بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

أقسام التاريخ



التاريخ فرع واسع من أهم فروع الأدبيات المنثورة ينتهي بوقائعه المتسلسلة إلى درجة المشاهدات من حيث التحقيق والبحث. وعليه فتكون كلمة استوريا التي يقصد بها الروم البحث عن الحقيقة ـ منطبقة كل الانطباق على هذا العلم وموافقة كل الموافقة لموضوعه.
وبعد فإنا نرى أن التاريخ تلك الأقاصيص والنقول التي تأتي في عرض أناشيد الملاحم وعلى ألسن الفصحاء بل لا بد للحوادث التي يرويها التاريخ من الاستناد على أبحاث علمية معروفة وشهادات مزكاة وثيقة فله في البحث عن الوقائع وتثبيت الحادثات مقاصد كما أن لأصول ضبطه شرائط عامة كثيرة.
ليس للتاريخ أن يوغل في زوايا هذه الطبيعة الغنية فيضبط من حوادثها ما يتجلى كل يوم في مئات من ألوانها وصورها والألوف من أشكالها وهيئاتها بل أن غايته الوحيدة تدوين حياة الأفراد المتميزين بقوة ذكائهم وقوة إرادتهم أولئك الذين تقدموا أشواطاً في سبيل النشوء ولو عادت ثانية مضت من الزمان لرأتهم أرقى مما كانت تعهدهم.

أما الكائنات التي لم تمنحها العوامل والمؤثرات خاصة التدبير والذكاء فتسير وقائعها بسائق طبيعي متأثرة بمؤثر واحد سارية على مجرى واحد وماثلة في صورة واحدة. وإن البحث في ماضي هذه لا يجدي التاريخ نفعاً لأن هذا القسم من الخليقة متساوي النسق والأسلوب في كل زمان ومكان. فإن أفاد البحث فيها فالفائدة تعود على العلم وليس للتاريخ منها شيء ولعل بعضهم يسأل هنا قائلاً: إذا كان التاريخ لبا يبحث في حوادث الطبيعة المطردة فلماذا دعي القسم الكبير من علومها ـ الحيوان والنبات والجماد ـ بالتاريخ الطبيعي وأي علاقة للتاريخ بهذه الحوادث القانونية المطردة؟ والجواب عن ذلك أنه لا محل لهذه التسمية هنا وليس للتاريخ فيها دخل البتة وإنما هو اسم اصطلح عليه خطأ في هذا القسيم من العلم فحادثات تكون الكائنات ونشوؤها وتبدل المواسم وفصولها وكل قطعة محدودة من الأرض وكل ما عظم أو دق مقياسه ومقداره من سيارات السماء وثوابتها الزاهية وصفحات الفضاء ومناظرة البهجة كل هذه ليست من التاريخ في شيء ولئن دخل قليل منها في التاريخ فإنها تدخل بعض أحوالها المتعاقبة ومكتشفاتها المهمة التي لا تزال أدوارها مجهولة عندنا.

وعلى هذا فالتاريخ يبدأ من حيث ينتهي العلم وليس في أقسام التاريخ (تاريخ إلهي) لأنه لا ماضي للألوهية فيسطر ولا حال لها فيحرر بل هي هي المتجلية في كل شيء وما أجمل قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وبذلك استبان أن مجال التاريخ هو (ساحة التبدل الاختياري) ليس إلا. وإن للنوع البشري قوة إرادة وإن اختلفت قوة وضعفاً لا تكون فيما هو عامل فيه من النواميس العامة بل في غير ذلك من حركاته وسكناته. من أجل ذلك ترى هذا النوع معرضاً للبحث التاريخي من حيث علم أجناس البشر والبحث العلمي من حيث علم النفس.
هذا يبحث في الإنسان من حيث العوامل الناشئة عن القوانين العامة المنقاد لها وذاك يشتغل بفحص ما في حركاته الاختيارية من الأسباب المتحولة من السباب المتغيرة ونتائجها ويظهر لنا ما قرب إلى التوفيق من هذه الحركات وما لم يقرب وما كان مصيباً منها وما كان مخطئاً وهو يضبط الروابط الموجودة بين هذه الحركات كلها.
كانت الأمم فيما مضى تجل التاريخ وتعظمه حتى فتحت لتقدمه السبل وأزالت من طريق رقيه الموانع قال شيشرون الخطيب الروماني الشهير التاريخ شاهد الأزمنة ونور الحقيقة وحياة الذكرى وحاكم العمر وبريد القرون وكان هذا الخطيب ينظر إلى التاريخ بأنه ظهير الفلسفة وأنه مدرسة الفضيلة.

وكان يعد التاريخ منهجاً من مناهج البيان وقسماً من أقسام الفصاحة لعظمة الدروس التي ألقاها التاريخ وفخامة موقعها ولطالما قال: لا خطيب أكثر عظمة وأوفر احتشاماً من التاريخ.

بمثل كلمات شيشرون هذه انتشر بين أهل العلم في العصور الموغلة في القدم أن التاريخ محل البلاغة وأدخله تلاميذ أيزوقراط في عداد العلوم التي يجب على الخطيب أن يعنى بها فكان بذلك ركناً للأدب.
كان الأقدمون من المؤرخين يتعمدون في التاريخ إجادة البيان من جهة والمحافظة على الواجبات الوطنية والنتائج الأخلاقية من جهة أخرى. أما الحقائق الواقعة في نفس الأمر فقلما كان يبحث عنها فكانت مصنفاتهم إذن تزدان في نظرهم إذا خدمت الفلسفة أو ذبت عن شرف القومية والوطنية ليس إلا.
هم يسلكون في التاريخ طريقاً توصلهم إلى الذروة القصوى من الفصاحة فيفرغون أضخم كلمات المجد وأكبر ألفاظ الفخفخة كما هو الحال في نقلهم حياة الرؤساء والأمراء وأنهم لينسبون إليهم جملاً وقطعاً ما قالوها ولن يقدروا على أن يأتوا بمثلها وأنك لترى المؤرخ منهم يفادي بالحقيقة التاريخية سعياً وراء كلمة جميلة يلذ له طنينها في أذنيه ناسياً أو متناسياً أن ما يسمى بالتاريخ هو علم الكوائن وتصوير الحقائق وأنه في حاجة قبل كل شيء على مظان صحيحة ومستندات موثوق بها وأسس راسخة فيجب من ثم على المؤرخ مهما كانت نحلته وشعوره ومقصده أن يبحث في مثل المظان من غير تطرف ولا تعصب.
وذلك لأن التطرف والتعصب والذلاقة ليست من حاجيات المؤرخ ومذهبه في شيء وإنما البلاغة والتأنق في القول من صنعة الأدباء والشعراء والمطالبة بالفضيلة من وظائف الأخلاقيين والدفاع عن شرف الوطنية والمكانة القومية من واجبات رجال السياسة فيها وما المؤرخ إلا الذي يمحص الحقيقة ويتمحض لإثباتها.
ولقد التزم فنيلون أحد فلاسفة لويس الرابع عشر أسلوب شيشرون الخطابي في كتابه مبحث الوجود الإلهي فاتخذ ذلك دليلاً على أن التاريخ كان على عهد فينلون في دور صباه ولا يكون المؤرخ مؤرخاً حتى يثبت الوقائع التي يناقش في صحتها مناقشة منطقية ويفحصها فحصاً علمياً مدققاً ببيان سلس ونثر مرسل وسليقة معتدلة.
قال المسيو باتان المشهور بمباحثه في أصحاب الملاحم من الروم المتوفى سنة 1876: ليس التاريخ عبارة عن سرد بعض القصص وذكر الأيام المشهورة والحوادث المأثورة ولا تلفيق ما يسقط عليه الرجل عرضاً من الأقوال عن حياة المشاهير بل التاريخ هو ذلك الميدان الذي تظهر فيه الأمم بعاداتها وأخلاقها ومزاياها ومعايبها مشروحة تتجلى بكل وسائل العلم حتى كأن القارئ من أهل البلد الذي يكتب تاريخه أو من معاصري من يدون ماضي حياتهم وكذلك يجب التاريخ أن يكون. وإنك لتعلم أن مدون هذا التاريخ تعوزه المواهب النادرة والنظر البعيد وسبر غور الأمور.



لا يبحث التاريخ اليوم عن طرز معيشة الأمم والبيوت فقط بل يتجاوز ذلك إلى تعريف درجة الرقي العام في الأشياء أيضاً فإذا بحث المؤرخ في ماضي شعب يجتهد
في أن لا يجمد أمام وقائعه المهمة وحوادثه الكبيرة بل ينتقل من ذلك بغتة إلى وزن أخلاقه وعاداته ومشاربه وإلى ذكر روابطه مع سائر الأمم الأخرى. هذه المباحث هي ألياف النسيج الحيوي في الأمم المتحضرة وغير المتحضرة.
ومن هنا يتجلى للقارئ أن هذه المواد المنوعة في حاجة إلى ترتيب حسن وفكرة نافذة دقيقة وحكم عقلي متين قادر على البحث عن الأسباب المتضاربة ووضعها موضع النظر وإلى قلم بعيد عن الأغراض كأنه جلمود إذا كان سبيل لتغلب العواطف عليه ومثل هذه المزايا متوقفة على مقدار قابلية أولئك المؤرخين الذين جمعوها في نفوسهم فاستخرجوا من كتلة الحوادث المتسلسلة سديماً نقياً وأرسلوها نفثة البيان والوضوح النوراني على العالمين. وإن للتاريخ من حيث موضوعه وأصوله أقساماً عديدة أهمها انقسامه إلى عام وخاص يبحث الأول في أدوار البشر الثلاثة المعلومة ويشمل تاريخ عامة الشعوب والدول. أما الثاني فلا يعنى إلا بأمة واحدة أو بلدة معينة أو بأسرة معروفة ووقعة مشهورة.

ويسمون التاريخ الذي يذكر الحوادث مرتبة حسب زمن حدوثها كرونولوجيا وإذا بحث في نشوء شعب واحد وانتشاره يقال له أيتنوكرافيا وإذا أفاض في كوائن الأمم كلها الحادثة في زمن معين يدعى سينكروفيا. وإذا قايس بين وقائع مختلفة ظهرت في أزمنة متباينة سمي التاريخ القياسي وإذا أظهر الأشياء في صورتها الأصلية فهو التاريخ المصور وإذا توحى إرجاع نتائج الوقائع إلى أسبابها يقال له براكماتيك وإذا ربط الأسباب بالنواميس العامة في البشر والطبيعة يسمى التاريخ الفلسفي وهكذا تختلف أسماء المصنفات التاريخية باختلاف موضوعها فتسمى تقويماً ومذكرة وترجمة حال وما أشبه.

ولا نقصد هنا إلى أن نطيل القول فنكتب تاريخ التاريخ. على أننا لو بحثنا في مبدأ التاريخ لوجدناه ممزوجاً بالشعر كما هو الحال في جميع أنواع الأدبيات المنثورة فابتداء التاريخ إذن هو الملاحم التي هي من أنواع الشعر وذلك هو ابتداؤه في الأدوار القديمة عند الهنود واللاتين والفرس ولم يتجرد كثيراً عن هذه الكسوة القصصية عند بعض أمم المشرق إلى يوم الناس هذا لأن التاريخ لم ينسلخ عن منظومات الملاحم عندهم إلا قليلاً وأن ذبالة التاريخ الحقيقي لم تكد تضيء عندهم حتى أطفئت وكذلك هيرودتس وتوسيديدس وكسنوفون كلهم لم ينجوا من دس الأساطير بين طيات الحقائق التاريخية في كتبهم الثمينة وإن كانوا كلهم استحقوا لقب المؤرخ. الأول بذكائه النقاب والآخران بتجاربهما ومتانة بيانهما. أما دانيس داليكارناس فلا أثر للتحقيق في مصنفاته وإن كان قد تلافى هذا النقص بتتبع بعض الأخبار. وكذلك شأن تيودورس من وجه هذا النقص وما يسده وان دروس بلوتارك في الأخلاق لتستر أيضاً نقائض تاريخية أخرى وقع فيها. ثم جاء بعد هؤلاء أزمان ظهر فيها مؤرخون مدرسيون مثل كيشاردن وماكيافيل فإنهما كانا في زمانهما مقلدين خالص التقليد للأسلوب القديم.

وعلى هذا بقيت المصنفات التاريخية كتب بلاغة ولكنها عارية عما يؤهلها للدخول في علم التاريخ إلى فجر القرن السابع عشر حتى أن المؤرخ المشهور بوسويه نفسه كان على مثل تلك الحال ولو تناولنا أحد مصنفاته كخطبته في التاريخ العام لوجدناها نموذجاً للآداب ولكنها بعيدة كل البعد عن التاريخ. ثم جاء فولتر ووضع كتابه كارلوس الثاني عشر وكتابة لويس الرابع عشر فأظهر نموذج التاريخ الصحيح. وعندما عرف حق المعرفة أن أكثر الذين كانوا يسمون في فرنسا مؤرخين إلى القرن الثامن عشر براءٌ من هذه النسبة. وعلى العكس ترى بعض رهبان ديكتن الذي لم يكن ذكر اسمهم بتلك الدبدبة والعظمة قد تحقق اليوم أنهم هم الشيوخ الذين طرحوا بين أيدينا أصول التاريخ صامتين ساكتين. ومن هؤلاء الرجال المؤرخ جيبون الإنكليزي مشيد القصر التاريخي على الأساس المتين.
عصرنا الحاضر هو مؤسس التاريخ ومحييه فعلم الآثار وعلم الألسنة والجغرافيا، وكل هذه العلوم أخذت بيد التاريخ وصعدت به درجات عالية وإن التحقيقات الصحيحة التي وضعها حكماء هذا العصر وعلماؤه قد نفحت الوقائع الماضية روحاً حية وكستها حلة ثابتة حتى تمثلت الذراري القديمة بعاداتها وأخلاقها ومطامعها وأفكارها على أسلوب أقلام تيرس وتييري وميشله وكيزومينيه. فعصرنا هذا ولا مراء عصر التاريخ قبل كل شيء.

الحديدة (جزيرة العرب)
محب الدين الخطيب

_______________________________

مجلة المقتبس العدد 31

الخميس، 16 نوفمبر 2017

كتاب السياسة للوزير نظام الملك



مجلة الرسالة 
العدد 300 - بتاريخ: 03 - 04 - 1939

للدكتور عبد الوهاب عزام

نظام الملك أبو علي الحسن بن إسحاق: وزير السلاجقة من أعظم الوزراء الذين عرفهم تاريخ الإسلام. ووزير للسلطان محمد ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه ثلاثين سنة (455 - 485) هـ.

كان أبوه أحد دهاقن طوس، وذهبت بماله الحادثات فولد نظام الملك في بيت فقير سنة 408. وماتت أمه وهو رضيع. ونشأ نجيباً زكياً فتعلم العربية والفقه وسمع الحديث. وتقلبت به صروف الزمان في أرجاء الأرض، حتى استقر في بلخ عند أحد عمّال داود والد السلطان ألب أرسلان. ثم تولى أعمال ألب أرسلان ووزر له قبل السلطنة. فلما خلف ألب أرسلان عمه طغرل بك دبّر نظام الملك أمور الدولة، وظهرت كفايته، وشاع ذكره؛ فاستقل بسياسة الملك طوال عهد ألب أرسلان وعهد ابنه ملكشاه. وتولى أبناؤه، وكانوا أثنى عشر، المناصب الرفيعة في الدولة. فتمكن سلطانهم، وعظم جاههم، وانقادت لهم الأمور حتى فاقوا البرامكة في أيامهم.

يقول ابن الأثير:
(كان عالماً جواداً عادلاً حليما كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت. كان مجلسه عامراً بالقراء والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح. أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد وببغداد وغيرها. وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطا نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)

وما زالت الأمور في تصريفه، والأحوال مواتية له، إلى أن قتل سنة 485.

وذلك إنه كان مسافراً مع السلطان ملكشاه من أصفهان إلى بغداد، فنزلا على مقربة من نهاوند. قال ابن الأثير:
(فلما كان بهذا المكان بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفة إلى خيمة حرمه أتاه صبي ديلمي في صورة مستميح أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة فأدركوه فقتلوه).

وقد شاع بين الناس أن الملاحدة دبروا لقتله إذ كان يبغضهم وكتب في كتابه سياستنامه فصلاً في بيان مفاسدهم. ويقال إن ملكشاه هو الذي أوحى بقتله وكان قد نقم منه ومن أولاده تمكنهم في عظم المناصب، وجاههم، وأوغرت صدره عليهم امرأته تُركان خاتون، وكانت تسعى ليخلف ابنها الطفل محمود أباه على الملك، وكان نظام الملك يؤثر بركيا روق أخا محمود الأكبر. إذ يقال إن جمال الملك بن نظام الملك قتل مسخرة للسلطان كان يحاكي نظام الملك في المجلس السلطاني، فنقم عليه السلطان وأمر من دس له السم في شربة فقاع

ويروي ابن الأثير أن السلطان أرسل أحد قواده شحنة إلى مرو وكان يتولى أمورها حينئذ عثمان بن جمال الملك ومفيد نظام الملك. فوقع نزاع بين الشحنة وعثمان فحبسه عثمان ثم أطلقه فذهب إلى السلطان شاكياً؛ فأرسل السلطان إلى نظام الملك يسأله أأنت شريكي أو وزيري ويذكر استيلاء أبنائه على المناصب وتجاوزهم الحد.
فلما بلغت الرسالة الوزير الكبير غضب وقال للرسول (قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فانك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي. أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه. . . فلما قدت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب ويسمع في السعايات! قولوا له عني إن ثبات تلك القلنسوة معذوق لهذه الدواة وأن اتفاقهما رباط كل رغبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقْت هذه زالت تلك).

ومن عجائب الاتفاق أن السلطات مات بعد شهر من قتل الوزير واضطربت الدولة اضطراباً شديداً.

ومهما يقل من أسباب النفور التي وقعت بين السلطان والوزير فأنا بعد أن يدبر الملك لقتل وزيره الشيخ الذي كان يثق به ويعتمد عليه ويستصحبه في حضره وسفره.

كتب نظام الملك كتاب السياسة (سياستنامه) قبل موته بسنة واحدة، وضمنه علمه وتجاربه وآراءه في سياسة الملك وترتيب الدولة، وإنصاف الرعية، وقسمه إلى خمسين فصلاً.

وللكتاب مقدمة كتبها ناسخ الخزانة السلطانية يبين فيها سبب تأليف الكتاب فيما يأتي:
(أمر السلطان السعيد أبو الفتح ملكشاه ابن محمد أمين أمير المؤمنين أنار الله برهانه، سنة أربع وثمانين وأربعمائة بعض الكبراء والشيوخ والعلماء أن تفكَّروا في أحوال المملكة وانظروا ماذا من السيئات في عهدنا، وماذا خفي علينا، وماذا فعله السلاطين السابقون ولم نفعله، وأعلمونا به. وكذلك اكتبوا ما تعرفون من سنن الملوك السالفين مما يتعلق بدولة السلاجقة وملكهم، واعرضوه علينا لنتأمّله ونأمر بعدُ أن يسير كل عمل ديني ودنيوي على قاعدته، ويوضع كل شيء في موضعه، وننهي عما لا يُستحسن. فإن الله وهبنا الدنيا وأتم نعمته علينا وقهر أعدائنا فلا ينبغي أن يكون أمر في مملكتنا ناقصاً أو يذهب عمل على غير وجهه أو يخفى علينا شيء.

(أمر بهذا نظام الملك، وتاج الملك، ومجد الملك وطائفة أمثالهم، فكتب كلُ ما تيسر له في هذا الشأن وعرضه على السلطان فلم يعجبه إلا ما كتب نظام الملك فقال: كُتبت هذه الفصول كما أردت فليس في نفسي عليها مزيد. وقد اتخذت هذا الكتاب إمامي وسأعمل به.)

ويقول نظام الملك في خاتمة الكتاب: (هذا كتاب السياسة. أمر سلطان العالم خادمه أن يكتب في هذا الموضوع فامتثل أمره. كتب تسعة وثلاثين فصلاً على عجل ورفعها إلى السدة العالية فلقيت قبولاً. وكانت مختصرة فزدت عليها، وأضفت إلى كل فصل ما يناسبه، وبينتها بلغة واضحة، وقد سلمته إلى ناسخ الخزانة السلطانية محمد المغربي سنة أربع وثمانين وأربعمائة ونحن على عزيمة السفر إلى بغداد، وأمرته أن ينسخه بخط جميل، فإذا لم يتح لي الرجوع من هذه السفرة قدمه إلى السلطان.)

وسأتكلم على الكتاب وأترجم فصوله في المقالات الآتية إن شاء الله.



العدد 301 - بتاريخ: 10 - 04 - 1939

الفصل الأول
في أحوال الناس وتقلب الزمان، ومدح ملك العالم غياث الدين والدنيا قدس سره.

الله تعالى يجتبي في كل عصر واحداً من خلقه، ويجمّله بالفضائل الملكية، وينوط به مصالح الدنيا وراحة الناس، ويغلق به باب الفساد والفتن والاضطراب، ويمكن هيبته وحرمته في قلوب الخلق وعيونهم، ليعيش الناس في عدله، ويأمنوا في سلطانه، ويرجوا بقاء دولته.

وإذا عصا الناس الشريعة واستخفوا بها وقصروا في إطاعة أوامر الله تعالى فأراد أن يعاقبهم ويذيقهم جزاء أعمالهم، ويحل بهم شؤم عصيانهم - لا أرانا الله مثل هذا الزمان، ولا ابتلانا بمثل هذا الشقاء - يحرمهم الملك الخيِّر، فتختلف بينهم السيوف وتسيل الدماء، ويغلب كل قوي على ما يريد حتى يهلك هؤلاء المجرمون في هذه الفتن وهذا القتال. كمثل النار تشتعل في القصب فتحرق كل يابس، وتتعدى إلى كثير من القصب الرّطب.

الله تعالى يمنح واحداً من عباده السعادة والدولة، ويرزقه الإقبال على قدره، ويهبه العقل والعلم ليسوس بهذا العقل والعلم كل واحد من الرعية على الوجه الذي يصلحه، ويضع كل واحد في مرتبته؛ ثم يختار رجاله وعماله من الناس، ويوفي كلا منهم درجته، ويعتمد عليه في كفاية أمور الدين والدنيا.
ويكفل الراحة لمن يسلك سبيل الطاعة ويقبل على عمله من رعيته ليعيشوا مغتبطين في ظل عدله.
وإذا تجاوز أحد عماله حدّه وأطال يده فإن أصلحته الموعظة والتأديب والتأنيب، واستيقظ من نوم الغفلة، حفظ عليه عمله ومنصبه، وأن تمادى في غفلته لم يستجز إبقاءه في عمله واستبدل به من هو أهل للعمل وكذلك من جحد من الرعية حق النعمة، ولم يعرفوا قدر الأمن والراحة، واعتقدوا الخيانة وأبدوا التمرد، وجاوزوا حدودهم يعاقبهم على قدر جرمهم حتى يتوبوا.

ثم على الملك بعدُ أن يدأب في عمارة المملكة فيحفر القنوات ويشق الأنهار، ويمد الجسور على الأنهار العظيمة، ويعمر القرى والمزارع، ويبني الحصون، ويشيد المدن الجديدة، والأبنية الرفيعة، والقصور البديعة، ويقيم الربط على الطرق السلطانية، فيخلد بهذه الأعمال ذكره، وينال ثوابها في الدار الآخرة، ويتصل الدعاء له بالخير. . .
ولما أراد الله سبحانه أن يجعل هذا العصر زينة العصور الماضية وغرة مآثر الملوك السالفة، ويرزق الناس السعادة التي لم يرزقها أحد من قبل اختار ملك العالم السلطان الأعظم من أصلين عظيمين ورثا الملك والسيادة أباً عن أب إلى أفر أسباب العظيم، وجمله بالكرامة والعظمة التي لم يظفر بها الملوك السابقون
فأنعم عليه بما يحتاج الملوك إليه من حسن المنظر، وجمال الطبع والعدل والرجولة والشجاعة والفروسية ومعرفة أنواع السلاح واستعمالها، والتحلي بالفضائل والشفقة والرحمة بالخلق، ووفاء النذور والوعود، وصحة الدين والاعتقاد وطاعة الحق تعالى، وتأدية النوافل من صلاة الليل، وكثرة الصوم، وإعظام أهل العلم وإكرام الصالحين والزاهدين والحكماء، وتواتر الصدقات والإحسان إلى الفقراء، ومعاشرة الرعية والعمال بخلق حسن، وكف الظالمين عن الرعية. لا جرم سخر الله له ملك العالمين على مقدار جدارته، وحسن نيته، ومد هيبته وسياسته إلى كل إقليم حتى يؤدي الناس الخراج إليه ويأمنوا بالتقرب من سطوته. وإن كان بعض الخلفاء أوتي بسطة في الملك وسعة فما فرغوا وقتاً من القلق وخروج الخوارج. وفي هذا العهد المبارك لا نجد - بحمد الله - أحداً ينطوي على خلاف أو يخرج رأسه من ربقة الطاعة.

أدام الله هذه الدولة إلى قيام الساعة وأبعد عن هذه المملكة نظر السوء وعين الكمال ليعيش الناس في عدل ملك العالم وسياسته ويديموا دعاء الخير له.

وإذ كانت حال الدولة كما وصفت كان العلم والبصر بالسنن الحسنة على مقدار هذا، والعلم كشمع ينشر ضوءاً كثيراً فيهتدي الناس به الطريق، ويخرجون من الظلمات، ولا يحتاجون إلى دليل ولكن تدبير الملك يعجز عنه العبيد، وهم لا يبلغون درجة عقله وعلمه. فلما أمرهذا العبد أن اكتب طرفاً من السير الطيبة التي لا غنى للملوك عنها، وكل ما عمله الملوك الماضون ولا يعمل الآن من حسن أو قبيح، وكل ما سمعت في ذلك أو قرأت أو علمت فكتبت إطاعة للأمر العالي هذه الفصول بالإجمال وذكرت في كل فصل ما يلائمه بعبارة واضحة، بتوفيق الله عز وجل.

الأربعاء، 15 نوفمبر 2017

ذكر طرف من أَخْبَار فطن الصّبيان

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
أَنبأَنَا الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب النَّحْوِيّ قَالَ أَنبأَنَا أَبُو جَعْفَر بن الْمسلمَة قَالَ أخبرنَا أَبُو طَاهِر المخلص قَالَ أَنبأَنَا أَحْمد بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الطوسي قَالَ أخبرنَا الزبير بن بكار قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن الضَّحَّاك: 
أَن عبد الْملك بن مَرْوَان قَالَ لرأس الجالوت أَو لِابْنِ رَأس الجالوت مَا عنْدكُمْ من الفراسة فِي الصّبيان.
قَالَ: مَا عندنَا فيهم شَيْء لأَنهم يخلقون خلقا بعد خلق أغيرانا نرمقهم فَإِن سمعنَا مِنْهُم من يَقُول فِي لعبه من يكون معي رَأَيْنَاهُ ذَا همة وحنو صدق فِيهِ وَإِن سمعناه يَقُول مَعَ من أكون كرهناها مِنْهُ.

فَكَانَ أول مَا علم من ابْن الزبير أَنه كَانَ ذَات يَوْم يلْعَب مَعَ الصّبيان وَهُوَ صبي فَمر رجل فصاح عَلَيْهِم فَفرُّوا وَمَشى ابْن الزبير الْقَهْقَرِي.
وَقَالَ: يَا صبيان اجعلوني أميركم وشدوا بِنَا عَلَيْهِ.
وَمر بِهِ عمر بن الْخطاب وَهُوَ صبي يلْعَب مَعَ الصّبيان فَفرُّوا ووقف.
فَقَالَ: لَهُ مَالك لم تَفِر مَعَ أَصْحَابك.
قَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لم أجرم فَأَخَاف وَلم تكن الطَّرِيق ضيقَة فأوسع لَك.

أَنبأَنَا مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْبَزَّاز قَالَ أَنبأَنَا الْحسن بن عَليّ الْجَوْهَرِي قَالَ أخبرنَا ابْن حيوية قَالَ أخبرنَا أَحْمد بن مَعْرُوف قَالَ أَنبأَنَا الْحُسَيْن بن الْفَهم قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن سعد قَالَ أَنبأَنَا حجاج بن نصر قَالَ حَدثنَا قُرَّة بن خَالِد عَن هَارُون بن زياب قَالَ حَدثنَا سِنَان بن مسلمة وَكَانَ أَمِيرا على الْبَحْرين قَالَ: كُنَّا أغيلمة بِالْمَدِينَةِ فِي أصُول النّخل نلتقط البلح الَّذِي يسمونه الْخلال فَخرج إِلَيْنَا عمر بن الْخطاب فَتفرق الغلمان وَثَبت مَكَاني فَلَمَّا غشيني.
قلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا هَذَا مَا أَلْقَت الرّيح.
قَالَ أَرِنِي أنظر فَإِنَّهُ لَا يخفي عَليّ.
قَالَ: فَنظر فِي حجري.
فَقَالَ: صدقت.
فَقلت: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ ترى هَؤُلَاءِ الغلمان وَالله لَئِن انْطَلَقت لأغاروا عَليّ فانتزعوا مَا فِي يَدي.
قَالَ: فَمشى معي حَتَّى بَلغنِي مأمني.

قَالَ قَالَ أَبُو مُحَمَّد التِّرْمِذِيّ كنت أؤدب الْمَأْمُون وَهُوَ فِي حجر سعيد الْجَوْهَرِي قَالَ فَأَتَيْته يَوْمًا وَهُوَ دَاخل فوجهت إِلَيْهِ بعض خُدَّامه يُعلمهُ بمكاني فَأَبْطَأَ عليّ ثمَّ وجهت آخر فَأَبْطَأَ .
فَقلت: لسَعِيد أَن هَذَا الْفَتى رُبمَا تشاغل بالبطالة وَتَأَخر.
قَالَ: أجل وَمَعَ هَذَا إِنَّه إِذا فارقك تعزم على خدمه ولقوا مِنْهُ أَذَى شَدِيدا فقومه بالأدب فَلَمَّا خرج أمرت بِحمْلِهِ فضربته سبع دُرَر.
قَالَ: فَإِنَّهُ ليدلك عَيْنَيْهِ من الْبكاء إِذْ قيل جَعْفَر بن يحيى قد أقبل فَأخذ منديلاً فَمسح عَيْنَيْهِ من الْبكاء وَجمع ثِيَابه وَقَامَ إِلَى فرشه فَقعدَ عَلَيْهِ متربعاً ثمَّ قَالَ: ليدْخل فَقُمْت عَن الْمجْلس وَخفت أَن يشكوني إِلَيْهِ فَألْقى مِنْهُ مَا أكره.
قَالَ: فَأقبل بِوَجْهِهِ وحدثه حَتَّى أضحكه وَضحك إِلَيْهِ فَلَمَّا هم بالحركة دَعَا بدابته ودعا غلمانه فسعوا بَين يَدَيْهِ ثمَّ سَأَلَ عني فَجئْت.
فَقَالَ: خُذ على بَقِيَّة حزني.
فَقلت: أَيهَا الْأَمِير أَطَالَ الله بَقَاءَك لقد خفت أَن تشكوني إِلَى جَعْفَر بن يحيى وَلَو فعلت ذَلِك لتنكر لي.
فَقَالَ: تراني يَا أَبَا مُحَمَّد كنت أطلع الرشيد على هَذَا فَكيف بِجَعْفَر بن يحيى حَتَّى أطلعه أنني أحتاج إِلَى أدب إِذن يغْفر الله لَك بعد الظَّن ووجيب قَلْبك خُذ فِي أَمرك فقد خطر ببالك مَا لَا ترَاهُ أبدا لَو عدت فِي كل يَوْم مائَة مرّة.

قَالَ الْحسن الْقزْوِينِي سَمِعت أَبَا بكر النَّحْوِيّ يَقُول من ألطف رقْعَة كتبت فِي الِاعْتِذَار رقْعَة كتبهَا الراضي إِلَى أَخِيه أبي إِسْحَاق المتقي وَقد كَانَ جرى بَينهمَا كَلَام بِحَضْرَة الْمُؤَدب وَكَانَ الْأَخ قد تعدى على الراضي فَكتب إِلَيْهِ الراضي بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَنا معترف لَك بالعبودية فرضا وَأَنت معترف إليّ بالأخوة فضلا وَالْعَبْد يُذنب وَالْمولى يعْفُو وَقد قَالَ الشَّاعِر:
(يَا ذَا الَّذِي يغْضب من غير شَيْء ... أَعتب فعتباك حبيب إِلَيّ)
(أَنْت على أَنَّك لي ظَالِم ... أعز خلق الله طراً عَليّ)
قَالَ فَجَاءَهُ أَبُو إِسْحَاق فأكب عَلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهِ الراضي فتعانقا واصطلحا وَالله أعلم.

حَدثنَا عبيد الله بن الْمَأْمُون قَالَ غضب الْمَأْمُون على أُمِّي أم مُوسَى فقصدني لذَلِك حَتَّى كَاد يتلفني.
فَقلت: لَهُ يَوْمًا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن كنت غَضْبَان على ابْنة عمك فعاقبها بغيري فَإِنِّي مِنْك قبلهَا وَلَك دونهَا.
قَالَ: صدقت وَالله يَا عبيد الله إِنَّك مني قبلهَا ولي دونهَا وَالْحَمْد لله الَّذِي أظهر لي هَذَا مِنْك وَبَين لي هَذَا الْفضل فِيك لَا ترى وَالله بعد يَوْمك هَذَا مني سوأ وَلَا ترى إِلَّا مَا تحب فَكَانَ ذَلِك سَبَب رِضَاهُ عَن أُمِّي.

قَالَ الْأَصْمَعِي بَينا أَنا فِي بعض الْبَوَادِي إِذا أَنا بصبي أَو قَالَ صبية مَعَه قربَة قد غلبته فِيهَا مَاء وَهُوَ يُنَادي يَا أَبَت أدْرك فاها غلبني فوهاً لَا طَاقَة لي بفيها.
قَالَ: فوَاللَّه لقد جمع الْعَرَبيَّة فِي ثَلَاث.

قَالَ الصولي قَالَ الجاحظ قَالَ ثُمَامَة دخلت إِلَى صديق لي أعوده وَتركت حماري على الْبَاب وَلم يكن معي غُلَام ثمَّ خرجت وَإِذا فَوْقه صبي.
فَقلت: أتركب حماري بِغَيْر إذني.
قَالَ: خفت أَن يذهب فحفظته لَك.
قلت: لَو ذهب كَانَ أحب إليّ من بَقَائِهِ.
قَالَ: فَإِن كَانَ هَذَا رَأْيك فِي الْحمار فاعمل على أَنه قد ذهب وهبه لي واربح شكري فَلم أر مَا أَقُول.

قَالَ رجل من أهل الشَّام قدمت الْمَدِينَة فقصدت منزل إِبْرَاهِيم بن هرمة فَإِذا بنية لَهُ صَغِيرَة تلعب بالطين فَقلت لَهَا مَا فعل أَبوك.
قَالَت: وَفد إِلَى بعض الأجواد فَمَا لنا بِهِ علم مُنْذُ مُدَّة.
فَقلت: انحري لنا نَاقَة فَأَنا أضيافك.
قَالَت وَالله مَا عندنَا.
قلت: فشاة.
قَالَت: وَالله مَا عندنَا.
قلت: فدجاجة.
قَالَت: وَالله مَا عندنَا.
قلت: فبيضة.
قَالَت: وَالله مَا عندنَا.
قلت: فَبَاطِل مَا قَالَ أَبوك:
(كم نَاقَة قد وجأت منحرها ... بمستهل الشؤبوب أَو جمل)
قَالَت: فَذَاك الْفِعْل من أبي هُوَ الَّذِي أصارنا إِلَى أَن لَيْسَ عندنَا شَيْء.

قَالَ بشر بن الْحَرْث أتيت بَاب الْمعَافى بن عمرَان فدققت الْبَاب فَقيل لي من قلت: بشر الحافي.
قَالَت: لي بنية من دَاخل الدَّار لَو اشْتريت نعلا بدانقين ذهب عَنْك اسْم الحافي.

وبلغنا أَن المعتصم ركب إِلَى خاقَان يعودهُ وَالْفَتْح صبي يَوْمئِذٍ فَقَالَ لَهُ المعتصم: أَيّمَا أحسن دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ أَو دَار أَبِيك.
قَالَ: إِذا كَانَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي دَار أبي أحسن.
فَأرَاهُ فصا فِي يَده فَقَالَ: هَل رَأَيْت يَا فتح أحسن من هَذَا الفص.
فَقَالَ: نعم الْيَد الَّتِي هُوَ فِيهَا.

قَالَ أَبُو عَليّ الْبَصِير توفّي أبي وَأَنا صَغِير فمنعت ميراثي فَقدمت منازعاً إِلَى القَاضِي فَقَالَ: لي بلغت.
قلت: نعم.
قَالَ: وَمن يعلم بِذَاكَ.
قلت: من انعظ عَلَيْهِ فَتَبَسَّمَ وَأمر بفك حجري.

بلغنَا أَن إِيَاس بن مُعَاوِيَة تقدم وَهُوَ صبي إِلَى قَاضِي دمشق وَمَعَهُ شيخ فَقَالَ: أصلح الله القَاضِي هَذَا الشَّيْخ ظَلَمَنِي واعتدى عَليّ وَأخذ مَالِي.
فَقَالَ: القَاضِي أرْفق بِهِ وَلَا تسْتَقْبل الشَّيْخ بِمثل هَذَا الْكَلَام.
فَقَالَ: إِيَاس أصلح الله القَاضِي أَن الْحق أكبر مني وَمِنْه ومنك.
قَالَ: اسْكُتْ.
قَالَ: إِن سكت فَمن يقوم بحجتي.
قَالَ: تكلم بِخَير.
فَقَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ فَرفع صَاحب الْخَبَر هَذَا الْخَبَر فعزل القَاضِي وَولى إِيَاس مَكَانَهُ.

نظر الْمَأْمُون إِلَى ابْن صَغِير لَهُ فِي يَده دفتر فَقَالَ: مَا هَذَا بِيَدِك.
فَقَالَ: بعض مَا تسجل بِهِ الفطنة وينبه من الْغَفْلَة وَيُؤْنس من الوحشة.
فَقَالَ الْمَأْمُون: الْحَمد لله الَّذِي رَزَقَنِي من وَلَدي من ينظر بِعَين عقله أَكثر مَا ينظر بِعَين جِسْمه وسنه.

قَالَ الفرزدق لغلام حدث أَيَسُرُّك إِنِّي أَبوك.
قَالَ: لَا وَلَكِن أُمِّي ليصيب أبي من أطايبك.

قعد صبي مَعَ قوم يَأْكُلُون فَبكى قَالُوا: مَالك تبْكي.
قَالَ: الطَّعَام حَار.
قَالُوا: فَدَعْهُ حَتَّى يبرد.
قَالَ: أَنْتُم لَا تَدعُونَهُ.

قَالَ الْأَصْمَعِي قلت: لغلام حدث السن من أَوْلَاد الْعَرَب أَيَسُرُّك أَن يكون لَك مائَة ألف دِرْهَم وَإنَّك أَحمَق.
فَقَالَ: لَا وَالله.
قلت: وَلم.
قَالَ: أَخَاف أَن يجني على حمقي جِنَايَة تذْهب مَالِي وَيبقى على حمقي.

بلغنَا أَن صَبيا لَقِي رجلا عَاقِلا فَقَالَ: لَهُ إِلَى أَيْن تمْضِي.
فَقَالَ: إِلَى المطبق.
قَالَ: أوسع خطوتك.

ادخل على الرشيد صبي لَهُ أَربع سِنِين فَقَالَ: لَهُ مَا تحب أَن أهب لَك.
قَالَ: حسن رَأْيك.
_________________________________________________


ابن الجوزي (المتوفى: 597هـ): كتاب الأذكياء ( 199 إلى 203) مكتبة الغزالي

الخميس، 9 نوفمبر 2017

أيها المؤرخون: لا تظلموا العثمانيين المسلمين!



بقلم: زياد محمود أبو غنيمة
قبل أن يدخل الأتراك العثمانيون في الإسلام، لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، فلم يردْ ذكرهم إلا من خلال إشارات عابرة.
وحين دخل الأتراك العثمانيون في الإسلام انقلبت الصورة وأصبحوا محط أنظار المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، بيد أن المؤرخين من غير المسلمين أبدوا اهتماماً ملحوظاً بدراسة تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين.
ولأول وهلة يخيل للمرء أن اندفاع المؤرخين من غير المسلمين في دراسة تاريخ العثمانيين المسلمين كان ينطلق من منطلق علمي سليم، هدفه تتبع العثمانيين المسلمين بأمانة علمية منصفة، ولكن ما أن يطلع المرء على ما أفرزته جهود المؤرخين من غير المسلمين من دراسات عن تاريخ العثمانيين المسلمين، حتى يكتشف أن الغالبية العظمى منهم قد تجاهلوا، وتناسوا مقتضيات الأمانة العلمية والإنصاف، بل أطلقوا العنان لأحقادهم الظاهرة والباطنة، لتكون هي المنطلق الذي ينطلقون من خلاله في تشويه تاريخ العثمانيين المسلمين وإلصاق عشرات الافتراءات التي لا تسندها أية بينات تاريخية بالأتراك العثمانيين المسلمين.
ولئن كنا لا نستغرب أن تصدر مثل تلك الافتراءات عن أقوام فضح الله عز وجل نواياهم تجاه الإسلام والمسلمين في قوله تعالى جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدتِ البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآياتِ إن كنتم تعقلونَ) [آل عمران: 118].
***
        ولئن كنا لا نستغرب أن يحمل الحقد الأسود أولئك المؤرخين على تجاهل وتناسي أبسط قواعد مقتضيات الأمانة العلمية في عملية التاريخ للأتراك العثمانيين المسلمين، فإن الذي نستغربه أشد الاستغراب، بل ونستهجنه بشدة أن ينزلق الكثير من المؤرخين المسلمين، في حمأة عملية التزوير والتشويه والبهتان التي ألصقت بتاريخ العثمانيين المسلمين..
        من ذلك مثلاً، تلك الفرية اللئيمة التي لا يكاد يخلو منها إلا النذر اليسير من الكتب التي تؤرخ للعثمانيين المسلمين، والتي تزعم أن السلاطين العثمانيين كانوا يملكون الحق، بموجب فتوى شرعية إسلامية، في قتل من يشاؤون من إخوانهم أو بني رحمهم، أو أقاربهم، بحجة الحفاظ على وحدة المسلمين، ولقطع الطريق على أية فتنة يمكن أن تبرز إذا حاول أحدهم المطالبة بالسلطة لنفسه.
        وكان آخر ما وقع عليه نظري من ترديد لهذه الفرية ما جاء في مقال للأستاذ إبراهيم محمد الفحام في عدد المحرم 1402 هـ تشرين الثاني (نوفمبر) 1981م من مجلة العربي التي تصدر في الكويت، حيث ذهب إلى القول بأن السلاطين العثمانيين الجدد اعتادوا عند توليهم مقاليد السلطة أن يقتلوا إخوانهم جميعاً، ليأمنوا محاولات اغتصاب الملك، وأن هذه الظاهرة تكررت مراراً في تاريخ الدولة العثمانية حتى شمل القتل الإخوة الأصاغر سناً.
        وإن كنتُ لا أنفي ولا أنكر وقوع العديد من حوادث التصارع بين بعض السلاطين العثمانيين وبين بعض إخوانهم، بل وأحياناً بينهم وبين أبنائهم، وأن بعض هذه الصراعات كانت تنتهي بمقتل أحد الأطراف المتصارعة، إلا أنني أنفي، وبكل شدة، وبإصرار، ما يزعمه الزاعمون من وجود فتوى شرعية إسلامية تبيح لكل سلطان عثماني جديد أن يقتل من يشاء من إخوانه، أو بني رحمه، بحجة المحافظة على وحدة المسلمين منعاً لوقوع الفتنة.
        أقول هذا.. وأتساءل:
        أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي أن يقدَّم بين يدي أية رواية تاريخية بالبينات التي تدعم صحتها، من تحديد للأسماء والأمكنة والأزمنة، وتبيين سلسلة الرواة الذين تناقلوا الرواية، إلى أن وصلت إلى راويها الأخير؟
        ثم أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي، أن لا يُكتَفى بالتعميم المبهم، بعبارات مبهمة، في رواية تحمل تهمة خطيرة لشعب بأسره هو الشعب التركي المسلم، بل الأمة بأسرها، هي أمة الإسلام، بل للإسلام ذاته الذي كان العثمانيون يحملون لواءة ويمثلونه آنذاك..؟
        أين نص الفتوى الشرعية التي يزعم الزاعمون أنها تبيح للسلاطين العثمانيين قتْل بني رحمهم من غير أي مسوغ شرعي؟
        أين أسماء العلماء المسلمين الذين أفتوا الفتوى المزعومة هذه؟
        وفي زمن أي من سلاطين بني عثمان على التحديد صدرت؟
        لقد قرأت بضعة وعشرين مرجعاً، عربياً وتركياً وإنجليزياً، تؤرخ للعثمانيين المسلمين، فما وجدت من بينها مرجعاً واحداً يذكر نص الفتوى المزعومة، أو يذكر اسماً لعالم واحد تنسب الفتوى إليه، بل لقد اكتفى كل مرجع عند ذكر هذه الفرية بسردها وكأنها يقين لا يرقى إليه شك، فلا يحتاج إلى توثيق.
        وقبل أن أتحدث بشيء من التفصيل عن تلك الأحداث التي تشبث بها الزاعمون ليرفدوا بها فريتهم، يجدر بي أن أؤكد أن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً هذا الهراء، ولا يقبل مطلقاً أن تهون حياة المسلم، أي مسلم، إلى درجة تباح فيها حياته لمجرد شبهة، أو من أجل وساوس وأوهام تتستر وراء الزعم بالغيرة على جماعة المسلمين من أن تقع فتنة مزعومة لم يقم على وقوعها، أو على مجرد الشك بوقوعها دليل شرعي.
        إن طبيعة الإسلام، وأخلاق الإسلام، وإنسانية الإسلام، ترفض رفضاً قاطعاً أن تصدر باسم الإسلام فتوى تبيح لأي إنسان مهما بلغ شأنه، أن يقتل مسلماً إلا في الحالات التي نصّ عليها الشرع : الثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة (المرتد)، والقاتل عمداً (النفس بالنفس).
        ألا، وإن كل مسلم مهما كان مستوى علم، يعلم أن قتل النفس، أي نفس، محرّم في شرع الله عز وجل إلا ضمن الحدود التي حددها الله عز وجل.
        ولقد ندد الله عز وجل أيما تنديد، بتلك الجريمة التي اقترفها قابيل ابن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، يوم طوّعت له نفسُه قتلَ أخيه هابيل فقتله:
(واتل عليهم نبأَ ابنيْ آدمَ إذْ قرّبا قرباناً فتقبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنكَ قال إنما يتقبّلُ اللهُ من المتقين. لئنْ بسطتَ يديَ لأقتلكَ ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلكَ إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار وذلك جزاء الظالمين. فطوّعتْ له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض لِيُريَهُ كيف يواري سوأةَ أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثلَ هذا الغرابِ فأواريَ سوأةَ أخي فأصبح من النادمين) [المائدة: 27-31].
        بل إن الله عز وجل لم يكتفِ بالتنديد بجريمة قابيل، بل جعلها منطلقاً لحكم رباني يؤكد حرمة النفس البشرية تأكيداً قاطعاً لا لبس فيه ولا غموض:
(من أجل ذلكَ كتبنا على بني إسرائيلَ أنه مَن قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناسَ جميعاً) [المائدة: 32].
        تلك هي الحقيقة، حقيقة تؤكد براءة الإسلام من تلك الفتوى المزعومة، وتؤكد رفض الإسلام لهذا الهراء.
        فمن أين جاءت هذه الفرية إذن؟
        وما هي دوافعها، وماذا يقصد مروجوها من ورائها..؟
        أما الدوافع التي تكمن وراء ترويج هذه الفريةة، فلا أملك إلا أن أقول: إنها نابعة من الحقد الأسود الذي تمتلئ به قلوب العديد من المؤرخين الصليبيين من أعداء الإسلام، ضد الإسلام والمسلمين..
فلقد انتهز بعض المؤرخين الصليبيين الحاقدين، وقلدهم في ذلك عن قصد أو عن غير قصد، بعضُ المؤرخين الذي يحملون أسماء إسلامية، وقوع بعض حوادث الصراع الدموي على السلطة في الدولة العثمانية، وهو أمر لم تسلم منه أمة ن الأمم على مدار التاريخ، فوجدوا في تلك الأحداث متنفساً لينفثوا من خلاله أحقادهم الدفينة ضد الإسلام والمسلمين، فوجهوا سهام افتراءاتهم ضد العثمانيين المسلمين، وهم في حقيقة الأمر يوجهونها إلى الإسلام الذي كان العثمانيون يمثلونه آنذاك.
أقول هذا، وبين يدي أكثر من دليل.
أبدأ بحادثة مقتل الأمير «دوندار» عمّ السلطان «عثمان»، وهي حادثة أرودها المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني»، الذي ألفه عام 1945م، أي في الوقت الذي كانت فيه أنواء الردة الأتاتوركية في أصخب حالات هبوبها على تركيا، بكل ما تحمله من مشاعر العداء للعثمانيين المسلمين، وزعم فيها أن عثمان بن أرطغرل استشار عمه دوندار البالغ من العمر تسعين عاماً في أمر عزمه على محاربة البيزنطيين، فعارضه عمه في الرأي، فلم يتحمل عثمان معارضة عمه فقام بإعدامه بيده برميه بسهم انتقاماً منه بسبب هذه المعارضة.
        ولئن كانت هذه الرواية بنصها هذا من الضعف بحيث خلت منها معظم المراجع التي تؤرخ لعثمان بن أرطغرل، ولئن كان من أجلة ضعفها أن إسماعيل حامي دنشمند لم يؤثق روايته لهذه الحادثة بإيراد اسم المرجع، أو اسم المؤرخ الذي نقل عنه الرواية، فإن الحاقدين على العثمانيين المسلمين، بل على الإسلام الذي يمثله العثمانيون، تلقفوا هذه الحادثة، ونسجوا من حولها من سواد حقدهم ما لا تحتمل، فزعموا، وبئس ما زعموا، أن عثمان قتل عمه دوندار بناءً على فتوى شرعية تبيح له قتله خشية أن يزاحمه على السلطنة، مما قد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين المسلمين.
ولئن كان من الإنصاف أن نشير إلى أن ما نقلته معظم المراجع الموثوقة التي أرّخت لعثمان بن أرطغرل، عن شدة تعلّق عثمان بأحكام الشريعة الإسلامية، وعن التزامه الصادق بالإسلام، عبادةً، وخلقاً، وتواضعاً، وما نقلته عن توقيره الشديد لعمه الشيخ الكبير دوندار، يجلعنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا على يقين أنه ما فعل ذلك إلا لسبب جلل، أكبر من مجرد الاختلاف في الرأي.
ويرسخ قناعتنا ما أورده المؤرخ التركي المعاصر قادر مصر أوغلو في كتابه «مأساة بني عثمان» المطبوع في إستانبول عام 1979م، في وقت كانت المشاعر الإسلامية في تركيا تشهد فيه شيئاً من أشكال الحرية التي تستطيع معها أن تعبر عن حقيقة رفضها لمشاعر العداء التي حاولت الردة الأتاتوركية ترسيخها ضد العثمانيين المسلمين في نفوس الأتراك.
        ففي كتابه ذلك ينقل قادر مصر أوغلو، عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفاً في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة «بيله جك» البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان، تمهيداً لوثوب دوندار إلى الزعامةخلفاً لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة أصرّ عثمان، وهو الحريص علىتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، على تنفيذ حكم الله في عمه جزاء افترافه لجريمةموالاة أعداء الإسلام، والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين.
        وتلك لعمري نقطة بيضاء ووقفة شماء شامخة تسجَّل في حسنات عثمان بن أرطغرل، إذ أكّد من خلال حرصه على تطبيق شرع الله في عمه على صدق التزامه بالإسلام، وصدق خضوعه لحكمه، وصدق تفضيله لوشيجة العقيدة وارتباطه بها فوق وشيجة الدم والقرابة.
تلك هي حقيقة السلطان عثمان بن أرطغرل مع عمه دوندار تتهاوى أمامها أباطيل الحاقدين وأراجيف المرجفين.
أما قصة السطان مراد بن أورخان مع ولده الأمير «ساجي» فهي أيضاً علامة بارزة تؤكد صدق التزام مراد بالإسلام، وصدق خضوعه لأحكام شريعته.
ففي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه أشرس الحملات المتلاحقة التي تمثلت في العديد من الأحلاف الصليبية التي تجمع تحت ألويتها ملوك وأمراء المجر والصرب والبلغار والأرناؤوط (ألبانيا)، بمباركة من بابا روما أوربيان الخامس، وبتحريض سافر منه [766هـ/1365م].
وفي الوقت الذي كان فيه السلطان مراد يواجه فيه خطراً تمثل في قيام الأمير الإيطالي آميديو بتجميع جيش من الإيطاليين تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين [770هـ/1368م].
وفي الوقت الذي ازداد فيه الخطر ضد الدولة العثمانية المسلمة، بقيام إمبراطور بيزنطة يوانيس الخامس بزيارة روما عام [771هـ/1369م] مستنجداً بالبابا ضد العثمانيين المسلمين، ومعلناً تحوله عن مذهبه الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي في محاولة لاسترضاء بابا روما لإقناعه بعده بالنجدة التي يطلبها ضد العثمانيين المسلمين.
وفي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه خطراً داهماً جديداً تمثّل في نجاح البابا بتجنيد أكثر من ستين ألف مقاتل صليبي بقيادة ملك بلاد الصرب الجديدووقاشتين [773هـ/1370م].
وفي الوقت الذي كان السلطان مراد لا يكاد ينجح في التغلب على إحدى مكائد الأعداء، حتى يواجه مكيدة أخرى، كان ولده الأمير ساوجي يتآمر سراً مع الأمير البيزنطي أندرونيقوس، الابن الثاني للإمبراطور يوانيس، لتدبير مؤامرة للإطاحة بالسلطان مراد، وتسليم السلطة للأمير ساوجي، وسرعان ما انتقلت المؤامرة من مرحلة التدبير إلى مرحلة التنفيذ، فسار الأميران ساوجي وأندرونيقوس على رأس جيش كانت غالبية جنوده من البيزنطيين، وتمركزا بجيشهما في منطقة لا تبعد كثيراً عن القسطنطينية، فسارع السلطان مراد لملاقاتهما، فما كاد يقترب منهما حتى خارت معنويات المتآمرين ففر الجنود البيزنطيون من أنصار أندرونيقوس، ولجأ الجنود العثمانيون من أنصار الأمير ساوجي إلى جيش أبيه السلطان مراد، فأصبح ساوجي وأندرونيقوس من غير جيش، فلم يجدا أمامهما مفراً من الهرب، ففرا إلى مدينة »ديمومة«، فلحق بهما السلطان مراد واضطرهما إلى الاستسلام.
وجمع السلطان نخبة من القادة والعلماء والقضاة لمحاكمة ولده ساوجي، فحكوا عليه بالموت جزاء خروجه على طاعة ولي الأمر وجزاء موالاته للكفار أعداء الإسلام والتحالف معهم قولاً وفعلاً في محاربة المسلمين.
وأمر السلطان مراد بتنفيذ حكم الشرع في ولده مسجلاً في ذلك صدق ولائه لحكم الشريعة، وصدق التزامه بالإسلام، ولكأني به وهو يفعل ذلك، كان يستشعر قوله تعالى عز وجل: (لا تجدُ قوماً يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئكَ كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إنّ حزبَ الله هم الغالبون) [المجادلة: 22].
ولقد كان من الطبيعي أن يستغل الحاقدون حادثة مقتل ساوجي، فتلقفوها وطفقوا ينسجون من حولها الأقاويل والافتراءات ليرفدوا من خلالها فريتهم عن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسطان العثماني المسلم قتل من يشاء من بني رحمه.
وكان من الطبيعي أن يشتط الحقد بأعداء الإسلام، فينفثوا حقدهم ضد السلطان مراد ويتهمونه بالوحشية، وتحجُّر عاطفة الأبوة في قلبه، وما دروا أن صدق الالتزام بالإسلام يجعل وشيجة العقيدة فوق كل وشيجة. وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي علّم المسلمين هذه الحقيقة الإيمانية حين قال: »واللهِ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها.«
وأنتقلُ إلى حادثة قتل السلطان بايزيد بن مراد (الصاعقة) لأخيه الصغير يعقوب، فلا أجد غضاضة في تأكيد وقوعها، ولا أجد حاجة إلى محاولة تبريرها. فقد استهل يايزيد عهده فعلاً بارتكاب جريمة بشعة حيث أقدم على قتل أخيه الصغير يعقوب بتحريض من بعض أنصاره الذين طفقوا يوغرون صدره ضد أخيه، الذي كان شجاعاً، قوي الشخصية، ووجدتْ وشايةُ المغرضين هوى في نفس بايزيد الذي خشي أن يزاحمه يعقوب على السلطنة، واشتطت به وساوسه حين أخذ الوشاةُ يذكرونه بأن جده أورخان بن عثمان ولي السلطنة رغم كونه الأصغر سناً من أخيه الأمير علاء الدين.
ولئن كنت أنكر أن بايزيد قد ارتكب جريمته البشعة فعلاً، بعد أن غلبه هواه، وزينت له وساوسه أن يقترف تلك الجريمة، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. فالجريمة يتحمل وزرها بايزيد وحده، وليس من العدل ولا من المنطق أن يزجّ بالإسلام في عملية تبريرها.
وينبغي أن أشير هنا إلى أن الجفاء كان مستحكماً بين العلماء والسلطان بايزيد، لدرجة أستبعد معها أن يجد بايزيد عالماً واحداً يستجيب له فيصدر تلك الفتوى التي ينسب استصدارها في بعض المراجع إلى بايزيد.
ولقد بلغ من حدة ذلك الجفاء أن العالم المؤمن القاضي شمس الدين محمد حمزة الفناري ردّ شهادة السلطان بايزيد في إحدى القضايا، فلما راجعه بايزيد في ذلك، أجابه القاضي المؤمن بأنه ردّ شهادته لأنه تارك لصلاة الجماعة.
بل لقد بلغ الجفاء بين العلماء والسلطان بايزيد إلى حد أقرب ما يكون إلى القطيعة بسبب استنكارهم لوقوعه تحت سيطرة وتأثير زوجته النصرانية الأميرةأوليفيرا شقيقة ملك الصرب لازار، ونماديه بتحريض منه على إدمان شرب الخمر، وإقامة حفلات اللهو، ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه »موسوعة التاريخ العثماني« أن بايزيد ذهب ليتفقد العمل في بناء مسجد »أولو جامع« في بورصة، وكان قد أوشك بناؤه على الانتهاء، فالتقى خلال تجواله في المسجد بالعالم المؤمن محمد شمس الدين البخاري، فسأله على مسمع من الناس عن رأيه في نابء المسجد، وهل يرى في البناء أي نقص..؟ فأجابه العالم المؤمن بجواب ساخر يحمل بين طياته مشاعر عدم الرضى عن سيرة بايزيد المنافية للإسلام، فقال له: بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإننا لا نجد أي نقص في بناء المسجد، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب.
أفيعقل بعد هذا أن يجد بايزيد عالماً واحداً يفتي بقتل أخيه من غير مسوّغ شرعي؟
ولقد وجد الحاقدون رافداً جديداً يدعمون به فريتهم فيما وقع من صراع دموي بين أبناء بايزيد الصاعقة، حين قتل محمد بن بايزيد إخوته عيسى ثم سليمان ثم موسى ليتفرد بحكم السلطنة.
ولئن اشتط المغرضون في حقدهم فزعموا أن محمد بن بايزيد قد قتل إخوته بموجب تلك الفتوى الشرعية المزعومة، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن ما جرى بين أبناء بايزيد من اقتتال دموي كان اقتتالاً مصلحياً من أجل الطموحات الشخصية بكل واحد منهم للجلوس على عرش السلطنة، وليس من العدل والإنصاف إن يزج بالإسلام في هذا المقام.
وينبغي أن أشير إلى أن شهوة الجلوس على عرش السلطنة قد اشتطت بأبناء بايزيد لدرجة لم يجدوا معها غضاضة في الاستعانة بأعداء الإسلام من البيزنطيين ضد بعضهم بعضاً، كما فعل سليمان بن بايزيد حين تنازل لملك الروم »إيمانويل الثاني« عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود مقابل الوقوف إلى جانبه ضد أخويه الآخرين عيسى ومحمد.
هذا، وينبغي أن أشير إلى أن بعض المؤرخين المغرضي زعموا أن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسلطان قتل بني رحمه من غير مسوغ شرعي هي تلك الفتوى التي أصدرها الشيخ سعيد أحد تلاميذ الشيخ التفتازاني، والتي ورد نصّها على النحو التالي: »من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جمعكم، فاقتلوه.«
والحقيقة أن هذه الفتوى قد صدرت عام [823هـ/1420م] كما يورد المؤرخ التركي عبد القادر داده أوغلو في كتابه »التاريخ العثماني المصوّر« ضد أحد قضاة العسكر وهو الشيخ بدر الدين الذي ثار على السلطان وتزعم حركة تنادي بإلغاء التفرقة بين الأديان، وبتوزيع الأموال سواسية بين الناس، وقد اندس في حركة الشيخ بدر الين، كما يروي الأستاذ محمد فريد في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»عدد من اليهود والنصارى، وعندما وقع بدر الدين في الأسر بعد معركة حامية الوطيس، حوكم أمام هيئة من كبار العلماء والقضاة، فصدرت بحقه الفتوى بنصها الذي أوردته آنفاً، وبتوقيع الشيخ شعيد، ويروي المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» أن الشيخ بدر الدين قد وقع بنفسه أيضاً على الفتوى اعترافاً بذنبه، وتم إعدامه شنقاً على ملأ من الناس في السوق الرئيسي في مدينة سراز.
ولقد وجد المغرضون مبرراً آخر لرفد بهتانهم بخصوص الفتوى المزعومة في حادثة إعدام السلطان مراد الثاني لعمه مصطفى بن بايزيد.
وحقيقة الأمر أن مصطفى بن بايزيد كان قد اختفى وانقطعت أخباره بعد هزيمة بايزيد (الصاعقة) في معركة أنقرة أمام تيمورلنك، ثم ظهر فجأة في زمن أخيه السلطان محمد جلبي بن بايزيد مطالباً بالسلطنة لنفسه، واستنجد بأعداء الإسلام من البيزنطيين فأمدوه المساعدات، وأوعزوا لأمير بلاد الفلاخ بإمداده بجيش كبير، ولكن مصطفى فشل في تحقيق أي نجاح، واضطر إلى اللجوء إلى سلانيك التي كان الأمير سليمان بن بايزيد قد أعادها إلى السيطرة البيزنطية مقابل وعدهم له بمساعدته ضد إخوته، كما أسلفت قبل قليل، واتفق السلطان محمد جلبي مع إمبراطور بيزنطة على إبقاء أخيه مصطفى في سلانيك تحت مراقبة الإمبراطور، مقابل مبلغ من المالن استمر الأمر على هذا النحو إلى أن ولي السلطنةمراد الثاني بن جلبي فتحرش به الإمبراطور «إيمانويل الثاني» في محاولة منه لإعادة هيبة الإمبراطورية، وطلب منه عقد معاهدة يتعهد مراد بموجبها بعدم القيام بأية محاولة لغزو القسطنطينية، فلما وقف السلطان مراد موقفاً حازماً في وجه إيمانويل ورفض مطالبه عمد عمانويل إلى استدعاء الأمير مصطفى وأمده بعشر سفن حربية مدججة بالجنود والسلاح، فتمكن مصطفى من الإستيلاء على مدينة وميناء غاليبولي، ثم تمكن من التغلب على الجيش العثماني الذي أرسله السلطان مراد لمحاربته بقيادة وزيره بايزيد باشا، فسار السلطان مراد الثاني بنفسه لملاقاة عمه مصطفى الذي لم يلبث أن وقع في أسر مراد، ليواجه عقوبة الإعدام شنقاً، جزاء خيانته لله ولرسوله وللمؤمنين، وهل من خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أعظم من موالاة في جماعة المسلمين، ينبري هؤلاء ليزعموا أن الإسلام يبيح للسلطان قتل بني رحمه كيفما يشاء..؟
فرية باطلة ... وبهتان عظيم..
           وأجدني هنا مضطراً للتوقف وقفة أردّ بها فرية خبيثة ألصقت بالسلطان محمد الفاتح، فقد درج بعض المؤرخين، وهم يؤرخون لحياته، على الزعم بأنه قام بقتل أخيه الرضيع أحمد جلبي بعد أيام قليلة من تسلمه مسؤولية السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان مراد، خشية أن يزاحمه على السلطنة، ومن المؤسف أن هذا الزعم لم يقتصر على المؤرخين غير المسلمين، وإنما وقع في أحبولته عدد من المؤرخين المسلمين.
        ولئن كانت هذه الفرية التي ألصقت بالسلطان محمد الفاتح تكون أوهمن من بيت العنكبوت، إلا أنني أجد من الواجب التوقف عندما وتفنيدها، لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأي مؤرخ يحترم نفسه، ويحترم شرف الكلمة التي يؤرخ بها، أن يستمر في ترديد هذا البهتان العظيم ضد السلطان محمد الفاتح.
        هل يعقل أن سلطاناً ولي السلطنة في عهد أبيه، وتحت كنفه، ثم وليها من بعد وفاة أبيه، وقد اشتدّ ساعده، ونضجت خبرته، والتفت الأمة من حوله تحوطه بالحب والطاعة، هل يعقل أن هذا السلطان يغار من أخ له رضيع، فيخشى أن ينازعه على السلطة..؟ وكيف يتسنّى لطفل رضيع، وأنى له، أن ينازع على السلطنة، وهو الرضيع الذي إن تأخرت أمه عليه بالحليب يوماً مات جوعاً.
        ثم هل يصدق إنسان عاقل، أن محمداً الفاتح، الذي تربى على مائدة القرآن، على يد خيرة علماء عصره، أمثال الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان الفاتح يسميه «أبا حنيفة زمانه»، والشيخ تمجيد أوغلو، والشيخ محمد جلبي زاده، والشيخ مولا إياش، والشيخ الغوراني، والشيخ سراج الدين الحلبي، والشيخ آق شمس الدين، ويمكن أن يفكر بمثل هذا الأمر الفظيع..؟
        بل، لنفرض جدلاً أن محمداً الفاتح كان يوجس خيفة أن ينازعه أخوه الرضيع على السلطنة، أفما كان يستطيع أن يحتويه تحت كنفه، ويربيه على الإخلاص له، بدل أن يقتله؟
        ولماذ يستبق محمد الفاتح الأمور فيقتل أخاه الرضيع، وقد كان بإمكانه أن ينتظر وهو مطمئن البال بضعة عشر عاماً حتى يكبر أخوه، فيتحقق من نوازعه ونواياه؟
        من هنا نستطيع أن نتبين انتفاء المصلحة الشخصية للسلطان محمد الفاتح من قتل أخيه الرضيع.
        ولننتقل الآن إلى مناقشة الطريقة التي تمت بها عملية القتل المزعومة، فقد زعم مروّجو هذه الفرية أن السلطان محمداً الفاتح أرسل أحد قواده، واسمه علي بك، إلى جناح النساء لقتل أخيه الرضيع، فلما علم علي بك أن الطفل موجود في حمام النساء حيث تقوم مربيته بغسله، اقتحم الحمام وأمسك بالطفل الرضيع وغطسه تحت الماء حتى مات مختنقاً غرقاً..
        هل يصدق عاقل أن محمد الفاتح، وهو الذكي المحنك، يقدم على قتل أخيه الرضيع بهذه الصورة المكشوفة الساذجة؟ وهل كان عاجزاً عن تكليف إحدى النساء، كزوجته، أو إحدى خادماتها، بتنفيذ عملية القتل دون إثارة انتباه أحد، بدل من أن يرسل رجلاً إلى جناح النساء، وهو أمر غير مألوف، بله أن يسمح له بأن يقتحم هذا الرجل حمام النساء، حيث يكنّ فيه متحللات من حجابهن، ومتخففات من كثير من ملابسهن، وفي ذلك ما فيه من خروج مستهجن عن المألوف، من شأنه لو تحقق فعلاً أن يثير من هياج النساء، وضجيجهن، وصخبهن، ما يضطر ذلك الرجل إلى الفرار قبل أن ينفذ مأربه، مهما بلغت به الجرأة والنذالة؟
        إذن، ما هي حقيقة هذه الفرية؟
        الحقيقة أن المربية التي كان موكلاً إليها أمر العناية بالطفل الرضيع أحمد، انشغلت عنه لبعض شأنها بينما كانت تغسله، فوقع في حوض الماء، فمات مختنقاً غرقاً قبل أن تتداركه الأيدي التي امتدت لإنقاذه بعد فوات الأوان.
        وتصادف بعد غرق الطفل بأيام قليلة أن أحد ضباط الجيش، واسمه علي بك، ارتكب جريمة عقابها الإعدام، فلما أعدم، وجد الحاقدون مادة جديدة خيّل إليهم أنهاتدعم بهتانهم، فطفقوا يزعمون أن علي بك هو الذي أغرق الطفل الرضيع أحمد، وأن  السلطان محمد الفاتح خشي أن يفشي هذا الرجل سره فقتله، ومن هنا جاءت الفرية على النحو الذي أشرت إليه، وينبغي الإشارة إلى أن «إدوارد سي كريسي» يتبنى هذا الزعم في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» المطبوع بالإنجليزية في بيروت في عام 1961م، ويدّعي أن السطان الفاتح أقدم على قتل الضابط علي بك متهماً إياه بقتل أخيه الرضيع دون أن يكون للسلطان علم بذلك.
        ولو أنهم توقفوا عند هذه الفرية وحدها لهانَ الأمر، ولكنهم ما برحوا أن بدأوا ينسجون من حولها المزيد من الافتراءات، فزعموا أن محمداً الفاتح، لم يكتف بقتل أخيه، بل أصدر قانوناً أعطى للسلطان الحق في قتل من يشاء من إخوته وأبنائه وأبناء عمومته وخؤولته، لقطع الطريق على أي منهم أن ينافسه على السلطة.
        ولقد أوضح المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» الدافع الذي جعل السلطان محمد الفاتح يصدر هذا القانون فقال:
«حين وجد السلطان محمد الفاتح أن أكبر خطر يهدد الدولة العثمانية في الفترة التي سبقت توليه مقاليد السلطنة، نجم عن تكرار حوادث الانشقاق التي كانت تقع بين الأمراء العثمانيين، والتي كانت تصل في أكثر الأحيان إلى درجة الاقتتال، وتؤدي إلى انقسام الدولة إلى فريقين أو أكثر، مما كان يؤثر على وحدة الدولة، ويغري خصوم الإسلام بها، فقد رأى السلطان محمد الفاتح أن يضع قانوناً أسماه «قانون حفظ النظام للرعية» أكد بموجبه أن الموت سيكون مصير كل من يعلن العصيان المسلح ضد السلطان، ويتعاون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين.»
        ويردف إسماعيل حامي دنشمند أن هذا القانون كان سبباً في انحسار، أو على الأقل، في تقليص حوادث العصيان المسلح، التي كادت أن تصبح أمراً شائعاً في الدولة العثمانية قبل صدور هذا القانون.
        وإن المرء لتتملكه الدهشة، حين يرى أن كل دول الدنيا، قديمها وحديثها، لا تخلو قوانينها من مثل هذا القانون، ومع ذلك لا تجد أحداً يعترض عليها أو يشوه مقاصدها، كما كان يفعل المغرضون تجاه الدولة العثمانية!
           وبعد:
           فإني أحسب أن القارئ الفطن، يدرك من خلال ما أوردتُ من حقائق، أن الحاقدين إنما يهدفون من وراء التركيز على تحريف تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين إلى الإساءة إلى الإسلام ذاته، ومن خلال الإساءة إلى الأتراك العثمانيين المسلمين، حين يظهرونهم بمظهر القوم المتوحشين الذين انعدمت الرحمة من قلوبهم، ومن خلال الإيحاء بأن مسألة قتل السلاطين لإخوانهم كانت أمراً عادياً مألوفاً عندهم.
        أقول هذا، ولا أنفي أن يكون في تاريخ بني عثمان، وخاصة في عصورهم المتأخرة، بعض الأمور التي لا تنسجم مع الإسلام، وتتعارض مع أحكامه، وليس الذنب في ذلك ذنب الإسلام، وإنما ذنب المسيء نفسه.


مجلة الأمة، العدد 53، جمادى الأولى، 1405 هـ


https://uqu.edu.sa/ahsharif/4527