العدد 5 - بتاريخ: 15 - 03 - 1933
للأستاذ أحمد الشنتناوي
كانت اليابان إلى عهد قريب محجوبة عن أنظار العالم المتمدين بحجب كثيفة لا يكاد المرء يتبين ما يجري وراءها بين أبناء تلك الأمة العظيمة من عادات وتقاليد، وكان الأدب الياباني بنوع خاص من أغمض مظاهر الحضارة اليابانية أمام الباحث، ويرجع ذلك إلى صعوبة اللغة اليابانية وغرابة أحرفها الهجائية وعدم إقبال الأدباء والعلماء على تعلمها، مع أن الآداب اليابانية غنية في مادتها متنوعة في أبوابها، وتعد بحق بين الآداب العالمية الرائعة.
وليس هناك أمة من الأمم تكون آدابها جزءا هاما من تاريخها مثل أمة اليابان، فأفراد الشعب هناك على اختلاف طبقاتهم يستسيغون الشعر ويطربون لموسيقاه، بل هم شعراء بسليقتهم لا فرق في ذلك بين النساء والرجال؛ فالأمة كلها تشترك في مهرجان الشعر الذي يقيمه الإمبراطور كل عام، فيأخذ كل ياباني في إنشاد أطيب ما جادت به قريحته، ويذكرون أن الإمبراطور (ميدي) وهو جد ميكادو إمبراطور اليابان الحالي كان يشجع هذه المهرجانات الشعرية، فيخصص الجوائز الثمينة للفائزين، وقد ألف هو نحو مائة ألف مقطوعة شعرية.
أما شغف الياباني بباقي فروع الأدب فلا يقل عن شغفه بالشعر، لهذا كانت الآداب اليابانية غنية في مادتها رائعة في أسلوبها إنسانية في معانيها، ولكن تلك الآداب العالية لم تتخط حدود اليابان الجغرافية لصعوبة اللغة التي كتبت بها، ثم زاد من صعوبة تلك اللغة دقة المعاني وعمق الأفكار التي حملها إياها اليابانيون، والتي لا تصدر الا من أبناء الشرق الصميمين في مدنيتهم الشرقية، ويكفي أن نقول أن كلمة (امرأة) لها في اللغة اليابانية ما يزيد على أربعة وعشرين لفظا مرادفا، كل لفظ يستعمل في حالة معينة وظروف خاصة حسب مكانة المرأة المخاطبة الاجتماعية أو الشخصية، أو درجة الاتصال بها.
كذلك لفظة (أنت) لها ما يقرب من اثني عشر مرادفا؛ وهذا التعدد في الألفاظ يدلنا على مقدار الدقة التي يتوخاها الياباني في تعبيراته الاجتماعية والأدبية، وليس هذا في نظرنا دليلا على رقي اللغة أو غناها فقط، إنما يدل كذلك على الشعور الدقيق والحساسية الراقية، والآداب العالية هي في لبها وجوهرها إحساس دقيق وشعور متدفق.
وإذا كان فن التصوير الياباني له أثر واضح على الآثار الأوربية فأننا لم نسمع قط أن الآداب الغربية متأثرة بالآداب اليابانية، ولم يمنع هذا أن يكون العكس صحيحا، فالأدب الياباني غاص بالتراجم العديدة لكثير من الآداب الأوربية العالمية، فجميع المؤلفات القيمة من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية نقلت إلى اللغة اليابانية، وهذا دليل واضح على تعلق هذا الشعب الناهض بالآداب على اختلاف منابتها.
والعصر الذهبي للآداب اليابانية الكلاسيكية هو عصر (هايين) من 784م - 1186م إذ انتعشت فيه الآداب اليابانية وظهرت فيه عدة قصص غرامية وتاريخية، كما أنه لم يخلو من النشرات الأدبية الانتقادية، ولعل أهم ما يلفت النظر في ذلك العصر هو ظهور أديبتين يابانيتين شهيرتين وهما (موراساكي) و (سي) وموراساكي اسم ياباني معناه زهرة البنفسج وصاحبته أديبة في أسلوبها فخامة وحلاوة وفلسفة لينة بينما (سي) ومعناها النور تمتاز بشعورها الفياض وأسلوبها السهل الممتنع وأشهر قصة لموراساكي؛ هي قصتها المسماة غنسي وهي وصف محكم وصورة طبق الأصل وملاحظات دقيقة مدهشة عن الحياة في البلاط الياباني في القرن الحادي عشر.
وإذا كان فن التصوير الياباني له أثر واضح على الآثار الأوربية فأننا لم نسمع قط أن الآداب الغربية متأثرة بالآداب اليابانية، ولم يمنع هذا أن يكون العكس صحيحا، فالأدب الياباني غاص بالتراجم العديدة لكثير من الآداب الأوربية العالمية، فجميع المؤلفات القيمة من إنجليزية وفرنسية وألمانية وروسية نقلت إلى اللغة اليابانية، وهذا دليل واضح على تعلق هذا الشعب الناهض بالآداب على اختلاف منابتها.
والعصر الذهبي للآداب اليابانية الكلاسيكية هو عصر (هايين) من 784م - 1186م إذ انتعشت فيه الآداب اليابانية وظهرت فيه عدة قصص غرامية وتاريخية، كما أنه لم يخلو من النشرات الأدبية الانتقادية، ولعل أهم ما يلفت النظر في ذلك العصر هو ظهور أديبتين يابانيتين شهيرتين وهما (موراساكي) و (سي) وموراساكي اسم ياباني معناه زهرة البنفسج وصاحبته أديبة في أسلوبها فخامة وحلاوة وفلسفة لينة بينما (سي) ومعناها النور تمتاز بشعورها الفياض وأسلوبها السهل الممتنع وأشهر قصة لموراساكي؛ هي قصتها المسماة غنسي وهي وصف محكم وصورة طبق الأصل وملاحظات دقيقة مدهشة عن الحياة في البلاط الياباني في القرن الحادي عشر.
وهي كثيرة الشبه بالحياة في بلاط لويس الرابع عشر، وقد اتخذت لها بطلا سمته (غنسي) وهو عبارة عن دون جوان آخر، أي مخلوق حر بكل معنى الكلمة، يأتي ما يشاء من الأفعال دون النظر إلى ما كان يأتيه يتماشى مع الاعتبارات الدينية أو الإنسانية أو الاجتماعية أو لا يتماشى، إنما كل همه إرضاء شهواته وملاذه، فكانت له عدة مخاطرات غرامية. وهذه القصة تعطيك صورة واضحة للحياة اليابانية الاجتماعية في عهد (موراساكي)، ولا تسل عن العذوبة والروعة التي كتبت بها الحوادث الغرامية التي خاض غمارها (غنسي) وكل ذلك في أدب وحشمة وتورع.
أما الأديبة الأخرى (سي) فكانت معاصرة لموراساكي وتعيش معها في البلاط الياباني، ولقد عرفت بالكبرياء والصلابة في رأيها، وكتاباتها ملآى بالنقد والتجريح، كذلك كانت لها قدرة على وصف الطبيعة وما بها من حيوان وطير وصفا بليغا دقيقا.
ولنذكر هنا قطعة لها قصيرة في وصف فصول السنة الأربعة قالت:
(أن الذي يسحرني في الربيع هو الفجر يتهادى في مشيته على قمم الجبال، بينما كل شيء يضيء رويدا رويدا، وقطع السحاب اللازوردية تسبح في الفضاء جماعات جماعات. . . . . . . .)
(أما في الصيف فالذي يسحرني فيه هو الليل. . . يعجبني منه القمر المنير. .! وتسحرني الليلة الليلاء، حيث يطير في جوها الحالك الحباحب المشعة هنا وهناك. . وإذا تساقط المطر في تلك الليلة فأنه يزيد في جمالها وسحرها. . .
والذي يسحرني في الخريف هو المساء عندما ترقد الشمس في مغربها مرسلة سهامها اللينة نحو قمم الجبال العالية، فتسرع الغربان نحو أعشاشها تطير جماعات مثنى وثلاث ورباع! حقا أنه منظر فيه حزن وجمال. . . . وما اجمل المنظر وأبهاه إذا لاح في الأفق البعيد سرب من الطيور البرية الصغيرة!. . بعد ذلك تختفي الشمس وتزأر الرياح وتخرج الهوام والحشرات من مخابئها صائحة مهللة.
أما الأديبة الأخرى (سي) فكانت معاصرة لموراساكي وتعيش معها في البلاط الياباني، ولقد عرفت بالكبرياء والصلابة في رأيها، وكتاباتها ملآى بالنقد والتجريح، كذلك كانت لها قدرة على وصف الطبيعة وما بها من حيوان وطير وصفا بليغا دقيقا.
ولنذكر هنا قطعة لها قصيرة في وصف فصول السنة الأربعة قالت:
(أن الذي يسحرني في الربيع هو الفجر يتهادى في مشيته على قمم الجبال، بينما كل شيء يضيء رويدا رويدا، وقطع السحاب اللازوردية تسبح في الفضاء جماعات جماعات. . . . . . . .)
(أما في الصيف فالذي يسحرني فيه هو الليل. . . يعجبني منه القمر المنير. .! وتسحرني الليلة الليلاء، حيث يطير في جوها الحالك الحباحب المشعة هنا وهناك. . وإذا تساقط المطر في تلك الليلة فأنه يزيد في جمالها وسحرها. . .
والذي يسحرني في الخريف هو المساء عندما ترقد الشمس في مغربها مرسلة سهامها اللينة نحو قمم الجبال العالية، فتسرع الغربان نحو أعشاشها تطير جماعات مثنى وثلاث ورباع! حقا أنه منظر فيه حزن وجمال. . . . وما اجمل المنظر وأبهاه إذا لاح في الأفق البعيد سرب من الطيور البرية الصغيرة!. . بعد ذلك تختفي الشمس وتزأر الرياح وتخرج الهوام والحشرات من مخابئها صائحة مهللة.
كل ذلك مما يهيج في النفس ألما لذيذا. . . والذي يسحرني في الشتاء هو سقوط الثلج إذا ما تنفس الصباح، فتكتسي منه الأرض حلة بيضاء ناصعة، وعندما يقر البرد توقد النيران للتدفئة، حتى إذا ما انتصف النهار وخفت وطأة البرد ترى جمرات النار وقد تحولت إلى رماد ابيض، وذلك هو الحزن بعينه. . .!)
وفي القرون الأربعة التي أعقبت عصر (هايين) نجد القصة والشعر الياباني لا ينتقلان من مكانهما بعيدا، الا أننا نجدهما يتأثران كثيرا بالفلسفة البوذية، فينتعش الأدب التاريخي ويولد الأدب المسرحي في اليابان، وأبطاله (كابوكي) و (نو) وفي عام 1642م يظهر في سماء الأدب الياباني (سيكاكو) وهو أستاذ الأدب الواقعي في اليابان، وقد خلف هذا الأديب مؤلفات وافرة وتلاميذ كثيرين وكانت الآداب اليابانية قبل عهده تعد في جملتها آدابا أرستقراطية كتبت لخواص الناس وأهل الثقافة منهم، فأتى سيكاكو وجعل من الأدب الياباني أداة للإفصاح عن مشاعر الإنسانية وعواطفها وهمومها وأحزانها أي تلك النواحي العامة التي قد يشعر بها رجل الطريق قبل أن يشعر بها رب الجاه والسلطان. وهو في وصفه وتحليله لتلك العواطف الإنسانية راعى الدقة التي يلاحظها النباتي في وصفه لزرعه؛ أو عالم الحيوان في دراسته لحشرة من الحشرات. وتظهر هذه المقدرة بأجلى بيان في قصته المسماة (حياة امرأة) وصف فيها سيكاكو كيف تكون حياة المرأة الخليعة المستهترة التي لا يهمها من عيشتها إلا إشباع شهواتها وقضاء ملاذها، ولكن حياة الدعارة والمجون نهايتها دائما محزنة مبكية فنرى في نهاية القصة تلك المرأة التي كانت بالأمس زينة المجالس وبهجة الناظرين تهجر العالم بعد أن عضها البؤس بنابه، وتنزوي بين منعطفات الجبال في كوخ حقير من القش والخرق البالية. . .!
ولعل (تيكاماتسو) أشهر كاتب درامي في اليابان، فهو يعد بحق شكسبير الأدب الياباني. ولكنه اقتصر في مؤلفاته على الإشادة بذكر العواطف الإنسانية العالية وتحليلها كالحب والشرف والإخلاص والعفاف، ويعده البعض بين زمرة الشعراء لأن رواياته كتبها كلها نظما، ولكننا لا ننسى أن معظم كتاب اليابان الأقدمين كتبوا آثارهم شعرا لأنهم عشقوا الشعر وطربوا لأنغامه الموسيقية فألهاهم ذلك عن كل شيء آخر.
وفي القرون الأربعة التي أعقبت عصر (هايين) نجد القصة والشعر الياباني لا ينتقلان من مكانهما بعيدا، الا أننا نجدهما يتأثران كثيرا بالفلسفة البوذية، فينتعش الأدب التاريخي ويولد الأدب المسرحي في اليابان، وأبطاله (كابوكي) و (نو) وفي عام 1642م يظهر في سماء الأدب الياباني (سيكاكو) وهو أستاذ الأدب الواقعي في اليابان، وقد خلف هذا الأديب مؤلفات وافرة وتلاميذ كثيرين وكانت الآداب اليابانية قبل عهده تعد في جملتها آدابا أرستقراطية كتبت لخواص الناس وأهل الثقافة منهم، فأتى سيكاكو وجعل من الأدب الياباني أداة للإفصاح عن مشاعر الإنسانية وعواطفها وهمومها وأحزانها أي تلك النواحي العامة التي قد يشعر بها رجل الطريق قبل أن يشعر بها رب الجاه والسلطان. وهو في وصفه وتحليله لتلك العواطف الإنسانية راعى الدقة التي يلاحظها النباتي في وصفه لزرعه؛ أو عالم الحيوان في دراسته لحشرة من الحشرات. وتظهر هذه المقدرة بأجلى بيان في قصته المسماة (حياة امرأة) وصف فيها سيكاكو كيف تكون حياة المرأة الخليعة المستهترة التي لا يهمها من عيشتها إلا إشباع شهواتها وقضاء ملاذها، ولكن حياة الدعارة والمجون نهايتها دائما محزنة مبكية فنرى في نهاية القصة تلك المرأة التي كانت بالأمس زينة المجالس وبهجة الناظرين تهجر العالم بعد أن عضها البؤس بنابه، وتنزوي بين منعطفات الجبال في كوخ حقير من القش والخرق البالية. . .!
ولعل (تيكاماتسو) أشهر كاتب درامي في اليابان، فهو يعد بحق شكسبير الأدب الياباني. ولكنه اقتصر في مؤلفاته على الإشادة بذكر العواطف الإنسانية العالية وتحليلها كالحب والشرف والإخلاص والعفاف، ويعده البعض بين زمرة الشعراء لأن رواياته كتبها كلها نظما، ولكننا لا ننسى أن معظم كتاب اليابان الأقدمين كتبوا آثارهم شعرا لأنهم عشقوا الشعر وطربوا لأنغامه الموسيقية فألهاهم ذلك عن كل شيء آخر.
(وتيكاماتسو) هذا خالق الدراما اليابانية التي تصف الحياة اليومية وتتغلغل في أعماقها وتكشف عما بها من محاسن ومعايب، وتعبر عما تختلج به قلوب الآلاف من المظلومين والمساكين.
ظل الحال على هذا المنوال حتى الثورة اليابانية التي شب لظاها عام 1867م والتي يرجع سببها إلى الروح الغربية التي بدأت تتسرب إلى بلاد اليابان الهادئة المطمئنة حوالي ذلك الوقت، فتأثرت الآداب اليابانية كما تأثر الفن الياباني، كذلك لم يسلم من هذا التيار الجديد الحياة الاجتماعية نفسها، فتغير سلوك الفرد ونظام الأسرة، حتى المساكن وأنواع الأطعمة دخل عليها شيء كثير من التعديل والتغيير، وغذي المجتمع الياباني شيء آخر جديد مغاير لليابان إبان عهد هايين أوسيكاكو، وبدأ الشعب الياباني يقف على مسرح الحياة بنفسه بعد أن كان إلى هذا العهد مشاهداً متفرجا لما يقع بين ظهرانيه، إذ بعد أن هدأ تيار الثورة وخمدت الحروب الأهلية حوالي سنة 1880م ظهر في الأفق شعاع جديد لامع يبشر بمستقبل أدبي جديد لم تلبث أن أشرقت في أثره شمس الآداب اليابانية الحديثة وهي موضوع الكلام في مقالنا الثاني إن شاء الله.
انتهينا في مقالنا الأول من الكلام عن الأدب الياباني حتى نهاية العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أي بعد أن هدأت الثورة اليابانية الأهلية وابتدأت بوادر التجديد تظهر في جميع نواحي الحياة اليابانية كما هي العادة دائما عقب الثورات الاجتماعية الخطيرة التي تظهر في الأمم. وكان حظ الأدب الياباني من هذا التجديد عظيما إذ لم يلبث أن ظهر في الميدان الأدبي (كويو) وهو مؤسس المدرسة الأدبية الحديثة في اليابان المسماة (أصدقاء المحبرة) وكان هو وتلاميذه وأتباعه يدينون بالمذهب الواقعي، ولا يكتبون الا القصص المفعمة بالمشاعر الرقيقة، والتي تتزاحم فيها العواطف والنزعات المختلفة، متخذين كتاب الحياة مصدرا ومعينا لما يكتبون ويصفون.
ظل الحال على هذا المنوال حتى الثورة اليابانية التي شب لظاها عام 1867م والتي يرجع سببها إلى الروح الغربية التي بدأت تتسرب إلى بلاد اليابان الهادئة المطمئنة حوالي ذلك الوقت، فتأثرت الآداب اليابانية كما تأثر الفن الياباني، كذلك لم يسلم من هذا التيار الجديد الحياة الاجتماعية نفسها، فتغير سلوك الفرد ونظام الأسرة، حتى المساكن وأنواع الأطعمة دخل عليها شيء كثير من التعديل والتغيير، وغذي المجتمع الياباني شيء آخر جديد مغاير لليابان إبان عهد هايين أوسيكاكو، وبدأ الشعب الياباني يقف على مسرح الحياة بنفسه بعد أن كان إلى هذا العهد مشاهداً متفرجا لما يقع بين ظهرانيه، إذ بعد أن هدأ تيار الثورة وخمدت الحروب الأهلية حوالي سنة 1880م ظهر في الأفق شعاع جديد لامع يبشر بمستقبل أدبي جديد لم تلبث أن أشرقت في أثره شمس الآداب اليابانية الحديثة وهي موضوع الكلام في مقالنا الثاني إن شاء الله.
العدد 6 - بتاريخ: 01 - 04 - 1933
- 2 -
انتهينا في مقالنا الأول من الكلام عن الأدب الياباني حتى نهاية العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أي بعد أن هدأت الثورة اليابانية الأهلية وابتدأت بوادر التجديد تظهر في جميع نواحي الحياة اليابانية كما هي العادة دائما عقب الثورات الاجتماعية الخطيرة التي تظهر في الأمم. وكان حظ الأدب الياباني من هذا التجديد عظيما إذ لم يلبث أن ظهر في الميدان الأدبي (كويو) وهو مؤسس المدرسة الأدبية الحديثة في اليابان المسماة (أصدقاء المحبرة) وكان هو وتلاميذه وأتباعه يدينون بالمذهب الواقعي، ولا يكتبون الا القصص المفعمة بالمشاعر الرقيقة، والتي تتزاحم فيها العواطف والنزعات المختلفة، متخذين كتاب الحياة مصدرا ومعينا لما يكتبون ويصفون.
وبالرغم من تباين أتباع (كويو) في الأعمار والمراكز الاجتماعية والأزمنة التي عاشوا فيها كانوا يضربون جميعا في مؤلفاتهم على هذا الوتر الحساس الذي طرب له (كويو) فاتخذه شعاراً لمدرسته الأدبية الحديثة، ونعني به المذهب الواقعي.
ولم يعمر (كويو) طويلا بل توفي في عنفوان شبابه بعد أن طبقت شهرته جميع أنحاء اليابان. وتعد قصته الموسومة (بشيطان الذهب) أبلغ أعماله الأدبية على الإطلاق.
ولقد اشترك مع (كويو) في تأسيس تلك المدرسة الأدبية الحديثة أديب آخر يدعى (روهان) ولو أن هذا لم يكن يميل إلى المذهب الواقعي، بل كانت الروح الغالبة على مؤلفاته هي الروح الخيالية الدينية الفلسفية. كذلك اكتسب هذا الأديب شهرة فائقة بقصة ألفها تدعى (بوذا المدلل) وهو لم يكتب شيئا آخر غير تلك القصة، ولو أن العمر امتد به إلى ما بعد تاريخ هذا الكتاب بكثير.
وبعد الحرب الصينية اليابانية أخذت الآداب الغربية تطغي على اليابان رويدا رويدا، وكان أعظمها أثرا مؤلفات تولستوي وإبسن إذ ترجمت إلى اليابانية آثارهم وآثار غيرهم من زعماء الأدب الأوربي أمثال موبسان وهوجو وزولا وغيرهم حوالي عام 1896م حتى وقف العقل الياباني حائرا أمام هذا السيل الجارف من الآداب الأوربية؛ وحاول (كويو) وأتباعه أن يدخلوا روحا جديدة تحليلية على الأدب الياباني، وفعلا أصدروا عدة مؤلفات تعبر أصدق تعبير عن نفسية الشعب الياباني الحديث، كما تعصب فريق آخر لأدب زولا وحاولوا تقليده.
وبعد انتهاء الحرب الروسية اليابانية التي شب أوارها عام 1905م نجد الآداب اليابانية تزيد صبغتها الغربية وتقوى، فأننا نجد مثلا (هجوتسو) أحد أساتذة جامعة (واسدا) في طوكيو يعود بعد سياحته الطويلة في ربوع أوربا ويؤسس مدرسة أدبية جديدة هي تحوير للمدرسة الأدبية الفرنسية المعروفة بالمدرسة الطبيعية، حسبما تقتضيه البيئة اليابانية وأذواق الشعب الياباني.
وبعد الحرب الصينية اليابانية أخذت الآداب الغربية تطغي على اليابان رويدا رويدا، وكان أعظمها أثرا مؤلفات تولستوي وإبسن إذ ترجمت إلى اليابانية آثارهم وآثار غيرهم من زعماء الأدب الأوربي أمثال موبسان وهوجو وزولا وغيرهم حوالي عام 1896م حتى وقف العقل الياباني حائرا أمام هذا السيل الجارف من الآداب الأوربية؛ وحاول (كويو) وأتباعه أن يدخلوا روحا جديدة تحليلية على الأدب الياباني، وفعلا أصدروا عدة مؤلفات تعبر أصدق تعبير عن نفسية الشعب الياباني الحديث، كما تعصب فريق آخر لأدب زولا وحاولوا تقليده.
وبعد انتهاء الحرب الروسية اليابانية التي شب أوارها عام 1905م نجد الآداب اليابانية تزيد صبغتها الغربية وتقوى، فأننا نجد مثلا (هجوتسو) أحد أساتذة جامعة (واسدا) في طوكيو يعود بعد سياحته الطويلة في ربوع أوربا ويؤسس مدرسة أدبية جديدة هي تحوير للمدرسة الأدبية الفرنسية المعروفة بالمدرسة الطبيعية، حسبما تقتضيه البيئة اليابانية وأذواق الشعب الياباني.
وأهم المبرزين في تلك المدرسة هما (توسون) و (كافو).
تبدأ الحرب العالمية بعد ذلك ويخفت صوت الآداب الأوربية نوعا ما، فتجد الآداب اليابانية المجال أمامها متسعاً لكي تقف بنفسها في الميدان، وتسمع صوتها للملأ، فتقوم في اليابان حملة عنيفة على الأدب المكشوف، وهو شعار المدرسة الطبيعية، ويطلب أصحاب تلك الحملة بإلحاح أن تكون الآداب وسيلة لطب المثل العليا، وأنها يجب أن تسير في جو محتشم طاهر، وأصبح هؤلاء فيما بعد زعماء المدرسة (الإنسانية) وهؤلاء لم ينجحوا إلا في القضاء على أصحاب الأدب المكشوف، ولكنهم في الوقت نفسه ظلوا في إسار الآداب الغربية.
ولعل أشهر هؤلاء الجماعة وأرسخهم أدبا هو (أريزيما) وأشهر أعماله الأدبية قصته المسماة (تلك المرأة) وهي تاريخ حياة امرأة حديثة (مودرن) تمثل في جملتها العقلية اليابانية في ذلك العهد الذي تشبع بالروح الغربية، ويمكننا أن نعتبر هذه القصة مثالا لحالة الأدب الياباني في ذلك العصر الذي أغارت فيه الحضارة الغربية على بلاد الشمس المشرقة.
والمتصفح لتاريخ الأدب الياباني منذ أقدم عصوره إلى الآن يمكنه أن يلاحظ بكل وضوح مقدار اختلاف العقلية اليابانية عن العقلية الغربية.
تبدأ الحرب العالمية بعد ذلك ويخفت صوت الآداب الأوربية نوعا ما، فتجد الآداب اليابانية المجال أمامها متسعاً لكي تقف بنفسها في الميدان، وتسمع صوتها للملأ، فتقوم في اليابان حملة عنيفة على الأدب المكشوف، وهو شعار المدرسة الطبيعية، ويطلب أصحاب تلك الحملة بإلحاح أن تكون الآداب وسيلة لطب المثل العليا، وأنها يجب أن تسير في جو محتشم طاهر، وأصبح هؤلاء فيما بعد زعماء المدرسة (الإنسانية) وهؤلاء لم ينجحوا إلا في القضاء على أصحاب الأدب المكشوف، ولكنهم في الوقت نفسه ظلوا في إسار الآداب الغربية.
ولعل أشهر هؤلاء الجماعة وأرسخهم أدبا هو (أريزيما) وأشهر أعماله الأدبية قصته المسماة (تلك المرأة) وهي تاريخ حياة امرأة حديثة (مودرن) تمثل في جملتها العقلية اليابانية في ذلك العهد الذي تشبع بالروح الغربية، ويمكننا أن نعتبر هذه القصة مثالا لحالة الأدب الياباني في ذلك العصر الذي أغارت فيه الحضارة الغربية على بلاد الشمس المشرقة.
والمتصفح لتاريخ الأدب الياباني منذ أقدم عصوره إلى الآن يمكنه أن يلاحظ بكل وضوح مقدار اختلاف العقلية اليابانية عن العقلية الغربية.
فالذي تنفرد به العقلية اليابانية هو سرعة استعدادها لاعتناق كل ما هو جديد. بل التهامه التهاما دون التأمل والنظر فيما إذا كان الطعام الذي ستتناوله في مقدرتها هضمه أم لا.
وليس معنى هذا أنها عقلية عديمة القدرة على التمييز والاختيار ولكن هذا التمييز وهذا الاختيار يأتيان بعد فترة من الزمن بعد أن تملك النفس زمامها وتألف رؤية الشيء الجديد ويذهب عنها بريقه ولمعانه.
وليس معنى هذا أنها عقلية عديمة القدرة على التمييز والاختيار ولكن هذا التمييز وهذا الاختيار يأتيان بعد فترة من الزمن بعد أن تملك النفس زمامها وتألف رؤية الشيء الجديد ويذهب عنها بريقه ولمعانه.
ويمكننا أن نذكر لك أن اليابان كانت تعشق أدب تولستوي عام 1894م فتحولت عنه إلى سودرمان وهوبتمان عام 1896م، ثم تحولت عنهما عام 1897م إلى موبسان وزولا وهوجو ثم منهم إلى ترجنيف عام 1898م ثم إلى نيتشه عام 1901م ثم إلى مكسيم جوركي ومترلنك عام 1902م وأخيرا انتهى بها التنقل والمطاف إلى تشيكوف وواجنر عام 1903.
وإذا عرفنا هذا لا نعجب إذا رأينا اليابان تحتفل احتفالا عظيم الشأن بالعيد المئوي للشاعر شيلر، أو إذا رأيناها تخصص الصفحات الأولى من جرائدها ومجلاتها المحترمة للكتابة عن إبسن ومؤلفاته ومكانته الأدبية الممتازة عقب وفاته.
لهذا يمكننا أن نعتبر الآداب الغربية نوعا من أنواع (المودة) التي تروح وتغدو كل عام بين أوربا واليابان.
ولم يعقب هذا اللقاح المتعدد الأنواع والأجناس إلا نوعا من الآداب أشبه شيء بالثوب الذي تزدحم فيه الألوان دون تناسق أو تآلف أو ترتيب، ولكن يصح الآن أن نقول أن الآداب اليابانية قد تخلصت من جميع تلك العناصر الغربية بل يمكن أن نميز فيها بوضوح اتجاهين يابانيين جديدين.
فإنه بعد المدرسة الإنسانية التي أنشأها (سيرا كابا) عقب المدرسة الطبيعية ظهرت مدرسة أخرى جديدة تدين بالمذهب الواقعي جعلت همها مخاطبة الجماهير والتحدث إليهم عن معايب الطبقة الرأسمالية الغنية؛ وكان زعيم هذه المدرسة الجديدة (كيكوتي) الذي أسس عام 1911م في اليابان جمعية أدبية أطلق عليها اسم (جمعية القصصيين) ولا يزال أثر هذه المدرسة نافذ المفعول حتى اليوم، لأن آثار (كيكوتي) وأتباعه الأدبية قد لاقت هوى في نفوس العدد الأكبر من اليابانيين لأن رجال المال هم القابضون على زمام الأمور في تلك البلاد.
أما الاتجاه الآخر فهو أن جماعة من كتاب اليابانيين الحديثين أخذوا على عاتقهم أن يصفوا في كتاباتهم حياة الطبقة الدنيا من اليابانيين أي طبقة العمال ومن إليهم، وقد تعمقوا في هذا الوصف حتى أنك تكاد تلمس بيديك في كتاباتهم هيكل البؤس والتعس المخيم على هذه الطبقة الفقيرة.
وخلاصة الموقف الأدبي الآن في اليابان هو أن هناك في الميدان أربع فرق من الأدباء تتنازع الجمهور الياباني فالفريق الأول هم أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يعشقون الآداب لذاتها، وهؤلاء يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع، ويقفون وجها لوجه أمام الفريق الثاني أي الأدباء الذين يعبرون عما تكنه صدور الطبقة الدنيا من آلام وآمال وهموم وأحزان؛ ثم الفريق الثالث وهم أدباء المدرسة الحديثة الذين يحبون التجديد في كل شيء حتى في العواطف الإنسانية ويطلقون عليهم تهكما اسم (المدرسة الاستقراضية) وآثارها مع ذلك لا تخلو من الطرافة في نواحي عدة منها.
ولم يعقب هذا اللقاح المتعدد الأنواع والأجناس إلا نوعا من الآداب أشبه شيء بالثوب الذي تزدحم فيه الألوان دون تناسق أو تآلف أو ترتيب، ولكن يصح الآن أن نقول أن الآداب اليابانية قد تخلصت من جميع تلك العناصر الغربية بل يمكن أن نميز فيها بوضوح اتجاهين يابانيين جديدين.
فإنه بعد المدرسة الإنسانية التي أنشأها (سيرا كابا) عقب المدرسة الطبيعية ظهرت مدرسة أخرى جديدة تدين بالمذهب الواقعي جعلت همها مخاطبة الجماهير والتحدث إليهم عن معايب الطبقة الرأسمالية الغنية؛ وكان زعيم هذه المدرسة الجديدة (كيكوتي) الذي أسس عام 1911م في اليابان جمعية أدبية أطلق عليها اسم (جمعية القصصيين) ولا يزال أثر هذه المدرسة نافذ المفعول حتى اليوم، لأن آثار (كيكوتي) وأتباعه الأدبية قد لاقت هوى في نفوس العدد الأكبر من اليابانيين لأن رجال المال هم القابضون على زمام الأمور في تلك البلاد.
أما الاتجاه الآخر فهو أن جماعة من كتاب اليابانيين الحديثين أخذوا على عاتقهم أن يصفوا في كتاباتهم حياة الطبقة الدنيا من اليابانيين أي طبقة العمال ومن إليهم، وقد تعمقوا في هذا الوصف حتى أنك تكاد تلمس بيديك في كتاباتهم هيكل البؤس والتعس المخيم على هذه الطبقة الفقيرة.
وخلاصة الموقف الأدبي الآن في اليابان هو أن هناك في الميدان أربع فرق من الأدباء تتنازع الجمهور الياباني فالفريق الأول هم أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يعشقون الآداب لذاتها، وهؤلاء يمثلون الطبقة الأرستقراطية من المجتمع، ويقفون وجها لوجه أمام الفريق الثاني أي الأدباء الذين يعبرون عما تكنه صدور الطبقة الدنيا من آلام وآمال وهموم وأحزان؛ ثم الفريق الثالث وهم أدباء المدرسة الحديثة الذين يحبون التجديد في كل شيء حتى في العواطف الإنسانية ويطلقون عليهم تهكما اسم (المدرسة الاستقراضية) وآثارها مع ذلك لا تخلو من الطرافة في نواحي عدة منها.
أما الفريق الرابع فهم أدباء المدرسة الشعبية وينضم تحت لوائها العدد الأكبر من أدباء اليابان وهم يخاطبون الشعب الياباني كأنه كتلة واحدة لا تباين فيها ولا اختلاف.
مجلة الرسالة
مجلة الرسالة