مجلة الرسالة
العدد 300 - بتاريخ: 03 - 04 - 1939
للدكتور عبد الوهاب عزام
نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق: وزير السلاجقة من أعظم الوزراء الذين عرفهم تاريخ الإسلام. ووزير للسلطان محمد ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه ثلاثين سنة (455 - 485) هـ.
كان أبوه أحد دهاقن طوس، وذهبت بماله الحادثات فولد نظام الملك في بيت فقير سنة 408. وماتت أمه وهو رضيع. ونشأ نجيباً زكياً فتعلم العربية والفقه وسمع الحديث. وتقلبت به صروف الزمان في أرجاء الأرض، حتى استقر في بلخ عند أحد عمّال داود والد السلطان ألب أرسلان. ثم تولى أعمال ألب أرسلان ووزر له قبل السلطنة. فلما خلف ألب أرسلان عمه طغرل بك دبّر نظام الملك أمور الدولة، وظهرت كفايته، وشاع ذكره؛ فاستقل بسياسة الملك طوال عهد ألب أرسلان وعهد ابنه ملكشاه. وتولى أبناؤه، وكانوا أثنى عشر، المناصب الرفيعة في الدولة. فتمكن سلطانهم، وعظم جاههم، وانقادت لهم الأمور حتى فاقوا البرامكة في أيامهم.
يقول ابن الأثير:
(كان عالماً جواداً عادلاً حليما كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت. كان مجلسه عامراً بالقراء والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد وببغداد وغيرها. وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطا نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)
وما زالت الأمور في تصريفه، والأحوال مواتية له، إلى أن قتل سنة 485.
وذلك إنه كان مسافراً مع السلطان ملكشاه من أصفهان إلى بغداد، فنزلا على مقربة من نهاوند. قال ابن الأثير:
(فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفة إلى خيمة حرمه أتاه صبي ديلمي في صورة مستميح أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة فأدركوه فقتلوه).
وقد شاع بين الناس أن الملاحدة دبروا لقتله إذ كان يبغضهم وكتب في كتابه سياستنامه فصلاً في بيان مفاسدهم. ويقال إن ملكشاه هو الذي أوحى بقتله وكان قد نقم منه ومن أولاده تمكنهم في عظم المناصب، وجاههم، وأوغرت صدره عليهم امرأته تُركان خاتون، وكانت تسعى ليخلف ابنها الطفل محمود أباه على الملك، وكان نظام الملك يؤثر بركيا روق أخا محمود الأكبر. إذ يقال إن جمال الملك بن نظام الملك قتل مسخرة للسلطان كان يحاكي نظام الملك في المجلس السلطاني، فنقم عليه السلطان وأمر من دس له السم في شربة فقاع
ويروي ابن الأثير أن السلطان أرسل أحد قواده شحنة إلى مرو وكان يتولى أمورها حينئذ عثمان بن جمال الملك ومفيد نظام الملك. فوقع نزاع بين الشحنة وعثمان فحبسه عثمان ثم أطلقه فذهب إلى السلطان شاكياً؛ فأرسل السلطان إلى نظام الملك يسأله أأنت شريكي أو وزيري ويذكر استيلاء أبنائه على المناصب وتجاوزهم الحد.
فلما بلغت الرسالة الوزير الكبير غضب وقال للرسول (قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فانك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي. أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه. . . فلما قدت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب ويسمع في السعايات! قولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق لهذه الدواة وأن اتفاقهما رباط كل رغبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقْت هذه زالت تلك).
ومن عجائب الاتفاق أن السلطات مات بعد شهر من قتل الوزير واضطربت الدولة اضطراباً شديداً.
ومهما يقل من أسباب النفور التي وقعت بين السلطان والوزير فأنا بعد أن يدبر الملك لقتل وزيره الشيخ الذي كان يثق به ويعتمد عليه ويستصحبه في حضره وسفره.
كتب نظام الملك كتاب السياسة (سياستنامه) قبل موته بسنة واحدة، وضمنه علمه وتجاربه وآراءه في سياسة الملك وترتيب الدولة، وإنصاف الرعية، وقسمه إلى خمسين فصلاً.
وللكتاب مقدمة كتبها ناسخ الخزانة السلطانية يبين فيها سبب تأليف الكتاب فيما يأتي:
(أمر السلطان السعيد أبو الفتح ملكشاه ابن محمد أمين أمير المؤمنين أنار الله برهانه، سنة أربع وثمانين وأربعمائة بعض الكبراء والشيوخ والعلماء أن تفكَّروا في أحوال المملكة وانظروا ماذا من السيئات في عهدنا، وماذا خفي علينا، وماذا فعله السلاطين السابقون ولم نفعله، وأعلمونا به. وكذلك اكتبوا ما تعرفون من سنن الملوك السالفين مما يتعلق بدولة السلاجقة وملكهم، واعرضوه علينا لنتأمّله ونأمر بعدُ أن يسير كل عمل ديني ودنيوي على قاعدته، ويوضع كل شيء في موضعه، وننهي عما لا يُستحسن. فإن الله وهبنا الدنيا وأتم نعمته علينا وقهر أعدائنا فلا ينبغي أن يكون أمر في مملكتنا ناقصاً أو يذهب عمل على غير وجهه أو يخفى علينا شيء.
(أمر بهذا نظام الملك، وتاج الملك، ومجد الملك وطائفة أمثالهم، فكتب كلُ ما تيسر له في هذا الشأن وعرضه على السلطان فلم يعجبه إلا ما كتب نظام الملك فقال: كُتبت هذه الفصول كما أردت فليس في نفسي عليها مزيد. وقد اتخذت هذا الكتاب إمامي وسأعمل به.)
ويقول نظام الملك في خاتمة الكتاب: (هذا كتاب السياسة. أمر سلطان العالم خادمه أن يكتب في هذا الموضوع فامتثل أمره. كتب تسعة وثلاثين فصلاً على عجل ورفعها إلى السدة العالية فلقيت قبولاً. وكانت مختصرة فزدت عليها، وأضفت إلى كل فصل ما يناسبه، وبينتها بلغة واضحة، وقد سلمته إلى ناسخ الخزانة السلطانية محمد المغربي سنة أربع وثمانين وأربعمائة ونحن على عزيمة السفر إلى بغداد، وأمرته أن ينسخه بخط جميل، فإذا لم يتح لي الرجوع من هذه السفرة قدمه إلى السلطان.)
وسأتكلم على الكتاب وأترجم فصوله في المقالات الآتية إن شاء الله.
العدد 301 - بتاريخ: 10 - 04 - 1939
الفصل الأول
في أحوال الناس وتقلب الزمان، ومدح ملك العالم غياث الدين والدنيا قدس سره.
الله تعالى يجتبي في كل عصر واحداً من خلقه، ويجمّله بالفضائل الملكية، وينوط به مصالح الدنيا وراحة الناس، ويغلق به باب الفساد والفتن والاضطراب، ويمكن هيبته وحرمته في قلوب الخلق وعيونهم، ليعيش الناس في عدله، ويأمنوا في سلطانه، ويرجوا بقاء دولته.
وإذا عصا الناس الشريعة واستخفوا بها وقصروا في إطاعة أوامر الله تعالى فأراد أن يعاقبهم ويذيقهم جزاء أعمالهم، ويحل بهم شؤم عصيانهم - لا أرانا الله مثل هذا الزمان، ولا ابتلانا بمثل هذا الشقاء - يحرمهم الملك الخيِّر، فتختلف بينهم السيوف وتسيل الدماء، ويغلب كل قوي على ما يريد حتى يهلك هؤلاء المجرمون في هذه الفتن وهذا القتال. كمثل النار تشتعل في القصب فتحرق كل يابس، وتتعدى إلى كثير من القصب الرّطب.
الله تعالى يمنح واحداً من عباده السعادة والدولة، ويرزقه الإقبال على قدره، ويهبه العقل والعلم ليسوس بهذا العقل والعلم كل واحد من الرعية على الوجه الذي يصلحه، ويضع كل واحد في مرتبته؛ ثم يختار رجاله وعماله من الناس، ويوفي كلا منهم درجته، ويعتمد عليه في كفاية أمور الدين والدنيا.
