بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 ديسمبر 2018

وأكثر أجناس العجم يزعمون أنّهم عرب!!


ويقال أيضا إنّ النبط من ولد أرفخشد، وإرم وملوك بابل من النبط، وهم الذين عمّروا الأرض ومهّدوا البلاد، وكانوا أشرف ملوك الأرض، فأذلّهم الدهر وصاروا إلى ما هم عليه من الذلّة في هذا الوقت كما شاهد من بالعراق وغيرها منهم. 

وقد ادّعى الكثير ممّن ذكرناهم أنّهم من العرب، وأكثر أجناس العجم يزعمون أنّهم عرب: 
فرقة من الروم تزعم أنّها من غسّان من آل جفنة ممّن دخل مع جبلة بن الأيهم الغسّاني أحد ملوكهم إلى بلاد الروم، فإنّه دخل معه ثلاثون ألفا في عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. 
وقوم منهم يزعمون أنّهم من اياد دخلوا بلاد الروم عند إجلاء أبرويز إيّاهم من أرض العراق في سبعين ألفا، فنزلوا أنقرة. 
وقوم منهم يزعمون أنّهم من ولد قضاعة من تنوخ خرجوا من الشام مع هرقل ملك الروم لمّا غلبه المسلمون عليها. 
ونصارى الجزيرة يزعمون أنّهم من العرب فبعضهم يقول إنّه من ولد الحارث بن كعب بن مدحج ناقلة من الشام، وبعضهم يقول إنّه من لخم رهط النعمان بن المنذر، وكانوا كلّهم على دين النصرانيّة، وبعضهم يقول إنه من آل عبّاد بن تميم رهط زيد العبادي، وبعضهم يزعم أنّه من بني سليم. 
والديلم تزعم أنّها من بني قيلة بن أد بن طانجة. وذلك بأنّ سابل بن ضبّة نافر إخوته فسار إلى بلاد الديلم فأقام بها. 
والحدلجيّة خاصّة يزعمون أنّهم من حمير. 
وغيرهم من أجناس الترك يدّعي العرب ويسمّون أولادهم بأسماء العرب العاربة. والأكراد يزعمون أنّهم من قيس ثم من هوازن، وهم مقيمون على هذه الدعوة إلى هذه الغاية. 
والخزر يزعمون أنّهم من قريش ومن بني أميّة وأنّ الدولة العبّاسيّة لمّا ظهرت هرب قوم من بني أميّة فتناسلوا هنالك. 
والبربر كلّهم يزعمون أنّهم من العرب. 
وهوارة تزعم أنّها من عاملة ناقلة من الشام، وزويلة تزعم أنّها من جرهم، لمّا نالهم ما نالهم بمكّة هربوا فصاروا بزويلة. 
وقبط مصر من أهل الصعيد يزعمون أنّهم من ربيعة ثم من تغلب وأنّ قوما من تغلب انتجعوا بإبلهم أرض مصر لطلب الكلأ وهم على دين النصرانيّة، فتزوّجوا القبطيات وتناسلوا هناك وهم التيمي من القبط.
والحبشة الذين ببلاد النجاشي يزعمون أنّهم من اليمن، فغلبت الحبشة على أرض اليمن في قديم الدهر وملكهم بها ومقامهم بها أربعين سنة حتّى صاهروا وصوهر إليهم.
____________________

المسالك والممالك للبكري الأندلسي (المتوفى: 487هـ)

السبت، 29 ديسمبر 2018

من أخلاق الترك قبل الإسلام (1)


شيخ

كان في عسكر الجراح بن عبد الله الحاكمي حين قاتل الترك. 

قال: لما قتل الجراح استعصينا، وجردنا سيوفنا، فأوجعنا في القوم، فقال لهم الطاغية: إنكم لن تصلوا إلى قتلهم حتى يقتلوا أضعافكم، فأفرجوا لهم، ثم اتبعوهم في الشجر. قال: فلحقت بالجبل، فإذا بقربه انجلى أهلها، فلقيت بيتاً فدخلته، فإذا فيه أثر نار وحطب، فأوقدت وجلست وبي جهد شديد، فلم ألبث حتى سمعت صهيل الخيل، وإذا بخيل الترك، فدخلت وأطفأت النار، وأقبل رجل فتتبع النار حتى وجدها، وظن أن في البيت أقواماً، فجعل يأخذ في زاوية، وآخذ في أخرى، ثم سل سيفه فقلت: لئن خرجت لأقطعن. 
فاستأسرت له، فأخذ بناصيتي وأجلسني عند النار، وأشار إلي أن أوقد، فأوقدت، ونظرني فعرفت الرقة قال: وبي جهد. 
فأتاني بكسر فأكلت، ثم ضربوا طبولهم، فأسرج وركب وأردفني خلفه، وتركهم حتى ساروا، وسار بي قدر أربعة أميال،ثم وقف وأشار إلي، فنزلت، وأشار إلي؛ اذهب كيف شئت. 

قال: فبينا نحن عند الحرسي وهو يقتل الأسارى إذ نظرت إليه فعرفته، فقلت له: أتعرفني؟ 
قال: نعم. 
فتقدمت إلى الحرسي فقصصت عليه أمري، فدعاه وكلمه الترجمان، فأخبره بمثل خبري. 
فقال: قد حقنا لك دمه، وبعثني وبعث به إلى هشام، فأخبره الخبر، ففرض له في قبيلي، فكان في عدادي.
_________________________________

مختصر تاريخ دمشق

الجمعة، 28 ديسمبر 2018

أجتمع أربعة فارسي وعربي ورومي وتركي - كل واحد أفتخر ببيتين من الشعر:



قال علي بْن زُرَيْق الْكَاتِب حضرت مجْلِس القتبي صَاحب بَيت حِكْمَة الْمَأْمُون وَعِنْده فتيَان أَرْبَعَة قد نظرُوا فِي الْأَخْبَار وَرووا الْأَشْعَار وتأدبوا بفنون الْآدَاب وكل فَتى مِنْهُم ينتمي إِلَى جنس وَيَقُول بتفضيله.
فَقَالَ القتبي: وَقد طَال بهم المراء ليقل كل وَاحِد مِنْكُم فِي مَجْلِسه بَيْتِي شعر فِي فضل قومه:

فَقَالَ المنتمي إِلَى الْفرس:
(نَحن الْمُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك لنا ... علم السياسة وَالتَّدْبِير والكتب)
(وَنحن من نسل إِسْحَاق الذَّبِيح وَفِي ... مجد النَّبِيين ظلّ الْمجد والحسب)

وَقَالَ المنتمي إِلَى الْعَرَب:
(فِينَا الشجَاعَة طبع والسخاء كَمَا ... فِينَا الدهاء وَفينَا الظّرْف وَالْأَدب)
(وَنحن من نسل إِسْمَاعِيل قاطبة ... لَا يُنكر النَّاس قولي حِين أنتسب)

وَقَالَ المنتمي إِلَى الرّوم:
(الرّوم قوم لَهُم حلم وتجربة ... وَحسن خلق وَعلم بارع عجب)
(وهم بَنو الْعيص والأملاك لاكذب ... ولبسهم شقق الديباج وَالذَّهَب)

وَقَالَ المنتمي إِلَى التّرْك:
(التّرْك لم يملكُوا فِي دَار ملكهم ... وَالْفرس قد ملكوا وَالروم وَالْعرب)
(هَذَا لعمرك فضل لَيْسَ يجحده ... إِلَّا حسود عنيد مَا لَهُ أدب)

قَالَ عَلِيّ بْن زُرَيْق فعجبت من افتخار التركي عَلَيْهِم.

قلت (السبكي) لَو أَن الْعَرَبِيّ قَالَ:
(فِينَا الشجَاعَة طبع والسخاء كَمَا ... فِينَا الدهاء وَفينَا الظّرْف وَالْأَدب)
(وأَحْمَد الْمُصْطَفى الْهَادِي النَّبِيّ وَذَا ... هُوَ الفخار الَّذِي سادت بِهِ الْعَرَب)

أَو لَو قَالَ:
(مَا الْفرس مَا الرّوم مَا الأتراك نَحن بَنو ... عدنان فِينَا الحجا والجود وَالْأَدب)
(هَذَا وَإِن لنا بالمصطفى حسبا ... بِهِ عَلَى كل ندب سادت الْعَرَب)

لَكَانَ قد أفحم الْكل وافتخر عَلَيْهِم.
_____________________________________

تاج الدين السبكي (المتوفى: 771هـ): طبقات الشافعية الكبرى

عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس



الكاتب: شكيب أرسلان
__________


شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها
(مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان)
أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس،
وهي خمس وخمسون مادة، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق، وفي طيها من
عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم، وعقائدهم
ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه.
وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين
ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية، بل
إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم، وأن يبقى
هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب.
وفي المادة السادسة عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة
النارية فتَقرَّر أخذها.
وفي المادة السابعة تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته، وفيما
بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد، وتسهيل معاملات بيع
العقار لمن شاء الرحيل، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً، تعتبر
وكالته، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر.
وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا
بدون رخصة الفقهاء.
وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء
المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم، وإقرار الجميع على امتيازاتهم
كما كانوا لعهد ملوكهم، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا.
وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد
من النصارى بيوت المسلمين، حتى ولا الملك والملكة، ومن خالف ذلك من
النصارى يجازَى بشدة.
وفي المادة الخامسة والعشرين إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في
سائر الممالك، ووصل إلى غرناطة فقد نجا، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن
يمسكوه، لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب.
وفي المادة الثلاثين أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز
معاملته إلا بالحسنى، ولا يرى أقل تحقير، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة،
وفي المادة الواحدة والثلاثين لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي.
وفي المادة الثانية والثلاثين إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت، لا
تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون
مسلمين، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها.
وفي الخامسة والثلاثين لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي
جرت إلى يوم تسليم البلد، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من
تحقير الأسرى أو إهانتهم.
وفي الثانية والأربعين تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس
مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي.
وفي الثالثة والأربعين تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر
من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في
بلاد الأندلس.
وفي الثانية والخمسين عدم استخدام شرطة من النصارى؛ لمراقبة شؤون
المسلمين، بل تكون شرطتهم من أنفسهم.
وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة
وأراغون وليون وصقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف، وينفذا جميع
أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق، وبدون أدنى زيادة ولا
نقصان مهما يكن من الأسباب، وأن تبقى على شكلها وهيئتها، ولا يتغير ولا يتبدل
حرف منها إلى الأبد، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما، ولا خلفاء
خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها،
أو يبدلوا حركة من حركاتها، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد
والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب، وقاصٍ ودانٍ، وكبير وصغير،
وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة، يجزى جزاء
من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير.
وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم
وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة، وكتبت على رق غزال محلى
ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من
الميلاد.
وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين، وأمضاها الملك فرديناند والملكة
إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة
كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون
ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا، والدون جان كبير
فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس
كردينال أسبانية، ورئيس أساقفة المملكة، والدون هنري كبير حكومة أراغون،
ومن أبناء عم الملك، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا، والدون الفارو مدير
دائرة الملكين، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة، ويليهم نحو من أربعين دونًا
كلهم من أبناء السلالة المالكة، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها.
وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن
متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها
إياه المَلِكان، معينًا كلاًّ منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة
قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء، وإفراز ملكيته
لجميع العقار الموروث، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما
يجلب من الأمتعة برسمه، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك،
يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة، وإن لم يشأ بيعها، وأراد النقلة إلى بر
المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها، ويوردها عليه في أي
جهة كان مما وراء البحر، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله
وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا، ولا يطالب بشيء، ولا يكون مسؤولاً عن شيء
مما حصل إلى حين عقد الصلح، ولا يسترد شيء مما غنمه، وجميع هذه الشروط
كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي
أبي نصر، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى، إلا أنني وجدت أكثر
المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة
897.
(ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة، وبعض شروط
الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه) .
(وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء،
ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف
الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل
والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم
على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم - وأن تبقى المساجد كما
كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا -وأن لا
يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من
حيث كانوا، وخصوصًا أعيان نَُّص عليهم، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل
غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد
الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا
الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء , وأن لا يؤخذ أحد بذنب
غيره , وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى , وأن من تنصر من المسلمين
يوقف أيامًا، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع
إلى الإسلام تمادى على ما أراد؛ ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا
يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى
ولا يسفر لجهة من الجهات , ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم
جميع المظالم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين،
ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه
وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود [1] ، وأهل الدجن , ولا يمنع مؤذن ولا
مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منهم يعاقَب، ويُتركون من
المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده،
وأمثال هذا مما تركنا ذكره، انتهى المراد منه.


نقض الأسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم
وإكراههم على التنصر
قال صاحب المختصر المذكور:
ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول: ورد في تاريخ
(الإسلام في إسبانية) تأليف ستانلي لانبول ما محصله (إن آخر أنفاس أبي عبد
الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار، بل بداية
أنفاس يرسلونها الصعداء، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء، وإن أسقف غرناطة الأول
هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً، أحسن معاملة المغاربة، وأبى الجور
عليهم، وتعلم العربية، وكان يصلي بها، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى
النصرانية، قيل: إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد، إلا أن الكردينال
كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل، ومال
إلى العنف والإكراه، وأساء معاملة المسلمين، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي
نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر،
فأثار ذلك ساكنهم، وأخرج كامنهم، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين
لشأن من هذا القبيل، فثار سكان البيازين، وتحصنوا وحملوا السلاح، وكادوا
يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس.
إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة، دخل ربض البيازين بالسكينة
والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح، وسأل القوم عن شكواهم، وتقبلها
منهم بالاستماع والاحتفال، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره، وحجب
الدماء يومئذ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة، حتى أصدرت
أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين الجلاء أو النصرانية، وذلك بأنهم كانوا
يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل، فأُقفلت المساجد وأحرقت
الكتب، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً
وألوانًا، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم، إلا أن شعلة من الحمية
الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم.
وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير
انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501، وقتل الدون المذكور، وقيل: إنه الدون
الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين، فازداد انتقام الأسبانيول من
المغاربة بعد هذه الغلبة، وهجم كونت طنديلة على قوجار، وهدم كونت سرين
جامعًا على جماعة التجأوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم، وأمسك الملك
فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال، فمن بقي حيًّا من الثوار فر إلى
مراكش ومصر والبلاد العثمانية وانتهت الثورة الأولى في الجبال.
ومضى على ذلك نصف قرن والبُغض دفين في القلوب، والمسلمون
المتنصرون يعمدون أولادهم ظاهرًا، فإذا انصرف القسيس مسحوا عن الولد ماء
المعمودية، وإذا تزوج أحد الموريسك (لقب المتنصرة من المغاربة) أجرى
القسيس عقد الإكليل، ثم بعد ذهابه عقدوا النكاح بحسب السنة الإسلامية.
وكانوا يتلقون قرصان البحر من أهل المغرب، ويعاونونهم على اختطاف
أولاد النصارى، ويأتون غير ذلك، فلو كانت ثمت حكومة عاقلة قوية ترعى
عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة، لم يكن محل لذلك البغض العميق،
ولكن حكام الأسبانيول لم يكونوا أهل عقل ولا عدل، وكانوا يزدادون بتمادي الأيام
شرًّا، ولم تلبث الأوامر أن صدرت بإكراه المغاربة على ترك ألبستهم المخصوصة
بهم، وعلى لبس البرنيطة والسراويلات الأسبانيولية، وبحظر الغسل ودخول
الحمام عليهم اقتداء بغالبيتهم في احتمال الأقذار، ثم منعوهم من التكلم بالعربية،
وصدر الأمر بأن لا يتكلموا بغير الأسبانيولي، بأن يغيروا أسماءهم ويسيروا سيرة
أسبانيولية، ويسموا أنفسهم أسبانيولاً، وكان تصديق الإمبراطور شرلكان هذا الأمر
الفظيع في سنة 1526 على أنه لم يكن الظاهر من اعتماده إجراءه بالفعل، لكن
عماله اتخذوه ذريعة لاستنزاف أموال الموسرين من المغاربة، صار ديوان التفتيش
يحترف ويتجر بهذه المسألة، ولما صار الأمر إلى فيليب الثاني شدد في إنفاذ
الأوامر بحق الموريسك، وسنة 1567 عزز الأمر الصادر بشأن تغيير الزي
واللغة باستيثاق غريب؛ لأجل منع النظافة التي هي من سنن الإسلام، وذلك بأنه
أخذ يهدم حمامات الحمراء البديعة، فالطرائق التي أخذوا بها لتنكير أحوال تلك
الأمة هي أشد من أن يحتملها أي قبيل كان، دع سلائل المنصور وعبد الرحمن
وأبناء سراج، ولذلك لم يطل الزمن حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة، وثار فرج
ابن فرج من نسل بني سراج بجماعة من ذوي الحمية من غرناطة، قاصدًا الجبال
قبل أن تمكنت الحامية من تعقبهم، ونودي بهرناندو دوفلور من نسل خلفاء قرطبة
ملكًا على الأندلس تحت اسم محمد بن أمية، وعمت الثورة في أسبوع واحد كل
أنحاء جبال البشرات ووقع ذلك سنة 1568.
ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى وأوعرها مسلكًا،
كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالاً، والفتنة فيه بعيدة المرمى، فاستمرت
هذه المرة حولين كاملين، حافلاً تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر
والتعذيب والاستباحة والاحتيال من الجانبين، لكنه أيضًا حافل بوقائع يندر في
تاريخ الفروسية، وكتب الحماسة الظفر بأمثالها، وتبقى على صفحات السير فخرًا
للقرون والأمم، كان المغاربة هناك في موطنهم الأخير، والموقف الذي يحاولون
فيه إدراك الثأر على نحو مئة سنة قضوها في البلاء العظيم، والهون الذي ليس له
نظير، فهبوا جميعًا منادين بأخذ الثأر واقتضاء الأوتار قرية بعد قرية، وهدموا
الكنائس، وأهانوا ما فيها، وفتكوا بالقسيسين، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في
أيديهم، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج، ودافعوا دفاعًا شديدًا، وكان مركيز
مونتيجارة قائدًا في غرناطة، فعمد إلى المسالمة، وأخذ بالملاينة، وكادت الوقدة
تنطفئ لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء في حبس البيازين من
المغاربة، قيل: إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز، لكن الموريسك لم يقبلوا العذر،
ونشروا لواء الثورة، وصار ابن أمية أميرًا بالفعل على جميع جهات البشرات،
إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة، فقام بعض أعوانه وقتلوه، وبويع لرجل آخر
موصوف بالنجدة والحماسة اسمه عبد الله بن أبوه.
فأرسلت دولة إسبانية لتدويخ الثوار الدون جون الأوسترى أخا الملك، وهو
شاب في الثانية والعشرين من العمر، فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى
1570، وأتى من الفظائع، ما بخلت بأنداده كتب الوقائع، فذُبح النساء والأطفال
أمام عينيه، وأحرق المساكن ودمر البلاد، وكانت علامته (لا هوادة) وانتهى
الأمر بإذعان الموريسك، لكنه لم يطل واستأنف مولاي عبد الله بن أبوه الكرة،
فاحتال الأسبانيول حتى قتلوه غيلة، وبقي رأسه منصوبًا فوق أحد أبواب غرناطة
ثلاثين سنة، وأفحش الأسبانيول في قمع الثورة بما أقدموا عليه من الذبح والحريق
والخنق بالدخان حتى أهلكوا من بقية العرب هناك خلقًا كثيرًا، وخنع الذين نجوا
من الموت لكنهم وقعوا في الرق، وسيقوا مماليك وعبدانًا، ونُفي جملة منهم، فأخذ
عددهم يتناقص، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ وهو عيد جميع
القديسين سنة 1570، بلغ عدد من ذهب منهم عشرين ألفًا، والذين أخذوا منهم في
معمعة الفتنة صاروا إلى الاستعباد، والباقون أخرجوا من البلاد مخفورين، فمات
كثير منهم على الطرق تعبًا، فمنهم من أجاز إلى بر العدوة وطافوا هناك سائلين
لأجل قوتهم الضروري، ومنهم من لجأ إلى بلاد فرنسا حيث استقبلوهم بِرًّا وترحيبًا،
واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانية، ولم ينتهِ إخراجهم
تمامًا إلى سنة 1610، إذ وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم بعد أن
وليها الإسلام ثمانية قرون، ويقال: إن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت
فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين، وأن
الذين خرجوا لآخر مرة نحو نصف مليون.
وأما الأسبانيول المساكين فلم يعرفوا ماذا يصنعون، ولا أنهم يخربون بيوتهم
بأيديهم، بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة، مع أن أسبانية كانت مركز
المدنية ومبعث أشعة العلم قرونًا، وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام
بمقدار ما استفادته هذه البلاد، فلما غادرها الإسلام انكسفت شمسها وتسلط نحسها،
وإن فضل مسلمي الأندلس؛ ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة،
وسقوط هذه الأمة في سلم الاجتماع بعد أن خلت ديارها من الإسلام انتهى كلامه
ملخصًا.
واستشهد في حاشية هذه الجملة بنقل يمثل لك درجة هذه الحقيقة، وهو أن
الملِك حوَّل مدينة غرناطة ضياعًا واسعة ومزارع التزموا بيعها سنة 1591؛ بسبب
كونهم يخسرون عليها أكثر من غلتها، مع أن هذه البقاع كانت لعهد العرب حدائق
غنَّاء، وغياضًا ذات أفياء، وموارد ثروة ورخاء.
وقال واشنطون أرفن في تاريخه لفتح غرناطة ما معناه ملخصًا: إنه بعد
دخول هذه البلدة في حوزة الأسبانيول بقيت الحال غير مستتبة تمامًا مدة سنوات إلى
أن وقع من اجتهاد رؤساء مذهب الكاثوليك في حمل المسلمين هناك على النصرانية،
ما أيأس مغاربة الجبال المتشددين في دينهم، فثأروا برؤساء الدين، وقبضوا على
اثنين من هؤلاء الدعاة في مدينة دارين وعرضوا عليهما الإسلام فامتنعا فقتلوهما،
وقيل: إن النساء والأولاد قتلوهما قصعًا بالعصي وشدخًا بالحجارة، وإنهم أحرقوا
جثتيهما، فانتقم النصارى من هذه الفعلة بأن اجتمع منهم نحو ثمانمائة فارس،
وساروا إلى قرى المغاربة يخربون ويعيثون، فاعتصم المغاربة بالجبال، وانتشرت
الفتنة في الجبال كلها، لكن وسطها كان في جبل برميجه المصاقب للبحر، فلما
اتصل الخبر بالملك فرديناند أصدر أوامره بنقل المغاربة الساكنين في جهات الثورة
إلى قشتالة، وأعطى الأمر سرًّا بأن من يدخل منهم في النصرانية يبقى في وطنه،
ثم رمى تلك الأُمة بالصائد المشهور ألونزو دواغيلار، ومعه جيش وهو الذي قضى
معظم شبابه في قتال المغاربة، فما اقترب من بلادهم حتى هرع جملة وافرة منهم
إلى رندة للدخول في النصرانية، وجمر الباقون منهم تحت قيادة فارس اسمه
الفهري سائقين نساءهم وأطفالهم إلى حيث يتعذر السلوك من تلك الأوعار،
مرابطين شعاب الجبال دون مرور عساكر الأسبانيول فالتقى الجمعان أمام بلدة
مونارده، وانتشب القتال فيقال: إن الدون ألونزو مع ابنه الدون بطرو وثلاثمائة
من شجعانه صدقوا الحملة على المغاربة، فأزاحوهم وتلاحقوا في الهزيمة، فتتبعهم
الجند يغنمون وينهبون، ولما امتلأت أيديهم بالغنائم كر عليهم الفهري بجماعة من
أبطاله، وعلت الصرخة فارتجَّت لها جوانب الأودية، وذعر الأسبانيول، فتداعوا
للفرار، وثبت ألونزو في مكانه يحرضهم، ويضم من شتيت شملهم، فصبر معه
جماعة، وولى الأكثرون، ودخل الظلام، وخيم الغسق، واشتد الخناق بالأسبانيول،
وجرح بطرو ابن ألونزو، فأمره أبوه بالرجوع، فأصر على البقاء بجانب أبيه،
فأمر أتباعه بحمله إلى معسكر كونت أورينه فاحتملوه مثخنًا جراحًا، ولبث الدون
بمائتين من رجاله، يناضلون حتى فنوا عن آخرهم.
وتحصن الدون بين صخرين يتقي بهما، فبصر به الفهري فقصده واستحر
الصراع، وألحّ الفهري وطمع في قرنه، وكانا متماثلين في ثبات الجنان مع قوة
الأضلاع وتوثق الخلق، فصاح ألونزو بخصمه (لا تحسبن نفسك وقعت على صيد
هين، فأنا الدون ألونزو دراغيلار) فأجابه المغربي (إن كنت أنت الدون ألونزو
فاعلم أنني أنا الفهري) ثم كوره صريعًا، ومات بموته مثال الفراسة الأسبانيولية
والنموذج الغشمشمية في الأندلس.
واندفع المغاربة ذلك الليل بطوله يطاردون الأسبانيول ولم ينكفئوا حتى لاح
الصباح، فأجلى المعترك عن قتل الدون فرنسيسكو دوناميز المدريدي الذي كان قائد
المدفعية الأكبر، وكانت له المواقف المشكورة في حصار غرناطة، لكن مصرع
الدون ألونزو دواغيلار أنسى الأحزان جميعها، وعند وصول خبر هذه الفاجعة إلى
الملك زحف بالجيش إلى جبال رندة، فسكنت بحضوره النائرة، واشترى بعض
المغاربة أرواحهم فجازوا إلى إفريقية، واحتمى آخرون بالنصرانية , وأما أهل البلد
الذي قتل فيه الدعاة فسُلكوا في سلسلة العبودية، وبحث الملك عن جثة الدون
فوجدوها بين مائتي جثة من الأسبانيول، فيها أجساد عدد من الأمراء والكبراء،
فحملوها إلى قرطبة في مشهد حافل، بين مدامع كالسحب الهواطل، ودفن في
كنيسة مار هيبو ليتو، وندبه الأسبانيول دهرًا طويلاً) انتهى كلامه مجملاً.
وذكر المؤرخ الفرنسي الشهير فيكتور دروى في تاريخه ما يأتي ملخصًا (أن
أسبانية تخلصت من العرب لكنها بقيت حافظة عليهم إحنة شديدة، ربتها في قلوبهم
ثمانية قرون قضتها معهم في الحرب، وكان لذلك العهد سكان الجزيرة أخلاطًا من
مسلمين ونصارى ويهود، فعول فرديناند على توحيد الهيئة بوحدة الاعتقاد؛ تعزيزًا
للدولة، فأنشأ ديوانًا جديدًا للتفتيش، وكان الملك هو الذي يعين الرئيس والمفتش
الكبير، ويضع يده على أملاك المحكوم عليهم، وكان هؤلاء في البداية من
النصارى المتهودين والمسلمين المتنصرين ظاهرًا الباقين في الباطن أمناء لمحمد
(صلى الله عليه وسلم) ثم شملت أحكام الديوان أهل البدع السياسية كالبدع الدينية
أيضًا.
وسنة 1492 قرر ديوان التفتيش المذكور طرد اليهود من إسبانية بعد أن
سلبوهم أموالهم، وقد قدر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك الحادثة عدد من خرج
منهم 800 ألف (قلت: منهم جماعة وافرة بأزمير وأقوام بالآستانة هاجروا إليها في
تلك الكائنة، ومنذ خمس سنين احتفلوا بعيد مُضيّ الأربعمائة سنة على دخولهم بلاد
الدولة العلية، أكثروا فيه من الدعاء لسلطنة آل عثمان التي هي كهف المطرودين)
والقسم الأكبر منهم هلكوا وعذبوا بما لم يعذبه أحد من العالمين، وسنة 1499 صدر
أمر بسلب المغاربة حريتهم الدينية التي تقررت لهم بموجب عهد غرناطة، فجلا
منهم جم غفير، ولم يتم خروجهم جميعًا حتى القرن التالي في سنة 1609، وهكذا
فازت إسبانية بوحدتها الدينية، لكنها خسرت صناعتها وتجارتها اللتين كان العرب
واليهود أهم عمالها.
وذكر مرة عند كلامه على شرلكان أنه أكمل مقصد فرديناند، فأكره مغاربة
بلنسية على التنصر وأهل غرناطة على ترك زيهم والتكلم بغير لغتهم، وقال
بمناسبة فيليب الثاني أنه اضطهد المغاربة، وضيق عليهم حتى التزموا الثورة سنة
1568، وأوقدوا نيرانهم على تلك الجبال إيذانًا بالخروج، وكان يمكنهم بما أمسكوه
من مخانق جبالهم الثبات طويلاً لو امتدت إليهم يد معونة من إخوانهم أهل إفريقية،
ففرق فيليب شملهم، وبددهم في مقاطعته، ولم تمض سنون عشر حتى صاروا كلهم
أرقاء.
ثم لنذكر بحسب عادتنا في المقابلة كلام المقرئ في هذه الوقائع الأخيرة، وهو
ببعض تصرف (ثم إن النصارى نكثوا العهود، ونقضوا الشروط عروة عروة إلى
أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب
أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من
النصارى أن يرجعوا قهرًا للنصرانية، ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا قوة لهم، ثم
تعدوا إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للمسلم: إن جدك كان نصرانيًّا فأسْلَمَ فلترجع
نصرانيًّا، ولما فحُش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان
السبب للتنصر قالوا: إن الحكم خرج من السلطان من قام على الحاكم فليس إلا
الموت إلا أن يتنصروا بالجملة، فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع
قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك
منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم
قتلاً وسبيًا، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا
منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب قرطبة وهو ألونزو دواغيلار، وأخرجوا
على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر.
ثم بعد هذا كله كان مَن أظهر التنصر من المسلمين، يعبد الله في خفية
ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك،
ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في
بعض الجبال على النصارى مرارًا، ولم يقيض الله تعالى لها ناصرًا، إلى أن كان
إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام [2] سبعة عشر وألف، فخرجت
ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط
عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد
تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة.
وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها
الخالية وبلادها، وكذلك بتطاون وسلا وفيجة الجزائر، ولما استخدم سلطان
المغرب الأقصى منهم عسكرًا جرارًا، وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر
ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والحمامات وهم الآن
بهذا الحال، ووصل منهم جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام
وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض
ومن عليها، وهو خير الوارثين) انتهى.
__________
(1) لعل الأصل: ولا يحمل علامة إلخ أو - ولا يجعل له علامة كما يجعل لليهود اهـ , مصححه.
(2) لعل أصله: أي عام.

مجلة المنار المجلد 26 / صفحة 131

الاثنين، 24 ديسمبر 2018

الآثار المشهورة / من كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار للعمري (المتوفى سنة: 749هـ)


ومما نُتبع به هذه الهياكل من الآثار المشهورة في الأرض مما بقي، لقي جسمه أو رسمه، ما يُذكر: فمن ذلك صنم الخطا المحجوج في نهاية الشرق المتشامل. وهو قريب من السند.
ومن ذلك قصر الدهاك. ما بين مدينة طَغُورا وبين مدينة باش بالق، شرقيّ طغورا وغربيّ باش بالق.
ومن ذلك حائط القلاص. ويعرف بالحائط المحيط. ويعرف بحائط عبد الله ابن حُمَيد جنوبيّ بلاد الغربة وأسبيجاب.
ومن ذلك مدينة إصطخر. وهي مدينة عجيبة البناء، من بناء سليمان، عليه السلام.
ومن ذلك قصر سِندَاد. وهو بالعراق. قريب النيل، بأرض الأزيز، على نهر سنداد. وكان مسكن آل مُحَرَّق. وفيه قال الأسود بن يَعفُر.
ماذا أؤمِّل بعد آل مُحرَّق ... تركوا منازلهم وبعد أيادِ؟
أهل الخَوَرنَق والسَّديرِ ومأرِبٍ ... والقصر ذي الشُرُفات مِن سنْداد
دارٌ تخيَّرها لطيب مَقليها ... كعبُ بْنُ مامة وابن أمِّ دُؤَادِ
جرتِ الرياح على محلِّ ديارهمْ ... فكأنما كانوا على ميعادِ
ومن ذلك قصور الحيرة، بين العراق والشام.
ومن ذلك الخورنق والسدير. وهما من أشهر الآثار. بناها شخص اسمه سِنِمَّار للنُّعمان بن قيس، وكمّله في عشرين سنة. فلما وقف عليه النّعمان، استجاده وأثنى على سِنِمَّار. فقال له سِنِمَّار: لو شئت أن أجعله يدور مع الشمس، لفعلتُ. فأمر به أن يُطرح من أعلى شُرُفاته. فضُرِب به المثل " جزاه جزاء سنمار " . وفي ذلك يقول الشاعر:
جزتْني بنُو قيسٍ وما كنت مذنباً ... جزاء سِنِمَّارٍ وما كان ذا ذنبِ
بنى القصر للنعمان عشرين حَجَّةٌ ... يعلّ عليه بالقراميد والخُشْبِ
فلما استوى البنيان واشتدّ رصفُه ... وآد كمثل الطود والشامخ الصعْبِ
رمى بسِسِنَّمارٍ على أمِّ رأسهِ ... وذاك لعمرُ الله من أعظم الخَطبِ
ثم ترهب هذا النعمان في الجاهلية، وانخلع عن ملكه، ولبس المُسُوح. وفيه قال عدِيُّ بن زيد:
وتذكَّر ربَّ الخورنق إذ فكّ ... ر يوما وللهدى تفكيرُ
راقه مالهُ وكثرةُ ما يم ... لك والنهر معرضا والسديرُ
فرعوى قلبهُ وقال وما غب ... طة حيّ إلى الممات يصيرُ
ومن ذلك قصر سَنَافاد.
ومن ذلك الرصيف الممتدّ بين صَرْخَد والعراق، ممتدّا في البرية. يقال إنه من عمل سليمان بن داود، عليهما السلام. وهو يتصل في مواضع وينقطع في أخرى. يتوصل السالك معه من الشام إلى العراق، ومن العراق إلى الشام في أقرب مدّة.
ومن ذلك مدينة تَدّمُر بين العراق وبين الشام، وما فيها من عجائب البناء وكبار العمد.
ومن ذلك ملعب بعلبك. والباقي منه عمد بقلعته الآن، وما في سورها من الأحجار العظام والصخور الراسية كالجبال. يقال إنه من بناء سليمان بن داود، عليهما السلام.
ومن ذلك مدينة شُهْبَة من بلاد حوران. بها من الأبنية الباقية والعمد العالية والآثار الدالَّة ما هو من جلائل الآثار.
ومن ذلك مدينة جُرَش من بلاد حوران. يحكى الهول من غرائب آثارها. وقد أضحت خاوية على عروشها، خالية من أهلها وسُكَّانها، لا يُحسّ بها حسيس، ولا يوجد بها أنيس.
ومن ذلك جُبُّ يوسف، وهو قرب قرية اسمها شورى.
ويدانيها جسر يعقوب، وهو معروف مشهور.
كلّ ذلك ببلاد صَفَد.
ومن ذلك منازل ثمود بين الحجاز والشام. وبيوتهم المنحوتة في الجبال باقية إلى الآن. وهي المعنيَّة بقوله تعالى (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَرِهِينَ). وبها البئران: بئر الناقة، وبئر ثمود، المقسوم بينهما الشِّرب. ولما مرّ رسول الله " صلى الله عليه وسلم " بأرض ثمود في غزوة تَبُوكَ، وجد بعض من سَبَق من أصحابه قد ملأ من بئر الحِجر. فأمر بأن يُراق الماء. فقالوا: يا رسول الله قد عجنّا منه العجين. فأمر بأن يُطعموه الإبل، وأن يشربوا من بئر الناقة. وهما معروفان هناك.
وهذه فائدة أردنا التنبيه عليها.
ومن ذلك جُبُّ بابل، وهو الذي حُبس به دانيال. ألقاه فيه بُخت نَصَّر. وألقى وألقى معه أسدين حتّى أتاه، بأمر من الله، نبيُّ من أنبياء بني إسرائيل. فقال: يا صاحب الجُبِّ! فأجابه دانيال: قد أسمعتَ! ماذا تريد؟ قال: أنا رسول الله إليك، لأستخرجك من موضعك. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى مَن ذَكَره! والحمد لله الذي لا يَكِلُ من توكّل عليه إلى غيره! والحمد لله الذي يُجزي بالإحسان إحسانا! والحمد لله الذي يجزي بالإساءة غفرانا! والحمد لله الذي يكشف ضرنا عن كربنا؛ واستخرجه وإن الأسدين لعن يمينه وشماله يمشيان معه حتّى عزم عليهما دانيال أن يرجعا، وعن ابن عباس، قال: من قال عند كلّ سبع: " اللَّهُمَّ ربَّ دانيال وربَّ الجبِّ وربَّ كل أسد مستأسد! احفظني واحفظ عليّ " لم يضره السبع.
والأخدود المُحتفر لأصحاب الأُخدود المذكورين في القرآن الكريم. وهو بنجران من اليمن.
ومن ذلك البئر المعَطَّلة والقصر المَشِيد. وهما قريب الفج الخالي بمشاريق اليمن.
ومن ذلك سدّ مأرب. وهو ببلاد سبإ من اليمن.
وبه قصر القَشِيب. كان لبلقيس.
ومن ذلك قصر غُمدان. بصنعاء اليمن. وهو من أشهر الآثار وأظهر المعالم. كان مسكن التببابعة من حِمِيَر، ومنهم شَمِر بن مالك وأسعد أبو كَرِب. وكفا بذكرهما. طافا الأرض وبلغا الآفاق. وقصر غُمدان هذا هو المذكور في الأشعار، والمشهور في الأخبار. وفيه يقول ابن أبي الصَّلت.
اِشربْ هنيئاً عليك التاج مغتبِقاً ... في قصر غُمْدان دار ملك مِحْلالا
تلك المكارم لا قَعْبانِ من لَبنٍ ... شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبْوالا
ومن ذلك بئر بَرَهُوت. ببلاد حَضْرمَوْت من بلاد اليمن. وهو الذي لم يُعرف عمقه، ولا عُلم أن إنسانا نزله.
ومن ذلك قصر زَيدان. المشهور بمدينة ظَفَار باليمن. وكانت تُسمى قديما مدينة يَحْصِب.
ومن ذلك قصر الشَّاذِيَاخ. وهو بباب نيسابور، من خراسان. كان دار السلطنة لبعض ملوكها. ولم نؤخر ذكره إلا لأنه شُبِّه ببناء غُمدان. فكان كأن لذكره به تعلقا:
اِشرب هنيئا عليك التاج مرتَفِقاً ... بالشَّاذِياحِ ودع غُمدان لِليَمَنِ
فأنت أولى بتاج الملك تلبَسُه ... من هَوْذَة بن عليّ وابن ذي يَزَنِ
وعلى باب قصر الشاذياج، صُلب عليّ بن الجهم. فقال حين صُلب، ارتجالا
لم ينصِبوا بالشاذِياج عشيَّة ال ... إثنين مسبوقا ولا مجهولا
نَصَبوا بحمد الله مِلءَ قلوبهم ... شرفا وملء صدورهم تبجيلا
ما عابه أن بُزَّ عنه ثيابه ... فالسيف أهول ما يُرى مسلولا
ومن ذلك دار الأنماط. وكانت بفسطاط مصر، يباع بها قماش النساء، وفاخر اللباس والأمتعة. تجلب إليها من كل أرض. وكان يجلس على حوانيتها أهل الفراغ واللهو. من عجائب المباني، وغرائب الآثار.
وحكى ابن ظافر أن ابن قلاقس جلس بمصر فيها مع جماعة، فمرّت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك. وهي شمس تحت سماء النقَّاب، وغصن في أوراق الشباب. فحدّقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب، والمريض إلى الطبيب. فجعلت تتلفَّت تلفُّت الظبي المذعور، أفرقه القانص فهرب، وتثنَّى تثنِّي الغصن الممطور، عانقه النسيم فاضطرب. فسألوه العمل في وصفها. فقال هذا يصلح أن يعكس فيه قول ابن القطَّان الأزديّ القيروانيّ:
أعرضْن لما أن عَرَضْن فإن يكن ... حذرا فأين تلفُّتُ الغِزْلانِ
ثم صنع:
لها ناظرٌ في ذرى ناضر ... كما رُكِّب السِّنُّ فوق القناةِ
لَوَت حين وَلَّت لنا جيدهَا ... فأيُّ حياةٍ بَدَتْ من وفاةِ
كما ذُعر الظبيُ من قانصٍ ... فمرَّ وكرّر في الالتفاتِ
ثم صنع:
ولطيفةِ الألفاظِ لكنْ قلبها ... لم أشكُ منه لوعةً إلا عَتَا
كلمتْ محاسنُها فودَّ البدرُ أنْ ... يًحضى ببعض صفاتها أو يُنعتا
قد قلتُ لما أعرضَتْ وتعرَّضَتْ ... يا مؤيسا يا مُطعما قُلْ لي متى
قالت: أنا الظبيُ العزيز وإنما ... ولّى وأوْجس خِيفةً فتلفَّتا
ومن ذلك الأهرام بمصر. وأجلُّها الهرمان بجيزة مصر. وقد أكثر الناس القول في سبب ما بُنيا له. فقيل: " هياكل للكواكب " . وقيل: " قبور ومستودع مال وكتب " . وقيل: " ملجأ من الطوفان " . وهو أبعد ما قيل فيها. لأنها ليست شبيهة بالمساكن.
وأقربها إلى الصحة " والله أعلم " إما هياكل كواكب، وإما مواضع قبور. ولقد فُتح أكبرها في زمن المأمون، حين قدِم مصر. فلم يظهر منه ما يدلُّ على ما وَضع له. وعلى ألسنة الناس أنه وجد ذهبا فوزنه، وحسب مقدار ما أنفقه، فوجدهما سواء بسواء، لا يزيد أحدهما على الآخر بشيء، لعلمهم السابق أنه سيُنفق عليه مثل هذا المقدار. فوُضع هذا المقدار بإزاء ما ينفق عليه. ووجدتُ هذا في كثير من الكتب. فراجعت التواريخ الصحيحة والكتب المسكون إليها، فلم أجد المأمون وجد بها شيئا ولا استفاد زائدا عما يعلم الناس به علما.
وأدلُّ الأدلة على أحدها هيكل بعض الكواكب، أن الصابئة كانت تأتي حقيقة تَحُجُّ الواحد وتزور الآخر، ولا تبلغ به مبلغ الأوّل في التعظيم. والله أعلم بحقيقة أمورها وجليّة أحوالها.
وهي أشكال لهبيَّة. كأنّ كلّ هرم لهبة سراج. آخذة في أسافلها على التربيع مسلوبة في عمود الهواء، آخذة في الجوّ حتّى إلى التثليث. لولا استدارة سفل أبلوج السُّكَّر لشبهناها به. ويحتمل أن يكون هذا الشكل موضوعا لبعض الكواكب لمناسبة اقتضته.
ولقد أصْعَدْتُ غير مرَّة، مارّا على الأهرام بجميع بلاد الجيزة، ورأيت منها ما دثر بعضه، وما دثر كله. فإذا هي مصفحة البناء، شيئا على شيء، لا فُسحةفي أوساطها، كما تكون ساحات الدور بين الجدران. وإنما هي بناء ماتصق على بناء، بعضها فوق بعض. ووجدتُ بعض الأهرام مبنيّة بالطوب. وهذا أكبر دليل على أنها لم تُتَّخذ ملجأ من الطوفان.
فأما مقدار الهرمين المشار إليهما، في ارتفاعهما ومساحة أقطارهما، فإنه مذكور في الكتب ذكرا مستوعبا لم أحققه بالقياس. وأبى لي تحقيقي في هذا الكتاب أن أذكره بمجرَّد التقليد، مع إمكان التحقيق، مع كثرة تردّدي عليها، وسكني في القاهرة في جوارها. ولعذر مانع في وقت هذا التأليف، قعدتُ عن معاودتها بالنظر والتحقيق.
على أن الهدم قد شرع في قلع هذه الآثار، ونقل أحجارها إلى الأبنية والمساكن. نبّه لها الدهر طرفا غافيا، وقلبا غافلا، فأصبحت هاوية الأركان، تابعة السكان. فلقد صدق عليها المتنبِّي قوله:
أين الذي الهَرَمان من بُنيانه؟ ... مَنْ قومه؟ ما يومُه؟ ما المصرع؟
تتخلَّف الآثار عن سُكَّانها ... حينا ويدركه الفناء فتتبع
وإن فيها لعبرة للمعتبر، وتذكرة للمدّكر، وآية لمن أناب، وتبصرة في الدنيا لمن يلد للفناء ويعمِّر للخراب.
وحكى ابن ظافر، قال: ذُكر لي أن جماعة من الشعراء في أيام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام، ليروا عجائب مبانيها، وليتأملوا غرائب ما سطّره الدهر من العِبَر فيها، فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها. فصنع أبو الصَّلت أميّة بن عبد العزيز " الأندلسي " :
بعيشِك هل أبصَرْتَ أحسَن منظَراً ... على ما رأتْ عيناك من هَرَمَيْ مِصرِ؟
أنَافَا بأعنان السماء وأشرفا ... على الجوّ إشرافَ السِّماك على النَّسرِ
وقد وافيا نَشْزاً من الأرض عالياً ... كأنهما نَهْدَانِ قامَا على صدر
ومن ذلك أبو الهول. وهو اسم لصنم يقارب الهرم الكبير. وفي وَهدة منخفضة تقع دونه شرقا بغرب. لا يبين من فوق سطح الأرض إلا رأس ذلك الصنم وعنقه. أشبه شيء برأس راهب حبشيّ، عليه غفّارية. على وجهه صباغ أحمر إلى حُوَّة، لم يَحُلْ على طول الأزمان، وقديم الآباد. وهو كبير. ولو كان شاخصا كله، لما قصّر عن عشرين ذراعا طوله. في غاية مناسبة التخطيط.
يُقال أنه طَلسَم يمنع الرمل عن المزدَرَع. وزاد تحسين هذا القول إليهم وتصويره لهم أنه على نهاية الرمل إلى جهة المزدَرَع.
وفي أبي الهول يقول " أبو منصور " ظافر الحدَّاد:
تأمّل هيئة الهَرَمَينِ وانْظُر ... وبينهما أبو الهَوْلِ العجيبُ
كَعَمَّارِيتين على رحيل ... بمحبوبين بينهما رقيب
وفَيْضُ البحر عندهما دموعٌ ... وصوت الريح بينهما نحيبُ
وظاهِرُ سِجْنِ يوسفَ مثلُ صَبٍّ ... تخلّف فهو محزون كئيب
وأما سجن يوسف، فشمال الأهرام، على بُعد منه، في ذيل خرجة من جبل في طرَف الهاجر.
ومن ذلك حائط العجوز. وهو حائط يستدير بالديار المصرية، ممتدّا على جانب المزدرع بها، كأنه قد جُعل حاجزا بين الرمل المزدرع. على أنه غير عالي الذُّرى.
مشيتُ معه إلى دَنْدارا، من الصعيد الأعلى. ورأيته قد دَثَر غالبه، ومنقطعه أكثر من متصله. وهو مبنيّ من طوب. ليس بعريض السَّمْك ولا عالي الجدار.
ووقفتُ على الكتب المؤلفة في أخبار مصر انه من بناء امرأة اسمها دلوك، وأنه يصل إلى ما بين العريش ورَفَح، منتهى الحدّ الفاصل بين مصر وبين الشام. وليس له هناك أثر، بل ولا في أسافل أرض مصر.
ويُذكر في تلك الكتب " بسبب بناء العجوز له " خُرافة لسنا نرضى ذكرها.
ولا يُعرف من بنى هذا الحائط حقيقة، ولاما بُني له عن يقين. ولكنا قلنا على الظن الغالب.
ومن ذلك شامة وطامة. وهما صنمان من حجر، على قاعدتين، ببلاد الصعيد.
ومن ذلك البَرابِي. بالصعيد، في أماكن منه.
وأشهرها برباة إخيم. من ورائها على شرقيّ النيل، حيث ينعطف الرمل ملتفّاً على الريف.
رأيت بها مختلفات من صور الحيوان: من نوع الإنسان والدوابّ والوحش والطير. على صور مختلفة، وأشكال متباينة، مصبَّغة بأنواع الأصباغ، مرسومة في الجُدُر والسقوف والأركان، من باطن البناء وظاهره، لم تنطمس رسومها، ولا حالت أصباغها: كأنَّ يد الصانع ما فارقت صورها، وكفَّ الصبّاغ ما مسح دهانها.
قال لي الحكيم المحقق شمس الدين محمد النقاش: إنه سافر قصدا إليها وأقام مدّة يردّد نظره فيها، ويحدّد نظره في أوضاعها. فرآها تشتمل على هيئة العُلْوِيَّات المرصودة بأسرها، مما لا يُعمل كلّ موضوع منها إلا برصد محرِّر مما لا يسع زمان واحد بعضه. فقال: فعلمت أنها ما عُملت في زمان واحد، بوضع حكيم واحد: لقِصَر مدد الأعمار عن زمان يفي برصد تلك الهيئة الكاملة. قال: وإنما تكون " والله أعلم " مما توارث عَمَلَهَا على حكم الأرصاد المحررة عدَّة حكماء في أزمنة طويلة، حتّى استقلَّ ذلك المجموع وتمَّت تلك الهيئة.
ومن ذلك عمود الصواري. بظاهر الإسكندرية. وهو عمود مرتفع في الهواء تحته قاعدة، وفوقه قاعدة. يقال إنه لا نظير له من العمد في علوّه ولا في استدارته. ويُحكى عنه حكايات منها ما هو مسطَّر في الصحف، ومنها ما هو مستفيض على الألسنة، مما لا نرى ذكره.
ومن ذلك المنارة بها. وشهرتها كافية. ولم يبق منها إلا ما هو في حكم الأطلال الدوارس، والرسوم الطوامس.
وقد كانت المنارة مسرح ناظر، ومطمح أمل حاضر، طالما جمعت أخدانا، وكانت لجياد الخواطر ميدانا.
حكى ابن ظافر أن ابن قلاقس والوجيه " أبا الحسن عليّا " بن الدرويُ طلعا المنارة. والوجيه يومئذ في عنفوان " شبابه " وصباه، وهبوب شماله في الجنوب وصَباه. وابن قلاقس مغرم به،مغرى بحبه، مكبٌّ على تهذيبه، مبالغ في تفضيض شعره وتذهيبه. ولم تكن وقت بينهما تلك الهناه. ولا استحكمت بينهما أسباب المهاجاة. فاقترح عليه ابن قلاقس أن يصف المنارة. فقال " بديها " :
وساميةِ الأرجاء تُهدي أخا السُّرى ... ضِياءً إذا ما حِندِسُ الليل أظلما
لبستُ بها بُرْداً من الأنس ضافياً ... فكان بتَذكار الأحبّة مُعْلَمَا
وقد ظلّلَتني من ذُراها بقبّة ... أُلاحظ فيها من صِحابيَ أنجما
فَخُيِّل أن البحر تحتي غَمَامةٌ ... وأنِّيَ قد خيَّمتُ في كَبِد السَّما
فاشتدّ سرور ابن قلاقس وفرحه، وقال يصفها ويمدحه:
ومنزلٍ جَاوَرَ الجوزْاء مرتقيا ... كأنَّما فيه للنَّسْرَيْن أوْكَارُ
راسِي القرارةِ سامِي الفرع في يده ... للنُّون والنُّور أخبارٌ وآثارُ
أطلقتُ فيه عِنان النظم فاطَّردتْ ... خيلٌ لها في بديع الشِّعرِ مِضمارُ
ولم يَدَعْ حَسَناً فيه أبو حَسَنٍ ... إلا تحكّم فيه كيف يختارُ
حلَّى المنارةَ لما حلّ ذِرْوتَها ... بجوهر الشعر بحرٌ منه زخَّارُ
ما زال يُذْكِي بها نار الذكاء إلى ... أن أصبحت عَلَماً في رأسه نارُ
ومن ذلك الملعب بها. وقد كان له عيد يجتمعون إليه فيه، في كل سنة، وتُرمى به كُرة. فمن وقعت في كُمُه، آل إليه المُلك. وحضره عمرو بن العاص في الجاهلية، ووقعت الكرة في كمّه. فقالوا: أخَرَمت العادة؟ قال فإن مثل هذا لا يُمَلَّك. وهذه واقعة مشهورة، لا حاجة إلى الإطالة بها.
ومكان هذا اللعب عمّر بنو حُلَيف القصر المنسوب إليهم.
وحكى ابن ظافر أن ابن قلاقس حضر يوما عند بني خليف " بظاهر الإسكندرية " في قصر رسا بناؤه وسما، وكاد يُمزِّق بمزاحمته أثواب السما، قد ارتدى جلابيب السحائب، ولاث عمائم الغمائم. وابتسمت ثنايا شُرُفاته، واتَّسمت بالحُسن حنايا عُرُفاته. وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها، وحَبَتْه السحائب بما اؤْتُمِنَتْ عليه من ودائع أمطارها. والرمل بفنائه قد نشر تبره في زبرجد كرومه، والجوّ قد بعث بذخائر الطيب إليه لطيمة نسيمه. والنخل قد أظهرت جواهرها، ونشرت غدائرها. والطلّ ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه، والبحر يرعد " غيظا " من عَبَث الرياح به. فسأله بعض الحضور أن يصف الموضع الذي تمت محاسنه، وغُبط به ساكنه. فجاشت لذلك لُجَجُ بحره، وألقَت إليه جواهره لترصيع لبَّة ذلك القصر ونحره، فقال:
قَصْرٌ بمَدْرَجَة النسيم تحدّثتْ ... فيه الرياضُ بسرّها المستورِ
خفَضَ الخورنقَ والسديرَ سمُوُّه ... وثنى قصور الرُّوم ذاتَ قُصورِ
لاث الغَمام عِمامةً مسْكيَّة ... وأقام في أرضٍ من الكافور
غنّى الربيعُ به محاسن وصفه ... فافتَرَّ عن نَوْرٍ يروق " ونُورِ "
فالدَّوْح يسحب حُلَّةً من سُنْدُس ... تزهو بلؤلؤ طلِّها الموفُور
والنخل كالغِيد الحِسان تقرّطتْ ... بسبائك المنظوم والمنثور
والرمل في حُبُك النسيم كأنما ... أبدى غُضُون سوالف المذعور
والبحر يرعُد متنه فكأنه ... درع تُسَنُّ بمَعْطِفيْ مقرور
وكأننا، والقصرُ يجمعُ شَمْلنا ... في الأفق، بين كواكِبٍ وبُدُور
وكذاك بني خُلَيف لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور
ومن ذلك مدينة لبدة. وهي خراب يَبَاب. بها صنمان عظمان من الرُّخام الأبيض، في زيّ امرأتين. وغالب بناء هذه المدينة " في جدرها وسقوفها وفرش دياراتها وأرضها " من الرخام الأبيض. وكان يجري إليها وادٍ يصب إلى البحر الشاميّ وترسى السفن البحرية إليه. وطفَّات الوادي ومجاري الماء مرصوفة بالرخام. فغلب عليها سافي الرمل، فقطع مدد الوادي، وأخلى أوطانها، وأجلى سُكَّانها. وهذه المدينة ببَرْقة، يقابل أطرابُلُس الغربية.
ومن ذلك المُعَلَّقة. وهي مدينة بإفريقية. على ساحل البحر الشاميّ على نحو ستة عشر ميلا من تونس. يقال إنها كانت لبنة الملك الذي قال الله، وقوله الحق، في حقه: (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً). بها آثار عظيمة، وأحجار كبيرة، ومهاوٍ بعيدة، وأشراب عميقة. تُظْهر لمن تأملها العجب العُجاب، واللُّبّ اللباب. ومن عظيم ما حوته من الأحجار، أنه على طول المُدد، وتراخي عِنان الأبد، أنه ينقل من أحجارها إلى ما جاورها ولا ينقطع مددها، ولا يظهر نقص في كثرتها.
ومن ذلك مدينة شرشال. وهي مدينة تقابل مِلْيانةَ، بالغرب الأوسط، على ساحل البحر الشاميّ. يقال إنها كانت مدينة الملك الغاصب للسفن، المعنيِّة بقوله تعالى في سورة الكهف. وقد تقدّمت الآية عند ذكر ابنه هذا الملك، في ما قبلُ، وهي مدينة تزيد على الوصف، في أتساع الأفنية، وارتفاع الأبنية، وعظم القناطر المرفوعة، والأقبية المعقودة، والقواعد المشيدة، والجدر السميكة، مما يشهد له جُوَّال الأرض، وسُفَّار الآفاق، وسُمَّار الحديث، بأنه لا شبيه له في تخشيم بنائها، وتحسين صناعاتها.
ومن ذلك صخرة سبتَة. يقال إنها المعنية بقوله تعالى: (أَرَأَيْتَ إِذْ آَوَيْنَا الصّخرةِ فإّني نَسَيْتُ الحُوْتَ). وهي مشهورة هناك.
ومن ذلك هيكل الزُّهَرَة. بالأندلس، في ذيل الجبل الآخذ بين طُلَيْطلة ووادي آش في شرقيه بشمال. مطلُّ البحر المحيط. وقد تقدّمت الإشارة إليه.
ومن ذلك باب الصُّفر. في شرقيّ الأندلس يفضل بينه وبين الأرض الكبيرة. ذات الألسن العديدة من سكان الشمال. عمل الباب على نقب كان فتح في جبل حيث خرجت من البحر الشامّي طريقا للأندلس إلى البر المتصل.
وقد رأيت أن أعقب ذكر هذه الآثار، بما هو مماثلها أو أبلغ في الاعتبار، وهو: قصر العبَّاس. وهو: قصر العَبَّاس. وهو بين سنجار ونصيبين. وهو وإن لم يكن في القدم بالنسبة ما ذكرناه. فإنه في العبرة كما أشرنا. حكى قاتضي القضاء أبو العباس أحمد بن خلكان في تاريخه قال: مر أبو الربيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب بقصر العباس بن عمرو الغنويّ وكان مطلاًّ على بساتين ومياه كثيرة. ومياه كثيره فتأمله، فإذا في حائط منه مكتوب:
يا قصر عَبَّاسَ بن عَمْ ... روٍ، كيف فارقك أبْنَ عَمْركْ؟
قد كنتَ تغال الدُّهور ... فكيف غالَك ريب دهْرِكْ؟
واهاً لعِزِّك بل لجُو ... دك بل لمجدك بل لفخرِكْ!
وكتبه عليّ بن عبد الله بن حمدان بن بخطة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
" وهذا هو الأمير سيف الدولة بن حمدان " .
وتحته مكتوب:
يا قصرُ، ضَعْضعك الزما ... نُ وحطَّ من عَلْياء فخرِكْ!
ومحا محاسن أسطُرٍ ... شَرُفت بهنّ مُتُون جُدْرِكْ!
واهاً لكاتبها الكري ... م وقدره المُوفيِ بقَدْرِكْ!
وكتبه الغضنفر بن الحسن بن عليّ بن حمدان بخطة سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
" وهذا هو عدّة الدولة أبن الأمير ناصر الدولة أخى سيف الدولة " .
وتحته مكتوب:
يا قصرُ، ما فعل الأُولى ... ضُربَتْ قِبابُهُمُ بِعُقْركْ؟
أخْنى الزمانُ عليهِمُ ... وطَواهُمُ لطوِيلِ نَشْرك!
واهاً لقاصِرِ عُمْر مَن ... يختال فيك، وطُول عُمْرك!
" وكتبه المقلَّد بن المسيب بن رافع بخطه في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة " .
" وهذا هو والد قرواش " .
فكتب ولده قرواش تحته:
ياقَصْرُ ما صنعَ الكرا ... مُ الساكنُونَ قديمَ عَصْرِك؟
عاصَرْتَهم فبذَذْتَهم ... وشأَوْتهم طُرّاً بصبرك!


ولقد أثارَ تفجُّعِي ... يا ابن المسيَّب رَقْمُ سطرِك!
وعلمتُ أنِّي لاحِقٌ ... بك دائبٌ في قَفْو إثْرك!
وكتبه قرواش بن المقلد بن المسيب بخطه في سنة إحدى وأربعمائة.
وعزم على هدمه، وقال: هذا مشؤوم. ثم تركه.
وباني هذا القصر العباس بن عمرو الغنويّ من أهل تَلِّ سَيَّار، باني الرقة ورأس عين من حصن مَسْلَمة بن عبد الملك بن مروان. وكان يتولّى اليمامة والبحرين. وسيّره المعتضد لحرب القرامطة في عشرة آلاف فارس. فقُتل الجميع، وسلِم وحدَه.
" وعمرو بن الصفا حارب إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان في خمسين ألف فارس فأخذوه وسلم الباقون " .
وكذلك قصر البصرة. وكان قبل أن تُختطَّ البصرة منزلا تنزله الأكاسرة في متصيَّداتهم، وتخرج إليه الأساورة في متنزَّهاتهم. وتهدّم حتّى جدّده الحجاج، فعرف به، فقيل قصر الحجاج. وكان يعرف بقصر قُباذَ. وقال: قال أبو الغرّاف: قال الحجاج لجرير والفرزدق، وهو في قصره بالبصرة بالجزيرة: " إيتِياني في لباس آبائكما في الجاهلية " . فلبس الفرزدق الديباج والخزَّ، وقعد في قبَّة. وشور جرير دهاة بني يربوع وشيوخهم، فقالوا: " ما لبس آبائنا إلا الحديد " . فلبس درعا وتقلد سيفا وتأبط رُمْحا وركب فرسا، وأقبل في أربعين من بني يربوع. وجاء الفرزدق في هيئته. فتقاولا. فقال جرير:
لَبِست سلاحِي ، والفَرزْدق لُعبةٌ ... عليه وِشاحَا حَلْيهِ وخلاخِلُهْ
أَعِدّوا مع الخَزِّ المَلابَ؛ فإنّما ... جريرٌ لكم بعلٌ وأنتم حلائلُهُ!
ثم رجعا. فوقف جرير في معرّة بني حصن، ووقف الفرزدق بالمِربَد. وقد أبرَّ جرير عليه.
وكذلك قصر الكوفة. وقد هُدم، فلم تبق منه باقية.
وله حكاية مشهورة. ولهذا ذكرناه.
قال عبد الملك بن عُمير: كنت مع عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة، حين جيء برأس مُصْعَب بن الزبير. فوُضِع بين يديه، فرآني قد ارتعدتُ فقال لي: مالك؟ فقلت: أعيذك بالله، يا أمير المؤمنين! كنت بهذا القصر، في هذا الموضع، مع عبيد الله ابن زياد، فرأيت رأس الحسين بين يديه. ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد، فرأيت رأس ابن زياد بين يديه. ثم كنت فيه مع مُصْعَب بن الزبير. فرأيت رأس المختار بين يديه. ثم ها أنا فيه معك، ورأس مصعب بين يديك. فقام عبد الملك من مقامه ذلك. وأمر بهدم ذلك الطاق.
ولمناسبة هاتين الواقعتين، ذكرنا هذين القصرين، لما فيهما من العبرة لمن تفكر. فسبحان الله الباقي، وكل شيء هالك؛ الدائم، وما سواه ليس كذلك! ومنها قصر هِرَقْل. وهو بالشَّرَف الأعلى الشماليّ. ويُعرف في زماننا بقصر شمس الملوك. ولم يبق منه اليوم إلا الجوسق والحمام. والجوسق الآن خانقاه للفقراء. ولم يزل منزلا للملوك ومنزها لأهل البلد، لإشرافه على نهر بَرَدَى والوادي. ونزله السلطان صلاح الدين.
وحكى ابن ظافر قال: دخل أبو خالد بن صقير القيسرانيّ على الأمير تاج الملوك أبي سعيد نور بخت، أتابك طغتكين، صاحب دمشق، وبين يديه بركة فسيحة الِفناء، صحيحة البناء، قد راق ماؤها وصفا، وجرّ النسيم عليها مارقّ من أذياله وضفا. وهو تارة يرشُف رضابها، ويجعِّد ثيابها، وتارة يسكبها مِبْردا، ويحبكها مسْردا. فأمره بوصفها، فقال:
أَوَ مَا تَرى طَرَبَ النسي ... م إلى الغدير إذا تحَّركْ؟
بَلْ لو رأيتَ الماء يل ... عب في جوانبه، لسرَّكْ!
وإذا الصَّبا هبّت علي ... ه، أتاك في ثوبٍ مُفَرَّكْ.
ومن ذلك ما ذكره الحافظ أبو القاسم عليّ بن عساكر، في ترجمة إسماعيل بن أبي هاشم. قال: قرأت بخط أبي الحسن رشإِ بن نظيف، وأنبأنيه أبو القاسم عليّ إبراهيم وأبو الوحش سبيع بن المسلم، عنه: أخبرنا القاضي أبو عبد الله محمد بن الحسن ابن عليّ بن محمد بن يحيى الدقاق: حدثني أبو الحسن عليّ بن أحمد بن محمد بن سلامة الطحاويّ: حدثنا إسماعيل بن أبي هاشم، قال: قرأت على قصرٍ بدمشق لبنى أُمَيَّة:
ليتَ شِعْري! ما حالُ أهلك يا قَصْ ... رُ وأيْنَ الذين عالَوْا بِنَا كا؟
ما لأرْبابِك الجبابِرَةِ الأم ... لاك شادُوك ثم حَلُّوا سِوَاكا؟
أَلِزُهْدٍ يا قصْرُ فيك تحامَوْ ... ك ألا تُبْتَنى ولستَ هُناكا؟
ليت شِعْري! وليتني كنتُ أدرِي! ... ما دهاهُمْ، يا قصر، ثُمَّ دهاكا؟
ومن خلفه: هذا جواب عنهم:
أيُّها السائلُ المفَكِّرُ فيهم! ... ما إلى ذاك السُّؤال " قل لي " دَعَاكا؟
أوَ ما تعْرِف المَنُونَ إذا حلّ ... ت دِيَارا فلن تُراعِي هَلاَكا!
إنّ في نفسك الضعيفةِ شُغْلا ... فاعتَبِر وامض فالمَنُون وَرَاكا!
قال: وحدثني أبو الحسن بن الطحاويّ: حدثني ابن أبي هاشم قال: قرأت بحُلوان " مصر " لقصر لعبد العزيز بن مروان:
أيْنَ ربُّ القَصْر الذي شيَّد القص ... ر، وأين العَبِيدُ والأجنادُ؟
أيْن تلكَ الجُموعُ والأمر والنه ... يُ وأعوانُهم وذاك السَّوادُ؟
أين عَبدُ العزيز، أيْنَ ابن مَروا ... نَ، وأيْنَ الحُماةُ والأولادُ؟
مالنا لا نُحِسُّهم ونَرَاهم! ... أتُرى، ما الذي دهاهم، فبادُوا؟
قال: وقرأت تحته: هذا جواب عنهم:
أيُّها السائلُ المُفَكِّر فيهم: ... كيْفَ بادَتْ جُمُوعُهم والسَّوادُ،
ثم في القَصْر والذين بَنَوْه ... أسَفاً، حين فارقوه وبادُوا.
أيْنَ كِسْرى وتُبَّعٌ قبل مَرْوا ... نَ ومِن قبلِ تُبَّعٍ شَدّادُ.
أيْنَ نُمْرودُ؟ أيْنَ فِرْعونُ مُوسى؟ ... أيْنَ مِن قبلهم ثمودُ وعادُ؟
كلُّهمْ في التراب أضحى رَهِينا ... حينَ لم تُغْنِ عنهم الأجْنَادُ!
إنّ في الموت يا أخي لك شُغْلا ... عن سِواه، والموَقْف المِيعادُ!
ومما ينسحب على ذيل ذلك، أنني نزلت في مسجد بقُنَيَّة السلاّر، من اليرموك بالشام " وكانت قديما منازل غسَّان، ثم نزلها قوم من آل يَسَار، ثم صارت إلى بني السلاَّر، وكانوا أمراء نبلاء، وسادة أجلاء، ثم أبادهم الحدثان " . فقرأت على بعض جدران المسجد:
أرأيتَ أيُّ منازلٍ وديارِ ... أمسَتْ خَلاءً مِنْ بني السَّلاَّرِ
العامرين مساجداً لإِلههم ... الغامرين ندىً ذَوِي الإعسارِ
وقد كتب آخر تحتها:
قلْبي المَشُوقُ إلى بَنِي السَّلاَّر ... أبداً يُقلَّبُ فوق جَذوة نارِ
قومٌ لحُسْن صَنِيعهم أحببتُهم ... حُبِّي لآل محمدِ الأطْهارِ
فكتبت تحتها:
لا تنكرنَّ تَنكُّر الآثار ... وتغيُّر الأوْطانِ والأوطار
يا مَن تعجَّب للقُنَيَّة إذْ خَلَتْ ... من ساكنيها من بني السَّلاَّر
لا تعْجَبنّ فهم سُلاَلة آدم ... أُكْل المَنُون وعُرْضةُ الأقدار!
إنْ تخلُ منهم فهي من قبلٍ خلَتْ ... من آل غَسَّانٍ وآل يَسَار
لا تعجَبنّ من الفِراق فإنَّهُ ... ما هذه الدُّنْيا بدارِ قَرار!
جاؤُوا على آثارِ غيرِهُم وقد ... ذهَبُوا كما ذهَبُوا على الآثار!
وسَبِيلُنا لمَّا أتيْنا بعْدَهم ... كسبيلِهم في الوِرْد والإصْدارِ!
كلُّ الذي حازُوه عارِيَةٌ ولا ... عَجَبٌ إذا ردّ المُعارُ عَوَارِي!
قلت: ومن هذا النوع أنني مررت بعد حين من الدهر بمعاهد كنت آلفها أوّل عمري، والشيب ما عارض عارضي ولا عذري؛ وعقد الاجتماع منظوم، وأهلها أهلَّة ونجوم. فوجدتها خالية بعد أهلها، ظامية بعد عَلِّها ونهلها؛ وقد أصبحت عارية من ريفها وظلِّها، عادمة لكثرها وقُلِّها. وقد كتب عليها بعض من ولِع:
هذه دارُهمْ وماتُوا جَميعا ... هكذا هكذا يُعادِي الزمانُ!
فحرّكني هذا البيت، لسكان ذلك البيت، وأيامنا نحن وساكنه الميت، وتذكرت تلك الأيام الماضية، والعيشة الراضية، ثم ما غرت الحوادث، وسدّت من الأبواب والبواعث، فقلت ارتجالا:
أين دهْرٌ مضى لنا أول العُمْ ... ر وأينَ الزمانُ والإخْوانُ!
حَدَثَتْ بعدَنا عليهم أمورٌ! ... هاتِ شيئاً ما اغتَالَهُ الحَدَثانُ؟
ذهب الكُلُّ في زمانٍ تقضّى ... كلُّ شيءٍ يأتي عليه الزمانُ!
ما تَبَقّى لنا من الكُلِّ إلاَّ ... قولُنا للتَّذْكار: كُنَّا وكانُوا!
ثم أمرت من كتبها تحت الباب وانصرفت باكيا، وشكوت لو أنصف الدهر شاكيا.

_____________________________________

الكتاب : مسالك الأبصار في ممالك الأمصار
المؤلف : ابن فضل الله العمري (المتوفى سنة: 749هـ)
مصدر الكتاب : موقع الوراق
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

قبور غريبة قديمة في البحرين سابقة لعهد التاريخ


العدد 19 - بتاريخ: 01 - 01 - 1913

1 - تمهيد
الأثر الذي أريد أن أوجه إليه أنظار قراء لغة العرب هو المدافن القديمة العهد في البحرين فقد عزمت على أن أدون ما صرح ومحض من تاريخها خدمة للناطقين بالضاد لخفاء أمرها على الكثيرين منهم وطموس أخبارها حتى عن أغلب الرواد والمستشرقين معتمداً في ذلك على الثقات من السياح والمؤرخين.

2 - الطريق المؤدية إلى المدافن القديمة
بعد أن يلقي السائح عصا ترحاله في البحرين يقصد المقابر المهجورة في وسط الجزيرة التي تبعد نحو سبعة أميال عن (منامة) إذا أراد الوقوف على سابق حضارة تلك الديار وأول ما يصادف في طريقه أرضاً جرداء رملية لا يوجد فيها من الآثار المهمة سوى قلعة عظيمة الشأن مربعة وفي خارج أسوارها مدفع لا بل مدفعان قديما العهد مهملا الاستعمال قد علاهما الصدأ والغبار وفي كل ركن من أركان المعقل برج هائل وهو عبارة عن صرح كان حاكم البلدة أي شيخها يصطاف فيه وداخل أسوارها الشاهقة لا يوجد إلا غرفتان أو ثلاث صالحة للسكنى والإقامة. أما بقية الغرف فيأوي إليها أعوان الشيخ وخدمه الذين كانوا يدافعون دفاع الأبطال عن رفقائهم إذا مست الحاجة إلى ذلك.
ثم لا يزال يسير وهو لا يلوي على شيء حتى يهبط موطناً ظل نخله ظليل فيه مجار وأقنية للسقي والماء يتدفق فيها كأنه الكوثر أو السلسبيل يجاورها آبار رائقة حولها أشجار أوراقها غضة وأطيارها شجية الغناء تنسيه الوعثاء وتفرج عن قلبه كل هم وعناء وتريحه بعض الراحة من مصاعب الطريق ووعورة مسالك (منامة) حتى أنه لا يتمالك من الطرب والسرور والانشراح والحبور فينشج قائلاً:
وقانا لفحة الرمضاء وادٍ ... سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحة فحنى علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وارشفنا على ظمأٍ زلالاً ... ألذَّ من المدامة للنديم
يصدُّ الشمس أنىَّ واجهتنا ... فيحجبها وياذَنُ للنسيم

ثم أن الطريق يتعرج به ذات اليمين وذات الشمال ودليله جادة مغروسة أشجاراً تصعده تارة إلى أعالي التلال وإلى ركام جوامع تصفر فيها الأدهار وطوراً تهبط به إلى الحضيض ولا يزال كذلك في صعود وهبوط حتى يفضي به المسير إلى بقعة واسعة الأكناف فسيحة الأرجاء يشاهد فيها ردم (البلد القديم) وهي مدينة كانت في العصور السالفة عاصمة البحرين أما الآن فقد أصبحت بلقعاً ينعب فيها البوم والغربان ولا يقطن اخربتها المتبعثرة سوى بعض أجلاف السكان البائسين الذين يفترشون الغبراء ويلتحفون الزرقاء. وأما منارتا جامعها المتهدم فحدث عنهما ولا حرج فإنهما لا تزالان قائمتين تناطحان عنان السماء عزاً وجبروتاً.

إن أنفس مثال يدلك على فخامة هندسة البناء في الجزيرة هو معلم لتحية النوتية وقد بناه العرب في الزمان الغابر قبل أن مخرت عباب الخليج أساطيل ترستان داكنها والبوكرك القائدين الشهيرين والفاتحين العظيمين.
ثم يلج السائح بعد تلك المناظر غابة غبياء فيتعرقل سيره فيمشي الهوينا مضطراً وذلك نحو ميل أو ميلين لكثرة ما هنالك من النخل المشتبك بعضه ببعض ثم ينتهي به الأمر إلى صحراء واسعة فيأخذ العجب منه كل مأخذ إذ يجد في وسط جزيرة صغيرة كالبحرين بادية كإحدى بوادي النوبة الجرداء مقفرة لا يرى فيها مهما توغل في داخلها سوى رمال محرقة وأراضٍ بائرة وعلى بعد منها (جبل الدخان) وعلوه أربعمائة قدم وهو ذو مقام رفيع ومنزلة سامية عند أهل الجزيرة حتى أنهم يفضلونه على كثير من جبال سائر الأقطار. فإذا استمر المسافر سائراً نحو الغرب يلاقي غابة نخل تحجب في بداءة الأمر قرية (علي) عن أنظاره ولكن عندما يدنو كثيراً من تلك القرية ينفتح أمامه مشهد غريب لم ير اغرب منه قط في حياته وذلك المشهد هو:
3 - مدينة الموتى
في البحرين مدفن مهجور واسع الأكناف واقع في وسط فلاة فيها مئات بل ألوف من القبور المتلاصقة البناء تشبه تلالاً واطئة أو جبالاً منخفضة غير متقنة البناء والهندسة.
وهناك لا يرى السائح إنسياً ولا وحشياً حتى ولا نباتاً أو أثراً من آثار الأبنية المندرسة سوى تلك القبور العظيمة الشأن وهي تمتد أميالاً تدل على أن المدفونين فيها كانوا من جبابرة الزمان وأسرارهم غامضة عنا ولا يعرف عنهم إلا النزر القليل الذي لا يحفل به وبعض تلك القبور ترتفع زهاء خمسين قدماً وغيرها ثلاثين وأخرى عشرين وهلم جراً وبعضها لا يختلف عن البعض الآخر إلا اختلافاً طفيفاً جداً في حجمها وتكاد تكون واحدة وهي أعظم مقبرة في العالم على الإطلاق ولا يبعد أن تكون أقدمها عهداً وهي مع عظمتها لم يكتب عنها إلا بعض أفراد قلائل يعدون على الأصابع وهؤلاء الكتاب لم يكتبوا عنها مقالات ضافية الذيل بل عبارات مستطردة لا تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً وقد جاءت في بعض كتب وصف البلدان أو في تقرير أو تقريرين من بعض سجلات الجمعيات العلمية التي همها الوحيد بث الرواد للوقوف على مجاهل البلاد.

إن المرحوم ثيودور بنت مع سعة إطلاعه لم يكتب عنها إلا فصلا واحداً في كتاب له بل اللرد كرزن نفسه المشهود له بدقة البحث وبعد النظر وعلو الهمة والصبر على المتاعب والمشقات لم يدون عنها في كتابه شيئاً يستحق الذكر سوى قوله يوجد عدد وافر من القبور في البحرين.
ويظهر لنا أما إنه لم يتح له الحظ زيارتها والوقوف عليها بذاتها ليميط الحجاب عن بعض غوامض أسرارها أو إنه لم يعرف حقيقة أمرها ورفعة شأنها في عالم الآثار النفيسة.

إن السائح الباحث إذا وطأت أقدامه تلك الربوع يقف حائراً مبهوتاً سائلاً ذاته:
من هم ترى أصحاب هذه المدافن؟
ومن أي شعب أو قبيلة أو لسان كانوا؟
وما هي درجتهم في عالم المدنية والعمران؟
وبأي دين كانوا يدينون؟
وما هي جل معتقداتهم؟
وما هي شعائر ورسوم معبوداتهم؟
وما هي صفة حكومتهم أجمهورية كانت أم ملكية أم استبدادية؟
وما القصد من تشييدهم قبوراً هذا عددها في برية لا أنيس فيها ولا جليس؟
إلى غير ذلك من المسائل العديدة التي يطول الشرح في سردها وتعدادها. وليس في وسع أحد الإجابة عنها جواباً مقنعاً يشفي الأوام لأنه قد سدل على زمن تاريخها وتأسيسها حجاب الغموض والإبهام لبعد عهدها وتوغلها في القدم.

وقد ارتأى بعضهم منذ أعوام أن الخليج الفارسي هو مهد حضارة الجنس البشري وأصحابه هم أول من تغلغل في المدنية وسكانه هم أول من قطع الفيافي ومخر البحار واقتحم الأخطار واختبر فن الملاحة وأهوالها.
فقد أنبأتنا سجلات ورقم المصريين القدماء عن أرض تسمى البنط وبعض النصوص تصرح بأن البنط هي نفس الأراضي المجاورة للاحساء والبحرين ولكن تحتاج هذه المسألة إلى بحث دقيق ونظر عميق لأن الكتابات المصرية القديمة لم تعين تماماً موقع البنط ولا حددت تخومها بل أشارت إليها بعض إشارات طفيفة لم تزل في موضع الشك والارتياب.

ومهما يكن من حقيقة موقع البنط فأن ديار البحرين أو ما جاورها تعد مهد الجنس البشري وربوع خليج العجم هي أقدم محل في المعمور سطعت منها أنوار المدنية والحضارة وقد جاء في بعض أساطير الأولين أن الشعوب القديمة التي سكنت في أقصى أطراف المسكونة هم حديثو العهد بالنسبة إلى سكان الجزيرة.
وقد ذكرتهم أقدم التواريخ وعدتهم بين أقدم أمم الأرض قاطبة فأبناؤهم هم الذين مصروا أرض الكلدانيين وشقوا أسس بابل وحفروا خنادقها وبنوا أسوارها وأبراجها وقد اشتهروا بمواهبهم العقلية السامية وبفطرتهم المتوقدة وقد أثبت رولنسن الشهير بالأدلة القاطعة والحجج الدامغة أن الكلدانيين القدماء أخذوا جميع معارفهم عن أهل تلك الجزيرة واقتبسوا منهم جل علومهم ومعلوماتهم كعلم التنجيم والسحر والعرافة والكهانة ونحوها وشهد أيضاً أن عهد ذريتهم يرتقي إلى نسل آدم المذكور في سفر التكوين من التوراة أي منذ بدء العالم وقال غيره إن من هذه البقعة انتشرت عبادة الآلهة الكاذبة والمعبودات الباطلة كآله البحر العظيم المرسوم على بعض أطلال الكلدانيين المندرسة المسمى هيا أو أواني وكانوا يعتقدون أنه رب الهاوية وسيد البحار وقد دعوا خليج فارس باسمه تيمناً وزعموا أنه مطلق القدرة وفي استطاعته أن يأخذ بيد من يستغيث ويستجير به في ضيقته وبليته وهو الذي علم سكان دجلة والفرات القدماء العلوم والفنون والصنائع والمعارف ولقنهم الآداب ورسم لهم الشرائع والأحكام لكي يعملوا بموجبها إلى غير ذلك.
وقد قيل إن الشعب اليهودي اقتبس جل تقاليده من البابليين الذين أخذوها قبلاً من الأمم الساكنة على ضفاف الخليج الفارسي.


يعتقد اليوم جمهور من المؤرخين أن السلالة الصينية لم تنشأ قط من المملكة الصينية المتوسطة بل نزلت من الشعوب والقبائل التي رحلت من ديار البحرين إلى ما بين النهرين ومنها إلى آسيا الوسطى ومن هناك سارت إلى ضفاف النهر الأصفر وذلك قبل أربعة آلاف سنة أو عشرين قرناً قبل المسيح عندما أخذ مؤرخوهم يدونون الحقائق التاريخية المتينة المكينة بدلاً من الخرافات الواهية الواهنة كما شهد بذلك كونفشيوس ذاته.
من يطالع تواريخهم الخرافية ووقائعهم الخيالية المدونة عن العشرة القرون السابقة لزمان مهاجرتهم ير أن الصينيين الحاليين وجدوا بلادهم مأهولة بالسكان الأصليين وقد قيل إن بعضاً من ذريتهم لم يزل موجوداً حتى يومنا هذا في أقطار الصين البعيدة وبعد سفرهم الشاسع القوا عصا ترحالهم في مشرق البلاد ولا يبعد أنهم شنوا الغارة على سكان تلك الديار وقتلوهم عن بكرة أبيهم واستباحوا أموالهم وأنهم دحروهم إلى ما وراء الجبال تخلصاً من غدرهم وفتكهم الذريع.
فالرأي القائل إن الصينيين أتوا من بين النهرين رأي لا يقبل النزاع أو الجدال لثبوت صحته ووفرة الشواهد عليه وهاك بعضها قال أحد كتبة الإنكليز الكبار (أمس كنت في دار التحف الأبريطانية ورأيت هناك بعض رسوم رؤوس شياطين البابليين وحتى يومنا هذا يمكننا أن نرى في أغلب بلاد الصين صوراً طبق الأصل تشابهها كل المشابهة) ومن يتدبر التواريخ الصينية ير لأول وهلة كيف أن الصينيين الحاليين عندما توغلوا في البلاد كان السكان الأصليون الذين حاربوهم يدعونهم (نسل الشعر الأسود) وسكان بابل كانوا يلقبون أصحاب المعارف والعقول الرفيعة من أهل الخليج الفارسي الذين وطئوا ديارهم وحلوا ربوعهم (الجزائريين ذوي الرؤوس السوداء).
لقد صرح العالم الفرنساوي تريان دلاكودري أن الكتابات المصورة الصينية القديمة تشابه تماماً خطوط ورسوم سكان بين النهرين القديمة وأن آلهتهم وشعائرهم الدينية تماثل آلهة الشوشنيين ورسوم تقاليدهم ومعارفهم وفنونهم الطبيعية القديمة كعلم الهيئة وعلم الفلك والطب وحفر الترع ومجاري المياه الصناعية الخ لا تفرق البتة عن معارف وفنون البابليين وإن شئت فقل هي بعينها.

إذا استقرينا التواريخ وتصفحنا الكتب القديمة العهد النادرة الوجود نرى جلياً أن أهل بابل قد استمدوا جل معارفهم إن لم نقل كلها من سكان الخليج العجمي المندرس الربوع المهجور الشواطئ التي نطأها الآن غير مكترثين بها وقد كانت في عصر من العصور الخوالي مصدر حضارة البشر ومنشأ مدنيتهم فلما أخذ الإنسان يتدرج في معارج العمران هجرها وشرع يطوف في طول البلاد وعرضها ومنذ ذاك الحين أخذ ظل عزها يتقلص رويداً رويدا حتى أصبحت ديارها كما نعاينها الآن بلاقع خالية من آثار التمدن.
أما سبب تقدم أهلها وسموهم على غيرهم في ذلك الزمان فهو على ما أظن موقعهم الطبيعي التجاري الذي دفعهم إلى أن يخوضوا غمار المخاطر ويحلقوا في سماء المجد والعرفان والسؤدد ومن هذا القطر نزح أيضاً شعوب وقبائل عديدة راقية جداً منها الطورانيون المذكورون في كتاب العهد القديم باسم الكنعانيين فأنهم اجتازوا بلاد العرب ودخلوا سوريا وأسسوا فيها مدينتي صور وصيداء.

وقد أخبرنا هيرودوتس المؤرخ اليوناني الشهير أنه زار صوراً وتفقد معالمها وجالس شيوخها وخاطب كهنتها في أمر بنائها فأجابوه أن هيكلهم قد بني قبل زيارته إياها بألفين وثلاثمائة سنة وبعد أن برح الطورانيون أوطانهم اجتازوا بلاد العرب شيئاً فشيئاً كما فعل قبلهم أسلافهم الصينيون عندما رحلوا نحو مشرق الشمس ويظن رولنسن أن ذلك حدث منذ نحو خمسة آلاف سنة.

فلنترك هذه المسائل لمن يريد استقصاءها بذاته ثم نعود فنقول: متى بنيت القبور في البحرين؟
وما هو زمن تأسيسها على التحقيق؟
ومن الراقدون فيها؟
إن هذه الأسئلة تظهر لنا كأحجية أما ثيودور بنت فقد أخبرنا أن المدفونين فيها هم من أصل فنيقي هجروا أوطانهم وقطعوا فيا في بلاد العرب وحلوا بهذه الربوع وبنوا على البر بلدة على خط البحرين في موضع بقرب مدينة القطيف الحديثة ربما كان عند رأس الخليج حيث ترى اليوم جزيرة البحرين وكانت مدينة عظيمة فيها سوق تجارية واسعة اسمها (الجرعاء) التي يظنها البعض نفس مدينة أوفير الشهيرة بكثرة ذهبها والغنية بمعادنها وقد جاء ذكرها في العهد القديم من الكتاب الكريم.
فهل يا ترى اعتقد سكان الجرعاء أن البحرين بقعة مقدسة التربة حتى ينقلوا إليها جنائز موتاهم ويدفنوهم فيها كما يفعل اليوم الإمامية في نقل جنائزهم إلى كربلاء والمشهد (أي النجف) أو لأنها قريبة من البحر وهي مركز التجارة وتلك المدافن هي قبور أولئك السكان أو أقيمت تلك المقبرة الغريبة قبل أن يبرحوا الوطن ويتوغلوا في قلب بلاد العرب أو قبل أن يمصر أهل الجزيرة أرض الكلدانيين وينشئوا فيها مهجراً ويقيموا مستعمرة فهذه المسائل لا يستطيع الإنسان أن يبت فيها رأيه لقدم عهدها وغموض أسرارها.

إن المستر بنت فتح بعض القبور وعثر على بضعة آثار فانتقى منها شيئاً وبعث به إلى المتحفة الابريطانية وبعد أن أمعنت لجنة المعهد نظرها فيها ودققت فحصها قر رأيها على أنها من أصل فنيقي وعليه تدل هذه الآثار على أن القبور قديمة جداً.
فإذا سلمنا بتلك الدلائل واعتبرناها صحيحة تكون القبور قد بنيت على الأقل منذ نحو خمسة آلاف سنة هذا إذا كان رولنسن قد ضبط حسابه في تاريخ الهجرة إلى البحر المتوسط.
إن الخط المسماري قديم جداً عند سكان بابل وكان للفنيقيين ضرب من الكتابة تشبه الحروف ولما اكتشفت صناعة الكتابة وأخذ الناس يستعملونها في التدوين والتسجيل تركت الكتابة المسمارية على أن الباحث مهما نقب في تلك المدافن لا يعثر على شيء من قبيل الحفر أو النقش على صخورها وأحجارها مع أن الفنيقيين عندما القوا عصا ترحالهم في البحر المتوسط أخذوا يقلدون المصريين في وضع موتاهم في نواويس ولسوء الحظ لم يوجد ناووس واحد في تلك المدافن ليتخذ منه دليل على تاريخ سالف لزمان الجلاء وهناك أمر آخر يستحق التدبر والتروي وهو أن أحد الباحثين قال حين اكتشف البقعة وتدبر ما فيها أن جميع القبور التي فتحت بجنب (قرية علي) وهي قبور أعلى من سائر القبور التي وراءها بنحو عشرين قدماً هي على رأيه أحدث من غيرها ومما يؤيد ذلك أن هذه القبور قائمة على طرف المقبرة الفسيحة الأرجاء القديمة العهد ويظهر أنها آخر ما شيد وأقيم هناك.

كتب القائد دوراند ما نصه (إن الآكام العالية هي قريبة من قرية علي وهي أكبر من غيرها) إن ما فاه به هذا الكاتب واضح وضوح الشمس في رابعة النهار فنيرخوس الذي تولى قيادة أسطول اسكندر الكبير في سفرته الشهيرة إلى خليج العجم يصف كيف أنه زار مدينة فنيقية في البر وجزيرة تدعى تيرين ويظهر أنها هي التي تسمى اليوم دارين عند العرب وديرين عن الأرمية وهي فرضة بالبحرين وقد رأى هناك قبر ارثرا الذي كان سلطان الخليج ولا يبعد أن يكون اسم الخليج في السابق أي البحر الارثري مشتقاً منه ونيرخوس يصف المدافن بقوله (رابية مرتفعة كثيرة النخل) فهذا الوصف ينطبق أتم الانطباق على إحدى تلك الروابي العالية بقرب (قرية علي) بخلاف سائر الروابي فأنها لا تنطبق عليها وهي بعيدة عنها أميالاً عديدة بيد أنه لا يوجد الآن نخل وهو ولا شك مات لتقادم عهده.

وهذه الرواية تؤيد أن الآكام الكبيرة بنيت في العهد الأخير والدليل على ذلك أن اسم الشخص المدفون في إحداها ذلك في زمن نيرخوس رفيق اسكندر المكدوني عندما شاهدها. ويظهر إنه لم يبحث أحد في هذا الأثر منذ ذلك الحين حتى قام الضابط دورند الذي رفع بعد ذلك إلى درجة أمير (دوق) وذلك أنه بينما كان يجول في أراضي تلك الجزيرة الموحشة خطر له فجأة أن يفتح أحد تلك المدافن وينقب فيه عله يعثر على شيء يستحق الذكر والعناء ومن الغريب أنه مضى عدة قرون من نيرخوس إلى زيارة ذلك الضابط الإنكليزي ولم يبحث أحد بحثاً وافياً عن تلك الآثار الغريبة القديمة العهد.

لقد أطلقت العنان لقلمي في موضوع أنا فيه قصير الباع مع أن موضوعاً كهذا زاخر العباب يحتاج إلى أن يلم به خبير بارع. هذا ورولنسن لم يكتب شيئاً مذكوراً عن تلك المدافن ومنزلتها في عالم الآثار القديمة.
وكل ما يقوله الأديب عنها هو من باب الرجم وليس عليها كلها شيء من العظمة والأبهة التي ترى في خرائب مصر الهائلة المنقورة في الصخور وأطلال صور وصيداء الخ إلا أن في آثار البحرين مزية لا توجد في غيرها وهي بها تفوقها من عدة وجوه منها أنها تبني في ذهب من يراها ذكراً لا محيى وصوراً تنطبع في مخيلته حتى أنه تنقله إلى الأعصر الخوالي وتضع نصب عينيه حوادث الأيام القديمة جداً ولا أراني أبالغ إذا قلت إنها تذكره بالوقائع التي جرت منذ تأسيس العالم.
وعلى كل حال فصحراء البحرين الموحشة الفسيحة الأطراف المملوءة من القبور تؤثر في النفس أكثر مما تؤثره خرائب كرنك وثيبة فهل الآكام التي نحن بصددها هي أقدم من جميع أطلال مصر وبابل ونينوى وفينيقية المندرسة؟
ذلك مما لا أستطيع أن أبت فيه رأياً الرؤوس السوداء التي وافت بابل من عبر البحر وشيدت معالمها وهذا ما يستدل عليه من آثارهم التي تركوها للأجيال المقبلة إذ هي أقدم ما صنعته يد بشر على وجه البسيطة بأسرها.

إني لا أتعب القارئ الكريم بشرح دقيق أو وصف مسهب عن قياس المدافن ومساحتها أو عن ماهية ونظام باطنها أو عن الذخائر والآثار الموجودة فيها.
فهذه الأمور وغيرها يوفيها حقها من البحث أربابها وأريد بهم الرواد الذين يطوفون البر والبحر للوقوف على مجاهل البلاد وفي يقيني أنهم يتفرغون للفحص والتنقيب عن تلك المقابر العظيمة ولو بعد حين وينشرون عنها أبحاثاً علمية تاريخية وافية بالمراد.
وقد عزمت بعد الاتكال على الله أن أصف المدافن ولو على سبيل الاختصار لكي يلم بها المطالع الأديب في الوقت الحاضر فأقول:
(لها تلو)

رزوق عيسى

مجلة لغة العرب