بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 15 مايو 2018

جزر الهند الشرقية (الجزر المنتشرة بين آسيا واستراليا - إندونيسيا -)



مجلة الرسالة
العدد 636
بتاريخ: 10-9-1945م


للأستاذ سوكارنو الصغير

نحاول في هذه الأسطر أن نصور الحياة الحديثة في جزر الهند الشرقية ليطلع القارئ على حياة أمة شرقية يبلغ عددها سبعين مليونا، تجمع شملهم وحدة الآمال والمقاصد نحو حياة حرة!. . .

يطلق التاريخ الحديث على مجموع الجزر المنتشرة بين آسيا واستراليا - إندونيسيا - وهي كلمتان ركبتا تركيباً مزجياً. الكلمة الأولى وهي بمعنى الهند، والكلمة الثانية بمعنى الجزائر. وفي الاصطلاح السياسي، تطلق على المستعمرات الهولندية سابقاً. وأشهر الجزائر الأنودنيسية: جاوا وسومطرة، وبوزنيو، وسليبيس، وبالي، وسمباوا، وغينيا الجديدة، وجزائر الملوك. وهناك جزر تعد بعشرات المئات، ويبلغ سكان إندونيسيا سبعين مليونا.

سكن الشعب الإندونيسي هذه الجزر قبل ميلاد المسيح بخمسة آلاف سنة. شيدوا فيها حكومات ذات حضارة ومدنية؛ وكانت البوذية التي جاءته من جنوب الهند. ويرجح المؤرخون أن سكان إندونيسيا أتوا من الهند. إذ أن الجزر الجزر الإندونيسية الدانية من البر الأسيوي كانت متصلة به. وبقوة الأمواج المتلاطمة على السواحل الأسيوية انفصلت قطع منها وتكونت عدة جزر. واللغة الجامعة للتفاهم هي اللغة السنسكريتية. وتوجد للآن في جزيرة جاوا آثار قديمة من العهد الهندوكي، أشهرها (بوروبودور) وهياكل المعابد البوذية، وتماثيل بوذا. وقد نقبت البعثات الغربية في جزيرة جاوا فوجدت فيها آثار أقدم إنسان نشرتها الصحف بوقتها. ومن أعظم الحكومات التي أسسها الشعب الإندونيسي، إمبراطورية مجافائيد وإمبراطورية سريويجابا وتعدان بالنسبة للظرف الحاضر من كبريات الدول ذوات الاستعمار! ولما بدأ الانحلال الشرقي وأفل نجمه الساطع بعد قرون زاهرة بالعلوم والآداب والحضارة والمدنية أصيبت إندونيسيا بالانحلال والضعف أيضاً. وبدأ دور الغرب في إحياء العلوم وإنشاء حضارة مؤسسة على المادة! فرحل إليها الأوربيون للتجارة عن طريق رأس الرجاء.

وينقسم التاريخ الأوربي في إندونيسيا إلى قسمين: 1 - العصر البرتغالي والأسباني من 1500 - 1600م.

2 - العصر الهولندي - من عهد الشركة الشرقية الهندي 1600 - 1800 ثم عصر الاستعمار من 1800 - 1941 م.

ثم توحدت الشركات الهولندية في شركة واحدة بأمر من السلطات العليا في هولندا لأسباب أهمها: -

1 - إفساح المجال للشركة في إنماء تجارتها والقضاء على التنافس الفردي.

2 - التضييق على الشركات البرتغالية والإنكليزية.

3 - مقدمة لاستعمار إندونيسيا.

4 - القضاء على الشركات الوطنية.

تكونت الشركة كما ذكرنا باسم (شركة الهند الشرقية) وهي الدعامة الأولى في هيكل الاستعمار الهولندي، والعامل الأساسي في اتساع نفوذه في الشرق الأقصى!. . .

وفي القرن التاسع عشر فرضت السلطة الهولندية نفوذها السياسي باستعمار البلاد سياسياً، وأصبحت مستعمرة هولندية. وسارت إندونيسيا في طريق محدودة رسمتها السياسة الهولندية وسنت نظما وقوانين تحد من سلطة الشعب، وتضيق ميدان حياته فأمسى الشعب عاجزا عن الدفاع عن سلامة وطنه، وبرغم التضييق الشديد حدثت عدة ثورات لتحرير البلاد من النفوذ الهولندي؛ ففي عام 1821 قام الزعيم المسلم أمام بونجول في جزيرة سومطرة بثورة رهيبة لإزالة الحكم الأجنبي عن إندونيسيا. وذهب ضحيتها عشرات الألوف من الإندونيسيين، كما خسرت السلطة الحاكمة ما يضاهي خسارة الوطنيين. ودامت الثورة حتى عام 1837 لوقوع مشعل نار الثورة في يد الحكومة، ثم نفته إلى جزيرة تيمور وتوفى بها. أما نتائج الثورة فهي أشعار الهيئة الحاكمة أن الشعب الإندونيسي المغلول الأبدي، يستطيع أن يتحرك ليجاهد دفاعاً عن كرامته وشرفه ووطنه.

وفي عام 1825 اشتعلت نار ثورة أخرى بقيادة زعيم آخر، هو الأمير ديفاينغورو، وكان الشعب الإندونيسي يعتقد إنه منقذ إندونيسيا من السيطرة الأجنبية، وقد عصفت هذه الثورة بهيكل النفوذ الهولندي وكادت تقلعه من جذوره لولا سرعة تموين الحكومة الهولندية لجيوشها المنتشرة بالذخائر، واستولى الإدارة الوطنية للثوار. وفي نهاية عام 1830 قذفت السلطة الهولندية بجيوشها إلى ميادين القتال وزودتها بذخائرها الكافية، فدارت معارك حامية كان الثوار يحاربون بالسلاح الأبيض أو بما غنموه. . . ونجحت الحكومة في إخماد الثورة وبلغت خسائرها خمسة عشر ألف جندي وعشرين مليون ربية. وأما ضحايا الثوار فبلغت ضعفي خسائر الحكومة.

وفي عام 1873 حدثت ثورة رهيبة في جزيرة سومطرة بمقاطعة آجيه. وهذه المقاطعة معقل الإسلام في إندونيسيا، وسكانها قوم عاشوا على الحروب والقتال كالأمة العربية. ولما حدثت الثورة امتشق الحسام كل فرد منهم ذوداً عن كرامة الدين الإسلامي وحفظاً لشرف البلاد. والزعيم الذي قاد هذه الثورة هو (تونكو عمر). ولم تستطع السلطة الهولندية منذ استعمرت إندونيسيا أن تخضع هذه المقاطعة لشدة شوكتها؛ وكان يحكمها أمير وطني له السيادة التامة عليها. وفي عام 1904 استطاع الهولنديون التغلب عليها بالقضاء على الثورة وإخمادها بعد أن ضحوا تضحيات هائلة. كما ضحى الوطنيون أضعاف ما ضحاه الهولنديون. ثم أديرت المقاطعة من قبل أمرائها تحت مراقبة السلطة الهولندية في الأمور التي لها مساس بمصالحها.

الحركة الحديثة

في 20 مايو 1908 تأسس أول حزب سياسي هود بودي أوتومو أي النزعة الفاضلة برئاسة الدكتور وحيدين. ويعاونه في إدارته ونشر مبادئه وتحقيق غايته طلبة الطب بمدينة بتافيا. وانضمت إلى عضوية الحزب الطبقة المثقفة والأسر الراقية. وقام بالدعاية له في غرب جزيرة جاوا الدكتور رادين ستومو، وفي شرقها الحاج شكرو أمينوتو وكلاهما من رجالات إندونيسيا البارزين.

ولتحقيق غاية الحزب أنشأ هيئات أولية للإشراف على تنفيذ برامجه الإصلاحية وأهم برامجه:

1 - إصلاح حالة الأمة الثقافية؛ فنشر المدارس والمكاتب وبعث لجانا صغيرة تجوب المدن والقرى لمساعدة المعلمين الصغار، وإرشادهم إلى الطرق التي يلزم أن يسلكوها في أداء رسالتهم الثقافية.

2 - إصلاح الحالة الاقتصادية، فأنشأ بنوكا ومحلات تجارية لمساعدة التجار والزراع الوطنيين وإرشادهم إلى أقوم السبل إلى استثمار أموالهم وزراعة أراضيهم

3 - إصلاح الحالة السياسية، فأنشأ النوادي والصحف. وأقام المحاضرات في المحلات العامة لإرشاد الشعب إلى سير الحالة الخارجية وتطور السياسة العالمية وعلاقة البلاد بالحكومة الهولندية

ولما كانت الأداة الحكومية في يد الموظفين الهولنديين سعى الحزب إلى اشتراك الأمة في إدارة شئونها، فتعين كثير من الرجال المثقفين والشبان في عضوية المجالس البلدية والمحلية وفي المحاكم وفي إدارة الشؤون المالية والثقافية والصحية والمواصلات والتعدين. وطالب الحزب بإنشاء مجلس نيابي، ولكن السلطة الهولندية رفضت طلبه بدعوى أن الجو مكفهر في ابتداء الحرب العالمية الأولى، ومضطرب لاشتداد الأزمة السياسية العالمية. وبعد مضي الحزب في عمله أصبح الشعب كالبركان الثائر يطالب بحريته التامة!

نمت الروح القومية وانتشرت انتشارا رائعاً، وكان أقوى عامل لنموها هو شعور الإندونيسي بالحب العميق لإندونيسيا الحديثة؛ إندونيسيا الكلمة الساحرة التي جذبت سبعين مليونا من النفوس نحو حبها! فسعوا بجد نحو إعادة ماضيها على أساس الحياة الحديثة. وتفرق الشعب في طرق متعددة للوصول إلى الهدف القومي. وهناك في ميادين الثقافة والاقتصاد والتجارة والملاحة والزراعة فرق ترشد الجماهير إلى أحسن الطرق لإصلاح حالتها العامة، وقد أنشأتها الحكومة الهولندية مدارس عالية ومتوسطة وابتدائية، ولكنها لا تكفي لارواء ظمأ شعب يلح في طلب الحرية المؤسسة على العلم والعرفان. وفي إندونيسيا كليات أسستها الحكومة الهولندية، وهي كلية الطب، وكلية الحقوق، وكلية الهندسة، وكلية التجارة، وأكاديمية حربية، وإزاءها مدارس عالية أهلية أسستها الجمعيات والأحزاب. وأشهر المؤسسات القومية التي قامت بالإصلاح الديني والاجتماعي والثقافي مؤسسة المحمدية والعائشية وأساسها ديني قومي، ثم مؤسسة (تامن سيسوا) وأساسها قومي، ومؤسسها البروفيسوركي هاجر ديوانتارا، ونال لقب الأستاذية من أكبر معهد للتربية في الولايات المتحدة في عام 1938 ويبلغ عدد المدارس التابعة للمحمدية والعائشية ثلاثة آلاف مدرسة ما بين عالية وثانوية وابتدائية ورياض للأطفال. ولها أيضاً مكاتب عامة ومساجد ومستشفيات وفرق كشافة تدعى باسم (حزب الوطن) ثم أبدل في السنوات الأخيرة باسم (شباب المحمدية). وللجمعية المحمدية والعائشية فروع كثيرة منتشرة في كل مدينة وقرية في إندونيسيا. وفي عام 1938 طلبت المحمدية من السلطات الهولندية السماح لها بشراء باخرتين لنقل الحجاج الإندونيسيين إلى الحجاز، ولكن السلطات المحلية رفضت طلبها! وتأسست هذه الجمعية في عام 1912 بمجهود الحاج أحمد دحلان. وللجمعية أيضاً جريدة ومجلة لسان حالها. وهما (عادل) و (صوت المحمدية) وتعقد الجمعية مؤتمراً سنوياً في كل مدينة في إندونيسيا، يحضره مندوبون من جميع فروعها. ويستمر في الانعقاد أسبوعا كاملا تستعرض الجمعية خلاله أعمالها الماضية ثم درس الاقتراحات والقوانين المقدمة من فروعها. وعقد المؤتمرات السنوية سنة تبعتها الأحزاب السياسية والجمعيات المختلفة المقاصد. وأما مدارس تامن سيسوا فيبلغ عددها الألف. وكانت أكبر خطر على السياسة الاستعمارية كما صرح بذلك البروفيسور جب الهولندي في كتابه (وجهة الإسلام) إذ أن هذه المدارس مؤسسة على القومية. والتعليم فيها على أحدث المناهج الغربية. وتبعث تامن سيسوا بعض متخرجيها إلى الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا والفلبيين والهند لإتمام دراساتهم العمالية في جامعتها. وتصدر مجلة شهرية تعبر عن آرائها باسم (العائلة)

وأشهر الأحزاب السياسية التي ظهرت بعد حزب (بودي أوتومو) حزب الشركة الإسلامية في عام 1912 بزعامة الحاج سكرو أمبوتو. وانتشرت فروعه في المدن والقرى. وفي أثناء سير الحزب رفضت السلطة المحلية الاعتراف بفروعه، لتستطيع إيجاد الخلاف بين الحزب وفروعه. ومنعت السلطة أيضاً قبوله أعضاء جددا، وتجاه هذه السياسية المحلية أضافت إدارة الحزب كلمة واحدة إلى اسم الحزب وهي (سنترال) وأصبح الحزب يدعى باسم (سنترال الشركة الإسلامية) وبذلك اعترفت السلطة بفروع الحزب

وأما برامج الحزب فهي:

1 - الدفاع عن كرامة الدين الإسلامي واشتراك الشعب الإندونيسي في تخفيف الآلام والمحن النازلة بالأمم الإسلامية.

2 - نشر الثقافة الإسلامية والعمل بأحكام القرآن مع الاقتباس من القانون الدولي لمسايرة التطور العالمي.

3 - إيجاد حياة اقتصادية ليستطيع الشعب أن يعيش بها في مركز متوسط يستغل موارد البلاد.

4 - تربية الشعب تربية سياسية حتى يستطيع أن يدير أموره بنفسه. وكون هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية من أعضاء الحزب البارزين. وتعتبر هذا الحزب أكبر حزب سياسي إسلامي في جزر الهند الشرقية، وبلغ عدد أعضائه بعد الحرب العالمية الأولى مليوني عضو.

ولما سمحت السلطة الهولندية بعقد الاجتماعات والاشتغال بالسياسة تحت شروطها المعينة، ظهرت على المسرح السياسي الهولندي الإندونيسي أحزاب كثيرة كلها ترمي إلى تحرير البلاد. وفيما يلي نضع للقارئ أهم الأحزاب التي ظهرت وتواريخ ظهورها بصورة مختصرة:

1 - الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الدكتور دوبزديكر في عام 1912.

2 - حزب فاسوندان في عام 1914.

3 - الحزب الشيوعي الإندونيسي بزعامة الدكتور سمعون في عام 1920.

4 - هيئة ائتلاف الأحزاب السياسية الوطنية برئاسة المستر تمرين في عام 1927.

5 - الحزب الوطني الإندونيسي برئاسة المهندس سوكارنو في عام 1927.

6 - حزب الشعب الإندونيسي بزعامة المستر محمد طبراني في عام 1930.

7 - اتحاد الشعب الإندونيسي بزعامة الدكتور رادين ستومو في عام 1930.

8 - الحزب الإندونيسي برئاسة المستر سرتونو في عام 1931.

9 - حزب التربية الإندونيسي بزعامة الدكتور محمد حتى في عام 1931.

10 - حزب إندونيسيا الكبرى بزعامة الدكتور رادين ستومو، وهو مكون من حزب بودي أوتومو وحزب اتحاد الشعب الإندونيسي في عام 1905.

11 - حزب النهضة الإندونيسية برئاسة المستر أمير شرف الدين في عام 1936.

12 - الحزب الإسلامي الإندونيسي برئاسة المستر ويووهو النائب بمجلس النواب في عام 1936.

13 - رابطة الأحزاب السياسية الإندونيسية في عام 1939.

والأحزاب التي استطاعت أن تصمد أمام التيار، وتقف كالصخرة الصماء لا تزحزحها العواصف ولا الرياح هي:

1 - حزب الشركة الإسلامية الإندونيسية.

2 - حزب إندونيسيا الكبرى.

3 - حزب النهضة الإندونيسية.

4 - الحزب الإسلامي الإندونيسي.

5 - رابطة الأحزاب السياسية الإندونيسية.

الحكومة الذاتية والبرلمان

منذ ابتدأت النهضة الإندونيسية بنمو الروح القومية في عام 1908 طالبت الأحزاب السياسية الحكومة الهولندية بإنشاء حكومة ذاتية ومجلس نيابي. وكانت أهداف الحركات القومية الوصول إلى تحرير البلاد مبدئياً عن سبيل إنشاء حكومة ذاتية بمجلس نيابي، ففي أوائل الحرب العالمية الأولى طالبت الأحزاب السلطة المحلية بإنشاء مجلس نيابي إندونيسي، ثم أجل الطلب إلى ما بعد الحرب. ولما وضعت الحرب أوزارها أنشأت الحكومة الهولندية مجلساً نيابياً مختلطاً من الوطنيين والهولنديين والأجانب واستاء الشعب من هذه السياسة. وأعلنت الأحزاب الوطنية السياسية اللاتعاونية، وكان تأسيس المجلس النيابي المختلط في عام 1918.

وفي عام 1937 قدم النائب المستر سو ترجو العضو بالمجلس النيابي مذكرة إليه بإعطاء إندونيسيا استقلالا كاستقلال الحكومات الدومنيوتية في الإمبراطورية البريطانية، وقام بصدده مباحثات طويلة بين رجال الأمة والحكومة الهولندية، وأخيراً رفض الطلب بدعوى أن الشعب لم ينضج سياسياً!

وفي شهر مايو 1939 تكونت رابطة الأحزاب السياسية، وكان أول ما قامت به هو الدعاية بين طبقات الأمة وفي دوائر السلطات الهولندية بإنشاء برلمان وطني بمعناه الصحيح، كما قامت واللجنة الإندونيسية الوطنية، بالمجلس النيابي الدعاية للبرلمان بين أعضاء المجلس. . . وفي 27 سبتمبر سنة 1939 أذاعت (رابطة الأحزاب السياسية) بياناً إلى الأمة تدعوها إلى بذل جهودها وإعطاء ثقتها للرابطة لإنشاء برلمان وطني، وفيما يلي خلاصة البيان: (منذ تطورت الأزمة العالمية، والرابطة الوطنية تخطو خطوات موفقة نحو رفع مستوى البلاد السياسي وإشعار العالم الخارجي أن الشعب الإندونيسي يرنو إلى حياة حرة تحت ظل حكومة وطنية متمتعة باستقلالها التام. وإن الرابطة تسعى سعياً قوياً لتحقيق مطالب الشعب الرئيسية. وهي تنظر إلى الحركات الأوربية بعين اليقظة والحذر. وأن الظرف الحاضر الدقيق حيث يضطرب حبل السياسة العالمية يدعو الرابطة أن تضحي بمجهودات عظيمة في سبيل تحقيق البرلمان وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمامه

إن الرابطة تدعو كافة الجمعيات والأحزاب والمؤسسات القومية وطبقات الشعب إلى تعضيدها في مطالبها في إنشاء برلمان للشعب الإندونيسي المجيد، للوطن الإندونيسي الواحد!)

وفي 23 ديسمبر 1939 أقامت الرابطة مؤتمراً شعبياً باسم المؤتمر القومي الإندونيسي بمدينة بتافيا عاصمة إندونيسيا، للبحث عن الأسس الأولية لإنشاء البرلمان ورفع مذكرة إلى الحكومة الهولندية بتأسيس البرلمان حسب رغبات الشعب. وقد حضر المؤتمر مندوبون من كافة الأحزاب والجمعيات الوطنية. ورجال السياسة والصحافة والأدب والأعمال. ودام المؤتمر لنهاية يوم 25 ديسمبر سنة 1939. ثم رفعت الرابطة مذكرتها إلى السلطات الهولندية بإندونيسيا ومنها أرسلت إلى الهيئات العليا بهولندا لدراستها. وبعد دراسات دقيقة أشعرت الحكومة الهولندية رابطة الأحزاب بتأجيل الطلب لأن الشعب لم ينضج سياسياً أيضاً. فضلا عن أن الحرب العالمية الثانية دائرة رحاها.

ولعلنا في هذه الكلمات الموجزة استطعنا أن نعطي القارئ صورة مصغرة مختصرة عن الحياة الحديثة في جزر الهند الشرقية أو إندونيسيا، وهي حياة أمة شرقية تعدادها سبعون مليوناً. لا نستطيع أن نغضي الطرف عنها وهي همزة وصل بين استراليا وأمريكا وبين آسيا وأفريقا وأوربا، ووجودها ضروري لتحفظ توازن القوى في الشرق الأقصى!

الأربعاء، 9 مايو 2018

من إنجازات السلطان سليمان القانوني



وَأما الْخيرَات الَّتِي فعلهَا فِي الْحَرَمَيْنِ الشريفين والقدس، وَغَيرهَا من الْبِلَاد فَلَا يُمكن حصرها، يذكر شئ مِنْهَا على سَبِيل الِاخْتِصَار نتشرف بِذكرِه.

مِنْهَا: الصرة الْعَظِيمَة الرومية الْوَاصِلَة كل عَام وقدرها أحد وَثَلَاثُونَ ألفا من الدَّنَانِير الذَّهَب فِي كل عَام على الدَّوَام.

وَمِنْهَا: عمَارَة سور الْمَدِينَة المنورة، وَقدر مساحته: أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع، وَعرض جِدَاره: ثَلَاثَة أَذْرع، وارتفاعه: سَبْعَة عشر ذِرَاعا، وجميعه بِالْحجرِ والنورة، وأبوابه: سِتَّة مصفحة جَمِيعهَا بالحديد.

قلت: الْمَعْرُوف أَن أَبْوَاب سور الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أَرْبَعَة، بَاب غربي وَبَاب قبلي وَبَاب شَامي وَبَاب شَرْقي: يُسمى الأول فِي عرف النَّاس بَاب الْمصْرِيّ. وَالثَّانِي الْبَاب الصَّغِير. وَالثَّالِث بَاب الشَّامي؛ لنزوله عِنْده ذَهَابًا وإياباً. وَالرَّابِع: بَاب الْجُمُعَة.

فَلَعَلَّ المؤرخ عد بَاب القلعة وباباً صَغِيرا فِي أَسْفَل أكبر البروج وأعلاها يُسمى عِنْد أهل الْمَدِينَة بَاب السِّرّ، فهما الْخَامِس وَالسَّادِس، فَيصح الْعدَد حِينَئِذٍ. وَقدر النَّفَقَة عَلَيْهِ من الذَّهَب الْجَدِيد سَبْعُونَ ألف، وَمن الْحُبُوب أَرْبَعَة عشر ألف إِرْدَب حِنْطَة وفولاً وَغير ذَلِك، وَذَلِكَ غير الْوَاصِل من مصر المحروسة من الْحَدِيد والخشب والرصاص والنحاس وَالْجمال وَالْحمير.

وَمِنْهَا: محراب السَّادة الْحَنَفِيَّة بِقرب الرَّوْضَة النَّبَوِيَّة.

قلت: وَيعرف الْيَوْم بالمحراب السُّلَيْمَانِي منقوش بالرخام الملون.

وَمِنْهَا: تَجْدِيد عدَّة من الْمَسَاجِد النَّبَوِيَّة، وَأَنْشَأَ عدَّة من القباب على من عف قَبره من أَعْيَان السلالة المحمدية.

وَمِنْهَا: ترصيص الْقبَّة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة وهلال الْقبَّة الْمَذْكُورَة أَعْلَاهُ ذهب خَالص صرف وَبَاقِيه مموه وأهلة المنابر ومنبر الْحرم النَّبَوِيّ.

وَمِنْهَا: إنْشَاء الْجِدَار الغربي بِالْحرم النَّبَوِيّ وإنشاء مَنَارَة عَظِيمَة بِهِ.

وَمِنْهَا: عدَّة شماعدين من النّحاس المطلي بِالذَّهَب بالحجرة المطهرة. وإنشاء عدَّة من الرَّبْط وترميم بَعْضهَا مِمَّا يقرب عددا إِلَى الْعشْرين.

وَمِنْهَا: شِرَاؤُهُ ديار الْعشْرَة لاتصالها بقبلي الْمَسْجِد النَّبَوِيّ وَالْغَرَض الْأَعْظَم من ذَلِك هدمها ليذْهب عين مَا فِيهَا من المراحيض والبلاليع، وَمَا فِيهِ رَائِحَة كريهة، فهدمت جَمِيعهَا وَبقيت بعد هدمها وتعميرهما نافعة لكل خير تجدّد بهَا، قَابِلَة للإلحاق بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيّ.

وَمِنْهَا: عمَارَة تكية باسم وَالِدَة السلاطين الْعِظَام يعْمل فِيهَا فِي كل يَوْم للْفُقَرَاء خبز وَطَعَام.

وَمِنْهَا: أَنه لما بلغه احْتِيَاج المطاف الشريف إِلَى أساطين، وعرضوا لَهُ أَن أساطين الْمَسْجِد الْحَرَام جَمِيعهَا بالرخام وعرضوا بتعظيم ذَلِك وَكَونهَا من حجر وَاحِد أَمر أَن تجْعَل أعمدة من النّحاس، فَجعلت وَقيمتهَا تعدل وَزنهَا فضَّة فِي الْقيَاس.

وَمِنْهَا: مِنْبَر عَظِيم للبيت الْعَتِيق الْكَرِيم كَانَت النَّفَقَة عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ ألف من الدَّنَانِير الذَّهَب الْجَدِيد خَارِجا عَمَّا حمل مَعَه من آلَات الْحَدِيد والفولاذ والرصاص والمؤن العديدة، وَوصل إِلَى مَكَّة عَام سِتّ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة. فَقَالَ بعض عُلَمَاء مَكَّة فِيهِ تَارِيخا أبياتاً آخرهَا بَيت التَّارِيخ هُوَ: [من مجزوء الْخَفِيف]

لسُلَيْمَانَ مِنْبَرٌ ... شَاهِدٌ بالدُّعَا لَهُ

وَمِنْهَا: تعمير الْمدَارِس الَّتِي هى من الْعَجَائِب برسم المدرسين من الْأَرْبَعَة الْمذَاهب كَمَا تقدم ذكره، ومنارة عَظِيمَة من جنسهن جنب أولَاهُنَّ.

وَمِنْهَا: عمَارَة مهبط الْوَحْي والأماكن الشَّرِيفَة.

وَمِنْهَا: إِجْرَاء المَاء من الْفُرَات إِلَى مشْهد الإِمَام الْحُسَيْن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا.

وَمِنْهَا: بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى خيرات لَا تحصى.

وَمِنْهَا: عمَارَة قبَّة عَظِيمَة على الصَّخْرَة الرفيعة الدَّرَجَات وَجعل عوض التجصيص أَلْوَاح من فخار إزنيق بأنواع النقوش وَأجل الكتابات>

وَمِنْهَا: للمساجد الثَّلَاثَة المشرفة الْمَذْكُورَة قدر الْكِفَايَة من الْحُبُوب والمرتبات وَالْخبْز وَالطَّعَام والصلة المبرورة.

وَمِنْهَا: بدار الْخلَافَة الْعُظْمَى قسطنطينية الْكُبْرَى إِجْرَاء عين من مسيرَة سِتَّة أَيَّام أنْفق على ذَلِك من الْأَمْوَال مَا لَا يحصره كتب وَلَا ثرثرة أَقْلَام.

وَمِنْهَا: عمَارَة عَظِيمَة سلطانية جَامِعَة لِلْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّة والدنيوية بِالشَّام بِالْمحل الْمَعْرُوف بالصالحية، وَمَا ذكر هُوَ من بعض خيراته السّنيَّة.

وَمِنْهَا: وَهُوَ أعظمها إِجْرَاء عين عَرَفَات إِلَى مَكَّة. وَسبب ذَلِك: أَن الْعين الَّتِي كَانَت بِمَكَّة هِيَ عين حنين الَّتِي أجرتهَا زبيدة بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور زَوْجَة الرشيد، وَاسْمهَا: أمة الْعَزِيز، لِأَن جدها الْمَنْصُور كَانَ يرقصها وَهِي طفلة وَيَقُول: أَنْت زبيدة. فغلب على اسْمهَا، وَكَانَت من أهل الْخيرَات فصرفت عَلَيْهَا خَزَائِن أَمْوَال إِلَى أَن جرت وَهِي فِي وَاد قَلِيل الأمطار بَين جبال شَوَاهِق عاليات خاليات من الْمِيَاه والنبات، وَشقت لَهُ الْقَنَاة فِي الْجبَال إِلَى أَن سلك المَاء من أَرض الْحل إِلَى الْحرم، وَجعلت لَهَا شحاحيذ من كل جبل يكون ذيله مَظَنَّة للْمَاء وَجعلت مِنْهُ قناة مُتَّصِلَة، ومنبع هَذِه الْعين جبل شامخ من تِلْكَ الْجبَال يُقَال لَهُ (طاد) بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَالْألف بعْدهَا دَال مُهْملَة من جبال الثَّنية من طَرِيق الطَّائِف، وَكَانَ المَاء يجْرِي إِلَى أَرض حنين تسقى بِهِ مزارع ونخل مَمْلُوكَة للنَّاس، فاشترت زبيدة ذَلِك الْمحل وأبطلت تِلْكَ الْمزَارِع وَالنَّخْل فَصَارَت تِلْكَ الشحاحيذ يحصل مِنْهَا المدد لهَذِهِ الْعين، وَصَارَ كل شحاذ عينا يساعد عين حنين.

مِنْهَا: عين مشاش، وَعين مَيْمُون، وَعين الزَّعْفَرَان، وَعين البارود، وَعين الطان، وَعين ثقبة، كلهَا تنصب فِي ذيل عين، وَيزِيد بَعْضهَا، وَينْقص بِحَسب الأمطار إِلَى أَن وصلت عين حنين إِلَى مَكَّة المشرفة.

ثمَّ إِنَّهَا أمرت بإجراء عين وَادي نعْمَان إِلَى عَرَفَة وَهِي عين منبعها ذيل جيل كرا وَهُوَ جبل مَعْرُوف فَيصب المَاء من ذيله فِي قناة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: الأوجر من وَادي نعْمَان، وَمِنْه إِلَى مَوضِع بَين جبلين شاهقين علو عَرَفَات، ثمَّ مِنْهُ يجْرِي فِي الْقَنَاة إِلَى أَرض عَرَفَات، ثمَّ أدارت الْقَنَاة إِلَى جبل الرَّحْمَة مَحل الْموقف الشريف، وَجعلت المَاء ينصب إِلَى البرك الَّتِي فِي أَرض عَرَفَات فتملأ مَاء يشرب مِنْهُ الْحَاج يَوْم عَرَفَة، ثمَّ استمرت فِي عمل الْقَنَاة إِلَى أَن خرجت من عَرَفَات إِلَى مُزْدَلِفَة، ثمَّ إِلَى جبل خلف منى فِي قبلتها، ثمَّ ينصب المَاء إِلَى بِئْر عَظِيمَة مطوية بالأحجار كَبِيرَة جدا تسمى بِئْر زبيدة إِلَيْهَا انْتهى عمل زبيدة فَوقف، وَهِي من الْأَبْنِيَة المهولة رُبمَا يُوهم بناؤها أَنه من عمل الْجِنّ، ثمَّ صَارَت عين حنين تَنْقَطِع عَن الْوُصُول إِلَى مَكَّة، وَكَذَلِكَ عين عَرَفَات تَنْقَطِع عَن وصولها إِلَى مُنْتَهَاهَا لتهدم قنواتهما وتخريبهما بالسيول.