ويكفل الراحة لمن يسلك سبيل الطاعة ويقبل على عمله من رعيته ليعيشوا مغتبطين في ظل عدله.
وإذا تجاوز أحد عماله حدّه وأطال يده فإن أصلحته الموعظة والتأديب والتأنيب، واستيقظ من نوم الغفلة، حفظ عليه عمله ومنصبه، وأن تمادى في غفلته لم يستجز إبقاءه في عمله واستبدل به من هو أهل للعمل وكذلك من جحد من الرعية حق النعمة، ولم يعرفوا قدر الأمن والراحة، واعتقدوا الخيانة وأبدوا التمرد، وجاوزوا حدودهم يعاقبهم على قدر جرمهم حتى يتوبوا.
ثم على الملك بعدُ أن يدأب في عمارة المملكة فيحفر القنوات ويشق الأنهار، ويمد الجسور على الأنهار العظيمة، ويعمر القرى والمزارع، ويبني الحصون، ويشيد المدن الجديدة، والأبنية الرفيعة، والقصور البديعة، ويقيم الربط على الطرق السلطانية، فيخلد بهذه الأعمال ذكره، وينال ثوابها في الدار الآخرة، ويتصل الدعاء له بالخير. . .
ولما أراد الله سبحانه أن يجعل هذا العصر زينة العصور الماضية وغرة مآثر الملوك السالفة، ويرزق الناس السعادة التي لم يرزقها أحد من قبل اختار ملك العالم السلطان الأعظم من أصلين عظيمين ورثا الملك والسيادة أباً عن أب إلى أفر أسباب العظيم، وجمله بالكرامة والعظمة التي لم يظفر بها الملوك السابقون
فأنعم عليه بما يحتاج الملوك إليه من حسن المنظر، وجمال الطبع والعدل والرجولة والشجاعة والفروسية ومعرفة أنواع السلاح واستعمالها، والتحلي بالفضائل والشفقة والرحمة بالخلق، ووفاء النذور والوعود، وصحة الدين والاعتقاد وطاعة الحق تعالى، وتأدية النوافل من صلاة الليل، وكثرة الصوم، وإعظام أهل العلم وإكرام الصالحين والزاهدين والحكماء، وتواتر الصدقات والإحسان إلى الفقراء، ومعاشرة الرعية والعمال بخلق حسن، وكف الظالمين عن الرعية. لا جرم سخر الله له ملك العالمين على مقدار جدارته، وحسن نيته، ومد هيبته وسياسته إلى كل إقليم حتى يؤدي الناس الخراج إليه ويأمنوا بالتقرب من سطوته. وإن كان بعض الخلفاء أوتي بسطة في الملك وسعة فما فرغوا وقتاً من القلق وخروج الخوارج. وفي هذا العهد المبارك لا نجد - بحمد الله - أحداً ينطوي على خلاف أو يخرج رأسه من ربقة الطاعة.
أدام الله هذه الدولة إلى قيام الساعة وأبعد عن هذه المملكة نظر السوء وعين الكمال ليعيش الناس في عدل ملك العالم وسياسته ويديموا دعاء الخير له.
وإذ كانت حال الدولة كما وصفت كان العلم والبصر بالسنن الحسنة على مقدار هذا، والعلم كشمع ينشر ضوءاً كثيراً فيهتدي الناس به الطريق، ويخرجون من الظلمات، ولا يحتاجون إلى دليل ولكن تدبير الملك يعجز عنه العبيد، وهم لا يبلغون درجة عقله وعلمه. فلما أمرهذا العبد أن اكتب طرفاً من السير الطيبة التي لا غنى للملوك عنها، وكل ما عمله الملوك الماضون ولا يعمل الآن من حسن أو قبيح، وكل ما سمعت في ذلك أو قرأت أو علمت فكتبت إطاعة للأمر العالي هذه الفصول بالإجمال وذكرت في كل فصل ما يلائمه بعبارة واضحة، بتوفيق الله عز وجل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق