤيداً ... من الله بالتوفيقِ والعزِّ والنصرِ

فَأمر للعليف بعد وصولها إِلَيْهِ، وفرحه بهَا بِأَلف دِينَار ذَهَبا جَائِزَة، ورتب لَهُ فِي دفتر الصر لكل عَام مائَة دِينَار ذَهَبا فَصَارَت بعده لأولاده رَحِمهم الله تَعَالَى.

وَكَانَ للسُّلْطَان بايزيد أَوْلَاد، وَلم يخلع بِالْملكِ إِلَّا لوَلَده سليم خَان، ودام سُلْطَانه اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَاما، إِلَى أَن مَاتَ سنة 918 تِسْعمائَة وَثَمَانِية عشر.

ثمَّ تولى السُّلْطَان سليم ابْن السُّلْطَان با يزِيد

كاسر الْعَجم وفاتح بِلَاد الْعَرَب

وَجلسَ فِي سنة ثَمَان عشرَة وَتِسْعمِائَة، وَفِي سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة ركب على إِسْمَاعِيل شاه الْعَجم ابْن الشَّيْخ حيدر ابْن الشَّيْخ جُنَيْد ابْن الشَّيْخ إِبْرَاهِيم ابْن سُلْطَان خوجه شيخ عَليّ ابْن الشَّيْخ صدر الدّين مُوسَى ابْن الشَّيْخ صفي الدّين إِسْحَاق الأردبيلي، وَإِلَيْهِ ينْسب أَوْلَاده فَيُقَال لَهُم: الصفويون.
وَكَانَ الشَّيْخ صفي الدّين صَاحب زَاوِيَة فِي أردبيل، وَله سلسلة فِي الْمَشَايِخ أَخذ عَن الشَّيْخ زاهد الكيلاني، وتنتهي بوسائط إِلَى الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَحْمد الْغَزالِيّ فَرجع بالظفر الْمُبين.
ثمَّ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة ركب على السُّلْطَان الغوري، وكسره فِي مرج دابق قرب حلب وأباد ملكه، وَقد مرت قصَّته.
وَمن وزرائه الأجلة بير باشا، وَابْن هرسك أَحْمد، وَسنَان باشا، وزنبيلي وَغَيرهم.
مولده فِي أماسية سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَثَمَانمِائَة، وَكَانَ عمره جَمِيعه أَرْبعا وَخمسين سنة وَلم تطل سلطنته لِأَنَّهُ كَانَ سفاكاً، وَهَذِه عَادَة الله تَعَالَى فِي السلاطين والأمراء إِذا أَكْثرُوا من الْقَتْل، وَكَانَ سُلْطَانا قهاراً، ملكا جباراً، يُغير زيه فِي لِبَاسه ويتجسس فِي اللَّيْل وَالنَّهَار ويطلع على الْأَخْبَار، وَله عدَّة مصاحبين يدورون تَحت القلعة، وَفِي الْأَسْوَاق والمحافل والجمعيات وَمهما سَمِعُوهُ ذَكرُوهُ لَهُ فَيعْمل بِمُقْتَضى مَا يسمعهُ، وَله معرفَة باللسانين الرُّومِي والفارسي، وَشعر رائق ونظم فائق، وَرَأَيْت لَهُ بَيْتَيْنِ فِي الكوشك الَّذِي بني لَهُ، لما فتح مصر وهما بالعربي بِخَطِّهِ قَوْله: [من الْبَسِيط]

ألمُلْكُ لِلَّهِ مَنْ يَظْفَرْ بِنَيْلِ مُنّى ... يَتْرُكْهُ قَسْرًا ويَضْمَنْ بَعْدَهُ الدَّرَكَا
لَوْ كَانَ لِي أَوْ لِغَيْري قَدْر أُنْمُلَةٍ ... فَوْقَ التُّرَابِ لَكَانَ الأَمْرُ مُشْتَرَكَا
وتحتها مَا صورته: كتبه سليم بذلك الْحَظ والقلم.

كَذَا ذكره الْعَلامَة قطب الدّين النَّهر والى عَن نَفسه فَهُوَ فَاعل رَأَيْت.

وسليم هَذَا هُوَ أول من ملك مصر من آل عُثْمَان سلاطين الزَّمَان أدام الله تَعَالَى دولتهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَمد على ملكهم فسطاط الإجلال والكرامة. فَإِنَّهُم ظلّ الله تَعَالَى الْمَمْدُود على الأَرْض، والقائمون بشعائر الْإِسْلَام من السّنة وَالْفَرْض.

كَانَ عَظِيم الهيبة، سعيد الْحَرَكَة، كثير المبرات دَائِم الْأَسْفَار، مستيقظاً للأمور الجليلة، نظره إِلَى معالي الْأُمُور، لَو انتظم فِي سلكه كل لَحْظَة أعظم الْأَمْصَار هُوَ عِنْده فِي غَايَة الاحتقار والاستصغار، ويكفيه فتح مصر أم الدُّنْيَا، طَابَ ثراه فِي الْجنان الْعليا.

ولد السُّلْطَان سليم سنة خمس وَسبعين وَثَمَانمِائَة، وَتَوَلَّى السلطنة بعد أَبِيه فِي حَيَاته بنزوله لَهُ عَن الْملك لأمر اقْتَضَاهُ الْحَال,

وَأما سَبَب ركُوبه، ومقاتلته لإسماعيل شاه، فَإِن إِسْمَاعِيل هَذَا طَغى وبغى وَصَارَ يقتل من ظفر بِهِ قتلا ذريعاً، وَلَا يمسك شَيْئا من الخزائن بل يفرقها فِي الْحَال على عساكره، إِلَى أَن ملك تبريز وأذربيجان وبغداد وعراق الْعَجم وخراسان.
وَكَانَ يَدعِي الربوبية، وَكَانَ عسكره يَسْجُدُونَ لَهُ، وَقتل خلقا لَا يُحصونَ ينيفون على ألف ألف أَو يزِيدُونَ بِحَيْثُ لَا يعْهَد فِي الْإِسْلَام وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّة مِقْدَار مَا قَتله شاه إِسْمَاعِيل هَذَا، وَهُوَ من مُلُوك الْعَجم الموسومين بقزل باش وَكَانَ ركُوبه عَلَيْهِ سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة، فحاربهم الْحَرْب الشَّديد، وانتصر عَلَيْهِم، وَملك غَالب بِلَادهمْ مَعَ مزِيد قوتهم وعزتهم، وَكَانَ قبل الْحَرْب كتب إِلَيْهِم كتابا فَلم يعبئوا بِهِ ثمَّ كتب إِلَيْهِم كتابا آخر أغْلظ عَلَيْهِم فِيهِ، ووسمهم بالخوف والجبن عَن اللِّقَاء فاستهضهم بِهِ؛ ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا.

وَصُورَة الْكتاب الأول: ليعلم إِسْمَاعِيل بهادر أصلح الله أحوالة أَن جَمِيع أهل الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام، وعلماء الدّين وَالْإِسْلَام، المحبين لشريعة سيد الْأَنَام، قد أفتوا بكفرك وفسادك، وضلالك وعنادك، لارتكابك العقائد الْفَاسِدَة، والضلالات الكاسدة، وَالْأَحْوَال الفظيعة، والأقوال القبيحة الشنيعة. وَمن اسْتحلَّ مَا حرم الله فَلَا شكّ فِي كفره فَلذَلِك نشرت الْأَعْلَام الإسلامية، والرايات الدِّينِيَّة. وسرتُ إِلَى بلادك لإمحاء رسمك ووجودك. واضمحلال اسْمك وجنودك. لَكِن لما كَانَ من سنة الدّين، وَطَرِيق الْحق الْمُبين، الْإِخْبَار والإعلام بالدعوة إِلَى اتِّبَاع شَرِيعَة الْإِسْلَام، قبل الإلجاء بِالسَّيْفِ حِين لَا يُفِيد أَيْن وَلَا كَيفَ؛ أرْسلت إِلَيْك مخبرا بأنك إِن أخلصت التَّوْبَة، وصدقت فِي الأوبة، وَرجعت عَن تِلْكَ العقائد القبيحة الفظيعة فقد فزت بالمقصد الْأَسْنَى، وَلَك الْأمان مَعَ الزِّيَادَة فِي الْحسنى.

وَإِن لم ترجع فلتعلم أَنِّي قد سرت إِلَيْك بآيَات النَّصْر والتمكين، ورايات الظفر الْمُبين، عملا بقوله تَعَالَى: {قتلوا الَذِين يُلونَكُم من الكفارِ} [التَّوْبَة: 123]، لترمى بِالْعَذَابِ مجاهرة، والنكال مباهرة، وَالسَّلَام على من اتبع الْهدى.

فَلم يرتدع لذَلِك، فَأرْسل إِلَيْهِ بِكِتَاب ثانٍ بديع اللَّفْظ والمعاني، فَلم يرتدع لفرط العتو والطغيان. فَسَار إِلَيْهِ السُّلْطَان سليم، فتلاقيا فِي (شالدران) بِقرب (تبريز).

وَأَرَادَ أَن يُقيم بتبريز لأخذ إقليم الْعَجم جَمِيعه فَمَا أمكنه ذَلِك لِكَثْرَة الغلاء والقحط، وَسبب ذَلِك أَن القوافل الَّتِي كَانَ أعدهَا السُّلْطَان سليم لِأَن تتبعه بالميرة والعليق تخلفت عَنهُ فِي مَحل الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا وَمَا وُجد فِي تبريز شَيْء من المأكولات والحبوب؛ لِأَن إِسْمَاعِيل شاه حرقها عِنْد انكساره، فَاشْتَدَّ الغلاء بِحَيْثُ بِيعَتْ العليقة بِنَحْوِ مِائَتي دِرْهَم، والرغيف الْخبز بِمِائَة دِرْهَم، فاضطر السُّلْطَان سليم إِلَى الْعود عَن تبريز إِلَى بِلَاد الرّوم، وَتركهَا خاوية على عروشها، ثمَّ تفحص عَن سَبَب انْقِطَاع القوافل وتأخرها عَنهُ وَقت الْحَاجة، فَأخْبر أَن سَبَب ذَلِك أَن سطان مصر الغوري قانصوه كَانَ بَينه وَبَين إِسْمَاعِيل شاه محبَّة ومودة ومراسلات، بِحَيْثُ كَانَ السُّلْطَان الغوري يتهم بالرفض وعقيدته سَبَب ذَلِك، فَلَمَّا ظهر للسطان سليم أَن الغوري هُوَ الَّذِي أَمر بِقطع القوافل عَنْهُم صمم على قتال الغوري أَولا، وَبعد استيلائه عَلَيْهِ وعَلى بِلَاده يتَوَجَّه على شاه إِسْمَاعِيل ثَانِيًا.

فَلَمَّا اسْتَقر ركابه فِي تخت ملكه، تهَيَّأ لأخذ مصر، وَإِزَالَة دولة الشراكسة عَنْهَا.
وَتوجه إِلَى ناحيته من جِهَة حلب، فَالْتَقَيَا ب (مرج دابق) كَمَا تقدم ذكر ذَلِك مفصلا.
كَانَت مدَّته ثَمَان سِنِين وأياماً، وَتُوفِّي سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة رَحمَه الله برحمته، وَأَسْكَنَهُ بحابيح جنته.




ثمَّ تولى السُّلْطَان سُلَيْمَان بن سليم خَان 

سنة سِتّ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة



ولد سنة تِسْعمائَة تَقْرِيبًا، فَتكون سنُّه حِين التَّوْلِيَة سِتا وَعشْرين سنة، سلك طَرِيق المعدلة وجادة الْإِنْصَاف، وتفقد أَحْوَال الرعايا والعساكر، وَرفع الظُّلم والاعتساف، وَأعْرض عَن المنهيات.

وَله خيرات لَا تحصى مَعْرُوفَة فِي الْآفَاق، وفتوحات وغزوات، رفعت أهل الْإِيمَان، وخفضت أَرْبَاب الشقاق والنفاق، مِنْهَا: انكروس ورودس وبُدِن وبلغراديج وغزوة الْعَجم، وألمان وأولونية وبغداد واسطنبول والستوراغون وسكتوار آخر غَزَوَاته، وَتُوفِّي فِيهَا سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة.

وَمن مشاهير الْعلمَاء فِي أَيَّام دولته الْمُفْتِي على شلبي وَكَمَال باشا زَاده وسعدي شلبي وجوي زَاده ومفتي خواجه شلبي وَأَبُو السُّعُود أَفَنْدِي صَاحب التَّفْسِير وَغَيرهم.
ووزراؤه بيري باشا وَإِبْرَاهِيم باشا وَإيَاس باشا ولطفي باشا وَسليمَان باشا ورستم باشا وَعلي باشا وَمُحَمّد باشا، كلهم كَانُوا أَرْبَاب خيرات ومبرات.

افْتتح الْبلدَانِ الواسعة بالقهر وَالْحَرب، وَأخذ الْكفَّار والملاحدة بالطعن وَالضَّرْب. وأيد الدّين الحنيفي بمجده وسيفه الباتر.
وَأقَام الْملَّة الحنيفية، وَأَحْيَا مَا لَهَا من مآثر، وَنصر مَذْهَب السّنة السّنيَّة، وَأظْهر شَعَائِر الْإِسْلَام البهية، وردع أهل الْإِلْحَاد فَمَا لَهُم من قُوَّة وَلَا نَاصِر.
وَكَانَ مُجَدد دين هَذِه الْأمة المحمدية فِي هَذَا الْقرن الْعَاشِر، كَمَا ورد (( لِكُل قَرنٍ مُجَددٌ ظَاهر )).

وَبنى الْمدَارِس الْمَعْرُوفَة بالسليمانية للأربعة الْأَئِمَّة: الْمَالِكِي ثمَّ الْحَنَفِيّ ثمَّ الشَّافِعِي ثمَّ الْحَنْبَلِيّ.
وَقد جعلت مدرسة دَار حَدِيث لعدم متأهل من الْحَنَابِلَة، وَبسط بِسَاط الْعدْل فِي سَائِر الممالك، وَفتح القلاع والحصون، ومهد المسالك.
وَكَانَت أَيَّام سلطنته باسمة الثغور، ودولته الشَّرِيفَة عرة فِي جباه الدهور.
وَله فتوحات عديدة مِنْهَا، وَهُوَ أَولهَا: رودس، وَغَيرهَا مِمَّا تقدم ذكره.
وَمِنْهَا الأقطار اليمنية وثغورها الإسلامية، وَكَانَت فِي الْقَدِيم لعدة سلاطين وملوك.

وَهَهُنَا أَحْبَبْت ذكر رسَالَته إِلَى الإِمَام المطهر بن شرف الدّين الحسني الدَّاعِي بقطر الْيمن لحسن تنميقها وَكَثْرَة تحقيقها ومتانة ألفاظها وإيراقها، ورصانة إرعادها وإبراقها. وَهِي:
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: هَذَا مثالنا الشريف السلطاني، وخطابنا المنيف العالي الخاقاني، لَا زَالَ نَافِذا مُطَاعًا بالعون الرباني، واليمن الصمداني، أرسلناه إِلَى الأميري الكبيري، العوني النصيري، الهمامي المطهري، الشريفي الحسيبي النسيبي، فرع الشَّجَرَة الزكية، طراز الْعِصَابَة النَّبَوِيَّة العلوية، ونسل السلالة الهاشمية السّنيَّة المطهر بن شرف الدّين. نخصه بِسَلام أتم وثناء أَعم.

ونبدي لعلمه الْكَرِيم أَنه لَا يزَال يتَّصل بمسامعنا الشَّرِيفَة إخلاصه لدينا، وقيامه بِقَلْبِه وقالبه بمرضاة سلطاننا وانقياده إِلَى جانبنا، وبمقتضى ذَلِك حصل شكرنا التَّام، وَالثنَاء الْعَام، على مناصحته ومكاتبته.
وَلما برز أمراؤنا الشَّرِيفَة مسابقين مُتَتَابعين مَعَ وزيرنا الْمُعظم سُلَيْمَان باشا إِلَى الْبِلَاد الْهِنْدِيَّة لفتح تِلْكَ الْجِهَات السّنيَّة؛ إحْيَاء لسنة الْجِهَاد، وَقطع دابر الْفساد وَأهل العناد. فَاسْتَبْشَرَ بذلك كل مُسلم وَصَارَ فَرحا مَسْرُورا، فَوَقع قدر الله وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا.

فَرجع وزيرنا الْمشَار إِلَيْهِ فَوجدَ طَائِفَة من اللوند قد تملكوا (زبيد) من المملكة اليمنية، وَحصل مِنْهُم غَايَة المشاق بأذى الرّعية، وَزَاد ظلمهم على الْعباد والبلاد، وَعم ضررهم كل حَاضر وباد، فتتبع آثَارهم وَقطع دابرهم، واستنقذ الرعايا من أَيْديهم وَصَارَت مملكة زبيد من ممالكنا الشَّرِيفَة، وَعَاد إِلَى أعتابنا المنيفة، وأبرز من يَدَيْهِ مكتوبكم ومكتوب والدكم يتَضَمَّن الْإِخْلَاص لطاعة سلطاننا، وأنهما صَارا من أتباعنا، اللائذين بأعتابنا، وبموجب ذَلِك حصل عندنَا لكم زِيَادَة الْمحبَّة الصادقة وَحسن الْمَوَدَّة، وتحققنا مَا كَانَ يبلغنَا عَنهُ على أَلْسِنَة النَّاس السفار، المتمرددين على أعتابنا الشَّرِيفَة من تِلْكَ الديار، وبلغنا الْآن عَنْهُمَا خلاف ذَلِك وَتغَير مَا كاتبنا بِهِ فِي السَّابِق، مثل غير مُطَابق. وَأَنه وَقع بَينهمَا وَبَين أمرائنا وعساكر دولتنا بِتِلْكَ الْبِلَاد خُلف كَبِير، ووقائع عَم ضررها الْمَأْمُور والأمير، وَهَذَا عين الْخَطَأ الْمَحْض الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ذهَاب الرّوح لمن عقل وَفهم { إِن الله لَا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَى يُغَيِروا مَا بِأَنفُسِهِم } [الرَّعْد: 11]، فَالْآن ملكنا الشريف السَّامِي قد ملك بعون الله تَعَالَى بِسَاط الأَرْض شرقاً وغرباً، وَصَارَت سلطنتنا الْقَاهِرَة كالإبريز الْمُصَفّى، بعون النَّبِي الْمُصْطَفى، ورقم سجل سعادتنا بآيَات النَّصْر، على أهل الْعَصْر، وعَلى سَائِر الْمُلُوك بإحياء سنة الْجِهَاد إِلَى يَوْم الْعرض { ذَلِكَ فَضلُ اَللهِ يُؤتيهِ مَن يَشَاء } [الْجُمُعَة: 4]، { وَأَماً مَا ينفع النَّاس فيمكث فى الأَرْض } [الرَّعْد: 17]، وعساكرنا المنصورة أَيْنَمَا انخرطت خرطت، وأينما سَقَطت التقطت، وحيثما سلكت ملكت، وَأَيْنَ حلت فتكت، لَا يعجزهم صَغِير وَلَا كَبِير، وَلَا جليل وَلَا حقير، وَلَو شِئْنَا لعينا من عساكرنا المنصورة شرذمة قَلِيلُونَ. نَحْو مائَة ألف أَو يزِيدُونَ، مشَاة وركباناً من الْبر وَالْبَحْر، لأمرائنا ولأمرنا ممتثلون، ونقوي عَددهمْ بالاستعداد، ونشدهم بِالْقُوَّةِ والآلة والزاد، وَنَتبع الْعَسْكَر بالعسكر، ونملأ الْبر وَالْبَحْر، ونلحق الْجَيْش بالجيش من كل أسود وأحمر، حَتَّى يتَّصل أول عساكرنا بآخرهم، وواردهم بصادرهم، وَيكون أَوَّلهمْ فِي الْبِلَاد اليمانية، وَآخرهمْ فِي بِلَادنَا المحمية.

وَلَا نحتاج نعرفكم بقدرة سلطاننا وتشييد أَرْكَان دولتنا وَتَشْديد عزمتنا. فَإِن الْمُلُوك ذَوي التيجان، وَأَصْحَاب الْقُوَّة والإمكان، لَا يزالون خاضعين لهيبتنا الشَّرِيفَة قهرا عَلَيْهِم، مطأطئين رُءُوسهم خشيَة مِمَّا يلْحق بهم عِنْد الْمُخَالفَة وَيصير إِلَيْهِم، وَذَلِكَ مَشْهُور وَمَعْلُوم، وَظَاهر لَيْسَ بمكتوم، لَكِن غلب حلمنا عَلَيْهِ من تَعْجِيل النكاية إِلَيْهِ كَونه من سلالة سيد الْمُرْسلين، وَمن أهل بَيت النُّبُوَّة الطاهرين، ولازم على ناموس سلطنتنا الشَّرِيفَة أَن ننبه قبل اتساع الْخرق عليه، ونعرفه بِمَا يحل بِهِ وَيصير إِلَيْهِ، وَكَونه آوى إِلَى الْجبَال يتحصن بهَا عَن الزَّوَال، وَيَزْعُم أَن ذَلِك ينجيه فَهَذَا عين الْمحَال، وتدبيره تدميره على كل حَال، جهل ذَلِك أم علم { لَا عَاصمَ اليوَمَ مِن أَمرِ اَللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ } [هود: 43]، { أَين اَلمفرُ كلا لَا وَزَرَ } [الْقِيَامَة: 10، 11]، وَلَا لهارب من سلطنتنا مفر.

وَقد اقْتَضَت أوامرنا الشَّرِيفَة تعْيين افتخار الْأُمَرَاء الْكِرَام، صَاحب الْعِزّ والاحتشام، الْمُخْتَص بعناية الْملك والعلام مصطفى باشا، دَامَت معدلته، ونفذت كَلمته باشا على العساكر المنصورة، وصحبته ثَلَاثَة آلَاف من الْجند المؤيدة بِاللَّه مشَاة ورماة، حماة كفاة، إِعَانَة لأمير الْأُمَرَاء الْكِرَام، ذَوي الْقدر والاحترام، الْمَخْصُوص بمزيد عناية الْملك العلام، ازدمر باشا دَامَت معدلته وحرست نعْمَته، وعينا من الْبر ألفي فَارس، وهيأنا مثلهَا بعددها وعليقتها من الْبَحْر، فَعرض على مسامعنا الشريف مصطفى باشا أَن أَن يُؤَخر تجهيز الْجَيْش الْمَذْكُور من الْبَحْر إِلَى حِين يتَوَجَّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَات وَينظر فِي الْأَحْوَال، وَمَا عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الأقطار من الْحَال، وَإِذا وَقع من أحد خلاف، وَاحْتَاجَ إِلَى الْخُيُول الْمَذْكُورَة فيجهز إِلَيْنَا لطلبهم فتصل إِلَيْهِ على مَا يحب، فأخرنا ذَلِك إِلَى حِين يعود الْجَواب بتحقيق الْأَخْبَار عَن الإِمَام وَولده. فحال وُصُول مصطفى باشا الْمشَار إِلَيْهِ إِلَى تِلْكَ الديار، واستقراره بِتِلْكَ الأقطار، وَلَا بُد أَن تحضر إِلَى خدمته، ممتثلاً لكلمته، وتقابله بقلب منشرح، وَصدر منفسح، وتمشي تَحت صناجقنا الشَّرِيفَة، وَتدْخل تَحت طاعتنا المنيفة، وَتَكون مَعَ عساكرنا مُنْضَمًّا لأوامرنا على قلب رجل وَاحِد، غير متقاعس وَلَا متقاعد. فَإِن مصطفى باشا الْمشَار إِلَيْهِ، باشا عساكرنا وَخَلِيفَة أمرنَا، وَكَلَامه من كلامنا. وَأمره من أمرنَا، وَنَهْيه من نهينَا، وَمن أطاعه فقد أطاعنا، وَمن خَالفه فقد خَالَفنَا، ونعوذ بِاللَّه من الْمُخَالفَة، وَعدم الانقياد والمؤالفة، فليتفكر المطهر فِي نَفسه، قبل حُلُول رمسه، وليتنبه من رقدته، ويصحو من غفلته، ويفيق من سكرته.

فَإِن فعل ذَلِك وانضم إِلَى سلطنتنا الشَّرِيفَة، فقد رحم نَفسه وصان مهجته وَيرى من دولتنا العادلة غَايَة الرِّعَايَة، وبلوغ الأمنية مَعَ الزِّيَادَة إِلَى حد النِّهَايَة.

وَأَنه إِذا دخل تَحت طاعتنا وَمَشى على الاسْتقَامَة لدينا، وانضم إِلَى عساكرنا فننغم عَلَيْهِ بأمرنا الشريف بِمَا يسْتَحق بِهِ فِي مَمْلَكَته مُسْتقِلّا بِهِ من غير معَارض لَهُ فِي ذَلِك، وَلَا مُنَازع لَهُ فِيمَا هُنَالك، فَحَيْثُ فعلت فَأَنت من الفائزين، لَا تخف وَلَا تحزن، إِنَّك الْيَوْم لدينا مكين أَمِين، وَإِن حصل وَالْعِيَاذ بِاللَّه مُخَالفَة، وَاسْتمرّ على العناد والمجانفة، وانهمك فِي الضلال، والمكابرة والخيال، فَيُصْبِح ذَنبه فِي رقبته، وَيهْلك نَفسه بِيَدِهِ { وَمَا ظلمنهم وَلَكن كاَنوُا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ } [النَّحْل: 118]، وَيدخل فِي قَول أصدق الْقَائِلين: { يُخرِبوُنَ بيوُتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدي اَلمُؤمنينَ } [الْحَشْر: 2]، وَيصير بعد الْوُجُود إِلَى الْعَدَم، ويندم حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم، وَقد حذرنا رأفة بِهِ وتحننا عَلَيْهِ، بإصدار هَذَا الْكتاب إِلَيْهِ، فَإِن خَالف أتيناه بِجُنُود لَا قبل لَهُ بهَا، وأخرجناه مِنْهَا ذليلاً حَقِيرًا، لَا ملْجأ لَهُ من سلطنتنا إِلَّا إِلَيْهَا الَّتِي هِيَ لِمن سَالَمَهَا ظلاً ظليلاً، وعَلى من خالفها عذَابا وبيلاً، وَمثله لَا يدل على الصَّوَاب فليعتمد على ذَلِك وعلامتنا الشَّرِيفَة حجَّة عَلَيْهِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ.

فَكتب إِلَيْهِ الإِمَام المطهر الْجَواب وَهُوَ: نور الله شمس الْإِسْلَام وأطلعها، وفجر عُيُون الشَّرِيعَة وأنبعها، ولألأ كواكب الدّين الحنيفي وأسطعها، وَأَعْلَى منار الْملَّة الْبَيْضَاء ورفعها، وزلزل جموع الظُّلم والعداوة وزعزعها، وأرعد قُلُوب الْجَبَابِرَة المردة وأرعبها، وَألف بَين قُلُوب الْمُسلمين وَجَمعهَا، بدوام دولة مَوْلَانَا السُّلْطَان الْمُعظم الْعَظِيم، ذِي الْملك الباهر القاهر الْعَقِيم، الْقَاطِع بسيوف عزمه عنق كل جَبَّار أثيم، الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَة والتحية وَالله يُؤْتِي من يَشَاء فَضله العميم. شمس الْخلَافَة المضيئة فِي اللَّيْل البهيم، ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه القويم، حجَّة الله الْوَاضِحَة للحق على التَّعْمِيم. أَمِينه على خلقه، وخليفته الْقَائِم بِحقِّهِ بِتَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم. المتسم بحماية آل الرَّسُول، وَأَبْنَاء فَاطِمَة البتول، سلالة النَّبِي الْكَرِيم، الباسط عَلَيْهِم ظلّ عدله فَلَا ينالهم حَر الْجَحِيم، فهم راتعون فِي رياض إحسانه وَلها نبت وسيم، وكارعون من حِيَاض امتنانه الَّتِي لَا يشوب صفوها الدَّهْر المليم. سامي الفخار، زكي الأَصْل والنجار.

الفائز بحوز قصبات السَّبق فِي الْحسب الصميم. الْكَاف لأكُف من تعاشى عَن الْهِدَايَة، وسلك مسالك الغواية، وَكَانَ لَهُ فِي العجرفة تصميم.
الَّذِي لَا تحصى صِفَاته بتعداد، وَلَو أَن الشّجر أَقْلَام وَالْبَحْر مداد، واسأل بذلك كل خَبِير عليم. الخنكار الْكَبِير، والخاقان الشهير سُلَيْمَان بن سليم.
أهدي إِلَى مقَامه نَجَائِب التَّحِيَّة وَالتَّسْلِيم، وَرَحمته الطّيبَة، وَبَرَكَاته الصيَّبة، الموصولة بنعيم دَار النَّعيم, وحرس جنابه العالي، وَحرمه الْمُحْتَرَم من صروف اللَّيَالِي، بِمَا حفظ بِهِ الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم. فَإِنَّهُ ورد من تلقائه - أَطَالَ الله للْمُسلمين فِي بَقَائِهِ - مرسوم سطعت أنواره، وطلعت بالمسرة شموسه وأقماره، وتضاحكت فِي عرصات الْمجد كمائمه وأزهاره، وَجَرت فِي جداول الْحَمد أنهاره، وتحاسد على مشرفه ليل الزَّمَان ونهاره. مرسوم تقر بِهِ الْعُيُون، وَتصْلح بِهِ الْأَحْوَال والشئون، أنشئ لله نجاره فوجدناه أشفى من الترياق، وأبهى من الإثمد فِي دعجٌ الأحداق. يتبلج تبلج الْبَرْق، ويحلب الْخيرَات تحلب الودق، يفوق اللُّؤْلُؤ الثمين منشوراً، ويفضح شقائق النُّعْمَان زهوراً، وَيجْعَل مَمْدُود الثَّنَاء عَلَيْهِ مَقْصُورا. فتعطرت الأندية بنشره، وأعلنت الألسن بِحَمْدِهِ وشكره، وهب فِي الْبَوَادِي والأمصار نسيم ذكره، وَدخلت النَّاس أَفْوَاجًا تَحت نَهْيه وَأمره: [من الْخَفِيف]
حَبَّذا مُدْرَجًا كَرِيمًا جَليْلاً ... زَانَهُ مُنْشِىءٌ كَرِيمٌ جَلِيلُ
لَفْظهُ الدُّرُّ فِي السُّمُوطِ وفَخْرًا ... وبِمَعْنَاهُ سَلْسَلٌ سَلْسَبِيلُ
وإِذَا المُدْرَجَاتُ كَانَتْ مُلُوكًا ... فَهْوَ فِيهَا وبَيْنَها إِكْلِيلُ
مُدْرَجٌ فِيهِ للبَهاءِ غُدو ... ومَرَاحٌ ومَسْرحٌ ومَقِيلُ

فَللَّه در أنامل صاغته بالبلاغة، وضمنته مَا يعجز عَنهُ قدامَة وَابْن المراغة، فَلَو رَآهُ الْملك الضليل لطأطأ رَأسه خاضعاً.
وعرفنا مَا ذكره سُلْطَان الْأُمَم، وَملك رِقَاب الْعَرَب والعجم، المتسم بحماية الْحرم، من الْإِحَاطَة بطاعتنا، ودخولنا تَحت لوائه وأقواله وأفعاله، وَالْحَمْد لله الَّذِي وفقنا لطاعته، وردنا عَن السلوك فِي مُخَالفَته، فَإِن لنا بكم الْحَظ الأوفر مَعَ زِيَادَة الْحسنى، والنصيب الأفخر الأهنى.
وَنَرْجُو نيل الشّرف الْكَامِل الْأَكْمَل، ونجح المُنَى والمطالب، وبلوغ نِهَايَة الْأَمَانِي والمآرب. فَمن اسستمسك بعروتكم الوثقى فَازَ بمطالبه، ونال الْغَايَة القصوى من مآربه، وَرفع لَهُ الدَّرَجَات السامية الْعلية، وَتمّ لَهُ بذلك كل سُؤال وأمنية، ويحظى بعيشة هنيَّة، راضية مرضية. وَهَذِه طَريقَة مَعْرُوفَة، وَسنة قديمَة مألوفة. لَا تميل عَن الوفا، وَلَا تكدر من ذَلِك المشرب مَا صفا> كَيفَ وطاعتكم من طَاعَة الْملك الْخَالِق، ومعصيتكم تظلم مِنْهَا المغارب والمشارق، وَنحن من مودتكم على يَقِين، وَنَرْجُو أَن لَا تصفوا أذنا الْكَلَام الْفَاسِقين، وَلَا تهملوا رِعَايَة الصَّالِحين الْمُتَّقِينَ، وَلَا تقطعوا حق ذُرِّيَّة النَّبِي الْأمين، وَأَبْنَاء عَليّ الأنزع البطين، كرم الله وَجهه فِي عليين { قل لَا أسئلكم عليهِ أجرا إِلا المَوَدةَ فِي القُربى } [الشورى: 23]، وَذَلِكَ نَص الْكتاب الْمُبين.

فَأنْتم أولى برعاية من أَمر الله أَن يرْعَى، وَمن تقر بِهِ من عِترَةِ النَّبِي أذنا وسمعاً، فكم لكم من محامد مشكورة، ومفاخر مَشْهُورَة، ومعاني جميلَة منثورة، نؤمل أَن تشقوا بحسامها نوافج الوشاة، وتردوا كيد كل كَذَّاب لَا يراقب الله وَلَا يخشاه، وَالَّذِي يَنْقُلهُ إِلَيْكُم أَرْبَاب الزُّور، والإفك والفجور. من تَحَوَّلْنَا عَن طَاعَة السُّلْطَان الْأَعْظَم، ومخالفتنا لما سبق من مودتنا وَتقدم. كذب يُعلمهُ الداني والقاصي، وَمن التمويه الَّذِي لناقله أَشد الاقتصاص. حاشا وكلا أَن نرضى مُخَالفَة، أَو نَمِيل عَن الْأَحْوَال السالفة، أَو ننكر تِلْكَ المعارف العارفة، نَعُوذ بِاللَّه من الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، أَو نَكُون مِمَّن تعدى الْحَد بعد الطّور، وتقاعد عَن طاعتكم وَهِي مَحل السَّعْي إِلَيْهَا على الْفَوْر، فنكون كمن اشْترى الضَّلَالَة بِالْهدى، وتحول عَن السَّلامَة إِلَى مخاوف الردى، وَآل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعرف النَّاس بِالصَّوَابِ. وأعلمهم بمعاني السّنة وَالْكتاب. أطِيعُوا الحَدِيث. وَمن نسب إِلَيْهِم خلاف ذَلِك فَهُوَ خَبِيث نبيث. فثقوا منا بالمحبة الراسخة أطنابها، والمودة الشامخة قبابها، وَالرِّعَايَة المفتحة أَبْوَابهَا.

وَالَّذِي أشرتم إِلَيْهِ فِي سامي الْخطاب، وبطاقة الْكتاب، من بُلُوغ مخالفتنا لعساكركم المنصورة، وكتائبكم الواسعة الموفورة، لَيْسَ لَهُ صِحَة وَلَا ثبات، وَلَا كَانَ لنا إِلَى حربهم تعد وَلَا الْتِفَات، بل قصدونا إِلَى تِلْكَ الْجِهَات، وجلبوا علينا أتراكاً وأرواماً، وهتكوا أستاراً كَانَت بَيْننَا وَبينهمْ وذماماً، وَلَا راعوا لأوامركم الشَّرِيفَة فِينَا أحكاماً، وضيقوا علينا مسالك الْمَعيشَة خلفا وأماماً، ورمونا بمدافع لَا يرْمى بهَا إِلَّا الَّذين يعْبدُونَ أوثاناً وأصناماً.

وَنحن من الَّذين أوجب الله لَهُم احتراماً، نُقِيم الشَّرَائِع ونميت الْبَدَائِع وَلم نلق أثاماً، وَمن الَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياماً. فدافعنا عَن أَنْفُسنَا وَأَوْلَادنَا بِمَا أمكن من الدفاع، وَترك الزِّيَادَة عَنْهَا لَا يُسْتَطَاع. وَنحن فِي مهَاجر يسير، وَمَكَان يأوي إِلَيْهِ البائس الْفَقِير، لَا ينافس من اعْتصمَ بِهِ، وَاقْتصر على طَاعَة ربه.

وَلَو أَن عساكركم المنصورة الألوية، الْمسلمَة من صروف الْأَقْضِيَة، وجهوا هممهم الْعلية، وعزائمهم الصلبة القوية، إِلَى الْجِهَات العصية الكفرية. إِذا لنالوا من الْخيرَات نيلاً عَظِيما، ولسلكوا سَبِيل السَّعَادَة صراطاً مُسْتَقِيمًا، وأدركوا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خيرا ونعيماً.

بيد أَن تشاغلوا بحربنا عَن جَمِيع الحروب، وفوتوا بذلك كل غَرَض لَهُم ومطلوب، وأهملوا جِهَات الْكفَّار حَتَّى سقط الْجنُوب، وهبت فِي دَار الْإِسْلَام للشرك جنوب. وَحين وصل المرسوم المشرف، والمثال الْكَرِيم الْمُعَرّف، طبنا بِهِ نفوساً، وسلكنا بِهِ محلا من الْأَمْن مأنوساً، ودفعنا بِهِ عَن وُجُوه الْحق ظلاماً وعبوساً، وضلالاً وبوساً.

وخمدت نيران الْحَرْب، وغلت أَيدي الطعْن وَالضَّرْب. فقررنا بِمَا قررتموه كل قلب، فَإِن امتثل من حوالينا من الاْمراء الأكابر، لما صدر عَنْكُم من الْمَوَارِد والمصادر، فَتلك الْمنية الْمَقْصُودَة، والضالة المفقودة، والدرة الثمينة المنقودة، وَالْغنيمَة الْعَظِيمَة الشاملة الممدودة. وَإِن خالفوا أوامركم المطاعة، وَقَابَلُوا نواهيكم بالإضاعة، فحسبهم عذابكم الوبيل، وَمَا تعدونه لمن خالفكم من التنكيل. وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.
وَكُنَّا نود أَن نرسل إِلَى الْأَبْوَاب الشَّرِيفَة مَا تكن الْقُلُوب والصدور.
إِلَّا أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يلوننا قطعُوا وسدوا من التواصل أوصالاً، وقعدوا لرسلنا بكرا وآصالاً، وصدوهم عَن الْوُصُول إِلَى أبوابكم الْعَالِيَة عَن جَمِيع الْأَبْوَاب، ومنعوهم عَن مناهج الذّهاب والإياب.

فولا مَا كَانَ مِنْهُم من الْمَنْع لما نُرِيد، لَكَانَ يصدر إِلَى أبوابكم الْعَالِيَة فِي كل شهر بريد.
وَحين وصل وكيلكم الْمُعظم الباشا مصطفى إِلَى الْجِهَات اليمنية، والديار الَّتِي هِيَ بِسيف قهركم محمية. بسط عدله فِي أهل الْيمن، وأخمد نيران الْفِتَن والمحن، وَأصْلح من الْأُمُور مَا ظهر وَمَا بطن، واطلع على الْحَقَائِق فِي الْمَاضِي واللاحق، وَمَا نَحن عَلَيْهِ بِحَمْد الله من حسن المساعي والطرائق، وكرم الْأُصُول الشَّرِيفَة والمعارق.

وَقد أرسل إِلَيْنَا قصاد أمجاد، محبون أوداد، عرفُوا جَمِيع الْأُمُور، وَأَحَاطُوا بِالظَّاهِرِ مِنْهَا والمستور.
وَلَعَلَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُهَيِّئ قدومه إِلَى صنعا. وَيحيى بِهِ للإله دينا وَشرعا، وَيقطع بِهِ دابر من خَالف أَمركُم قطعا.
ولعمري إِنَّه رجل عَظِيم، وَذُو خطب جسيم، بأرباب الدّين رءوف رَحِيم .
قد طابت شمائله، وراقت أَوْصَافه ومخايله. فَهُوَ بِكُل خير يجود، وَيحمل من طاعتكم مَا يشق على غَيره ويئود.
فَالله يَجْعَل سَعْيه مشكوراً، ويشرح بِأَعْمَالِهِ من الاسْتقَامَة قلوباً وصدورا، وَيدْفَع بِعَين عنايته عَن الْأَنَام وَالْإِسْلَام شروراً. ويملأ الْأَنْفس والأفئدة حبوراً إِن شَاءَ الله وسرورا. وَبعد: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.



وَمِنْهَا: بَغْدَاد وأعمالها والمشاهد الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة العلوية الحسنية، والموسوية الكاظمية، والعلوية الرضوية.
وَمِنْهَا: بِلَاد الْمغرب وَمَا فِيهِ من الجزائر، وَكَانَت فِي الْقَدِيم جَامِعَة لعدة سلاطين، بل كَانَت دَار الْخلَافَة الأموية ثمَّ العباسية ثمَّ العمرية الحفصية ثمَّ الشريفية الحسنية ثمَّ للخلافة العبيدية.
وَمِنْهَا: الممالك الْمَعْرُوفَة بروملي وَمَا اتَّصل بهَا من بِلَاد الْكفَّار على اخْتِلَاف أنواعهم وأجناسهم مِمَّا لَا يُحْصى كَثْرَة.
وَمِنْهَا: مَا فتح من الممالك الإسلامية بِنَاحِيَة الْعَجم لما خرج لمقابلة قزل باش طهماسب.
وَمِنْهَا: السّفر الْأَخير وَهِي الْغُزَاة الْعُظْمَى الَّتِي شرفه الله تَعَالَى فِيهَا بِالشَّهَادَةِ، فَهُوَ الْملك الَّذِي عَاشَ سعيداً، وَمَات شَهِيدا.
وَهَذِه الفتوحات بعض مَا اشْتهر. وَأما مَا هُوَ حقير من جِهَة أَهله أَو من قلَّة محصوله أَو مِمَّا يكون تَابعا لغيره فَذَلِك لَا يُحْصى وَلَا يحصر.


وَأما الْخيرَات الَّتِي فعلهَا فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين والقدس، وَغَيرهَا من الْبِلَاد فَلَا يُمكن حصرها، يذكر شئ مِنْهَا على سَبِيل الِاخْتِصَار نتشرف بِذكرِه.
مِنْهَا: الصرة الْعَظِيمَة الرومية الْوَاصِلَة كل عَام وقدرها أحد وَثَلَاثُونَ ألفا من الدَّنَانِير الذَّهَب فِي كل عَام على الدَّوَام.

وَمِنْهَا: عمَارَة سور الْمَدِينَة المنورة، وَقدر مساحته: أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع، وَعرض جِدَاره: ثَلَاثَة أَذْرع، وارتفاعه: سَبْعَة عشر ذِرَاعا، وجميعه بِالْحجرِ والنورة، وأبوابه: سِتَّة مصفحة جَمِيعهَا بالحديد.
قلت: الْمَعْرُوف أَن أَبْوَاب سور الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أَرْبَعَة، بَاب غربي وَبَاب قبلي وَبَاب شَامي وَبَاب شَرْقي: يُسمى الأول فِي عرف النَّاس بَاب الْمصْرِيّ. وَالثَّانِي الْبَاب الصَّغِير. وَالثَّالِث بَاب الشَّامي؛ لنزوله عِنْده ذَهَابًا وإياباً. وَالرَّابِع: بَاب الْجُمُعَة.

فَلَعَلَّ المؤرخ عد بَاب القلعة وباباً صَغِيرا فِي أَسْفَل أكبر البروج وأعلاها يُسمى عِنْد أهل الْمَدِينَة بَاب السِّرّ، فهما الْخَامِس وَالسَّادِس، فَيصح الْعدَد حِينَئِذٍ. وَقدر النَّفَقَة عَلَيْهِ من الذَّهَب الْجَدِيد سَبْعُونَ ألف، وَمن الْحُبُوب أَرْبَعَة عشر ألف إِرْدَب حِنْطَة وفولاً وَغير ذَلِك، وَذَلِكَ غير الْوَاصِل من مصر المحروسة من الْحَدِيد والخشب والرصاص والنحاس وَالْجمال وَالْحمير.

وَمِنْهَا: محراب السَّادة الْحَنَفِيَّة بِقرب الرَّوْضَة النَّبَوِيَّة.
قلت: وَيعرف الْيَوْم بالمحراب السُّلَيْمَانِي منقوش بالرخام الملون.

وَمِنْهَا: تَجْدِيد عدَّة من الْمَسَاجِد النَّبَوِيَّة، وَأَنْشَأَ عدَّة من القباب على من عف قَبره من أَعْيَان السلالة المحمدية.

وَمِنْهَا: ترصيص الْقبَّة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وهلال الْقبَّة الْمَذْكُورَة أَعْلَاهُ ذهب خَالص صرف وَبَاقِيه مموه وأهلة المنابر ومنبر الْحرم النَّبَوِيّ.

وَمِنْهَا: إنْشَاء الْجِدَار الغربي بِالْحرم النَّبَوِيّ وإنشاء مَنَارَة عَظِيمَة بِهِ.

وَمِنْهَا: عدَّة شماعدين من النّحاس المطلي بِالذَّهَب بالحجرة المطهرة. وإنشاء عدَّة من الرَّبْط وترميم بَعْضهَا مِمَّا يقرب عددا إِلَى الْعشْرين.

وَمِنْهَا: شِرَاؤُهُ ديار الْعشْرَة لاتصالها بقبلي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَالْغَرَض الْأَعْظَم من ذَلِك هدمها ليذْهب عين مَا فِيهَا من المراحيض والبلاليع، وَمَا فِيهِ رَائِحَة كريهة، فهدمت جَمِيعهَا وَبقيت بعد هدمها وتعميرهما نافعة لكل خير تجدّد بهَا، قَابِلَة للإلحاق بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ.

وَمِنْهَا: عمَارَة تكية باسم وَالِدَة السلاطين الْعِظَام يعْمل فِيهَا فِي كل يَوْم للْفُقَرَاء خبز وَطَعَام.

وَمِنْهَا: أَنه لما بلغه احْتِيَاج المطاف الشريف إِلَى أساطين، وعرضوا لَهُ أَن أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام جَمِيعهَا بالرخام وعرضوا بتعظيم ذَلِك وَكَونهَا من حجر وَاحِد أَمر أَن تجْعَل أعمدة من النّحاس، فَجعلت وَقيمتهَا تعدل وَزنهَا فضَّة فِي الْقيَاس.

وَمِنْهَا: مِنْبَر عَظِيم للبيت الْعَتِيق الْكَرِيم كَانَت النَّفَقَة عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ ألف من الدَّنَانِير الذَّهَب الْجَدِيد خَارِجا عَمَّا حمل مَعَه من آلَات الْحَدِيد والفولاذ والرصاص والمؤن العديدة، وَوصل إِلَى مَكَّة عَام سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة. فَقَالَ بعض عُلَمَاء مَكَّة فِيهِ تَارِيخا أبياتاً آخرهَا بَيت التَّارِيخ هُوَ: [من مجزوء الْخَفِيف]
لسُلَيْمَانَ مِنْبَرٌ ... شَاهِدٌ بالدُّعَا لَهُ 

وَمِنْهَا: تعمير الْمدَارِس الَّتِي هى من الْعَجَائِب برسم المدرسين من الْأَرْبَعَة الْمذَاهب كَمَا تقدم ذكره، ومنارة عَظِيمَة من جنسهن جنب أولَاهُنَّ.

وَمِنْهَا: عمَارَة مهبط الْوَحْي والأماكن الشَّرِيفَة.

وَمِنْهَا: إِجْرَاء المَاء من الْفُرَات إِلَى مشْهد الإِمَام الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا.

وَمِنْهَا: بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى خيرات لَا تحصى.

وَمِنْهَا: عمَارَة قبَّة عَظِيمَة على الصَّخْرَة الرفيعة الدَّرَجَات وَجعل عوض التجصيص أَلْوَاح من فخار إزنيق بأنواع النقوش وَأجل الكتابات>

وَمِنْهَا: للمساجد الثَّلَاثَة المشرفة الْمَذْكُورَة قدر الْكِفَايَة من الْحُبُوب والمرتبات وَالْخبْز وَالطَّعَام والصلة المبرورة.

وَمِنْهَا: بدار الْخلَافَة الْعُظْمَى قسطنطينية الْكُبْرَى إِجْرَاء عين من مسيرَة سِتَّة أَيَّام أنْفق على ذَلِك من الْأَمْوَال مَا لَا يحصره كتب وَلَا ثرثرة أَقْلَام.

وَمِنْهَا: عمَارَة عَظِيمَة سلطانية جَامِعَة لِلْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّة والدنيوية بِالشَّام بِالْمحل الْمَعْرُوف بالصالحية، وَمَا ذكر هُوَ من بعض خيراته السّنيَّة.

وَمِنْهَا: وَهُوَ أعظمها إِجْرَاء عين عَرَفَات إِلَى مَكَّة. وَسبب ذَلِك: أَن الْعين الَّتِي كَانَت بِمَكَّة هِيَ عين حنين الَّتِي أجرتهَا زبيدة بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور زَوْجَة الرشيد، وَاسْمهَا: أمة الْعَزِيز، لِأَن جدها الْمَنْصُور كَانَ يرقصها وَهِي طفلة وَيَقُول: أَنْت زبيدة. فغلب على اسْمهَا، وَكَانَت من أهل الْخيرَات فصرفت عَلَيْهَا خَزَائِن أَمْوَال إِلَى أَن جرت وَهِي فِي وَاد قَلِيل الأمطار بَين جبال شَوَاهِق عاليات خاليات من الْمِيَاه والنبات، وَشقت لَهُ الْقَنَاة فِي الْجبَال إِلَى أَن سلك المَاء من أَرض الْحل إِلَى الْحرم، وَجعلت لَهَا شحاحيذ من كل جبل يكون ذيله مَظَنَّة للْمَاء وَجعلت مِنْهُ قناة مُتَّصِلَة، ومنبع هَذِه الْعين جبل شامخ من تِلْكَ الْجبَال يُقَال لَهُ (طاد) بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَالْألف بعْدهَا دَال مُهْملَة من جبال الثَّنية من طَرِيق الطَّائِف، وَكَانَ المَاء يجْرِي إِلَى أَرض حنين تسقى بِهِ مزارع ونخل مَمْلُوكَة للنَّاس، فاشترت زبيدة ذَلِك الْمحل وأبطلت تِلْكَ الْمزَارِع وَالنَّخْل فَصَارَت تِلْكَ الشحاحيذ يحصل مِنْهَا المدد لهَذِهِ الْعين، وَصَارَ كل شحاذ عينا يساعد عين حنين.

مِنْهَا: عين مشاش، وَعين مَيْمُون، وَعين الزَّعْفَرَان، وَعين البارود، وَعين الطان، وَعين ثقبة، كلهَا تنصب فِي ذيل عين، وَيزِيد بَعْضهَا، وَينْقص بِحَسب الأمطار إِلَى أَن وصلت عين حنين إِلَى مَكَّة المشرفة.

ثمَّ إِنَّهَا أمرت بإجراء عين وَادي نعْمَان إِلَى عَرَفَة وَهِي عين منبعها ذيل جيل كرا وَهُوَ جبل مَعْرُوف فَيصب المَاء من ذيله فِي قناة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: الأوجر من وَادي نعْمَان، وَمِنْه إِلَى مَوضِع بَين جبلين شاهقين علو عَرَفَات، ثمَّ مِنْهُ يجْرِي فِي الْقَنَاة إِلَى أَرض عَرَفَات، ثمَّ أدارت الْقَنَاة إِلَى جبل الرَّحْمَة مَحل الْموقف الشريف، وَجعلت المَاء ينصب إِلَى البرك الَّتِي فِي أَرض عَرَفَات فتملأ مَاء يشرب مِنْهُ الْحَاج يَوْم عَرَفَة، ثمَّ استمرت فِي عمل الْقَنَاة إِلَى أَن خرجت من عَرَفَات إِلَى مُزْدَلِفَة، ثمَّ إِلَى جبل خلف منى فِي قبلتها، ثمَّ ينصب المَاء إِلَى بِئْر عَظِيمَة مطوية بالأحجار كَبِيرَة جدا تسمى بِئْر زبيدة إِلَيْهَا انْتهى عمل زبيدة فَوقف، وَهِي من الْأَبْنِيَة المهولة رُبمَا يُوهم بناؤها أَنه من عمل الْجِنّ، ثمَّ صَارَت عين حنين تَنْقَطِع عَن الْوُصُول إِلَى مَكَّة، وَكَذَلِكَ عين عَرَفَات تَنْقَطِع عَن وصولها إِلَى مُنْتَهَاهَا لتهدم قنواتهما وتخريبهما بالسيول.

وَكَانَت الْخُلَفَاء والسلاطين إِذا بَلغهُمْ ذَلِك أرْسلُوا وعمروها عِنْد انتظام سلطنتهم وَقُوَّة تمكنهم فتجري تَارَة وتنقطع أُخْرَى.

فعمرها مظفر الدّين صَاحب إربل سنة خمس وسِتمِائَة.
ثمَّ الْمُسْتَنْصر العباسي سنة سِتّمائَة وتسع وَعشْرين. ثمَّ فِي سِتّمائَة وَثَلَاث وَثَلَاثِينَ، ثمَّ فِي سنة سِتّمائَة وَأَرْبع وَثَلَاثِينَ، وجد ذَلِك مَكْتُوبًا فِي حجر مَبْنِيّ فِي قرب الْموقف الشريف.
ثمَّ عمر عين حنين الْأَمِير جوبان نَائِب السلطنة بالعراقين سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة، فأجراها إِلَى مَكَّة وَتمّ نَفعهَا فَإِنَّهُم كَانُوا فِي جهد عَظِيم لقلَّة المَاء.
ثمَّ عمرها شرِيف مَكَّة الشريف حسن بن عجلَان جد سَادَاتنَا الْأَشْرَاف أَشْرَاف مَكَّة وملوكها الْآن، أدام الله سعادتهم مدى الزَّمَان فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة فجرت وانفجرت وَكثر الدُّعَاء لَهُ من أهل الْبِلَاد وَالْحجاج والعباد.
ثمَّ انْقَطَعت وَلَقي النَّاس لذَلِك شدَّة عَظِيمَة إِلَى أَن عمرها الْملك الْمُؤَيد أَبُو النَّصْر شيخ المحمودي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَمَانمِائَة.
ثمَّ عمرها وَعمر عين عَرَفَات السُّلْطَان قايتباي أجْرى الأولى إِلَى أَن دخلت مَكَّة، وأجرى الثَّانِيَة إِلَى أَن وصلت إِلَى أَرض عَرَفَات، وَذَلِكَ بمناشرة الْأَمِير يُوسُف الجمالي وأخيه سنقر الجمالي فِي سنة ثَمَانمِائَة وَسبعين.
ثمَّ عمر عين حنين آخر مُلُوك الشراكسة قانصوه الغوري إِلَى أَن جرت وملأت برك الْحجَّاج بالمعلاة، ثمَّ جرت إِلَى بازان، ثمَّ إِلَى بركَة الماجن بِأَسْفَل مَكَّة، ثمَّ انْقَطَعت فِي أَوَائِل الدولة العثمانية وَصَارَ أهل مَكَّة يستقون من آبار حول مَكَّة يُقَال لَهَا: العسيلات علو مَكَّة وَمن آبار بأسفلها بمَكَان يُقَال لَهُ: الزَّاهِر وسُمي الْآن بالجوخي فِي طَرِيق التَّنْعِيم، وَكَذَلِكَ انْقَطَعت عين عَرَفَات وتهدمت قنواتها وَكَانَ الْحجَّاج يحملون المَاء إِلَى عَرَفَات من الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة، وَصَارَ الْفُقَرَاء من الْحجَّاج وَغَيرهم فِي يَوْم عَرَفَة لَا يطْلبُونَ إِلَّا المَاء لغلو المَاء وعزته جدا.

قَالَ الْعَلامَة القطب: وَإِنِّي أذكر سنة تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ، وَأَنا يَوْمئِذٍ مراهق فِي خدمَة وَالِدي أَنِّي اشْتريت قربَة صَغِيرَة جدا يحملهَا الْإِنْسَان بإصبعيه بِدِينَار ذهب، والفقراء يصيحون من الْعَطش يطْلبُونَ مَا يبل حُلُوقهمْ فِي ذَلِك الْيَوْم الشَّديد، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْوُقُوف، وَالنَّاس عطاش يلهثون أمْطرت السَّمَاء وسالت السُّيُول من فضل الله وَالنَّاس واقفون، فصاروا يشربون من السَّيْل من تَحت أَرجُلهم ويسقون دوابهم، وَذَلِكَ من رَحْمَة الله ولطفه بعباده.

فبرزت الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة السليمانية بإصلاحهما، وعُين لذَلِك نَاظر اسْمه مصلح الدّين مصطفى من المجاورين بِمَكَّة، فبذل جهده فِي عمارتهما، فجرت عين حنين إِلَى مَكَّة، وَعين نعْمَان إِلَى عَرَفَات وَذَلِكَ سنة 931 إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة، ثمَّ اشْترى النَّاظر الْمَذْكُور عبيدا سُودًا من مَال السلطنة وزوجهم بمثلهم وَجعل لَهُم جرايات وعلوفات برسم خدمَة الْعين، وَإِصْلَاح قنواتها، فَهِيَ خدمتهم دَائِما وهم باقون إِلَى الْآن طبقَة بعد طبقَة، ثمَّ توجه النَّاظر إِلَى الْأَبْوَاب لعرض أُمُور فِي شَأْن الْعين، فَأُجِيب إِلَى مَا أَرَادَ وَعَاد إِلَى مصر.

ثمَّ ركب من بندر السويس قَاصِدا مَكَّة فغرق فِي بَحر القلزم شَهِيدا، وَمَا غرق إِلَّا فِي بَحر رَحْمَة الله تَعَالَى سنة 939 تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة.

ثمَّ انْقَطَعت سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فعرضت أَحْوَال الْعُيُون لي الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة السليمانية، فَالْتَفت الخاطر السلطاني وَتوجه الْعَطف العثماني إِلَى تدارك ذَلِك بِأَيّ وَجه يكون، وَأمر بالفحص عَن أَحْوَال الْعُيُون، فَاجْتمع قَاضِي مَكَّة يَوْمئِذٍ عبد الْبَاقِي بن عَليّ الْغَزِّي، والأمير خير الدّين سنجق جدة يَوْمئِذٍ، وَغَيرهمَا من الْأَعْيَان، وتفحصوا وداروا، وكشفوا فأجمع رَأْيهمْ أَن أقوى الْعُيُون عين عَرَفَات، وطريقها ظَاهر ودبولها مَبْنِيَّة إِلَى بِئْر زبيدة، وَأَن الَّذِي يغلب على الظَّن أَن دبولها من الْبِئْر إِلَى مَكَّة مَبْنِيَّة أَيْضا وَأَنَّهَا مخفية تَحت الأَرْض وَأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَنْهَا والحفر، فَإِذا وجدوا من الدبل متهدماً بنوه، وَإِذا وجدوا مختلاً أصلحوه، فخمنوا أَنهم يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِك إِلَى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار ذَهَبا، وذرعوه وقاسوه فَكَانَ من الأوجر إِلَى بطن مَكَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل، وَهُوَ أَزِيد من الذِّرَاع الشَّرْعِيّ بِنَحْوِ الرّبع.

وَهَذَا الَّذِي طنوه من وجود دبل تَحت الأَرْض من بِئْر زبيدة إِلَى مَكَّة لم يُوجد فِي كتب التَّارِيخ وَلم يذكرهُ أحد، وَإِنَّمَا أداهم إِلَى ذَلِك مُجَرّد الظَّن بِحَسب القرا ئن وعرضوا على المسامع الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة فِي أَوَائِل سنة 960 سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة، فَلَمَّا وصل علم ذَلِك التمست جانم سُلْطَان كَرِيمَة السُّلْطَان سُلَيْمَان أَن يَأْذَن لَهَا فِي عمل هَذَا الْخَيْر، حَيْثُ كَانَت صَاحِبَة الْخَيْر أَولا أم جَعْفَر زبيدة العباسية فَنَاسَبَ أَن تكون هِيَ صَاحِبَة هَذَا الْخَيْر أخيراً، فَاخْتَارَتْ بعد ان استطارت لهَذِهِ الْخدمَة إِبْرَاهِيم بن تعزي بردي الدفتردار، وأعطته خمسين ألف دِينَار ذَهَبا زِيَادَة على مَا خمنوه، فَسَار بحراً فوصل إِلَى جدة يَوْم الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنزل بوطاقه خَارج جدة من الْجِهَة الشامية وَركب من جدة إِلَى سيدنَا ومولانا الشريف مُحَمَّد أبي نمي وَكَانَ نازلاً بوادي (مر) فقابله بالإجلال والتعظيم وَمد لَهُ سماطاً عَظِيما ولاطفه وواكله وباسطه وجابره، فَعرض على حَضرته الشَّرِيفَة الْخط السلطاني، وبذل الهمة وَالِاجْتِهَاد فِي إتْمَام هَذَا الْأَمر، فَأجَاب الشريف أَبُو نمي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، ثمَّ ركب إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور من عِنْده مُتَوَجها إِلَى مَكَّة، فلاقاه عِنْد دُخُوله مَوْلَانَا الشريف حسن بن أبي نمي وقابله بالترحيب وَالْإِكْرَام وَغَايَة الإجلال والاحترام، وَاسْتمرّ مَعَه إِلَى أَن فَارقه من بَاب السَّلَام، فَدخل فَطَافَ طواف الْقدوم وَكَانَ محرما بِالْحَجِّ وسعى. وَعَاد إِلَى مجمع السُّلْطَان قايتباي، وَهُوَ الْمحل الَّذِي عين لنزوله، وَمد لَهُ من قبل الشريف حسن سماط عَظِيم، ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي ثمَّ كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ تنظيف الْآبَار الَّتِي يَسْتَسْقِي النَّاس مِنْهَا، وَإِخْرَاج ترابها وَزِيَادَة حفرهَا ليكْثر مَاؤُهَا، وَحصل للنَّاس بذلك رفق عَظِيم، ثمَّ توجه للكشف إِلَى أَعلَى عَرَفَات وَكثر تردده إِلَيْهَا، ثمَّ أسْرع فِي الْكَشْف عَن دبول عين عَرَفَة وَضرب أوطاقه فِي الأوجر من وَادي نعْمَان علو عَرَفَات، وَشرع فِي حفر فقرها، وتنظيف دبولها بهمة عالية جدا.

وَكَانَت مماليكه القائمون فِي خدمته نَحْو أَرْبَعمِائَة مَمْلُوك فِي غَايَة الْجمال والرشاقة والحذاقة واللباقة، وَكتب نَحْو ألف نفس من الْعمَّال والمهندسين والحفارين، وجلب من مصر وبلاد الصَّعِيد وَالشَّام وحلب واسطنبول طوائف بعد طوائف من خدام الْعُيُون والآبار والحدادين والحجارين والبنائين.

وأتى بآلات الْعِمَارَة من مكاتل ومساحي ومجاريف وحديد وبولاد ورصاص ونحاس.

وَعين لكل طَائِفَة قِطْعَة من الأَرْض تحفرها وتنظف مَا فِيهَا، وَاسْتمرّ إِلَى أَن وصل عمله إِلَى بثر زبيدة الَّتِي انْتهى عَملهَا إِلَيْهَا، وَلم يجد بعْدهَا دبلاً، وَلَا أثر عمل وَلَا بقايا قناة، فَضَاقَ ذرعه لذَلِك، وَعلم أَن الْخطب كَبِير وَالْعَمَل كثير وَتحقّق أَن الْقدر الْبَاقِي من هَذَا الْعَمَل إِنَّمَا تركته زبيدة اضطراراً لَا اختبارا وَعدلت إِلَى عمل حنين، وَتركت الْعَمَل من بعد الْبِئْر لصلابة الْحجر وصعوبة إِمْكَان قطعه وَطول مَسَافَة مَا يجب قطعه، وَأَنه يحْتَاج من بِئْر زبيدة إِلَى دبل منقور تَحت الأَرْض فِي الْحجر الصوان طوله ألفا ذِرَاع بِذِرَاع البنائين حَتَّى يتَّصل بدبل عين حنين وَينصب فِيهِ فيصِلاَ إِلَى مَكَّة. وَلَا يُمكن نقر ذَلِك الْحجر تَحت الأَرْض فَإِنَّهُ يحْتَاج فِي النُّزُول إِلَى خمسين ذِرَاع فِي العمق، وَصَارَ لَا يُمكن ترك ذَلِك بعد الشُّرُوع فِيهِ حفظا لناموس السلطنة، فأوجد الْأَمِير إِبْرَاهِيم حِيلَة هِيَ أَن يحْفر وَجه الأَرْض إِلَى أَن يصل إِلَى الْحجر الصوان ثمَّ يُوقد عَلَيْهِ بالنَّار مِقْدَار مائَة حِمل من الْحَطب الجزل لَيْلَة كَامِلَة فِي مِقْدَار سَبْعَة أَذْرع فِي عرض خَمْسَة أَذْرع من وَجه الأَرْض وَالنَّار لَا تعْمل إِلَّا فِي الْعُلُوّ، وَأما السّفل فعملها فِيهِ مِقْدَار قيراطين من أَرْبَعَة وَعشْرين قيراطاً من ذِرَاع.

فيكسر بالحديد إِلَى أَن يصل الْحجر الشَّديد فيوقد عَلَيْهِ الْحَطب الجزل لَيْلَة أُخْرَى إِلَى أَن ينزل فِي ذَلِك الْحجر مِقْدَار خمسين ذِرَاعا فِي العمق فِي عرض خَمْسَة أَذْرع إِلَى أَن يَسْتَوْفِي ألفي ذِرَاع تقطع على هَذَا الحكم، وَذَلِكَ يحْتَاج إِلَى عمر نوح وَمَال قَارون وصبر أَيُّوب، وَمَا رأى عَن ذَلِك محيصاً، فأقدم عَلَيْهِ إِلَى أَن فرغ الْحَطب من جَمِيع جبال مَكَّة وَصَارَ يجلب من الْمسَافَة الْبَعِيدَة، وغلا سعره وضاق النَّاس لذَلِك، وتعب الْأَمِير وَذَهَبت أَمْوَاله وخدامه ومماليكه وَهُوَ يتجلد، إِلَى أَن قطع من الْمسَافَة ألف ذِرَاع وَخَمْسمِائة ذِرَاع، وَصَارَ كلما فرغ المصروف أرسل وَطلب فَجَاءَهُ، ثمَّ مَاتَ لَهُ ولد طِفْل كَانَ خلَّفه بِمصْر احْتَرَقَ عَلَيْهِ كثيرا، ثمَّ مَاتَ لَهُ ولدان مراهقان، ثمَّ مَاتَ أَكثر مماليكه، ثمَّ مَاتَ هُوَ غَرِيبا شَهِيدا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَانِي رَجَب سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَت جنَازَته حافلة، وأسف النَّاس على فَقده لِكَثْرَة إحسانه وَدفن فِيهَا ولديه قبله.

ثمَّ أقيم فِي هَذِه الْخدمَة سنجق جدة الْأَمِير قَاسم بك، أَقَامَهُ سيدنَا شيخ الْإِسْلَام القَاضِي الْحُسَيْن إِلَى أَن يصل مَن تعينه السلطنة الْعلية.

وَفِي هَذَا الْعَام الْمَذْكُور انْتَقَلت السلطنة من السُّلْطَان سُلَيْمَان صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان، فعين لهَذِهِ الْخدمَة دفتردار مصر يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بك يكمكجي زَاده وَكَانَ من أعبد السناجق، فوصل إِلَى هَذِه الْخدمَة وبذل فِيهَا نَفسه وَمَاله، وَقطع مَسَافَة وَمَا بلغ التَّمام، بل وافاه الحِمام لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع لَيَال بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَدفن بالمعلاة قبالة تربة الْأَمِير إِبْرَاهِيم الدفتردار على يسَار الذَّاهِب إِلَى الأبطح، ثمَّ رَجَعَ فِي خدمَة الْعين الْأَمِير قَاسم سنجق جدة الْمَذْكُور آنِفا أرجعه فِيهَا القَاضِي الْحُسَيْن وَعرض ذَلِك إِلَى الْأَبْوَاب، فأنهى الْأَمر باستقرار قَاسم بك فِي الْخدمَة أَمينا على مصارفها. وَأَن يكون مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن نَاظرا على مَا بَقِي من عمل هَذِه الْعين إِلَى أَن يصل إِلَى عَرَفَات، فاستمر قَاسم بك مباشراً لهَذِهِ الْخدمَة، إِلَى أَن طرقه الْحِين فَصَارَ ثَالِثا للأميرين السَّابِقين، وَصَارَ من شُهَدَاء الْعين، وَذَلِكَ لليلة خلت من رَجَب الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَدفن بالمعلاة إِلَى جَانب الْأَمِير مُحَمَّد بك اليكمكجي المتوفي بِمَكَّة.

ثمَّ توجه مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن توجهاً تَاما إِلَى تَكْمِيل عمل مَا بَقِي من الْعين بِاعْتِبَار مَا بِيَدِهِ من النّظر، وَعرض للسلطنة الشَّرِيفَة بوفاة قَاسم بك فبرزت الْأَوَامِر إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة فأقدم بهمته الْعَالِيَة أتم إقدام، فساعدته السَّعَادَة والإقبال على الْإِتْمَام، فكمل عَملهَا فِيهَا دون خَمْسَة أشهر، بعد أَن عجزوا عَنهُ فِي قريب من عشرَة أَعْوَام، فجرت عين عَرَفَات وَوصل المَاء، وَهُوَ يجْرِي فِي تِلْكَ الدبول والقنوات إِلَى أَن دخل مَكَّة لعشر بَقينَ من ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم عيد أكبر عِنْد النَّاس، وَعمل فِي ذَلِك الْيَوْم أسمطة بِالْأَبْطح ببستانه الْوَاسِع الأفيح، جمع الأكابر والأعيان، وَنصب لَهُم السرادقات والصوان، وَذبح أَكثر من مائَة من الْغنم، وَقدم للنَّاس على قدر طبقاتهم أَنْوَاع الموائد وَالنعَم، وخلع على أَكثر من عشرَة أنفس من المعلمين والمهندسين خلعاً فاخرة، وَأحسن إِلَى باقيهم بِالْحَسَنَاتِ الوافرة.

وَمِمَّا رَأَيْته بِخَط جدي الْعَلامَة جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل العصامي مَا نصُّه: لما أكمل مَوْلَانَا وعزيزنا شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين نَاظر النظار بِبَلَد الله الْأمين مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف القَاضِي الْحُسَيْن بن أَحْمد الْمَالِكِي عمَارَة عين عَرَفَات كتبت إِلَيْهِ قولى: [من مخلع الْبَسِيط]
أَقضَى القُضَاةِ الحسينُ أَعْنَى ... مكانَ أُمِّ القُرَي بِعَيْنه
وجاءَ بالعَيْنِ بَعْدَ يَأْسٍ ... فَشكْرُهُ وَاجِبٌ لِعَيْنِهُ
فَفتح لقبولهما كل بَاب، وأعجب بِهِ غَايَة الْإِعْجَاب.

قلت: يُمكن أَن يقْصد فِيهِ التورية فيراد بقوله (لعَينه) الذَّهَب، ويرشحه قَوْله: (أغْنى) إِلَى آخِره.

وَأَن يُرَاد بهَا المَاء الْجَارِي ويرشحه (جَاءَ بِالْعينِ بعد يأس).

وَعِنْدِي: سلبهما من لِبَاس التورية أستر، وأذكى لشذى الْمَدْح وأعطر، بِأَن يكون المُرَاد بِالْعينِ ذَاته وشخصه، ليَكُون وجوب الشُّكْر لذاته فِي كَمَاله، لَا لعَارض يَزُول بزواله.

ثمَّ جهز أَخْبَار هَذِه البشائر إِلَى السُّلْطَان سليم ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان، وَإِلَى سرادقات الْحجاب الرفيع مليكَة الملكات بلقيس الزَّمَان جانم السُّلْطَان أُخْت مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان، فأنعمت بالإنعامات الجزيلة، والترقيات الْكَثِيرَة الجميلة على سَائِر العمالين والمباشرين والمتعاطين لهَذِهِ الْخدمَة، ورقت مدرسة مَوْلَانَا القَاضِي حُسَيْن - وَهِي الأولى مِمَّا يَلِي بَاب الزبادة - فَصَارَت بِمِائَة عثماني.

واستمرت هَذِه الْعين من جملَة الْآثَار الْبَاقِيَة على صفحات اللَّيَالِي وَالْأَيَّام، والأعمال الصَّالِحَات الْبَاقِيَات على تكْرَار السنين والأعوام.

وَمَا عِنْده سُبْحَانَهُ من تَضْعِيف الْأجر وَالثَّوَاب خير، وَأبقى عِنْد أولي الْأَلْبَاب.

وَكَانَ جملَة النَّفَقَة خَمْسَة لكوك وَسَبْعَة آلَاف دِينَار ذَهَبا أَحْمَر جَدِيدا، وَذَلِكَ غير مَا صرف على إِحْضَار أَرْبَاب الصناعات من الحدادين والحجارين والقطاعين والنجارين، وَأهل الصناعات الدقيقة من الْبِلَاد الْبَعِيدَة، وَغير مَا صرف على خدامها وخدامهم.

وَقد كَانَت عمارتها فِي آخر الدولة السُّلْطَانِيَّة السليمانية وَفِي أول الدول السُّلْطَانِيَّة السليمية.

وَكَانَ لَهُ من الْأَوْلَاد مصطفى وَهُوَ أكبرهم؛ توهم مِنْهُ وَالِده أمرا، فَأمر بخنقه طَائِفَة من البكمان أَوَاخِر شَوَّال سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة.

قَالَ فِي (بغية الخاطر) للعلامة الكاتي: وَفِي سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة أَمر السُّلْطَان سليم بقتل وَلَده مصطفى، وَكَانَ ذَلِك من مكر رستم باشا الْوَزير، فجَاء تَارِيخ وَفَاته (مكر رستم) وَقَالَ وَآخر باللغة الفارسية: (ظلم بِي حد در آخر شَوَّال) ذكره الكاتي فِي تَارِيخه.

قلت: يُرِيد أَن لفظ لَا حد لَهُ، أَي لَا نِهَايَة؛ أَي لَا مِيم فَيبقى حرفان الظَّاء وَاللَّام وهما بتسعمائة وَثَلَاثِينَ، وَآخر شَوَّال اللَّام، وَهِي بِثَلَاثِينَ، فَيتم الْعدَد تِسْعمائَة وَسِتِّينَ وَهِي سنة وَفَاته، وَهُوَ آخر شَوَّال، وَهَذَا اتِّفَاق عَجِيب يروق كل أديب.

وطفل اسْمه مُرَاد كَذَلِك خنقه فألحقه بولده مصطفى.

وَولده الثَّانِي: مُحَمَّد بن سُلَيْمَان مَاتَ على فرَاشه مولدَه سنة ثَمَان وَعشْرين وَتِسْعمِائَة، وَولده الآخر با يزِيد بن سُلَيْمَان، فَوَقَعت بَينه وَبَين أَخِيه السُّلْطَان سليم محاربات قتل فِيهَا نَحْو خمسين ألفا.

ثمَّ لما عجز عَن محاربة أَخِيه السُّلْطَان سليم هرب هُوَ وَأَوْلَاده الْأَرْبَعَة وهم: أورخان ومحمود خَان وَعبد الله خَان وَعُثْمَان، فظفر بهم السُّلْطَان سليم وَأخذ أنفاسهم بالأوتار وَمَا لَهُم من آثَار.

وَكَانَ لَهُ ان خَامِس طِفْل فِي (بروسا) فَأمر بخنقه أَيْضا فتبع وَالِده وَإِخْوَته.

وَمن أَوْلَاد سُلَيْمَان: السُّلْطَان جهان كير، كَانَ أحدب ظريفاً لطيف الرّوح خَفِيفا، كَانَ يُحِبهُ وَالِده وَلم يُفَارِقهُ، توفّي بأجله بِمَرَض الخناق سنة 965 خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة.

وَمِنْهُم السُّلْطَان شاه زَاده بن سُلَيْمَان توفّي بأجله سنة 967 سبع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة.

وعدة غَزَوَاته الْكِبَار الْمَشْهُورَة ثَلَاث عشرَة غَزْوَة السَّادِسَة، مِنْهَا: غَزْوَة الْعرَاق كَانَت أَوَاخِر ذِي الْقعدَة سنة 941 إِحْدَى وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة.

وَأَنْشَأَ القَاضِي عبد اللَّطِيف بن عبد الله باكثير عِنْد وُرُود خير النُّصْرَة فِي تِلْكَ الْغَزْوَة تَارِيخا وضمه بَيْتَيْنِ هما: [من المتقارب]
ولَمَّا أَحَلَّتْ ظِبَانا لَنَا ... دمَ الشَّاهِ واسْتَحْكَمَتْ سَلْخَهُ
فَتَحْنَا العِرَاقَ وذَا الَّفْظُ مِنْ ... لَطَافَتِهِ جَاءَ تَاريْخَهُ

وَكَانَ عبد اللَّطِيف الْمَذْكُور سَافر إِلَى الديار الرومية، وَاجْتمعَ فِيهَا بالسلطان سُلَيْمَان خَان بِوَاسِطَة قَاضِي الْعَسْكَر قادري أَفَنْدِي فصادف قدومه إِلَى الرّوم توجه مَوْلَانَا السُّلْطَان إِلَى حَرْب الْعَجم، ثمَّ ورد خبر النُّصْرَة - كَمَا تقدم - فَعمل ذَيْنك الْبَيْتَيْنِ وقدمهما إِلَى صَاحبه قَاضِي الْعَسْكَر قادري أَفَنْدِي، فَبعد وُرُود السُّلْطَان من السّفر أشرفه على التَّارِيخ وَجمعه بقائله عبد اللَّطِيف الْمَذْكُور فنال مِنْهُ مزِيد الْإِكْرَام، وأنعم عَلَيْهِ بِقَضَاء مَكَّة المشرفة.

وَكَانَت سلاطين مصر وَغَيرهم يعقدون وُلَاة منفردين على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، وَكَانَ غَالِبا لَا يُقيم النواب إِلَّا قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي، وَالْبَاقُونَ يتعاطون الْأَحْكَام وَلَا يُقِيمُونَ نواباً. وَاسْتمرّ القَاضِي عبد اللَّطِيف مُتَوَلِّيًا إِلَى أَن عزل بِأول قُضَاة الأورام من الْحَنَفِيَّة وَهُوَ القَاضِي صدر الدّين، فورد إِلَى مَكَّة عَام ثَلَاث وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة، وَمن حِينَئِذٍ صَار الأفندي الْأَعْظَم يرد من الْجِهَات الرومية، ويعقد لَهُ الْولَايَة من هُنَاكَ، إِلَّا أَن الْقُضَاة كَانُوا يُقِيمُونَ القَاضِي الشَّافِعِي والمالكي والحنفي والحنبلي بطرِيق النِّيَابَة.

فَفِي زمن الأفندي ميرزا مخدوم أَقَامَ عَم جدي القَاضِي الْعَلامَة نور الدّين على زَاده ابْن مَوْلَانَا المرحوم إِسْمَاعِيل العصامي قَاضِيا شافعياً، وَأقَام القَاضِي نجم الدّين الْمَالِكِي نَائِبا مالكياً، وَأَرَادَ إِقَامَة حنبلي فَلم يَتَيَسَّر ذَلِك لعدم وجود حنبلي يقوم بِهَذَا الشَّأْن.

وَآخر من أَقَامَ ذَلِك بِمَكَّة الأفندي عبد الرَّحِيم الشعراوي عَام تَوليته لَهَا عَام خمس وَثَلَاثِينَ وَألف.

وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّانِي من استقراره فِي الْملك جعل ديواناً وأنعم على الوزراء وَأمرهمْ بترك شعار الْحزن، ورقى الْعَسْكَر فِي الجوامك على حسب مَرَاتِبهمْ وانتظم الْحَال.

وَكَانَ ملكا صَالحا يترجم بِالْولَايَةِ كثير الْخَيْر وَالْإِحْسَان، للْقَاضِي والدان.

وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثماناً وَأَرْبَعين سنة، وَهِي عديمة النظير، فِيمَن مضى من هَذَا الْبَيْت الْمُنِير.

وَاسْتقر بهَا إِلَى أَن توفّي سنة أَربع وَسبعين فِي سَابِع عشر صفر وَهُوَ فِي محاصرة الْعَدو، فأخفى الْوَزير مَوته وأركان الدولة وَأَرْسلُوا أوراقاً إِلَى كوتاهية لمولانا السُّلْطَان سليم - وَبَين المحلين نَحْو ثَلَاثَة أشهر بسير الأثقال - فَركب مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم وجد فِي السّير إِلَى بِلَاد اسطنبول، ودخلها فِي ثامن ربيع الأول سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة.

وَحمل السُّلْطَان سُلَيْمَان إِلَى دَار الْخلَافَة وَدفن فِي الْمحل الَّذِي عمره فِي عِمَارَته الْمَذْكُور، طَابَ ثراه.

ورثاه عَالم زَمَانه أَبُو المسعود أَفَنْدِي الْمُفْتِي بقصيدة بليغة وَهِي هَذِه: [من الْبَسِيط]
أَصَوْتُ صَاعِقَةٍ أَمْ نَفْخَةُ الصُّورِ ... فالأَرضُ قَدْ قُلِبَتْ مِنْ نَقْرِ نَاقُورِ
أَصَابَ مِنْهَا الوَرَى دَهْيَاءُ دَاهِيَةٌ ... وذَاقَ مِنْهَا البَرَايَا صَعْقَةَ الصُّورِ
فَهُدِّمتْ بَيْعَةُ الدُّنيا لوَقْعَتِهَا ... وانْهَدَّ مَا كَانَ مِنْ دَورٍ ومِنْ سُورِ
أَمْسِتْ مَعَالمُهَا بَهْمَاءَ مُقْفِرَةً ... مَا فِي المَنَازِلِ مِنْ دَوَّار دَيُّورِ
تَهَدَّمَتْ قُلَلُ الأَطْوَادِ وارْتَعَدَتْ ... كَأَنَّهَا قَلْبُ مَرْعُوبٍ ومَذْعُورِ
واغْبَرَّ نَاصِيَةُ الخَضْرَاءِ وانْكَدَرَتْ ... وَكَادَ تَمْتَلِئُ الغَبْراءُ بِالمُورِ
فَمِنْ كَئِيبٍ ومَلْهُوفٍ ومِنْ دَنِفٍ ... عَانٍ بِسِلْسِلَةِ الأَحْزَانِ مَأْسُورِ
فَيَا لَهُ مِنْ حَدِيثٍ مُوْحِشٍ نكرٍ ... يَعَافُهُ السَّمْعُ مَكرُوهٍ ومَنْفُورِ
تَاهَتْ عُقُولُ الورَى مِنْ هَوْلِ وَحْشَتِهِ ... فَأَصْبَحُوا مِثْلَ مَخْمُورٍ ومَسْحُورِ
تَقَطَّعَتْ قِطَعًا مِنْه القُلُوبُ فَلاَ ... يَكَادُ يُوجَدُ قَلْبٌ غَيْرُ مَكسُورِ
أَجْفَانهُمْ سُفُنٌ مَشْحُونَةٌ بِدَمٍ ... تَجْرِىِ بِبَحْرٍ مِنَ العَبراتِ مَسْجَورِ
أَتَى بِوَجْهِ نَهَارٍ لاَ ضِيَاءَ لَهُ ... كَأَنَّها غُرةٌ شيِبَتْ بدَيْجُورِ
أَمْ ذَاكَ نَعْىُ سُلَيْمَانَ الزَّمانِ ومَنْ ... مَضَتْ أَوَامِرُهُ فِي كُلٌ مَأْمُورِ
حَقَّا وَمَنْ مَلأَ الدُنْيَا مَهَابَتُهُ ... وسَخَّرَتْ كُلَّ جبارٍ وقيهورِ
مَدَارِ سَلْطَنَةِ الدُّنْياَ ومَرْكَزِهَا ... خَلِيفَةِ اللهِ فِي الآفاقِ مَذْكورِ
مُعْلِي مَعَالِم دِيِنِ اللهِ مُظْهِرهَا ... فِي العَالَمِينَ بِسَعْي مِنْه مَشْكورِ
وحُسْنِ رَأْىٍ إِلَى الخَيْرَاتِ مُنْصَرِفٍ ... وصِدْقِ عَزْمٍ عَلَى الأَلْطَافِ مَقْصُورِ
لآيَةِ العَدْلِ والإِحْسَانِ مُمْتَثِلٌ ... بِغَايَةِ القِسْطِ والإلطَافِ مَوْقُورِ
مُجَاهِدٍ فِي سَبيلِ اللهِ مُجْتَهدٍ ... مُؤَيَّدٍ مِنْ جَنَابِ القُدْسِ مَنْصُورِ
بلهْذَمِيِّ إِلَى الأعْدَاءِ مُنْعَطِفٍ ... ومشْرَفيِّ عَلَى الكُفَّارِ مَشْهُورِ
وَرايَةٍ رُفِعَتْ للمَجْدِ خَافِقَةٍ ... تَلْوِي عَلَى عَلَم بالنَّصْرِ مَنشُورِ
وعَسْكَرٍ مَلأَ الآفَاقَ مُحْتَشِدٍ ... مِنْ كُلِّ قُطْرٍ مِنَ الأَقْطَارِ مَحْشُورِ
لَهُ وَقَائعُ فِي الأَكْنَافِ شَائِعَةٌ ... أَخْبَارُهَا زُبِرَتْ فِي كُلِّ طَامُورِ
يَا نَفْسُ مَا لَك فِي الدُّنْيَا مُخَلَّفَةً ... مِنْ بَعْدِ رِحْلَتِهِ مِنْ هَذِهِ الدُّورِ
حقٌّ على كل نفسٍ أَن تموتَ أسى ... لَكِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ غَيْرٌ مَقْدُورِ
فَلِلْمَنَايَا مَقَادِيرٌ مُعَدَّدَهٌ ... تَأْتِي عَلى قَدَرٍ فِي اللَّوحِ مَسْطورِ
وَلَيْسَ فِي شَأْنِهَا للنَّاسِ مِنْ أَثَرٍ ... ومَدْخَلٍ مَا بِتَقْدِيمٍ وتَأْخِيرِ
يَا نَفَسُ فاتَّئِدي لاَ تَهْلِكِي أَسفًا ... فَأَنْتِ مَنْظُومَةٌ فِى سِلَّكِ مَقْدورِ
إذْ لَسْتِ مَأْمُورةً بالمُسْتَحِيلِ وَلاَ ... بِمَا سِوَى بَذْلِ مَجْهُودٍ ومَيْسُورٍ
ولاَ تَظُنِّيَهُ قَدْ مَاتَ بَلْ هُوَ ذَا ... حَيٌّ بِنَصِّ مِنَ القُرْآنِ مَزْبُورِ
لَهُ نَعِيمٌ وَأَرْزَاقٌ مُقَدِّرَةٌ ... تَجْرِي عَلَيْه بِوَجْهٍ غَيْرِ مَشْعُورِ
إنَّ المَنَايَا وإنْ عَمَّت مُحَرَّمَةٌ ... عَلَى شَهِيدٍ جَمِيلِ الحَالِ مَبْرُورِ
مُرَابطٍ فِي سَبِيلِ اللهِ مُقْتَحِمٍ ... مَعَارِكَ الحَتْفِ بِالرِّضْوَانِ مَأْجُورِ
مَا مَاتَ بَلْ نَالَ عَيْشًا بَاقِيًا أبدا ... عَنْ عَيْشِ فَانٍ بِكُلِّ الشَّرِّ مَعْمُورِ
إبْتَاعَ سَلْطَنَةَ العُقْبَى بِسَلْطَنَةِ الدْ ... دُنْيَا فَأَعْظِمْ بِرِبْحٍ غَيْرِ مَحْصُورِ
بَلْ حَازَ كِلتَيْهِمَا إذْ حَلَّ مَنْزِلةً ... مَنْ لَمْ يُغَايرْهُ فِي أَمْرٍِ ومَأْمُور
أَمَا تَرَى مُلْكَهُ المَحْمِيَّ آلَ إِلَى ... سِرٍّ سَرِىٍّ لَهُ فِي الدَّهْرِ مَشْهُورِ
وَلِيِّ سَلْطَنَةِ الآفَاقِ مَالِكِهَا ... بَرًّا وبَحْرًا بعَيْنِ اللُّطْفِ مَنْظُورِ
ظِلِّ الإِلَهِ مَلاَذِ الخَلْقِ قَاطِبَةً ... ومُلْتَجَا كُلِّ مَشْهُورٍ ومَذْكٌ ورِ
فَإِنَّهُ عَيْنُهُ فِي كُلِّ مَأْثَرَةٍ ... وَكُلِّ أَمْرٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ مَأْثُورِ
وَلاَ امْتِيَازَ وَلاَ فُرْقَانَ بَيْنَهُمَا ... وَهَلْ يُمَيَّزُ بَيْن الشَّمْسِ والنُّورِ
سَمَيْدَع مَاجِد زَادَتْ مَهَابَتُهُ ... تَخْتَ الخلافةِ فِي عزِّ وتَيْقُورِ
جَدَّ الجَدِيدانِ فِي أَيَّامِ دَوْلَتِهِ ... صَارَا كَأَنَّهُمَا مِسْكٌ بِكَافُورِ
أَضْحَتْ بِقَبْضَتِهِ الدُّنْيَا برُمَّتِهَا ... مَا كَانَ مِنْ مجهلٍ مِنْهَا ومَعْمُورِ
بَدَا بِطَلْعَتِهِ والنَّاسُ فِي كَربٍ ... وسُوءِ حَالٍ مَنَ الأحْوالِ مَنْكُورِ
فأَصْبَحَتْ صَفَحَاتُ الأَرْضِ مُشْرِفَةً ... وعَادَ أَكْنَافُهَا نُورًا عَلَى نُورِ
سُبْحَانَ مَنْ مَلِكٍ حلَّتْ مَفَاخِرُهُ ... بَحْرَ البَيَانِ بِمنْظُومٍ ومَنْثُورِ
كأَنَّهَا ويَرَاعَ الوَاصِفِينَ لَهَا ... بَحْرٌ خَمِيسٌ إِلَى مِنْقَارِ عُصْفُورِ
لاَ زَالَ أَحْكَامُهُ بالعَدْلِ جَارِيةٌ ... بَيْنَ البَرِيَّةِ حَتَّى نَفْخَةِ الصورِ



ثمَّ تولى السُّلْطَان سليم الثَّانِي ابْن سُلَيْمَان خَان 


وَجلسَ على سَرِير السلطنة فِي سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة 



بُويِعَ بعد موت وَالِده فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور، فَلَمَّا جلس على سَرِير السلطنة سَار على نمط وَالِده فِي الْعدْل والإنصاف، ثمَّ بَادر فِي قيام شرائع الدّين، فَبنى جَامعا عَظِيما بِأَرْبَع منائر كَامِلَة الإرتفاع ب (أدرنة) ومدرسة عَظِيمَة للْعلم بِعُمُومِهِ ومدرسة مفخمة برسم الْقرَاءَات، وَهُوَ أول من عمر ذَلِك الْمحل الْمَذْكُور، وَعمر عمَارَة برسم الطَّعَام للخاص وَالْعَام بِمَدِينَة قونية، وَعمر خانات للمسافرين فِيهَا كِفَايَة النازلين بهَا مَعَ دوابهم من الطَّعَام وَالشرَاب، وَأَنْشَأَ بَلْدَة كَامِلَة تعرف بقره نكار، وَكَانَت خربة جَمِيعهَا فَحصل بهَا غابة النَّفْع للْمُسلمين سِيمَا الْمُسَافِرين لِأَنَّهَا كَانَت معقلاً لقطاع الطَّرِيق الكسجية.

وَله فتوحات عَظِيمَة من أعظمها الأقطار اليمنية لِأَنَّهَا فِي آخر الدولة السليمانية اخْتَلَّ أمرهَا وهجم أَهلهَا الطاغون على أعظم مدنها وملكوه، بل سمعنَا أَنه لم يبْق فِي الحماية العثمانية إِلَّا مَدِينَة (زبيد) فَقَط، فَلَمَّا جلس مَوْلَانَا صَاحب التَّرْجَمَة على سَرِير السلطنة أَمر بالتجهيز إِلَيْهَا، فعين لذَلِك وزيره الْأَكْبَر سِنَان باشا، فبرز من الديار المصرية أَوَاخِر عشر السّبْعين وَتِسْعمِائَة فِي جَيش كثيف بِالْخَيْلِ المسومة، والعساكر الشجعان المعظمة، وَطَوَائِف من السناجق السُّلْطَانِيَّة، وعدة من المدافع فَوق الْمِائَة، فَلَمَّا وصلوا إِلَى مَكَّة البهية عرضوا لَهَا عرضة عَظِيمَة وَأظْهر أبهة الْملك وَالسُّلْطَان.


قَالَ السَّيِّد مُحَمَّد الْحُسَيْنِي فِي تَارِيخه الْمُسَمّى (الرَّوْضَة الأنيقة فِي سُلْطَان الْحجاز على الْحَقِيقَة): أَخْبرنِي الثِّقَة أَنه سمع كَاتب العساكر أَنهم يعلقون كل لَيْلَة أَرْبَعَة وَعشْرين ألف عليقة.

وَله فتوحات عَظِيمَة مِنْهَا فتح جزائر ساقس، وكل جَزِيرَة فِيهَا مدن عَظِيمَة وكنائس وقلاع حَصِينَة.

وَعَاد على الْمُسلمين من هَذِه الفتوحات غَنَائِم وَأسرى لَا تعد وَلَا تحصى، وانتفع بهَا بَيت المَال وَجَمِيع أَرْكَان الدولة، وَسَائِر الرعايا انتفاعاً ظَاهرا غزير الْمَحْصُول كثير الْمَنَافِع، وَأمن بذلك الصادرون والواردون بحراً وَبرا.

وَله خيرات كَثِيرَة بالحرمين الشريفين من الْأَجْزَاء القرآنية، والنقود والحبوب الْمرتبَة كل عَام أُسْوَة أسلافه الْكِرَام طَابَ ثراهم بدار السَّلَام.

وَكَانَ مَوْلَانَا صَاحب التَّرْجَمَة من طَاعَة وَالِده المرحوم المبرور السُّلْطَان سُلَيْمَان بِمحل لَا يُمكن عَنهُ التَّعْبِير، بِحَيْثُ يُرَاجِعهُ فِي الْجَلِيل والحقير، ويصبر فِي رِضَاهُ على مضض الدَّهْر وضيق الْعَيْش والضنك والقهر، وكل مَا يبلغهُ من حَاسِد ونمام عَن وَالِده بالانتقاص والإعراض عَنهُ، وَالْإِشَارَة بالسلطنة إِلَى غَيره من إخْوَته بالإعطاء، وتمهيد أَحْوَال السلطنة لغيره لَا يمنعهُ ذَلِك من أَنْوَاع الْبر لوالده بالْقَوْل وَالْفِعْل، وَلَا يحملهُ على العقوق، خُصُوصا عَن والدته فَإِنَّهَا كَانَت تصرح بِعَدَمِ صَلَاحه للْملك وقابلية غَيره للدولة، وَهُوَ على غَايَة من الصَّبْر وَتحمل الْجفَاء، وَالتَّصْرِيح بالتفويض إِلَى رب السَّمَاء، فَكَانَت طَاعَته لوَالِديهِ مُوجبَة لإنعام الله بِالْملكِ عَلَيْهِ، فانقرضت إخْوَته وَأَعْقَابهمْ ووالدته فِي حَيَاة وَالِده طَابَ ثراه.
فَلَمَّا مَاتَ وَالِده كَمَا ذكرنَا شرفه الله بِالْملكِ على حَالَة هينة لم تقع لأحد من أهل هَذَا الْبَيْت أبدا.


ودام سُلْطَانه إِلَى أَن مَاتَ على سَرِير ملكه وعزه فِي ثامن شهر رَمَضَان الْمُعظم قدره فِي عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة، فدرج عَتيق رَمَضَان تغمده الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان.

وَمن أعظم حَسَنَاته عمَارَة الْعين، فقد تقدم أَن ابْتِدَاء الْعِمَارَة فِي أَوَاخِر دولة وَالِده السُّلْطَان سُلَيْمَان وتمامها فِي أول دولته. 
وَقد قدمنَا ذكرهمَا ومعاناتهما وَمَا صرف على ذَلِك.

وَمن خيراته: ابْتِدَاء عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قبل وَفَاته بِسنتَيْنِ وَإِن كَانَ تَمامهَا إِنَّمَا كَانَ فِي دولة وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد بن سليم كَمَا سَيَأْتِي ذكر ذَلِك.

وَله غزوات شهيرة بِالْإِرْسَال وَهُوَ جَالس مَكَانَهُ، فتح فِي أَيَّامه السعيدة جَزِيرَة قبرس بِالسِّين الْمُهْملَة لَا بالصَّاد كَمَا تَقوله الْعَامَّة، ومدينة تونس الخضراء، وممالك الْيمن بأسرها. 

وَتُوفِّي إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة، وَمُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين، وعمره الشريف ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، وَكَانَ شجاعاً كَرِيمًا مهاباً كثير الْإِحْسَان من قبل أَن يجلس على سَرِير الْملك وَبعده.

وَمن غَزَوَاته: فتح تونس الغرب وحلتي الْوَادي، وَفتح ممالك الْيمن واسترجاعها من أَيدي العصاة الْبُغَاة أهل الْإِلْحَاد.

وَمِنْهَا: فتح جَزِيرَة قبرس بِسيف الْجِهَاد، وَهِي جَزِيرَة على الْبَحْر الشَّامي كَثِيرَة الْقطر، ومقدارها مسيرَة عشْرين يَوْمًا، وَبهَا قرى ومزارع وأشجار ومعادن الزاج القبرسي وَهِي على مر الْأَيَّام، رخاؤها شَامِل، وَخَيرهَا كَامِل وَبهَا معادن الصفر واللادن الَّذِي يغلب الْعود فِي طيبه.

وَكَانَ مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ غَزَاهَا وَصَالح أَهلهَا على سَبْعَة آلَاف دِينَار، فنقضوا عَلَيْهِ، فغزاهم ثَانِيَة فَقتل وسبى شَيْئا كثيرا.

وَبَين جَزِيرَة قبرس وساحل مصر خَمْسَة أَيَّام، وَبَينهَا وَبَين جَزِيرَة رودس يَوْم وَاحِد.

وَإِنَّمَا سميت جَزِيرَة قبرس بوثن كَانَ هُنَاكَ يُسمى قابرس.

وَكَانَت أم حرَام بنت ملْحَان الصحابية شهِدت غَزْوَة قبرس فَتُوُفِّيَتْ بهَا.

وَأهل قبرس يتبركون بقبرها، وَيَقُولُونَ: هَذَا قبر الْمَرْأَة الصَّالِحَة وَكَانَت سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن يَدْعُو لَهَا أَن يجلعها الله من الَّذين يركبون ثبج الْبَحْر مجاهدين فِي سَبِيل الله فَفعل، وَهُوَ حَدِيث مَعْرُوف.

وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ يَقُول: إِنَّا نرى هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أهل قبرس - أهل عهد، وَإِن عَهدهم وَقع على شَرط، وَأَنه لَا يسع الْمُسلمين نقضه إِلَّا بِأَمْر يعرف بِهِ غدرهم، وَرَأى عبد الْملك بن صَالح فِي حدث أحدثوه أَن ذَلِك نقض لعهدهم، فَكتب إِلَى عدَّة من الْفُقَهَاء يشاورهم فِي أَمرهم مِنْهُم اللَّيْث بن سعد وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبُو إِسْحَاق الْفَزارِيّ وَمُحَمّد بن الْحسن فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَأجَاب كل وَاحِد بِمَا ظهر لَهُ.

وَقد فتحت أَيْضا فِي دولة الشراكسة فِي دولة الْملك الْأَشْرَف برسباي، وَأسر ملكهَا، وَذَلِكَ سنة سبع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، ثمَّ فتحت على يَد السُّلْطَان سليم خَان هَذَا الْمَذْكُور، وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين كَمَا تقدم ذكر ذَلِك .



ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث ابْن السُّلْطَان سليم
ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان


وَجلسَ بعد وَفَاة وَالِده سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة.
كَانَ مولده الشريف سنة إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعمِائَة، وَبِذَلِك انتظم فِي سلك كَرِيمَة قَوْله تَعَالَى: { وَلَقَد كَتَبنا فِي اَلزبور مِن بَعدِ اَلذِكِر أَن الأَرْض يَرِثهَا عبادى الصلحون } [الْأَنْبِيَاء: 105] بِحِسَاب الْجمل لِأَن لفظ الذّكر تِسْعمائَة وَأحد وَخَمْسُونَ وَالْقَاعِدَة فِي ذَلِك مقررة فِي محلهَا.
ثمَّ ظهر من خَالق السَّمَوَات، عنايات لَهُ وخصوصيات.

مِنْهَا: أَنه نَشأ فِي ظلّ وَالِده وجده الْمَذْكُورين على مهاد الْعِزّ وَالسُّلْطَان فِي حِجْر الْخلَافَة، راضعاً ثدي الْعلم والعرفان. 
لم تعلم لَهُ صبوة مَعَ توفر دواعيها، وَلم يتَنَاوَل شَيْئا من الْمُحرمَات، بل وَلَا من المكروهات لما فِيهَا، حَتَّى قَالَ أعاظم عرفاء الْعَصْر: مَوْلَانَا الْمشَار إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ نَظِير فِي هَذَا الدَّهْر.

وَمِنْهَا: أَنه مُنْذُ ترعرع فِي شبابه صانه الله عَن الْمُحَاربَة والمخاصمة الناشئة عَن حظوظ النَّفس وَحب الرِّئَاسَة، وَاسْتعْمل نَفسه فِي الْعلم وَالْعَمَل، ثمَّ فِي الاستعداد للخلافة الإسلامية مَعَ كَمَال النزاهة والعفة والنفاسة.

وَمِنْهَا: أَن طَرِيقَته فِي الملبس والمأكل وَالْمشْرَب والمركب طَريقَة الصَّالِحين والزهاد، مَا عدا مَا فِيهِ خلل لنظام الْملك أَو ضَرَر للعباد.

وَكَانَ جُلُوسه على تخت الْخلَافَة الإسلامية فِي ثامن شهر رَمَضَان فِي الْيَوْم الَّذِي توفّي أَبوهُ فِيهِ من عَام اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة، فَجَلَسَ جُلُوسًا جَامعا لفضل الزَّمَان وَالْمَكَان، والافتنان فِي فعل الْخيرَات والمرتبات فِي مباديه. 
مِمَّا فعله أسلافه فِي غاياتهم مِمَّا لَا شكّ فِيهِ. 
ومنحه الله تَعَالَى من كَثْرَة الْخراج والخزائن والعساكر مَا لم يجمعه أحد من أسلافه الأكابر. 
فَإِذا عزم على فتح أعظم الممالك جهز شرذمة من عساكره المنصورة فَفتح كل صَعب المسالك.

وَمن النِّعْمَة الْعُظْمَى: إتْمَام عمَارَة الْمَسْجِد الْحَرَام، وَكَانَ ترميمه فِي زمَان جده مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان، ثمَّ كَانَ ابْتِدَاء هَدمه وتعميره فِي زمَان وَالِده السُّلْطَان سليم سنة تِسْعمائَة وَثَمَانِينَ. 
وَتَمام التَّعْمِير فِي زَمَانه، فأرخ ذَلِك جدي الْعَلامَة جمال الدّين العصامي بِشَطْر بَيت هُوَ قَوْله: [من الرجز]
تاريخُ هَدْمِ المَسْجِدِ ... فِى رَابِعِ العشْرِ بُدِي

وَهُوَ تَارِيخ عَجِيب إِذا مَعْنَاهُ الحسابي يُؤَدِّي إِلَى تعْيين السّنة، وَمَعْنَاهُ اللَّفْظِيّ يُؤَدِّي إِلَى تعْيين يَوْم البدأة.

وَسبب أمره الشريف بتعمير الْمَسْجِد أَن الرواق الشَّرْقِي مِنْهُ مَال إِلَى نَحْو الْكَعْبَة الشَّرِيفَة بِحَيْثُ برزت رُءُوس خشب سقفه الثَّانِي لِأَنَّهُ كَانَ مسقفاً سقفين بَينهمَا قدر ذراعين بِذِرَاع الْعَمَل عَن مَحل تركيبهما من جدر الْمَسْجِد، وَذَلِكَ الْجدر هُوَ جدر مدرسة ألسلطان قايتباي، وجدر مدرسة الْأَفْضَل الَّتِي هِيَ الْآن وقف عباد الله وَقدر مُفَارقَة الْخشب عَن مَوضِع تركيبه أَكثر من ذِرَاع، وَمَال وَجه الرواق الشَّرْقِي إِلَى صحن الْمَسْجِد ميلًا ظَاهرا، فبادر نظار الْحرم يصلحون ذَلِك الْمحل الَّذِي فَارق بتعديل خشب السّقف بأطول مِنْهُ، وأعمدوا الرواق المائل إِلَى صحن الْمَسْجِد بأخشاب كبار حفر لَهَا فِي الْمَسْجِد تمسكه عَن السُّقُوط، وَذَلِكَ كُله فِي دولة السُّلْطَان سُلَيْمَان.

وَاسْتمرّ متماسكاً على هَذَا الأسلوب من أَوَاخِر دولته إِلَى صدر دولة ابْنه مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم، ففحش ميل ذَلِك الرواق، وَعرض على الْأَبْوَاب فبرزت الْأَوَامِر من السُّلْطَان سليم بالمبادرة إِلَى بِنَاء الْمَسْجِد جَمِيعه على وَجه الإتقان والإحكام، وَأَن يَجْعَل عرض السّقف قبباً دَائِرَة بأروقة الْمَسْجِد ليؤمن تآكل الْخشب، فعين لذَلِك بكلربكي مصر سَابِقًا فَخر الْأُمَرَاء الْعِظَام أَحْمد بك، وأضيف إِلَيْهِ فِي هَذِه الْخدمَة سنجق جدة، فوصل الْأَمِير أَحْمد بك فِي آخر ذِي الْحجَّة الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَت الْأَوَامِر الشَّرِيفَة وَردت أَن يكون النَّاظر على هَذِه الْعِمَارَة والمتكلم عَلَيْهَا عَن جَانب السلطنة سيدنَا ومولانا القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي ففرح بِهَذِهِ الْخدمَة الْفَرح التَّام، وَشد نطاق حزمه على نَاطِق عزمه، وَقَامَ.

وَحصل بَين مَوْلَانَا القَاضِي وَبَين أَحْمد بك الملاءمة والاتفاق، وَبِذَلِك يحصل تَمام النجح والارتفاق، فاتفق رَأْي النَّاظر والأمين والمعمار على الشُّرُوع فِي الْهدم، فشرع فِيهِ رَابِع عشر ربيع الأول من سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة كَمَا تقدّمت الْإِشَارَة إِلَيْهِ بتاريخ الْجد جمال الدّين العصامي.
وَكَانَ ابْتِدَاء الْهدم مَكَانا من بَاب السَّلَام من تَحت منارته إِلَى بَاب عَليّ، وَمِنْه أَيْضا إِلَى بَاب بني سهم الْمَعْرُوف بِبَاب الْعمرَة، وَأخذت المعاول تعْمل فِي شرفات الْمَسْجِد وطبطاب سقفه ثمَّ كشفوا عَن أساسه فوجدوه مختلاً، وَكَانَ جداراً عَظِيما نازلاً فِي الأَرْض على هَيْئَة بيُوت رقْعَة الشطرنج، وَكَانَ على مَوضِع التقاطع على وَجه الأَرْض قَاعِدَة تركب الأسطوانة عَلَيْهَا فشرع فِي وضع الأساس على وَجه الإتقان والإحكام بالنورة المخمرة إِلَى أَن طلع الأساس على وَجه الأَرْض، وَكَانَت الأسطوانات المبنية سَابِقًا على نسق وَاحِد فِي جَمِيع الأروقة من الرخام جَمِيعهَا، إِلَى أَن وَقع الْحَرِيق فِي الْجَانِب الغربي بالنَّار الناشئة من رِبَاط (رَشَّتْ) سنة أَربع وَثَمَانمِائَة فِي دولة الْملك النَّاصِر فرج بن برقوق من الشراكسة فَاحْتَرَقَ مِنْهُ أساطين الرخام وذابت، فَأرْسل - من أمرائه - الْأَمِير بيسق إِلَى مَكَّة فعمر الْجَانِب الَّذِي احْتَرَقَ، وأبدل من الأعمدة الرخام الْمُحْتَرِقَة أعمدة من الْحجر الصوان المنحوت، وَصَارَت الجوانب الثَّلَاثَة بالأعمدة الرخام مَا عدا هَذَا الْجَانِب الغربي فَهُوَ من الْحجر الصوان المنحوت، فَلَمَّا وَقع هَذَا التَّعْمِير أدخلت فِي هَذِه الْعِمَارَة العثمانية دعائم من الْحجر الشميسي الْأَصْفَر غِلَاظ بعد كل ثَلَاث دعائم من الرخام دعامة مِنْهَا لتقوى على تركيب القبب فَوْقهَا، وبإدخال الدعائم الشميسي الْأَصْفَر، صَارَت الأساطين كلهَا على نِسْبَة وَاحِدَة، وَهِي أَن كل ثَلَاث من الرخام رابعتها وَاحِدَة من الشميسي، وَذَلِكَ فِي غَالب الأروقة من الجوانب الْأَرْبَع من الْمَسْجِد الشريف كَأَنَّهَا قَائِمَة بغاية الْأَدَب حول بَيت الله المنيف، وَهِي أَعلَى من ارْتِفَاع سقفها السَّابِق كَأَنَّهَا تنشد بِلِسَان حَالهَا مفتخرة على أَمْثَالهَا: [من الْكَامِل]
إنَّ الَّذِي سمَكَ السَّماءَ بنَى لَهَا ... بَيْتا دَعَائِمُهُ أعزُّ وأَطْوَلُ

وَاسْتمرّ الْحَال فِي هَذِه الْعِمَارَة على هَذَا المنوال إِلَى أَن تمّ مِنْهُ الْجَانِب الشَّرْقِي والجانب الشمالي إِلَى بَاب الْعمرَة فَمَا عمر مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم - أسْكنهُ الله جنَّات النَّعيم - إِلَى أَن تتمّ الْعِمَارَة، وَسلم ملكة الشريف السعيد إِلَى نجله السعيد صَاحب التَّرْجَمَة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد ابْن السُّلْطَان سليم خَان فبرز أمره الشريف لأمير الْعِمَارَة الشَّرِيفَة الْمشَار إِلَيْهِ أَحْمد بك الْمَذْكُور، وَأَن يبْذل جهده وجده فِي الْإِتْمَام لعمارة الْمَسْجِد الْحَرَام، فأعانه الله تَعَالَى على إِتْمَامهَا وأمد كَذَلِك سَائِر خدامها، إِلَى أَن تمت عمَارَة الْجَانِبَيْنِ الغربي والجنوبي من الْمَسْجِد الْحَرَام بِجَمِيعِ أبوابه وأعتابه، ودرجاته من دَاخله وخارجه، وَكَانَ ذَلِك فِي أَوَاخِر سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة، وَصَارَ الْمَسْجِد الْحَرَام نزهة المناظر، وبغية للخاطر، وجلاء للنواظر والخواطر، بِحَيْثُ صَار مَا عمره الْخُلَفَاء العباسيون قبل ذَلِك لَا يحسن عِنْده أَن يذكر ويوصف، لِأَن هَذَا الْبناء أمكن وأزين وَأَعْلَى وأشرف.

وَكَانَ جملَة مَا أنْفق على عِمَارَته مائَة ألف وَعشرَة آلَاف دِينَار ذَهَبا غير الْآلَات والرصاص والنحاس والخشب، وأهلَّة القبب المعمولة بِمصْر المطلية بِالذَّهَب.

وجدد خيرات تفرد بهَا مِنْهَا: مدرسة وتكية بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَة، ومدرسة بِمَكَّة، وسبيل عَظِيم فِي بنائِهِ وفرشه وعذوبة مَائه.

وجدد بالروضة جملَة من الدُّرُوس العلمية بِمَعْلُوم قدره كل عَام مائَة وَخَمْسُونَ دِينَارا ذَهَبا جَدِيدا للمدرس وَمِائَة دِينَار جَدِيد للطلبة لكل وَاحِد عشرَة على الدَّوَام، وحدد فِي كل عَام ألف دِينَار ذَهَبا لمِائَة نفر من الْحجَّاج يدعونَ لَهُ بِخَير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة عِنْد الْبَيْت الْعَتِيق.

وَفِي عَام سِتّ وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة شرع فِي فتح الممالك العجمية الطهماسبية وعساكره المنصورة يتبع بَعْضهَا بَعْضًا من غير انْقِطَاع، فملكه الله تَعَالَى أعظم تِلْكَ الْبِقَاع وَأحْصن تِلْكَ القلاع.

وَفِي سنة 988 ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة أَمر بكتب أَسمَاء الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة بعد الله وَرَسُوله بِخَط كَبِير عَظِيم نقراً فِي جدر الْمَسْجِد الشَّرْقِي مموهاً بِالذَّهَب الصّرْف على أحسن قَاعِدَة خطّ بديع رائق قل أَن تحاكيه المهرة فِي بطُون المهارق بَين الْبَاب الْمَنْسُوب إِلَى سيدنَا عَليّ كرم الله وَجهه، وَالْبَاب الْمَنْسُوب إِلَى عَمه الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلم أظفر على حَقِيقَة السَّبَب لذَلِك إِلَّا مَا يسمع من أَفْوَاه الروَاة وَلم تروه أَخْبَار الثِّقَات.

وَجُمْلَة عدد الأسطوانات الرخام ثَلَاثمِائَة وَأحد عشر، والأسطوانات الشميسي مِائَتَان وَأَرْبع وَأَرْبَعُونَ، وَعدد القبب مائَة وَاثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ فِيهِ شرقية أَربع وَعِشْرُونَ وَمثلهَا غربية، وشامية سِتّ وَثَلَاثُونَ وَمثلهَا جنوبية، وَوَاحِدَة فِي رُكْنه من جِهَة مَنَارَة (حزورة)، والطواجن مِائَتَان وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ طاجناً. 
وَعدد شرفاته ألف وثلاثمائة وَثَمَانُونَ شرفة.
وَجُمْلَة أبوابه تِسْعَة عشر بَابا تفتح على تِسْعَة وَثَلَاثِينَ طاقاً كل ذَلِك مُسَمّى مَعْلُوم مشَاهد.
وَجعلت فِي عمَارَة الْمَسْجِد الشريف تواريخ عديدة.

قَالَ القطب النهروالى: رَأَيْت لبَعض الْفُضَلَاء تَارِيخا لتَمام عِمَارَته وَذَلِكَ فِي سنة 984 أَربع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فِي بَيت مُفْرد فَأَعْجَبَنِي نظمه لحسن سبكه وَاسْتِيفَاء الْمَعْنى فِيهِ فَذكر بِهِ وَهُوَ هَذَا الْبَيْت: [من الْخَفِيف]
جَدَّدَ المَسْجِدَ الحَرَامَ مُرَادٌ ... دَامَ سُلْطَانُهُ وطَالَ أَوَانُهْ

قلت: هَذَا الْبَيْت هُوَ لجدي الْعَلامَة جمال الدّين العصامي كَمَا رَأَيْته بِخَطِّهِ فِي تَذكرته عزاهُ إِلَى نَفسه.

ولمولانا القَاضِي الْحُسَيْن تَارِيخ منثور هُوَ قَوْله: (أَطَالَ الله لمن أتمه عمرا) وَورد تَارِيخ من الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة مَعَه حكم شرِيف برسمه على طراز بَاب سيدنَا الْعَبَّاس فِي ظَاهر الرواق فرسم هُنَالك وَهُوَ لقَاضِي الْعَسْكَر نثراً قَوْله: (الْحَمد لله الَّذِي أسس بُنيان الدّين المتين بِنَبِي الرَّحْمَة والرشاد، وَخَصه بمزيد الْفضل والكرامة والإسعاد) وَهُوَ فِيهِ بعض تَطْوِيل وَفِي آخِره نظم ثَلَاثَة أَبْيَات تَتَضَمَّن التَّارِيخ وَهِي هَذِه [من الرمل]
جَدَّدَ السلطانُ مرادُ بنُ سَلِيمِ ... مَسْجِدَ البيتِ العَتِيْقِ المُحْتَرَمْ
سُرَّ مِنْهُ المُسْلِمُونَ كلُّهُمْ ... دَامَ منصورَ اللواءِ والعَلَمْ
قَالَ رُوحُ القدسِ فِي تاريخِهِ ... عَمَّرَ سُلْطَانُ مُرَادُ الحَرَمْ

وَفِي سنة الْألف عزل مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد آغاة الينيشرية، وَكَانَ ظَالِما فأرخ عَزله شَاعِر نظماً باللغة التركية مَعْنَاهُ: لَو قطع السُّلْطَان رَأس الأغا وَرجله لَكَانَ لَهُ تَارِيخا عجيباً: رَأس الأغا الْهمزَة من لَفظه، وَرجله الْألف الْأَخِيرَة، فَيبقى الْغَيْن بِأَلف هِيَ سنة عَزله.

وَكَانَت وَفَاة مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد سنة 1003 ثَلَاث بعد الْألف، وسنه الشريف يَوْم ولي ثَلَاثُونَ سنة، وَمُدَّة سلطنته عشرُون سنة وَتِسْعَة أشهر وَسِتَّة أَيَّام.



ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان مُرَاد
ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان ابْن السُّلْطَان خَان


وَجلسَ سنة ثَلَاث وَألف، وغزا بعسكره إِلَى غَزْوَة مجر، وَحصل هُنَاكَ قتال، ومَنَّ الله عَلَيْهِ بالنصر فَعَاد مؤيداً منصوراً.

ولي الْملك بعد وَفَاة أَبِيه، وَبَدَأَ بترخيم المطاف الشريف، والتجهز بِنَفسِهِ إِلَى جِهَاد الفرنج أَعدَاء الدّين وأيده الله بالنصر وَالظفر الْمُبين، وَأبْدى فِي مُبَاشَرَته الْحَرْب بِنَفسِهِ مَا أبهر، وأنبأ بعلو همته وَقُوَّة سجبته، فَإِن ذَلِك لم يتَّفق إِلَّا نَادرا، ثمَّ عَاد بالنصر التَّام إِلَى تخت مَمْلَكَته وَفِي تَارِيخ ترخيم المطاف أَبْيَات للْإِمَام عبد الْقَادِر مطْلعهَا: [من الْكَامِل]
يَا مَنْ يَلُوذُ بكَعْبةِ وحَطِيمِ ... وبِهَا يَطُوفُ بِخَالِصِ التَّعْظِيمِ

وَهِي نَحْو أَرْبَعَة وَعشْرين آخرهَا بَيت التَّارِيخ وَهُوَ:
قد دبَّرَ السُّلْطَانُ أيد مُلْكَهُ ... بَدْءَ المَطَافِ جَرَى بِكُلِّ نعْيمِ
توفّي إِلَى رَحْمَة ربه سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف.

وَكَانَت مُدَّة سلطنته تسع سِنِين وَنصف شهر، تغشاه الله بِالرَّحْمَةِ والرضوان.



ثمَّ تولى السُّلْطَان أَحْمد ابْن السُّلْطَان مُحَمَّد ابْن السُّلْطَان مُرَاد
ابْن سليم بن سُلَيْمَان بن سليم خَان


وَجلسَ على سَرِير الْملك سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَبنى جَامعه الْمَعْرُوف، المزخرف بأنواع الزِّينَة، وَقتل من كَانَ فِي أَيَّامه من الْبُغَاة والجلالية.
وَله خيرات عديدة.

وَكَانَ كثير الْخَيْر وَالْمَعْرُوف بِحَيْثُ إِنَّه جعل لأهل الْحَرَمَيْنِ وَقفا بِمصْر يجمع مغله فِي كل عَام وَيُرْسل إِلَى مَكَّة صُحْبَة الركب الْمصْرِيّ عوضا عَن مَال بندر جدة المعمورة لانقطاعه بِمُوجب عدم وُصُول المراكب الْهِنْدِيَّة فَهُوَ الْمَعْرُوف بالأحمدية.

وَفِي سنة سِتّ وَعشْرين بعد الْألف أرسل إِلَى أَعْيَان مَكَّة المشرفة من شريفها وقضاتها وأئمتها وخطبائها كسْوَة عَظِيمَة، فَلبس كل من الْمَذْكُورين مَا أرسل بِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِك أول النَّهَار تجاه الْبَيْت الشريف.

وَأرْسل فِي عَام عشْرين الباشا حسن المعمار لعمارة عين مَكَّة المشرفة، فوصل فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة من الْعَام الْمَذْكُور وَعمر الْعين وَأصْلح بعض إصلاحات كَانَت بِالْكَعْبَةِ الشَّرِيفَة جزاه الله خيرا.

وَمُوجب الْإِصْلَاح حُصُول تشعُب قَلِيل فِي الْجَانِب الشمالي، فأصلحه بحزام حَدِيد تَحت الطّراز كالطراز مصفح بِالْفِضَّةِ مَطْلِي بِالذَّهَب.

وَوصل مَعَه من الديار الرومية بميزاب الْكَعْبَة الشَّرِيفَة ثمَّ رَكبه بمحله بعد أَن قلع الْمِيزَاب الأول، وأرسله إِلَى الحضرة الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة، وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن وَقع سُقُوط الجدران فِي دولة السُّلْطَان مُرَاد بن أَحْمد سنة تسع وَثَلَاثِينَ، فَرفع ذَلِك الْإِزَار الْحَدِيد، وسبك فضته متعاطو الْعِمَارَة وَلم يجْعَلُوا عوضه عَلَيْهَا لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهَا بعد عمارتها.

قلت: وَكَانَ تَمام ذَلِك الْإِصْلَاح عَام أحد وَعشْرين بعد الْألف.

وَفِي مصلى الْجُمُعَة لوح رُخَام مُثبت فِي شاذروان الْبَيْت الشريف منقور فِيهِ ذكر ذَلِك.

وَفِيه وَقد ( جَاءَ تَارِيخه من الْقُرْآن الْعَظِيم: أسس بُنْيَانه على تقوى من الله )، وَهُوَ حِسَاب إِحْدَى وَعشْرين وَألف وَهُوَ من عَجِيب الِاتِّفَاق وأيمنه.

وَكَانَت مُدَّة سلطنته أَربع عشرَة سنة وَأَرْبَعَة أشهر.



ثمَّ تولى السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد أَخُوهُ

وَجلسَ على تخت الْملك سنة سبع وَعشْرين وَألف، كَانَ السُّلْطَان أَحْمد بن مُحَمَّد عِنْد مَوته عهد بالسلطنة لَهُ، وَذَلِكَ لصِغَر سنّ السُّلْطَان عُثْمَان ابْنه، فاستقر فِيهَا بعد موت أَخِيه السُّلْطَان أَحْمد بن مُحَمَّد ثَلَاثَة أشهر، ثمَّ دبر كزلار أغاسي الطواشي فِي خلع السُّلْطَان مصطفى وتولية السُّلْطَان عُثْمَان بن أَحْمد، فَخلع مصطفى وَبَقِي فِي السَّرَايَا مخلوعاً إِلَى أَن تولى التَّوْلِيَة الثَّانِيَة كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ خلعه لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث ربيع أول من سنة 1028 ثَمَان وَعشْرين وَألف فَكَانَت مدَّته هَذِه ثَلَاثَة أشهر وَعشرَة أَيَّام.



ثمَّ تولى السُّلْطَان عُثْمَان بن أَحْمد خَان بن مُحَمَّد خَان


فَهُوَ ابْن أخي السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد، وَجلسَ على تخت الْملك ثَالِث ربيع الأول سنة 1028 ثَمَان وَعشْرين وَألف، تولى بعد الْقَبْض على عَمه مصطفى فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور.

وَكَانَ عَالما فَاضلا شجاعاً مُطَاعًا شريفاً يَدُور بِالسَّيْفِ والسنان، ويحمي بطوقه وطوعه بَيْضَة الْإِسْلَام وَالْإِيمَان، ثمَّ شغب الْجند على قزلار أغاسي، فنفوه إِلَى مصر بعد أَن أَرَادوا قَتله، وَكَانَ مقرب الحضرة السُّلْطَانِيَّة، ومدبر الدولة العثمانية.

ثمَّ قبضوا على السُّلْطَان عُثْمَان، وأحضروا عَمه مصطفى وأجلسوه على تخت السلطنة ثَانِيًا، وَقتلُوا عُثْمَان وَكَانَت سنه حِين التَّوْلِيَة نَحْو عشر سِنِين، وسنه عِنْد الْقَتْل نَحْو تسع عشرَة سنة.

وَسبب قَتله أَنه عزم على الْحَج سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف، وصمم على ذَلِك، وَأمر بالخيام وَالْمُضَارب والوطاق أَن يضْرب ظَاهر الْقُسْطَنْطِينِيَّة، فأجمع رأى أَرْبَاب دولته، وأركان سلطنته على خلعه إِن لم يرجع، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وأشاروا عَلَيْهِ بِالتّرْكِ وَقَالُوا: إِنَّك غزوت الفرنج وقتلتهم وسبيتهم، وَفِي قُلُوبهم مِنْك أَمر عَظِيم فنخاف بعد عزمك، وانفصالك عَن التخت إِلَى الْحجاز مَعَ بعد الْمسَافَة أَن تثب الفرنج على المملكة، ويصعب خُرُوجهمْ مِنْهَا، مَعَ أَن هَذَا لَيْسَ قانون آبَائِك وأجدادك، وخوفوه بذلك فَلم يمْتَنع، وصمم على الْعَزْم إِلَى الْحَج وَخرج لذَلِك وسلك أول طرق هَذِه المسالك فَكتب لَهُ الثَّوَاب، وَحصل لَهُ أجر الْقَصْد فِي الْحَال والمآب. 
قَالَ تَعَالَى { وَمَن يخرُج مِن بيتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ ورَسُوله } [النِّسَاء: 100] الْآيَة، فَلَمَّا عرفُوا مِنْهُ التصميم قَتَلُوهُ وأعادوا عَمه السُّلْطَان مصطفى كَمَا ذكرنَا، كَذَا فِي (منهل الظمان لأخبار دولة آل عُثْمَان) للشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد عَليّ بن عَلان.

وَكَانَ قَتله يَوْم الْخَمِيس سَابِع رَجَب الأصب من سنة 1031 وَفِيه يَقُول بعض أدباء الشَّام مؤرخاً:[من الوافر]
قضَى عُثْمَانُ سُلْطَانُ البَرَايَا ... بأَسْيَافِ العَساكِرِ والجُنُودِ
وَوَافَتْهُ المَنِيَّةُ فِي السَّرَايا ... مؤرَّخةً كَعُثْمَانَ الِشَّهِيْدِ


وَقَالَ آخر مؤرخاً أَيْضا: [من مجزوء الرمل]
قَدْ قَضَى عُثْمَانُ ظُلْمًا ... حِينَ خَانَتْهُ الجنُودُ
واللَّيَالِي أَرَّخَتْهُ ... إنَّ عثمانَ شَهِيدُ
سنة 1031

وَمُدَّة تصرفه ثَلَاث سِنِين وَأَرْبَعَة أشهر وَأَرْبَعَة أَيَّام



ثمَّ تولى السُّلْطَان مصطفى بن مُحَمَّد خَان
وَهَذِه هِيَ التَوْليَةُ الثَّانِيَة


وَذَلِكَ أَنه لما كَانَ يَوْم خَامِس رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ ورد الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان عُثْمَان، وتولية السُّلْطَان مصطفى عَمه، وَكَانَ ذَلِك فِي سَابِع رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة فزينت مَكَّة سَبْعَة أَيَّام ودعي لَهُ على الْمِنْبَر الشريف الْمَكِّيّ يَوْم الْجُمُعَة عَاشر ذِي الْقعدَة الْحَرَام من السّنة الْمَذْكُورَة، وَصلي على السُّلْطَان عُثْمَان صَلَاة الْغَائِب وقرئت لَهُ ربعَة حضرها الْأَعْيَان وَذَلِكَ بِأَمْر مَوْلَانَا الشريف إِدْرِيس، وَاسْتمرّ إِلَى أَن خلع فِي منتصف ذِي الْقعدَة الْحَرَام من السّنة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثِينَ بعد الْألف، فَكَانَت مُدَّة تصرفه فِي التَّوْلِيَة الثَّانِيَة سنة وَثَلَاثَة أشهر وَنصفا.



ثمَّ تولى السُّلْطَان مُرَاد الْغَازِي ابْن أَحْمد
ابْن مُحَمَّد بن مُرَاد بن سليم بن سُلَيْمَان بن سليم خَان


جلس على سَرِير الْملك منصف ذِي الْقعدَة الْحَرَام عَام اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف جُلُوسًا عَاما، وَأخذ السَّيْف فِي يَده، وَأخذ ثَأْره من الْأَعْدَاء، وهم قتلة أَخِيه عُثْمَان ابْن أَحْمد، وَفتح قلعة وان.

ثمَّ بعد سِنِين توجه بعسكر عَظِيم، وَفتح بَغْدَاد، وَذَلِكَ سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَجعل جَمِيع من كَانَ فِيهَا من الروافض طعمة سَيْفه.

وَهُوَ السُّلْطَان الْقَائِم بشعائر الْإِسْلَام المتأيد بعناية الْملك العلام. 
فَارس ميدان المنازلة إِذا حمي الْوَطِيس، وَقيل: هَل من مبارز، ومسقي رُءُوس الأسل من صُدُور يوكد الشَّرّ فِيهَا الضَّمِير البارز، ذُو الهمة الَّتِي لَو تعلّقت بالجو لاستنزلت مِنْهُ مَا تعلق بِالثُّرَيَّا، والفواضل الَّتِي لَو كفت سحائب المزن لكفت الْقُلُوب ريه، والشيم الَّتِي لَا يدانيه فِيهَا أحد، والمزايا الَّتِي لَا تحصرها الْعبارَة وَلَا يستقصيها الْعد.


ولي بعد عَمه السُّلْطَان مصطفى فِي التَّارِيخ الْمُتَقَدّم ذكره، وَورد الْخَبَر أَوَائِل ذِي الْحجَّة مِنْهَا إِلَى مصر فَخَطب لَهُ بهَا وزينت مَكَّة سَبْعَة أَيَّام وَقَامَ بِالْملكِ على وَجه السداد، وَأَعْلَى ذكره على السَّبع الشداد.


وَكَانَت سنه حِين ولي أَربع عشرَة سنة. وَفِي ذَلِك يَقُول فَخر الأدباء بكري الصراف: [الْكَامِل]
لمَّا أَرَادَ اللهُ نَفْعَ عِبَادِهِ ... ولَّى مُرَادًا مُلْكَ خيرِ بِلادِهِ
وأَمَدَّهُِ مِنْ فَضْلِهِ بِعِنَايِةٍ ... جَعَلَتْ عِدَاهُ تَحْتَ نَعْلِ جَوَادِهِ
وَشَدَا لِسَانُ الحَالِ فِي تَارِيخِهِ ... بُشْرَى لَهُ قَدْ نَالَ كُلَّ مُرادِهِ
سنة 1032

وَلم يزل قَائِما بشعار الْملك مُقيما لشعائر الْإِسْلَام، مجهزاً عساكره المنصورة إِلَى افْتِتَاح الْبلدَانِ، وَتوجه بِنَفسِهِ الشَّرِيفَة فِي عَام خمس وَأَرْبَعين إِلَى غَزْو الْعَجم فَافْتتحَ كثيرا من بلدانهم وافتتح بَغْدَاد عَام ثَمَان وَأَرْبَعين بعد الْألف، ثمَّ رَجَعَ إِلَى تخت مَمْلَكَته اسطنبول، وَأبقى على عسكره الْمَنْصُور سرداراً معينا.

ويحكى أَنه أرسل إِلَى مصر المحروسة درقة نَحْو إِحْدَى عشرَة طبقَة ضربهَا بِعُود فَثَبت فِيهَا، وبرز أمره الشريف إِلَى العساكر المصرية بِإِخْرَاج الْعود مِنْهَا، وَأَن من أخرجه يُزَاد فِي جامكيته كَذَا وَكَذَا، فحاولوا إِخْرَاجه فعجزوا عَن ذَلِك.

ثمَّ أرسل قوساً وَمَعَهَا همايون شرِيف يُخَاطب بِهِ وَزِير مصر مضمونه أَمر العساكر والأجناد بجر هَذَا الْقوس وَزِيَادَة علوفة من يفعل ذَلِك، فحاول الْعَسْكَر جَرّه فَلم يقدروا، ثمَّ علقت الدرقة بالديوان الشريف العالي بِمصْر المحروسة وعلق الْقوس بِبَاب زويلة.

وَقد جعل بعض الأورام تَارِيخا بالتركى لسنة مجيْ الْقوس وَهِي سنة 1033 ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف، وَترْجم بِالْعَرَبِيَّةِ بِمَا نَصه (يَا سُلْطَان الْوُجُود لساعدك الْقُوَّة).

وَمِمَّا يدل على سعادته الْعُظْمَى توجه خاطره الشريف إِلَى أهالي الْحَرَمَيْنِ، وَأمره الْمُتَوَلِي الْجِهَات خُصُوصا مصر بإجراء حبوبهم وإرسال مغلات أوقافهم، فَمَا من همايون يرد مِنْهُ إِلَّا وَفِيه الْحَث على ذَلِك.

وَمِمَّا يدل على عناية الله بِهِ أَن كَانَت عمَارَة بَيت الله الشريف فِي زَمَنه ابْتِدَاؤُهَا وانتهاؤها فِي أَيَّام دولته، وَقد أرخ تِلْكَ الْعِمَارَة مَوْلَانَا الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ فِي قصيدة قدمهَا إِلَى السَّيِّد مُحَمَّد الْمُتَوَلِي عمَارَة الْبَيْت الشريف، وَهِي نَحْو الثَّمَانِية عشر بَيْتا مطْلعهَا: [من الْخَفِيف]
عَادَ بَيْتُ الإِلهِ بَعْدَ انْهِدَامِهْ ... وغَدَا فَائِقًا بِحُسْنِ نِظَامِهْ

إِلَى أَن يَقُول:
فِلهَذَا طَيْرُ المَسَرَّةِ أمْسَى ... مُنْشِدًا عِنْدَ بدئه وختامِهْ
حالمَا أتَمَّهُ بِمُرَادٍ ... شيد بَيْت الْإِلَه تَارِيخ عامِهْ

وَسُجُود الْبَيْت الشريف وعمارته وَمَا يتَعَلَّق بهما مَذْكُور مُفْرد بالتصنيف لَا نطول بِذكرِهِ، وسنشير إِلَى طرف من أخباره فِي دولة مَوْلَانَا الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس فَإِنَّهَا مُوَافقَة لدولة السُّلْطَان مُرَاد فِي الزَّمَان الْمَذْكُور سقوطاً وَابْتِدَاء تعمير، وَاسْتمرّ مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد إِلَى أَن توفّي سنة 1049 تسع وَأَرْبَعين وَألف، وَكَانَت مُدَّة سلطنته سبع عشرَة سنة.


ثمَّ تولى السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن السُّلْطَان أَحْمد
أَخُو السُّلْطَان مُرَاد الْمَذْكُور قبله



جلس على تخت الْملك سنة وَفَاة أَخِيه السُّلْطَان مُرَاد وَهِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف، وَشرع فِي أَيَّامه فتح جَزِيرَة كريد، فَفَتحهَا إِلَّا قلعة وَاحِدَة؛ وَذَلِكَ لمتانتها غَايَة المتانة، فاستمر فِي الْملك إِلَى أَن انْفَتَلَ من مدَّته سنة ثَمَان وَخمسين وَألف، وَكَانَت مُدَّة سلطنته ثَمَان سِنِين وَثَمَانِية أشهر.



ثمَّ تولى السُّلْطَان مُحَمَّد خَان الْغَازِي الْمُجَاهِد


السُّلْطَان مُحَمَّد خَان ابْن المرحوم السُّلْطَان إِبْرَاهِيم خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان أَحْمد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم خَان فاتح مصر وَالشَّام ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان بايزيد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان فاتح الْقُسْطَنْطِينِيَّة الْعُظْمَى ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُحَمَّد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان يلدرم بايزيد ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد خَان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان أورخان ابْن مَوْلَانَا السُّلْطَان عُثْمَان خَان الْغَازِي.

مولده سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف، وَهِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا عَمه السُّلْطَان مُرَاد ابْن أَحْمد.

وَجلسَ على تخت السلطنة فِي شهر رَجَب الْمُبَارك من شهور سنة 1058 ثَمَان وَخمسين وَألف، وعمره الشريف إِذْ ذَاك تسع سِنِين.


لَهُ الفتوحات الَّتِي لَا تحصى والمغازي الَّتِي لَا تستقصى، أذلّ بغزواته أَعدَاء الدّين، واستباح قلاعهم، وَجعلهَا دَارا للْمُسلمين.

لم تزل أَعْلَام نَصره ظَاهِرَة، وآيات سعده باهرة.

فَمن فتوحاته الميمونة الَّتِي لم تزل بالعز والنصر مقرونة، مَدِينَة قوش آضه وأيوار وزغره ويانق وورط ويانوا وقمانيصه وقندية الَّتِي هِيَ كريد؛ لِأَنَّهَا جَزِيرَة وقندية فِي طرفها، وَكَانَ فتحهَا سنة ثَمَانِينَ أَعنِي قلعة كريد.

وخذل بذلك كل جَبَّار عنيد وَحصل للْمُسلمين بِهِ المسرة ولأعينهم أعظم قُرَّة، وَكَانَ الْفَتْح بهَا مَعَ عقد هدنة إِلَى مُدَّة مائَة عَام.

وَهَذَا على مُقْتَضى مَذْهَب أبي حنيفَة النُّعْمَان، لِأَن عقدهَا موكول إِلَى نظر السُّلْطَان.

وَأما عِنْد إمامنا الشَّافِعِي فَلَا يجوز عقدهَا فَوق أَرْبَعَة أشهر عِنْد قوتنا وَفَوق عشر سِنِين عِنْد ضعفنا. 
ثمَّ إِنَّهُم نقضوا العقد وَنَكَثُوا الْعَهْد فَعَاد نقضهم عَلَيْهِ وَرجع وباله إِلَيْهِم.

وَقد أرخ الْفَتْح الْمَذْكُور الشَّيْخ عبد الْبَاقِي بن أَحْمد الشَّامي فِي أَبْيَات يَقُول آخرهَا: [من السَّرِيع]
وحِينَ كَرْبٌ زَالَ أَرَخْتُهُ ... نَصْرٌ من الله وفَتْحٌ قريبْ

قلت: هُوَ تَارِيخ لطيف، وَحسن الْإِخْرَاج فِيهِ ألطف، يشير إِلَى أَن مَدْلُول لفظ كرب الحسابي وَهُوَ مِائَتَان وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ يسْقط فَيصير الْبَاقِي تَارِيخ تِلْكَ السّنة.

وأرخه أَيْضا الشَّيْخ إِبْرَاهِيم ابْن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري الْمدنِي بِأَبْيَات أَولهَا قَوْله: جمن السَّرِيعد
يَا مَعْشَرَ الإسْلامِ قَدْ عَمَّكُمْ ... فَضْلٌ عَظِيمٌ يَقْتَضِي شُكْرَكُمْ

وَآخر قَوْله:
إنْ قيلَ مَا تاريخُ عَام أتَى ... ألْفَتْحُ والنَّصْرُ إِلَى شَهْرِكُمْ
فَقُلْ مُجِيبًا صَحَّ تَارِيخُهُ ... نَصْرٌ مِنَ الله وفَتْحٌ لَكُمْ

هَذِه المدن الْكِبَار وَلَا يُحْصى مَا سواهَا من الصغار.

وَاسْتمرّ إِلَى أَن ثار عَلَيْهِ الْجند فخلعوه وأدخلوه معتقَلاً، وأخرجوا من كَانَ فِيهِ معتقِلاً أَخَاهُ مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم، وسلموا عَلَيْهِ بِالْولَايَةِ، وَضربت باسمه السِّكَّة وخفق فِي موكبه اللِّوَاء والراية، فَهُوَ سُلْطَان زَمَاننَا الْآن، أيده الله فِي المكانة والإمكان. وَلم يمْكث أَن الْتفت إِلَى قتال أَعدَاء الدّين، وتهيأ لغزو الْكَفَرَة الْمُلْحِدِينَ، فطلبوا الْهُدْنَة أَربع سِنِين، فوافقهم على ذَلِك لما اقْتَضَاهُ نظره فِي مصَالح الْمُسلمين.

وَكَانَت تَوليته يَوْم خلع أَخِيه، وَهُوَ يَوْم السبت ثَانِي محرم الْحَرَام مفتتح سنة تسع وَتِسْعين وَألف، جلّ من لَا يَزُول ملكه وَلَا يتبدل لَا إِلَه غَيره.
_____________________________________

عبد الملك العصامي المكي (المتوفى: 1111هـ): سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي 4 / من 70 إلى 122 
دار الكتب العلمية
الطبعة: الأولى، 1419 هـ - 1998 م