وَكَانَت الْخُلَفَاء والسلاطين إِذا بَلغهُمْ ذَلِك أرْسلُوا وعمروها عِنْد انتظام سلطنتهم وَقُوَّة تمكنهم فتجري تَارَة وتنقطع أُخْرَى، فعمرها مظفر الدّين صَاحب إربل سنة خمس وسِتمِائَة ثمَّ الْمُسْتَنْصر العباسي سنة سِتّمائَة وتسع وَعشْرين. ثمَّ فِي سِتّمائَة وَثَلَاث وَثَلَاثِينَ، ثمَّ فِي سنة سِتّمائَة وَأَرْبع وَثَلَاثِينَ، وجد ذَلِك مَكْتُوبًا فِي حجر مَبْنِيّ فِي قرب الْموقف الشريف، ثمَّ عمر عين حنين الْأَمِير جوبان نَائِب السلطنة بالعراقين سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة، فأجراها إِلَى مَكَّة وَتمّ نَفعهَا فَإِنَّهُم كَانُوا فِي جهد عَظِيم لقلَّة المَاء، ثمَّ عمرها شرِيف مَكَّة الشريف حسن بن عجلَان جد سَادَاتنَا الْأَشْرَاف أَشْرَاف مَكَّة وملوكها الْآن، أدام الله سعادتهم مدى الزَّمَان فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة فجرت وانفجرت وَكثر الدُّعَاء لَهُ من أهل الْبِلَاد وَالْحجاج والعباد، ثمَّ انْقَطَعت وَلَقي النَّاس لذَلِك شدَّة عَظِيمَة إِلَى أَن عمرها الْملك الْمُؤَيد أَبُو النَّصْر شيخ المحمودي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَمَانمِائَة، ثمَّ عمرها وَعمر عين عَرَفَات السُّلْطَان قايتباي أجْرى الأولى إِلَى أَن دخلت مَكَّة، وأجرى الثَّانِيَة إِلَى أَن وصلت إِلَى أَرض عَرَفَات، وَذَلِكَ بمناشرة الْأَمِير يُوسُف الجمالي وأخيه سنقر الجمالي فِي سنة ثَمَانمِائَة وَسبعين، ثمَّ عمر عين حنين آخر مُلُوك الشراكسة قانصوه الغوري إِلَى أَن جرت وملأت برك الْحجَّاج بالمعلاة، ثمَّ جرت إِلَى بازان، ثمَّ إِلَى بركَة الماجن بِأَسْفَل مَكَّة، ثمَّ انْقَطَعت فِي أَوَائِل الدولة العثمانية وَصَارَ أهل مَكَّة يستقون من آبار حول مَكَّة يُقَال لَهَا: العسيلات علو مَكَّة وَمن آبار بأسفلها بمَكَان يُقَال لَهُ: الزَّاهِر وسُمي الْآن بالجوخي فِي طَرِيق التَّنْعِيم، وَكَذَلِكَ انْقَطَعت عين عَرَفَات وتهدمت قنواتها وَكَانَ الْحجَّاج يحملون المَاء إِلَى عَرَفَات من الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة، وَصَارَ الْفُقَرَاء من الْحجَّاج وَغَيرهم فِي يَوْم عَرَفَة لَا يطْلبُونَ إِلَّا المَاء لغلو المَاء وعزته جدا.

قَالَ الْعَلامَة القطب: وَإِنِّي أذكر سنة تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ، وَأَنا يَوْمئِذٍ مراهق فِي خدمَة وَالِدي أَنِّي اشْتريت قربَة صَغِيرَة جدا يحملهَا الْإِنْسَان بإصبعيه بِدِينَار ذهب، والفقراء يصيحون من الْعَطش يطْلبُونَ مَا يبل حُلُوقهمْ فِي ذَلِك الْيَوْم الشَّديد، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْوُقُوف، وَالنَّاس عطاش يلهثون أمْطرت السَّمَاء وسالت السُّيُول من فضل الله وَالنَّاس واقفون، فصاروا يشربون من السَّيْل من تَحت أَرجُلهم ويسقون دوابهم، وَذَلِكَ من رَحْمَة الله ولطفه بعباده.

فبرزت الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة السليمانية بإصلاحهما، وعُين لذَلِك نَاظر اسْمه مصلح الدّين مصطفى من المجاورين بِمَكَّة، فبذل جهده فِي عمارتهما، فجرت عين حنين إِلَى مَكَّة، وَعين نعْمَان إِلَى عَرَفَات وَذَلِكَ سنة 931 إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة، ثمَّ اشْترى النَّاظر الْمَذْكُور عبيدا سُودًا من مَال السلطنة وزوجهم بمثلهم وَجعل لَهُم جرايات وعلوفات برسم خدمَة الْعين، وَإِصْلَاح قنواتها، فَهِيَ خدمتهم دَائِما وهم باقون إِلَى الْآن طبقَة بعد طبقَة، ثمَّ توجه النَّاظر إِلَى الْأَبْوَاب لعرض أُمُور فِي شَأْن الْعين، فَأُجِيب إِلَى مَا أَرَادَ وَعَاد إِلَى مصر.

ثمَّ ركب من بندر السويس قَاصِدا مَكَّة فغرق فِي بَحر القلزم شَهِيدا، وَمَا غرق إِلَّا فِي بَحر رَحْمَة الله تَعَالَى سنة 939 تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة.

ثمَّ انْقَطَعت سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فعرضت أَحْوَال الْعُيُون لي الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة السليمانية، فَالْتَفت الخاطر السلطاني وَتوجه الْعَطف العثماني إِلَى تدارك ذَلِك بِأَيّ وَجه يكون، وَأمر بالفحص عَن أَحْوَال الْعُيُون، فَاجْتمع قَاضِي مَكَّة يَوْمئِذٍ عبد الْبَاقِي بن عَليّ الْغَزِّي، والأمير خير الدّين سنجق جدة يَوْمئِذٍ، وَغَيرهمَا من الْأَعْيَان، وتفحصوا وداروا، وكشفوا فأجمع رَأْيهمْ أَن أقوى الْعُيُون عين عَرَفَات، وطريقها ظَاهر ودبولها مَبْنِيَّة إِلَى بِئْر زبيدة، وَأَن الَّذِي يغلب على الظَّن أَن دبولها من الْبِئْر إِلَى مَكَّة مَبْنِيَّة أَيْضا وَأَنَّهَا مخفية تَحت الأَرْض وَأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَنْهَا والحفر، فَإِذا وجدوا من الدبل متهدماً بنوه، وَإِذا وجدوا مختلاً أصلحوه، فخمنوا أَنهم يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِك إِلَى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار ذَهَبا، وذرعوه وقاسوه فَكَانَ من الأوجر إِلَى بطن مَكَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل، وَهُوَ أَزِيد من الذِّرَاع الشَّرْعِيّ بِنَحْوِ الرّبع.

وَهَذَا الَّذِي طنوه من وجود دبل تَحت الأَرْض من بِئْر زبيدة إِلَى مَكَّة لم يُوجد فِي كتب التَّارِيخ وَلم يذكرهُ أحد، وَإِنَّمَا أداهم إِلَى ذَلِك مُجَرّد الظَّن بِحَسب القرا ئن وعرضوا على المسامع الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة فِي أَوَائِل سنة 960 سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة، فَلَمَّا وصل علم ذَلِك التمست جانم سُلْطَان كَرِيمَة السُّلْطَان سُلَيْمَان أَن يَأْذَن لَهَا فِي عمل هَذَا الْخَيْر، حَيْثُ كَانَت صَاحِبَة الْخَيْر أَولا أم جَعْفَر زبيدة العباسية فَنَاسَبَ أَن تكون هِيَ صَاحِبَة هَذَا الْخَيْر أخيراً، فَاخْتَارَتْ بعد ان استطارت لهَذِهِ الْخدمَة إِبْرَاهِيم بن تعزي بردي الدفتردار، وأعطته خمسين ألف دِينَار ذَهَبا زِيَادَة على مَا خمنوه، فَسَار بحراً فوصل إِلَى جدة يَوْم الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنزل بوطاقه خَارج جدة من الْجِهَة الشامية وَركب من جدة إِلَى سيدنَا ومولانا الشريف مُحَمَّد أبي نمي وَكَانَ نازلاً بوادي (مر) فقابله بالإجلال والتعظيم وَمد لَهُ سماطاً عَظِيما ولاطفه وواكله وباسطه وجابره، فَعرض على حَضرته الشَّرِيفَة الْخط السلطاني، وبذل الهمة وَالِاجْتِهَاد فِي إتْمَام هَذَا الْأَمر، فَأجَاب الشريف أَبُو نمي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، ثمَّ ركب إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور من عِنْده مُتَوَجها إِلَى مَكَّة، فلاقاه عِنْد دُخُوله مَوْلَانَا الشريف حسن بن أبي نمي وقابله بالترحيب وَالْإِكْرَام وَغَايَة الإجلال والاحترام، وَاسْتمرّ مَعَه إِلَى أَن فَارقه من بَاب السَّلَام، فَدخل فَطَافَ طواف الْقدوم وَكَانَ محرما بِالْحَجِّ وسعى. وَعَاد إِلَى مجمع السُّلْطَان قايتباي، وَهُوَ الْمحل الَّذِي عين لنزوله، وَمد لَهُ من قبل الشريف حسن سماط عَظِيم، ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي ثمَّ كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ تنظيف الْآبَار الَّتِي يَسْتَسْقِي النَّاس مِنْهَا، وَإِخْرَاج ترابها وَزِيَادَة حفرهَا ليكْثر مَاؤُهَا، وَحصل للنَّاس بذلك رفق عَظِيم، ثمَّ توجه للكشف إِلَى أَعلَى عَرَفَات وَكثر تردده إِلَيْهَا، ثمَّ أسْرع فِي الْكَشْف عَن دبول عين عَرَفَة وَضرب أوطاقه فِي الأوجر من وَادي نعْمَان علو عَرَفَات، وَشرع فِي حفر فقرها، وتنظيف دبولها بهمة عالية جدا.

وَكَانَت مماليكه القائمون فِي خدمته نَحْو أَرْبَعمِائَة مَمْلُوك فِي غَايَة الْجمال والرشاقة والحذاقة واللباقة، وَكتب نَحْو ألف نفس من الْعمَّال والمهندسين والحفارين، وجلب من مصر وبلاد الصَّعِيد وَالشَّام وحلب واسطنبول طوائف بعد طوائف من خدام الْعُيُون والآبار والحدادين والحجارين والبنائين.

وأتى بآلات الْعِمَارَة من مكاتل ومساحي ومجاريف وحديد وبولاد ورصاص ونحاس.

وَعين لكل طَائِفَة قِطْعَة من الأَرْض تحفرها وتنظف مَا فِيهَا، وَاسْتمرّ إِلَى أَن وصل عمله إِلَى بثر زبيدة الَّتِي انْتهى عَملهَا إِلَيْهَا، وَلم يجد بعْدهَا دبلاً، وَلَا أثر عمل وَلَا بقايا قناة، فَضَاقَ ذرعه لذَلِك، وَعلم أَن الْخطب كَبِير وَالْعَمَل كثير وَتحقّق أَن الْقدر الْبَاقِي من هَذَا الْعَمَل إِنَّمَا تركته زبيدة اضطراراً لَا اختبارا وَعدلت إِلَى عمل حنين، وَتركت الْعَمَل من بعد الْبِئْر لصلابة الْحجر وصعوبة إِمْكَان قطعه وَطول مَسَافَة مَا يجب قطعه، وَأَنه يحْتَاج من بِئْر زبيدة إِلَى دبل منقور تَحت الأَرْض فِي الْحجر الصوان طوله ألفا ذِرَاع بِذِرَاع البنائين حَتَّى يتَّصل بدبل عين حنين وَينصب فِيهِ فيصِلاَ إِلَى مَكَّة. وَلَا يُمكن نقر ذَلِك الْحجر تَحت الأَرْض فَإِنَّهُ يحْتَاج فِي النُّزُول إِلَى خمسين ذِرَاع فِي العمق، وَصَارَ لَا يُمكن ترك ذَلِك بعد الشُّرُوع فِيهِ حفظا لناموس السلطنة، فأوجد الْأَمِير إِبْرَاهِيم حِيلَة هِيَ أَن يحْفر وَجه الأَرْض إِلَى أَن يصل إِلَى الْحجر الصوان ثمَّ يُوقد عَلَيْهِ بالنَّار مِقْدَار مائَة حِمل من الْحَطب الجزل لَيْلَة كَامِلَة فِي مِقْدَار سَبْعَة أَذْرع فِي عرض خَمْسَة أَذْرع من وَجه الأَرْض وَالنَّار لَا تعْمل إِلَّا فِي الْعُلُوّ، وَأما السّفل فعملها فِيهِ مِقْدَار قيراطين من أَرْبَعَة وَعشْرين قيراطاً من ذِرَاع.

فيكسر بالحديد إِلَى أَن يصل الْحجر الشَّديد فيوقد عَلَيْهِ الْحَطب الجزل لَيْلَة أُخْرَى إِلَى أَن ينزل فِي ذَلِك الْحجر مِقْدَار خمسين ذِرَاعا فِي العمق فِي عرض خَمْسَة أَذْرع إِلَى أَن يَسْتَوْفِي ألفي ذِرَاع تقطع على هَذَا الحكم، وَذَلِكَ يحْتَاج إِلَى عمر نوح وَمَال قَارون وصبر أَيُّوب، وَمَا رأى عَن ذَلِك محيصاً، فأقدم عَلَيْهِ إِلَى أَن فرغ الْحَطب من جَمِيع جبال مَكَّة وَصَارَ يجلب من الْمسَافَة الْبَعِيدَة، وغلا سعره وضاق النَّاس لذَلِك، وتعب الْأَمِير وَذَهَبت أَمْوَاله وخدامه ومماليكه وَهُوَ يتجلد، إِلَى أَن قطع من الْمسَافَة ألف ذِرَاع وَخَمْسمِائة ذِرَاع، وَصَارَ كلما فرغ المصروف أرسل وَطلب فَجَاءَهُ، ثمَّ مَاتَ لَهُ ولد طِفْل كَانَ خلَّفه بِمصْر احْتَرَقَ عَلَيْهِ كثيرا، ثمَّ مَاتَ لَهُ ولدان مراهقان، ثمَّ مَاتَ أَكثر مماليكه، ثمَّ مَاتَ هُوَ غَرِيبا شَهِيدا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَانِي رَجَب سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَت جنَازَته حافلة، وأسف النَّاس على فَقده لِكَثْرَة إحسانه وَدفن فِيهَا ولديه قبله.

ثمَّ أقيم فِي هَذِه الْخدمَة سنجق جدة الْأَمِير قَاسم بك، أَقَامَهُ سيدنَا شيخ الْإِسْلَام القَاضِي الْحُسَيْن إِلَى أَن يصل مَن تعينه السلطنة الْعلية.

وَفِي هَذَا الْعَام الْمَذْكُور انْتَقَلت السلطنة من السُّلْطَان سُلَيْمَان صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان، فعين لهَذِهِ الْخدمَة دفتردار مصر يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بك يكمكجي زَاده وَكَانَ من أعبد السناجق، فوصل إِلَى هَذِه الْخدمَة وبذل فِيهَا نَفسه وَمَاله، وَقطع مَسَافَة وَمَا بلغ التَّمام، بل وافاه الحِمام لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع لَيَال بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَدفن بالمعلاة قبالة تربة الْأَمِير إِبْرَاهِيم الدفتردار على يسَار الذَّاهِب إِلَى الأبطح، ثمَّ رَجَعَ فِي خدمَة الْعين الْأَمِير قَاسم سنجق جدة الْمَذْكُور آنِفا أرجعه فِيهَا القَاضِي الْحُسَيْن وَعرض ذَلِك إِلَى الْأَبْوَاب، فأنهى الْأَمر باستقرار قَاسم بك فِي الْخدمَة أَمينا على مصارفها. وَأَن يكون مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن نَاظرا على مَا بَقِي من عمل هَذِه الْعين إِلَى أَن يصل إِلَى عَرَفَات، فاستمر قَاسم بك مباشراً لهَذِهِ الْخدمَة، إِلَى أَن طرقه الْحِين فَصَارَ ثَالِثا للأميرين السَّابِقين، وَصَارَ من شُهَدَاء الْعين، وَذَلِكَ لليلة خلت من رَجَب الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَدفن بالمعلاة إِلَى جَانب الْأَمِير مُحَمَّد بك اليكمكجي المتوفي بِمَكَّة.

ثمَّ توجه مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن توجهاً تَاما إِلَى تَكْمِيل عمل مَا بَقِي من الْعين بِاعْتِبَار مَا بِيَدِهِ من النّظر، وَعرض للسلطنة الشَّرِيفَة بوفاة قَاسم بك فبرزت الْأَوَامِر إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة فأقدم بهمته الْعَالِيَة أتم إقدام، فساعدته السَّعَادَة والإقبال على الْإِتْمَام، فكمل عَملهَا فِيهَا دون خَمْسَة أشهر، بعد أَن عجزوا عَنهُ فِي قريب من عشرَة أَعْوَام، فجرت عين عَرَفَات وَوصل المَاء، وَهُوَ يجْرِي فِي تِلْكَ الدبول والقنوات إِلَى أَن دخل مَكَّة لعشر بَقينَ من ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم عيد أكبر عِنْد النَّاس، وَعمل فِي ذَلِك الْيَوْم أسمطة بِالْأَبْطح ببستانه الْوَاسِع الأفيح، جمع الأكابر والأعيان، وَنصب لَهُم السرادقات والصوان، وَذبح أَكثر من مائَة من الْغنم، وَقدم للنَّاس على قدر طبقاتهم أَنْوَاع الموائد وَالنعَم، وخلع على أَكثر من عشرَة أنفس من المعلمين والمهندسين خلعاً فاخرة، وَأحسن إِلَى باقيهم بِالْحَسَنَاتِ الوافرة.

وَمِمَّا رَأَيْته بِخَط جدي الْعَلامَة جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل العصامي مَا نصُّه: لما أكمل مَوْلَانَا وعزيزنا شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين نَاظر النظار بِبَلَد الله الْأمين مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف القَاضِي الْحُسَيْن بن أَحْمد الْمَالِكِي عمَارَة عين عَرَفَات كتبت إِلَيْهِ قولى: [من مخلع الْبَسِيط]

أَقضَى القُضَاةِ الحسينُ أَعْنَى ... مكانَ أُمِّ القُرَي بِعَيْنه

وجاءَ بالعَيْنِ بَعْدَ يَأْسٍ ... فَشكْرُهُ وَاجِبٌ لِعَيْنِهُ

فَفتح لقبولهما كل بَاب، وأعجب بِهِ غَايَة الْإِعْجَاب.

قلت: يُمكن أَن يقْصد فِيهِ التورية فيراد بقوله (لعَينه) الذَّهَب، ويرشحه قَوْله: (أغْنى) إِلَى آخِره.

وَأَن يُرَاد بهَا المَاء الْجَارِي ويرشحه (جَاءَ بِالْعينِ بعد يأس).

وَعِنْدِي: سلبهما من لِبَاس التورية أستر، وأذكى لشذى الْمَدْح وأعطر، بِأَن يكون المُرَاد بِالْعينِ ذَاته وشخصه، ليَكُون وجوب الشُّكْر لذاته فِي كَمَاله، لَا لعَارض يَزُول بزواله.

ثمَّ جهز أَخْبَار هَذِه البشائر إِلَى السُّلْطَان سليم ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان، وَإِلَى سرادقات الْحجاب الرفيع مليكَة الملكات بلقيس الزَّمَان جانم السُّلْطَان أُخْت مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان، فأنعمت بالإنعامات الجزيلة، والترقيات الْكَثِيرَة الجميلة على سَائِر العمالين والمباشرين والمتعاطين لهَذِهِ الْخدمَة، ورقت مدرسة مَوْلَانَا القَاضِي حُسَيْن - وَهِي الأولى مِمَّا يَلِي بَاب الزبادة - فَصَارَت بِمِائَة عثماني.

واستمرت هَذِه الْعين من جملَة الْآثَار الْبَاقِيَة على صفحات اللَّيَالِي وَالْأَيَّام، والأعمال الصَّالِحَات الْبَاقِيَات على تكْرَار السنين والأعوام.

وَمَا عِنْده سُبْحَانَهُ من تَضْعِيف الْأجر وَالثَّوَاب خير، وَأبقى عِنْد أولي الْأَلْبَاب.

وَكَانَ جملَة النَّفَقَة خَمْسَة لكوك وَسَبْعَة آلَاف دِينَار ذَهَبا أَحْمَر جَدِيدا، وَذَلِكَ غير مَا صرف على إِحْضَار أَرْبَاب الصناعات من الحدادين والحجارين والقطاعين والنجارين، وَأهل الصناعات الدقيقة من الْبِلَاد الْبَعِيدَة، وَغير مَا صرف على خدامها وخدامهم.

وَقد كَانَت عمارتها فِي آخر الدولة السُّلْطَانِيَّة السليمانية وَفِي أول الدول السُّلْطَانِيَّة السليمية.


____________________________________

المصدر:

حوار رائع بين السلطان سليماني القانوني و الإِمَام المطهر بن شرف الدّين الحسني حاكم اليمن



وَهَهُنَا أَحْبَبْت ذكر رسَالَته إِلَى الإِمَام المطهر بن شرف الدّين الحسني الدَّاعِي بقطر الْيمن لحسن تنميقها وَكَثْرَة تحقيقها ومتانة ألفاظها وإيراقها، ورصانة إرعادها وإبراقها. وَهِي:

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم: هَذَا مثالنا الشريف السلطاني، وخطابنا المنيف العالي الخاقاني، لَا زَالَ نَافِذا مُطَاعًا بالعون الرباني، واليمن الصمداني، أرسلناه إِلَى الأميري الكبيري، العوني النصيري، الهمامي المطهري، الشريفي الحسيبي النسيبي، فرع الشَّجَرَة الزكية، طراز الْعِصَابَة النَّبَوِيَّة العلوية، ونسل السلالة الهاشمية السّنيَّة المطهر بن شرف الدّين. نخصه بِسَلام أتم وثناء أَعم.

ونبدي لعلمه الْكَرِيم أَنه لَا يزَال يتَّصل بمسامعنا الشَّرِيفَة إخلاصه لدينا، وقيامه بِقَلْبِه وقالبه بمرضاة سلطاننا وانقياده إِلَى جانبنا، وبمقتضى ذَلِك حصل شكرنا التَّام، وَالثنَاء الْعَام، على مناصحته ومكاتبته.

وَلما برز أمراؤنا الشَّرِيفَة مسابقين مُتَتَابعين مَعَ وزيرنا الْمُعظم سُلَيْمَان باشا إِلَى الْبِلَاد الْهِنْدِيَّة لفتح تِلْكَ الْجِهَات السّنيَّة؛ إحْيَاء لسنة الْجِهَاد، وَقطع دابر الْفساد وَأهل العناد. فَاسْتَبْشَرَ بذلك كل مُسلم وَصَارَ فَرحا مَسْرُورا، فَوَقع قدر الله وَكَانَ أَمر الله قدرا مَقْدُورًا.

فَرجع وزيرنا الْمشَار إِلَيْهِ فَوجدَ طَائِفَة من اللوند قد تملكوا (زبيد) من المملكة اليمنية، وَحصل مِنْهُم غَايَة المشاق بأذى الرّعية، وَزَاد ظلمهم على الْعباد والبلاد، وَعم ضررهم كل حَاضر وباد، فتتبع آثَارهم وَقطع دابرهم، واستنقذ الرعايا من أَيْديهم وَصَارَت مملكة زبيد من ممالكنا الشَّرِيفَة، وَعَاد إِلَى أعتابنا المنيفة، وأبرز من يَدَيْهِ مكتوبكم ومكتوب والدكم يتَضَمَّن الْإِخْلَاص لطاعة سلطاننا، وأنهما صَارا من أتباعنا، اللائذين بأعتابنا، وبموجب ذَلِك حصل عندنَا لكم زِيَادَة الْمحبَّة الصادقة وَحسن الْمَوَدَّة، وتحققنا مَا كَانَ يبلغنَا عَنهُ على أَلْسِنَة النَّاس السفار، المتمرددين على أعتابنا الشَّرِيفَة من تِلْكَ الديار، وبلغنا الْآن عَنْهُمَا خلاف ذَلِك وَتغَير مَا كاتبنا بِهِ فِي السَّابِق، مثل غير مُطَابق. وَأَنه وَقع بَينهمَا وَبَين أمرائنا وعساكر دولتنا بِتِلْكَ الْبِلَاد خُلف كَبِير، ووقائع عَم ضررها الْمَأْمُور والأمير، وَهَذَا عين الْخَطَأ الْمَحْض الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ذهَاب الرّوح لمن عقل وَفهم { إِن الله لَا يُغَيّرُ مَا بِقَومٍ حَتَى يُغَيِروا مَا بِأَنفُسِهِم } [الرَّعْد: 11]، فَالْآن ملكنا الشريف السَّامِي قد ملك بعون الله تَعَالَى بِسَاط الأَرْض شرقاً وغرباً، وَصَارَت سلطنتنا الْقَاهِرَة كالإبريز الْمُصَفّى، بعون النَّبِي الْمُصْطَفى، ورقم سجل سعادتنا بآيَات النَّصْر، على أهل الْعَصْر، وعَلى سَائِر الْمُلُوك بإحياء سنة الْجِهَاد إِلَى يَوْم الْعرض { ذَلِكَ فَضلُ اَللهِ يُؤتيهِ مَن يَشَاء } [الْجُمُعَة: 4]، { وَأَماً مَا ينفع النَّاس فيمكث فى الأَرْض } [الرَّعْد: 17]، وعساكرنا المنصورة أَيْنَمَا انخرطت خرطت، وأينما سَقَطت التقطت، وحيثما سلكت ملكت، وَأَيْنَ حلت فتكت، لَا يعجزهم صَغِير وَلَا كَبِير، وَلَا جليل وَلَا حقير، وَلَو شِئْنَا لعينا من عساكرنا المنصورة شرذمة قَلِيلُونَ. نَحْو مائَة ألف أَو يزِيدُونَ، مشَاة وركباناً من الْبر وَالْبَحْر، لأمرائنا ولأمرنا ممتثلون، ونقوي عَددهمْ بالاستعداد، ونشدهم بِالْقُوَّةِ والآلة والزاد، وَنَتبع الْعَسْكَر بالعسكر، ونملأ الْبر وَالْبَحْر، ونلحق الْجَيْش بالجيش من كل أسود وأحمر، حَتَّى يتَّصل أول عساكرنا بآخرهم، وواردهم بصادرهم، وَيكون أَوَّلهمْ فِي الْبِلَاد اليمانية، وَآخرهمْ فِي بِلَادنَا المحمية.

وَلَا نحتاج نعرفكم بقدرة سلطاننا وتشييد أَرْكَان دولتنا وَتَشْديد عزمتنا. فَإِن الْمُلُوك ذَوي التيجان، وَأَصْحَاب الْقُوَّة والإمكان، لَا يزالون خاضعين لهيبتنا الشَّرِيفَة قهرا عَلَيْهِم، مطأطئين رُءُوسهم خشيَة مِمَّا يلْحق بهم عِنْد الْمُخَالفَة وَيصير إِلَيْهِم، وَذَلِكَ مَشْهُور وَمَعْلُوم، وَظَاهر لَيْسَ بمكتوم، لَكِن غلب حلمنا عَلَيْهِ من تَعْجِيل النكاية إِلَيْهِ كَونه من سلالة سيد الْمُرْسلين، وَمن أهل بَيت النُّبُوَّة الطاهرين، ولازم على ناموس سلطنتنا الشَّرِيفَة أَن ننبه قبل اتساع الْخرق عليه، ونعرفه بِمَا يحل بِهِ وَيصير إِلَيْهِ، وَكَونه آوى إِلَى الْجبَال يتحصن بهَا عَن الزَّوَال، وَيَزْعُم أَن ذَلِك ينجيه فَهَذَا عين الْمحَال، وتدبيره تدميره على كل حَال، جهل ذَلِك أم علم { لَا عَاصمَ اليوَمَ مِن أَمرِ اَللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ } [هود: 43]، { أَين اَلمفرُ كلا لَا وَزَرَ } [الْقِيَامَة: 10، 11]، وَلَا لهارب من سلطنتنا مفر.

وَقد اقْتَضَت أوامرنا الشَّرِيفَة تعْيين افتخار الْأُمَرَاء الْكِرَام، صَاحب الْعِزّ والاحتشام، الْمُخْتَص بعناية الْملك والعلام مصطفى باشا، دَامَت معدلته، ونفذت كَلمته باشا على العساكر المنصورة، وصحبته ثَلَاثَة آلَاف من الْجند المؤيدة بِاللَّه مشَاة ورماة، حماة كفاة، إِعَانَة لأمير الْأُمَرَاء الْكِرَام، ذَوي الْقدر والاحترام، الْمَخْصُوص بمزيد عناية الْملك العلام، ازدمر باشا دَامَت معدلته وحرست نعْمَته، وعينا من الْبر ألفي فَارس، وهيأنا مثلهَا بعددها وعليقتها من الْبَحْر، فَعرض على مسامعنا الشريف مصطفى باشا أَن أَن يُؤَخر تجهيز الْجَيْش الْمَذْكُور من الْبَحْر إِلَى حِين يتَوَجَّه إِلَى تِلْكَ الْجِهَات وَينظر فِي الْأَحْوَال، وَمَا عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الأقطار من الْحَال، وَإِذا وَقع من أحد خلاف، وَاحْتَاجَ إِلَى الْخُيُول الْمَذْكُورَة فيجهز إِلَيْنَا لطلبهم فتصل إِلَيْهِ على مَا يحب، فأخرنا ذَلِك إِلَى حِين يعود الْجَواب بتحقيق الْأَخْبَار عَن الإِمَام وَولده. فحال وُصُول مصطفى باشا الْمشَار إِلَيْهِ إِلَى تِلْكَ الديار، واستقراره بِتِلْكَ الأقطار، وَلَا بُد أَن تحضر إِلَى خدمته، ممتثلاً لكلمته، وتقابله بقلب منشرح، وَصدر منفسح، وتمشي تَحت صناجقنا الشَّرِيفَة، وَتدْخل تَحت طاعتنا المنيفة، وَتَكون مَعَ عساكرنا مُنْضَمًّا لأوامرنا على قلب رجل وَاحِد، غير متقاعس وَلَا متقاعد. فَإِن مصطفى باشا الْمشَار إِلَيْهِ، باشا عساكرنا وَخَلِيفَة أمرنَا، وَكَلَامه من كلامنا. وَأمره من أمرنَا، وَنَهْيه من نهينَا، وَمن أطاعه فقد أطاعنا، وَمن خَالفه فقد خَالَفنَا، ونعوذ بِاللَّه من الْمُخَالفَة، وَعدم الانقياد والمؤالفة، فليتفكر المطهر فِي نَفسه، قبل حُلُول رمسه، وليتنبه من رقدته، ويصحو من غفلته، ويفيق من سكرته.

فَإِن فعل ذَلِك وانضم إِلَى سلطنتنا الشَّرِيفَة، فقد رحم نَفسه وصان مهجته وَيرى من دولتنا العادلة غَايَة الرِّعَايَة، وبلوغ الأمنية مَعَ الزِّيَادَة إِلَى حد النِّهَايَة.

وَأَنه إِذا دخل تَحت طاعتنا وَمَشى على الاسْتقَامَة لدينا، وانضم إِلَى عساكرنا فننغم عَلَيْهِ بأمرنا الشريف بِمَا يسْتَحق بِهِ فِي مَمْلَكَته مُسْتقِلّا بِهِ من غير معَارض لَهُ فِي ذَلِك، وَلَا مُنَازع لَهُ فِيمَا هُنَالك، فَحَيْثُ فعلت فَأَنت من الفائزين، لَا تخف وَلَا تحزن، إِنَّك الْيَوْم لدينا مكين أَمِين، وَإِن حصل وَالْعِيَاذ بِاللَّه مُخَالفَة، وَاسْتمرّ على العناد والمجانفة، وانهمك فِي الضلال، والمكابرة والخيال، فَيُصْبِح ذَنبه فِي رقبته، وَيهْلك نَفسه بِيَدِهِ { وَمَا ظلمنهم وَلَكن كاَنوُا أَنفُسَهُم يَظْلِمُونَ } [النَّحْل: 118]، وَيدخل فِي قَول أصدق الْقَائِلين: { يُخرِبوُنَ بيوُتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدي اَلمُؤمنينَ } [الْحَشْر: 2]، وَيصير بعد الْوُجُود إِلَى الْعَدَم، ويندم حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم، وَقد حذرنا رأفة بِهِ وتحننا عَلَيْهِ، بإصدار هَذَا الْكتاب إِلَيْهِ، فَإِن خَالف أتيناه بِجُنُود لَا قبل لَهُ بهَا، وأخرجناه مِنْهَا ذليلاً حَقِيرًا، لَا ملْجأ لَهُ من سلطنتنا إِلَّا إِلَيْهَا الَّتِي هِيَ لِمن سَالَمَهَا ظلاً ظليلاً، وعَلى من خالفها عذَابا وبيلاً، وَمثله لَا يدل على الصَّوَاب فليعتمد على ذَلِك وعلامتنا الشَّرِيفَة حجَّة عَلَيْهِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ.




فَكتب إِلَيْهِ الإِمَام المطهر الْجَواب وَهُوَ: نور الله شمس الْإِسْلَام وأطلعها، وفجر عُيُون الشَّرِيعَة وأنبعها، ولألأ كواكب الدّين الحنيفي وأسطعها، وَأَعْلَى منار الْملَّة الْبَيْضَاء ورفعها، وزلزل جموع الظُّلم والعداوة وزعزعها، وأرعد قُلُوب الْجَبَابِرَة المردة وأرعبها، وَألف بَين قُلُوب الْمُسلمين وَجَمعهَا، بدوام دولة مَوْلَانَا السُّلْطَان الْمُعظم الْعَظِيم، ذِي الْملك الباهر القاهر الْعَقِيم، الْقَاطِع بسيوف عزمه عنق كل جَبَّار أثيم، الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَة والتحية وَالله يُؤْتِي من يَشَاء فَضله العميم. شمس الْخلَافَة المضيئة فِي اللَّيْل البهيم، ظلّ الله فِي أرضه الْقَائِم بسنته وفرضه القويم، حجَّة الله الْوَاضِحَة للحق على التَّعْمِيم. أَمِينه على خلقه، وخليفته الْقَائِم بِحقِّهِ بِتَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم. المتسم بحماية آل الرَّسُول، وَأَبْنَاء فَاطِمَة البتول، سلالة النَّبِي الْكَرِيم، الباسط عَلَيْهِم ظلّ عدله فَلَا ينالهم حَر الْجَحِيم، فهم راتعون فِي رياض إحسانه وَلها نبت وسيم، وكارعون من حِيَاض امتنانه الَّتِي لَا يشوب صفوها الدَّهْر المليم. سامي الفخار، زكي الأَصْل والنجار.

الفائز بحوز قصبات السَّبق فِي الْحسب الصميم. الْكَاف لأكُف من تعاشى عَن الْهِدَايَة، وسلك مسالك الغواية، وَكَانَ لَهُ فِي العجرفة تصميم.

الَّذِي لَا تحصى صِفَاته بتعداد، وَلَو أَن الشّجر أَقْلَام وَالْبَحْر مداد، واسأل بذلك كل خَبِير عليم. الخنكار الْكَبِير، والخاقان الشهير سُلَيْمَان بن سليم.

أهدي إِلَى مقَامه نَجَائِب التَّحِيَّة وَالتَّسْلِيم، وَرَحمته الطّيبَة، وَبَرَكَاته الصيَّبة، الموصولة بنعيم دَار النَّعيم, وحرس جنابه العالي، وَحرمه الْمُحْتَرَم من صروف اللَّيَالِي، بِمَا حفظ بِهِ الْآيَات وَالذكر الْحَكِيم. فَإِنَّهُ ورد من تلقائه - أَطَالَ الله للْمُسلمين فِي بَقَائِهِ - مرسوم سطعت أنواره، وطلعت بالمسرة شموسه وأقماره، وتضاحكت فِي عرصات الْمجد كمائمه وأزهاره، وَجَرت فِي جداول الْحَمد أنهاره، وتحاسد على مشرفه ليل الزَّمَان ونهاره. مرسوم تقر بِهِ الْعُيُون، وَتصْلح بِهِ الْأَحْوَال والشئون، أنشئ لله نجاره فوجدناه أشفى من الترياق، وأبهى من الإثمد فِي دعجٌ الأحداق. يتبلج تبلج الْبَرْق، ويحلب الْخيرَات تحلب الودق، يفوق اللُّؤْلُؤ الثمين منشوراً، ويفضح شقائق النُّعْمَان زهوراً، وَيجْعَل مَمْدُود الثَّنَاء عَلَيْهِ مَقْصُورا. فتعطرت الأندية بنشره، وأعلنت الألسن بِحَمْدِهِ وشكره، وهب فِي الْبَوَادِي والأمصار نسيم ذكره، وَدخلت النَّاس أَفْوَاجًا تَحت نَهْيه وَأمره: [من الْخَفِيف]

حَبَّذا مُدْرَجًا كَرِيمًا جَليْلاً ... زَانَهُ مُنْشِىءٌ كَرِيمٌ جَلِيلُ

لَفْظهُ الدُّرُّ فِي السُّمُوطِ وفَخْرًا ... وبِمَعْنَاهُ سَلْسَلٌ سَلْسَبِيلُ

وإِذَا المُدْرَجَاتُ كَانَتْ مُلُوكًا ... فَهْوَ فِيهَا وبَيْنَها إِكْلِيلُ

مُدْرَجٌ فِيهِ للبَهاءِ غُدو ... ومَرَاحٌ ومَسْرحٌ ومَقِيلُ

فَللَّه در أنامل صاغته بالبلاغة، وضمنته مَا يعجز عَنهُ قدامَة وَابْن المراغة، فَلَو رَآهُ الْملك الضليل لطأطأ رَأسه خاضعاً.

وعرفنا مَا ذكره سُلْطَان الْأُمَم، وَملك رِقَاب الْعَرَب والعجم، المتسم بحماية الْحرم، من الْإِحَاطَة بطاعتنا، ودخولنا تَحت لوائه وأقواله وأفعاله، وَالْحَمْد لله الَّذِي وفقنا لطاعته، وردنا عَن السلوك فِي مُخَالفَته، فَإِن لنا بكم الْحَظ الأوفر مَعَ زِيَادَة الْحسنى، والنصيب الأفخر الأهنى.

وَنَرْجُو نيل الشّرف الْكَامِل الْأَكْمَل، ونجح المُنَى والمطالب، وبلوغ نِهَايَة الْأَمَانِي والمآرب. فَمن اسستمسك بعروتكم الوثقى فَازَ بمطالبه، ونال الْغَايَة القصوى من مآربه، وَرفع لَهُ الدَّرَجَات السامية الْعلية، وَتمّ لَهُ بذلك كل سُؤال وأمنية، ويحظى بعيشة هنيَّة، راضية مرضية. وَهَذِه طَريقَة مَعْرُوفَة، وَسنة قديمَة مألوفة. لَا تميل عَن الوفا، وَلَا تكدر من ذَلِك المشرب مَا صفا> كَيفَ وطاعتكم من طَاعَة الْملك الْخَالِق، ومعصيتكم تظلم مِنْهَا المغارب والمشارق، وَنحن من مودتكم على يَقِين، وَنَرْجُو أَن لَا تصفوا أذنا الْكَلَام الْفَاسِقين، وَلَا تهملوا رِعَايَة الصَّالِحين الْمُتَّقِينَ، وَلَا تقطعوا حق ذُرِّيَّة النَّبِي الْأمين، وَأَبْنَاء عَليّ الأنزع البطين، كرم الله وَجهه فِي عليين { قل لَا أسئلكم عليهِ أجرا إِلا المَوَدةَ فِي القُربى } [الشورى: 23]، وَذَلِكَ نَص الْكتاب الْمُبين.

فَأنْتم أولى برعاية من أَمر الله أَن يرْعَى، وَمن تقر بِهِ من عِترَةِ النَّبِي أذنا وسمعاً، فكم لكم من محامد مشكورة، ومفاخر مَشْهُورَة، ومعاني جميلَة منثورة، نؤمل أَن تشقوا بحسامها نوافج الوشاة، وتردوا كيد كل كَذَّاب لَا يراقب الله وَلَا يخشاه، وَالَّذِي يَنْقُلهُ إِلَيْكُم أَرْبَاب الزُّور، والإفك والفجور. من تَحَوَّلْنَا عَن طَاعَة السُّلْطَان الْأَعْظَم، ومخالفتنا لما سبق من مودتنا وَتقدم. كذب يُعلمهُ الداني والقاصي، وَمن التمويه الَّذِي لناقله أَشد الاقتصاص. حاشا وكلا أَن نرضى مُخَالفَة، أَو نَمِيل عَن الْأَحْوَال السالفة، أَو ننكر تِلْكَ المعارف العارفة، نَعُوذ بِاللَّه من الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، أَو نَكُون مِمَّن تعدى الْحَد بعد الطّور، وتقاعد عَن طاعتكم وَهِي مَحل السَّعْي إِلَيْهَا على الْفَوْر، فنكون كمن اشْترى الضَّلَالَة بِالْهدى، وتحول عَن السَّلامَة إِلَى مخاوف الردى، وَآل الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعرف النَّاس بِالصَّوَابِ. وأعلمهم بمعاني السّنة وَالْكتاب. أطِيعُوا الحَدِيث. وَمن نسب إِلَيْهِم خلاف ذَلِك فَهُوَ خَبِيث نبيث. فثقوا منا بالمحبة الراسخة أطنابها، والمودة الشامخة قبابها، وَالرِّعَايَة المفتحة أَبْوَابهَا.

وَالَّذِي أشرتم إِلَيْهِ فِي سامي الْخطاب، وبطاقة الْكتاب، من بُلُوغ مخالفتنا لعساكركم المنصورة، وكتائبكم الواسعة الموفورة، لَيْسَ لَهُ صِحَة وَلَا ثبات، وَلَا كَانَ لنا إِلَى حربهم تعد وَلَا الْتِفَات، بل قصدونا إِلَى تِلْكَ الْجِهَات، وجلبوا علينا أتراكاً وأرواماً، وهتكوا أستاراً كَانَت بَيْننَا وَبينهمْ وذماماً، وَلَا راعوا لأوامركم الشَّرِيفَة فِينَا أحكاماً، وضيقوا علينا مسالك الْمَعيشَة خلفا وأماماً، ورمونا بمدافع لَا يرْمى بهَا إِلَّا الَّذين يعْبدُونَ أوثاناً وأصناماً.

وَنحن من الَّذين أوجب الله لَهُم احتراماً، نُقِيم الشَّرَائِع ونميت الْبَدَائِع وَلم نلق أثاماً، وَمن الَّذين يبيتُونَ لرَبهم سجدا وقياماً. فدافعنا عَن أَنْفُسنَا وَأَوْلَادنَا بِمَا أمكن من الدفاع، وَترك الزِّيَادَة عَنْهَا لَا يُسْتَطَاع. وَنحن فِي مهَاجر يسير، وَمَكَان يأوي إِلَيْهِ البائس الْفَقِير، لَا ينافس من اعْتصمَ بِهِ، وَاقْتصر على طَاعَة ربه.

وَلَو أَن عساكركم المنصورة الألوية، الْمسلمَة من صروف الْأَقْضِيَة، وجهوا هممهم الْعلية، وعزائمهم الصلبة القوية، إِلَى الْجِهَات العصية الكفرية. إِذا لنالوا من الْخيرَات نيلاً عَظِيما، ولسلكوا سَبِيل السَّعَادَة صراطاً مُسْتَقِيمًا، وأدركوا من فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خيرا ونعيماً.

بيد أَن تشاغلوا بحربنا عَن جَمِيع الحروب، وفوتوا بذلك كل غَرَض لَهُم ومطلوب، وأهملوا جِهَات الْكفَّار حَتَّى سقط الْجنُوب، وهبت فِي دَار الْإِسْلَام للشرك جنوب. وَحين وصل المرسوم المشرف، والمثال الْكَرِيم الْمُعَرّف، طبنا بِهِ نفوساً، وسلكنا بِهِ محلا من الْأَمْن مأنوساً، ودفعنا بِهِ عَن وُجُوه الْحق ظلاماً وعبوساً، وضلالاً وبوساً.

وخمدت نيران الْحَرْب، وغلت أَيدي الطعْن وَالضَّرْب. فقررنا بِمَا قررتموه كل قلب، فَإِن امتثل من حوالينا من الاْمراء الأكابر، لما صدر عَنْكُم من الْمَوَارِد والمصادر، فَتلك الْمنية الْمَقْصُودَة، والضالة المفقودة، والدرة الثمينة المنقودة، وَالْغنيمَة الْعَظِيمَة الشاملة الممدودة. وَإِن خالفوا أوامركم المطاعة، وَقَابَلُوا نواهيكم بالإضاعة، فحسبهم عذابكم الوبيل، وَمَا تعدونه لمن خالفكم من التنكيل. وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل.

وَكُنَّا نود أَن نرسل إِلَى الْأَبْوَاب الشَّرِيفَة مَا تكن الْقُلُوب والصدور.

إِلَّا أَن هَؤُلَاءِ الَّذين يلوننا قطعُوا وسدوا من التواصل أوصالاً، وقعدوا لرسلنا بكرا وآصالاً، وصدوهم عَن الْوُصُول إِلَى أبوابكم الْعَالِيَة عَن جَمِيع الْأَبْوَاب، ومنعوهم عَن مناهج الذّهاب والإياب.

فولا مَا كَانَ مِنْهُم من الْمَنْع لما نُرِيد، لَكَانَ يصدر إِلَى أبوابكم الْعَالِيَة فِي كل شهر بريد.

وَحين وصل وكيلكم الْمُعظم الباشا مصطفى إِلَى الْجِهَات اليمنية، والديار الَّتِي هِيَ بِسيف قهركم محمية. بسط عدله فِي أهل الْيمن، وأخمد نيران الْفِتَن والمحن، وَأصْلح من الْأُمُور مَا ظهر وَمَا بطن، واطلع على الْحَقَائِق فِي الْمَاضِي واللاحق، وَمَا نَحن عَلَيْهِ بِحَمْد الله من حسن المساعي والطرائق، وكرم الْأُصُول الشَّرِيفَة والمعارق.

وَقد أرسل إِلَيْنَا قصاد أمجاد، محبون أوداد، عرفُوا جَمِيع الْأُمُور، وَأَحَاطُوا بِالظَّاهِرِ مِنْهَا والمستور.

وَلَعَلَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُهَيِّئ قدومه إِلَى صنعا. وَيحيى بِهِ للإله دينا وَشرعا، وَيقطع بِهِ دابر من خَالف أَمركُم قطعا.

ولعمري إِنَّه رجل عَظِيم، وَذُو خطب جسيم، بأرباب الدّين رءوف رَحِيم .

قد طابت شمائله، وراقت أَوْصَافه ومخايله. فَهُوَ بِكُل خير يجود، وَيحمل من طاعتكم مَا يشق على غَيره ويئود.



فَالله يَجْعَل سَعْيه مشكوراً، ويشرح بِأَعْمَالِهِ من الاسْتقَامَة قلوباً وصدورا، وَيدْفَع بِعَين عنايته عَن الْأَنَام وَالْإِسْلَام شروراً. ويملأ الْأَنْفس والأفئدة حبوراً إِن شَاءَ الله وسرورا. وَبعد: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته.


__________________________________

المصدر:

حوار بين القَاضِي ابْن الشّحْنَة وتيمور لنك



قلت: وَذكر الإِمَام الْمَذْكُور فِي كِتَابه الْمَذْكُور وَاقعَة لتيمور مَعَ الْعَلامَة القَاضِي محب الدّين أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَحْمُود الْحلَبِي قاضيها الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الشّحْنَة أَحْبَبْت ذكر نَصهَا:

لما كَانَ يَوْم الْخَمِيس تَاسِع ربيع الأول من عَام ثَمَان وَثَمَانمِائَة أَخذ يَعْنِي تيمور قلعه حلب بالأمان والأيمان الَّتِي لَيْسَ مَعهَا ايمان، فَاسْتَحْضر علماءها وقضاتها فَحَضَرُوا إِلَيْهِ، وَطلب من مَعَه من أهل الْعلم فَقَالَ لكبيرهم عِنْده، وَهُوَ الْمولى عبد الْجَبَّار ابْن الْعَلامَة نعْمَان الدّين الْحَنَفِيّ، قل لَهُم: إِنِّي سائلهم عَن مسَائِل سَأَلت عَنْهَا عُلَمَاء (سَمَرْقَنْد) و(بخارى) و(هراة) و(خراسان)، وَسَائِر الْبِلَاد الَّتِي افتتحتها، فَلم يفصحوا الْجَواب، فَلَا تَكُونُوا مثلهم، وَلَا يجاوبني إِلَّا أعلمكُم وأفضلكم وليعرف مَا يتَكَلَّم بِهِ، فَإِنِّي خالطت الْعلمَاء ولي بهم اخْتِصَاص وألفة، ولي فِي الْعلم طلب قديم.

قَالَ صَاحب الْكتاب: وَكَانَ يبلغنَا عَنهُ أَنه بتعنت الْعلمَاء فِي الأسئلة، وَيجْعَل ذَلِك سَببا إِلَى قَتلهمْ أَو تعذيبهم.

قَالَ القَاضِي ابْن الشّحْنَة: فَقَالَ القَاضِي شرف الدّين مُوسَى الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي: هَذَا شَيخنَا ومدرس هَذِه الْبِلَاد ومفتيها - مُشِيرا إِلَى - سلوه وَالله الْمُسْتَعَان.

قَالَ فَقَالَ لي قاضيه عبد الْجَبَّار: سلطاننا يَقُول إِنَّه بالْأَمْس قتل منا ومنكم، فَمن الشَّهِيد: قتيلنا أم قتيلكم؟

فَوَجَمَ الْجَمِيع، وَقُلْنَا فِي أَنْفُسنَا: هَذَا الَّذِي كَانَ يبلغنَا عَنهُ من التعنت.

وَسكت الْقَوْم، فَفتح الله عَليّ بِجَوَاب سريع بديع. فَقلت: هَذَا سُؤال سُئِلَ عَنهُ سيدنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ،قَالَ لي صَاحِبي شرف الدّين الْمَذْكُور بعد أَن انْقَضتْ الْحَادِثَة: وَالله الْعَظِيم لما قلت: هَذَا السُّؤَال سُئِلَ عَنهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنا مُحدث زماني، قلت: عالمنا قد اخْتَلَّ عقله، فَإِن هَذَا سُؤال لَا يُمكن الْجَواب عَنهُ فِي هَذَا الْمقَام، وَوَقع فِي نفس عبد الْجَبَّار قاضيه مثل ذَلِك وَألقى إليّ تيمور سَمعه وبصره، وَقَالَ لعبد الْجَبَّار يسخر من كَلَامي: كَيفَ سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن هَذَا، وَكَيف أجَاب؟

فَقلت: جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِن الرجل يُقَاتل حمية، وَيُقَاتل ليُري مَكَانَهُ من الشجَاعَة، فأينا الشَّهِيد فِي سَبِيل الله تعالى؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمةُ اللهِ هِيَ العُلْياً فَهُوَ الشَهِيدُ )).

فَقَالَ تيمور لنك: خوب خوب. فانفتح بَاب المؤانسة فَكثر مِنْهُ السُّؤَال، وَكثر مني الْجَواب.

وَكَانَ آخر مَا سَأَلَ أَن قَالَ: مَا تَقولُونَ فِي عَليّ وَمُعَاوِيَة وَيزِيد؟

فَأسر إِلَى القَاضِي شرف الدّين: أَن اعرف كَيفَ تجاوبه فَإِنَّهُ شيعي، فَلم أفرغ من مساع كَلَامه إِلَّا وَقد قَالَ القَاضِي علم الدّين القفصي الْمَالِكِي كلَاما مَعْنَاهُ: إِن الْكل مجتهدون، فَغَضب لذَلِك غَضبا شَدِيدا، وَقَالَ: عَلِي عَلَى الْحق، وَمُعَاوِيَة ظَالِم، وَيزِيد فَاسق، وَأَنْتُم حلبيون تبع لأهل دمشق، وهم يزِيدُونَ قتلوا الْحُسَيْن.

قَالَ: فَأخذت فِي ملاطفته والاعتذار عَن الْمَالِكِي بِأَنَّهُ أجَاب بِشَيْء وجده فِي كتاب لَا يعرف مَعْنَاهُ، فَعَاد إِلَى دون مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْبسط.

قَالَ: وَلما كَانَ آخر شهر ربيع الْمَذْكُور طلبني ورفيقي القَاضِي شرف الدّين وَأعَاد السُّؤَال عَن عَليّ وَمُعَاوِيَة، فَقلت: لَا شكّ أَن الْحق كَانَ مَعَ عَليّ فِي نوبَته، وَلَيْسَ مُعَاوِيَة من الْخُلَفَاء فَإِنَّهُ صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: (( الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة )) وَقد تمت بعلي وَابْنه الْحسن.

فَقَالَ تيمور لنك: قُل عَلِي عَلَى الْحق، وَمُعَاوِيَة ظَالِم. 


فَقلت: قَالَ صَاحب الْهِدَايَة يجوز تقلد الْقَضَاء من وُلَاة الْجور فَإِن كثيرا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ تقلدوا الْقَضَاء من مُعَاوِيَة، وَكَانَ الْحق مَعَ عَليّ فِي نوبَته، فأنس لذَلِك انْتهى من الْكتاب الْمَذْكُور مُلَخصا.

قلت: فِي قَوْله (فِي نوبَته) احْتِرَاز لطيف عَن نِسْبَة التَّعَدِّي إِلَى الصّديق، وتالييه كَمَا هُوَ مَذْهَبنَا معشر أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وَمَرَّتْ على تيمور وَلم يفْطن لذَلِك.


__________________________________________

المصدر: