بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 15 نوفمبر 2017

ذكر طرف من أَخْبَار فطن الصّبيان

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
أَنبأَنَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب النَّحْوِيّ قَالَ أَنبأَنَا أَبُو جَعْفَر بن الْمسلمَة قَالَ أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص قَالَ أَنبأَنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الطوسي قَالَ أخبرنَا الزبير بن بكار قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن الضَّحَّاك: 
أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ لرأس الجالوت أَو لِابْنِ رَأس الجالوت مَا عنْدكُمْ من الفراسة فِي الصّبيان.
قَالَ: مَا عندنَا فيهم شَيْء لأَنهم يخلقون خلقا بعد خلق أغيرانا نرمقهم فَإِن سمعنَا مِنْهُم من يَقُول فِي لعبه من يكون معي رَأَيْنَاهُ ذَا همة وحنو صدق فِيهِ وَإِن سمعناه يَقُول مَعَ من أكون كرهناها مِنْهُ.

فَكَانَ أول مَا علم من ابْن الزبير أَنه كَانَ ذَات يَوْم يلْعَب مَعَ الصّبيان وَهُوَ صبي فَمر رجل فصاح عَلَيْهِم فَفرُّوا وَمَشى ابْن الزبير الْقَهْقَرِي.
وَقَالَ: يَا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بِنَا عَلَيْهِ.
وَمر بِهِ عمر بن الْخطاب وَهُوَ صبي يلْعَب مَعَ الصّبيان فَفرُّوا ووقف.
فَقَالَ: لَهُ مَالك لم تَفِر مَعَ أَصْحَابك.
قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم أجرم فَأَخَاف وَلم تكن الطَّرِيق ضيقَة فأوسع لَك.

أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ أَنبأَنَا الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ أخبرنَا ابْن حيوية قَالَ أخبرنَا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ أَنبأَنَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ أَنبأَنَا حجاج بن نصر قَالَ حَدثنَا قُرَّة بن خَالِد عَن هَارُون بن زياب قَالَ حَدثنَا سِنَان بن مسلمة وَكَانَ أَمِيرا على الْبَحْرين قَالَ: كُنَّا أغيلمة بِالْمَدِينَةِ فِي أصُول النّخل نلتقط البلح الَّذِي يسمونه الْخلال فَخرج إِلَيْنَا عمر بن الْخطاب فَتفرق الغلمان وَثَبت مَكَاني فَلَمَّا غشيني.
قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا هَذَا مَا أَلْقَت الرّيح.
قَالَ أَرِنِي أنظر فَإِنَّهُ لَا يخفي عَليّ.
قَالَ: فَنظر فِي حجري.
فَقَالَ: صدقت.
فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ترى هَؤُلَاءِ الغلمان وَالله لَئِن انْطَلَقت لأغاروا عَليّ فانتزعوا مَا فِي يَدي.
قَالَ: فَمشى معي حَتَّى بَلغنِي مأمني.

قَالَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد التِّرْمِذِيّ كنت أؤدب الْمَأْمُون وَهُوَ فِي حجر سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ فَأَتَيْته يَوْمًا وَهُوَ دَاخل فوجهت إِلَيْهِ بعض خُدَّامه يُعلمهُ بمكاني فَأَبْطَأَ عليّ ثمَّ وجهت آخر فَأَبْطَأَ .
فَقلت: لسَعِيد أَن هَذَا الْفَتى رُبمَا تشاغل بالبطالة وَتَأَخر.
قَالَ: أجل وَمَعَ هَذَا إِنَّه إِذا فارقك تعزم على خدمه ولقوا مِنْهُ أَذَى شَدِيدا فقومه بالأدب فَلَمَّا خرج أمرت بِحمْلِهِ فضربته سبع دُرَر.
قَالَ: فَإِنَّهُ ليدلك عَيْنَيْهِ من الْبكاء إِذْ قيل جَعْفَر بن يحيى قد أقبل فَأخذ منديلاً فَمسح عَيْنَيْهِ من الْبكاء وَجمع ثِيَابه وَقَامَ إِلَى فرشه فَقعدَ عَلَيْهِ متربعاً ثمَّ قَالَ: ليدْخل فَقُمْت عَن الْمجْلس وَخفت أَن يشكوني إِلَيْهِ فَألْقى مِنْهُ مَا أكره.
قَالَ: فَأقبل بِوَجْهِهِ وحدثه حَتَّى أضحكه وَضحك إِلَيْهِ فَلَمَّا هم بالحركة دَعَا بدابته ودعا غلمانه فسعوا بَين يَدَيْهِ ثمَّ سَأَلَ عني فَجئْت.
فَقَالَ: خُذ على بَقِيَّة حزني.
فَقلت: أَيهَا الْأَمِير أَطَالَ الله بَقَاءَك لقد خفت أَن تشكوني إِلَى جَعْفَر بن يحيى وَلَو فعلت ذَلِك لتنكر لي.
فَقَالَ: تراني يَا أَبَا مُحَمَّد كنت أطلع الرشيد على هَذَا فَكيف بِجَعْفَر بن يحيى حَتَّى أطلعه أنني أحتاج إِلَى أدب إِذن يغْفر الله لَك بعد الظَّن ووجيب قَلْبك خُذ فِي أَمرك فقد خطر ببالك مَا لَا ترَاهُ أبدا لَو عدت فِي كل يَوْم مائَة مرّة.

قَالَ الْحسن الْقزْوِينِي سَمِعت أَبَا بكر النَّحْوِيّ يَقُول من ألطف رقْعَة كتبت فِي الِاعْتِذَار رقْعَة كتبهَا الراضي إِلَى أَخِيه أبي إِسْحَاق المتقي وَقد كَانَ جرى بَينهمَا كَلَام بِحَضْرَة الْمُؤَدب وَكَانَ الْأَخ قد تعدى على الراضي فَكتب إِلَيْهِ الراضي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَنا معترف لَك بالعبودية فرضا وَأَنت معترف إليّ بالأخوة فضلا وَالْعَبْد يُذنب وَالْمولى يعْفُو وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(يَا ذَا الَّذِي يغْضب من غير شَيْء ... أَعتب فعتباك حبيب إِلَيّ)
(أَنْت على أَنَّك لي ظَالِم ... أعز خلق الله طراً عَليّ)
قَالَ فَجَاءَهُ أَبُو إِسْحَاق فأكب عَلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهِ الراضي فتعانقا واصطلحا وَالله أعلم.

حَدثنَا عبيد الله بن الْمَأْمُون قَالَ غضب الْمَأْمُون على أُمِّي أم مُوسَى فقصدني لذَلِك حَتَّى كَاد يتلفني.
فَقلت: لَهُ يَوْمًا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كنت غَضْبَان على ابْنة عمك فعاقبها بغيري فَإِنِّي مِنْك قبلهَا وَلَك دونهَا.
قَالَ: صدقت وَالله يَا عبيد الله إِنَّك مني قبلهَا ولي دونهَا وَالْحَمْد لله الَّذِي أظهر لي هَذَا مِنْك وَبَين لي هَذَا الْفضل فِيك لَا ترى وَالله بعد يَوْمك هَذَا مني سوأ وَلَا ترى إِلَّا مَا تحب فَكَانَ ذَلِك سَبَب رِضَاهُ عَن أُمِّي.

قَالَ الْأَصْمَعِي بَينا أَنا فِي بعض الْبَوَادِي إِذا أَنا بصبي أَو قَالَ صبية مَعَه قربَة قد غلبته فِيهَا مَاء وَهُوَ يُنَادي يَا أَبَت أدْرك فاها غلبني فوهاً لَا طَاقَة لي بفيها.
قَالَ: فوَاللَّه لقد جمع الْعَرَبيَّة فِي ثَلَاث.

قَالَ الصولي قَالَ الجاحظ قَالَ ثُمَامَة دخلت إِلَى صديق لي أعوده وَتركت حماري على الْبَاب وَلم يكن معي غُلَام ثمَّ خرجت وَإِذا فَوْقه صبي.
فَقلت: أتركب حماري بِغَيْر إذني.
قَالَ: خفت أَن يذهب فحفظته لَك.
قلت: لَو ذهب كَانَ أحب إليّ من بَقَائِهِ.
قَالَ: فَإِن كَانَ هَذَا رَأْيك فِي الْحمار فاعمل على أَنه قد ذهب وهبه لي واربح شكري فَلم أر مَا أَقُول.

قَالَ رجل من أهل الشَّام قدمت الْمَدِينَة فقصدت منزل إِبْرَاهِيم بن هرمة فَإِذا بنية لَهُ صَغِيرَة تلعب بالطين فَقلت لَهَا مَا فعل أَبوك.
قَالَت: وَفد إِلَى بعض الأجواد فَمَا لنا بِهِ علم مُنْذُ مُدَّة.
فَقلت: انحري لنا نَاقَة فَأَنا أضيافك.
قَالَت وَالله مَا عندنَا.
قلت: فشاة.
قَالَت: وَالله مَا عندنَا.
قلت: فدجاجة.
قَالَت: وَالله مَا عندنَا.
قلت: فبيضة.
قَالَت: وَالله مَا عندنَا.
قلت: فَبَاطِل مَا قَالَ أَبوك:
(كم نَاقَة قد وجأت منحرها ... بمستهل الشؤبوب أَو جمل)
قَالَت: فَذَاك الْفِعْل من أبي هُوَ الَّذِي أصارنا إِلَى أَن لَيْسَ عندنَا شَيْء.

قَالَ بشر بن الْحَرْث أتيت بَاب الْمعَافى بن عمرَان فدققت الْبَاب فَقيل لي من قلت: بشر الحافي.
قَالَت: لي بنية من دَاخل الدَّار لَو اشْتريت نعلا بدانقين ذهب عَنْك اسْم الحافي.

وبلغنا أَن المعتصم ركب إِلَى خاقَان يعودهُ وَالْفَتْح صبي يَوْمئِذٍ فَقَالَ لَهُ المعتصم: أَيّمَا أحسن دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ أَو دَار أَبِيك.
قَالَ: إِذا كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي دَار أبي أحسن.
فَأرَاهُ فصا فِي يَده فَقَالَ: هَل رَأَيْت يَا فتح أحسن من هَذَا الفص.
فَقَالَ: نعم الْيَد الَّتِي هُوَ فِيهَا.

قَالَ أَبُو عَليّ الْبَصِير توفّي أبي وَأَنا صَغِير فمنعت ميراثي فَقدمت منازعاً إِلَى القَاضِي فَقَالَ: لي بلغت.
قلت: نعم.
قَالَ: وَمن يعلم بِذَاكَ.
قلت: من انعظ عَلَيْهِ فَتَبَسَّمَ وَأمر بفك حجري.

بلغنَا أَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة تقدم وَهُوَ صبي إِلَى قَاضِي دمشق وَمَعَهُ شيخ فَقَالَ: أصلح الله القَاضِي هَذَا الشَّيْخ ظَلَمَنِي واعتدى عَليّ وَأخذ مَالِي.
فَقَالَ: القَاضِي أرْفق بِهِ وَلَا تسْتَقْبل الشَّيْخ بِمثل هَذَا الْكَلَام.
فَقَالَ: إِيَاس أصلح الله القَاضِي أَن الْحق أكبر مني وَمِنْه ومنك.
قَالَ: اسْكُتْ.
قَالَ: إِن سكت فَمن يقوم بحجتي.
قَالَ: تكلم بِخَير.
فَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ فَرفع صَاحب الْخَبَر هَذَا الْخَبَر فعزل القَاضِي وَولى إِيَاس مَكَانَهُ.

نظر الْمَأْمُون إِلَى ابْن صَغِير لَهُ فِي يَده دفتر فَقَالَ: مَا هَذَا بِيَدِك.
فَقَالَ: بعض مَا تسجل بِهِ الفطنة وينبه من الْغَفْلَة وَيُؤْنس من الوحشة.
فَقَالَ الْمَأْمُون: الْحَمد لله الَّذِي رَزَقَنِي من وَلَدي من ينظر بِعَين عقله أَكثر مَا ينظر بِعَين جِسْمه وسنه.

قَالَ الفرزدق لغلام حدث أَيَسُرُّك إِنِّي أَبوك.
قَالَ: لَا وَلَكِن أُمِّي ليصيب أبي من أطايبك.

قعد صبي مَعَ قوم يَأْكُلُون فَبكى قَالُوا: مَالك تبْكي.
قَالَ: الطَّعَام حَار.
قَالُوا: فَدَعْهُ حَتَّى يبرد.
قَالَ: أَنْتُم لَا تَدعُونَهُ.

قَالَ الْأَصْمَعِي قلت: لغلام حدث السن من أَوْلَاد الْعَرَب أَيَسُرُّك أَن يكون لَك مائَة ألف دِرْهَم وَإنَّك أَحمَق.
فَقَالَ: لَا وَالله.
قلت: وَلم.
قَالَ: أَخَاف أَن يجني على حمقي جِنَايَة تذْهب مَالِي وَيبقى على حمقي.

بلغنَا أَن صَبيا لَقِي رجلا عَاقِلا فَقَالَ: لَهُ إِلَى أَيْن تمْضِي.
فَقَالَ: إِلَى المطبق.
قَالَ: أوسع خطوتك.

ادخل على الرشيد صبي لَهُ أَربع سِنِين فَقَالَ: لَهُ مَا تحب أَن أهب لَك.
قَالَ: حسن رَأْيك.
_________________________________________________


ابن الجوزي (المتوفى: 597هـ): كتاب الأذكياء ( 199 إلى 203) مكتبة الغزالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق