حدثني القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن ، قال حدثني مكرم ابن بكران، عن أبي يحيى بن مكرم القاضي ،
قال : كنت خصيصاً بأبي الحسن علي بن عيسى ، وربما شاورني في شيء من أمره ،
قال : دخلت عليه يوماً وهو مغموم جداً، فقدرت أنه بلغه عن المقتدر أمر كرهه ، فقلت هل حدث شيء؟ وأو مات إلى الخليفة .
فقال : ليس غمي من هذا الجنس، ولكن مما هو أشد منه .فقلت : إن جاز أن أقف عليه فلعلي أقول فيه شيئاً .فقال : نعم، كتب إلى عاملنا بالثغر، أن أسارى المسلمين في بلد الروم، كانوا على رفق وصيانة إلى أن ولي آنفاً، ملك الروم ، حدثان ، فعسفا الأسارى ، وأجاعهم ، وأعرياهم ، وعاقباهم ، وطالباهم بالتنصر ، وأنهم في جهد جهيد ، وبلاء شديد ، وليس هذا مما لي فيه حيلة ، لأنه أمر لا يبلغه سلطاننا ، والخليفة لا يطاوعني ، فكنت أنفق الأموال ، وأجتهد ، وأجهز الجيوش حتى تطرق القسطنطينية.
فقلت أيها الوزير ، هاهنا رأي أسهل مما وقع لك، يزول به هذا .فقال : قل يا مبارك .فقلت : إن بانطاكية عظيماً للنصارى يقال له البطرك ، وببيت المقدس آخر يقال له القاثليق ، وأمرهما ينفذ على ملك الروم ، حتى انهما ربما حرما الملك فيحرم عندهم ، ويحلانه فيحل .
وعند الروم أنه من خالف منهم هذين فقد كفر ، وأنه لا يتم جلوس الملك ببلد الروم إلا برأي هذين ، وأن يكون الملك قد دخل إلى بيعتهما ، وتقرب بهما ، والبلدان في سلطاننا ، والرجلان في ذمتنا ، فيأمر الوزير بأن يكتب إلى عاملي البلدين بإحضارهما ، وتعريفهما ما يجري على الأسارى ، وإن هذا خارج الملك ، وإنهما إن لم يزيلا هذا ، لم يطالب بجريرته غيرهما ، وينظر ما يكون من الجواب .
قال: فاستدعي كاتباً ، وأملى عليه كتابين في ذلك ، وأنفذهما في الحال ، وقال : سريت عني قليلاً ، وافترقنا .
فلما كان بعد شهرين وأيام ، وقد أنسيت الحديث ، جاءني فرانق من جهته يطلبني ، فركبت وأنا مشغول القلب بمعرفة السبب في ذلك ، حتى وصلت إليه ، فوجدته مسروراً ، فحين رآني قال: يا هذا ، أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعني .
فقلت : ما الخبر ؟.قال: كان رأيك في أمر الأسارى أبرك رأي وأصحه، وهذا رسول العامل قد ورد بالخبر، وأومأ إلى رجل كان بحضرته، وقال له: خبرنا بما جرى.
فقال الرجل : أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق ، برسالتهما إلى قسطنطينية وكتبا إلى ملكيهما : إنكما قد خرجتما عن ملة المسيح بما فعلتماه بالأسارى وليس لكما ذلك ، فإنه حرام عليكما ، ومخالف لما أمرنا به المسيح من كذا وكذا ، وعددا أشياء في دينهما ، فإما زلتما عن هذا واستأنفتما الإحسان إلى الأسارى ، وتركتما مطالبتهم بالتنصر ، وإلا لعناكما على هذين الكرسيين وحرمنا كما .
قال : فمضيت مع الرسول ، فلما صرنا بقسطنطينية ، حجيت عن الملكين أياماً ، وخليا بالرسول ، ثم استدعياني إليهما ، فسلمت عليهما ،
فقال لي ترجمانهما : يقول لك الملكان ، إن الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى ، كذب وتشنيع ، وقد أذنا في إدخالك دار البلاط لتشاهد أساراكم ، فترى أحوالهم بخلاف ما بلغكم ، وتسمع من شكرهم لنا ، ضد ما اتصل بكم .
قال : ثم حملت إلى دار البلاط فرأيت الأسارى ، وكأن وجوههم قد أخرجت من القبور ، تشهد بالضر الشديد والجهد الجهيد وما كانوا فيه من العذاب إلى حين قدومنا إلا أنهم مرفهون في ذلك الوقت ، وتأملت ثيابهم ، فإذا جميعها جدد ، فعلمت أني منعت من الوصول تلك الأيام حتى غير زي الأسارى وأصلح أمرهم .
وقال لي الأسرى : نحن للملكين شاكرين ، فعل الله بهما وصنع ، وأومأوا إلي : إن الأمر كان كما بلغكم ، ولكنه خفف عنا ، وأحسن إلينا ، بعد حصولك هاهنا .
وقالوا لي كيف عرفت حالنا ؟ ومن تنبه علينا ، وأنفذك بسببنا ؟.
فقلت لهم : ولي الوزارة علي بن عيسى فبلغه ذلك ، فأنفذ من بغداد ، وفعل كذا وكذا .
قال: فضجوا بالدعاء إلى الله تعالى للوزير، وسمعت امرأة منهم تقول : مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك هذا الفعل .
قال: فلما سمع ذلك علي بن عيسى أجهش بالبكاء ، وسجد حمداً لله سبحانه وتعالى ، وتر الرسول ، وصرفه .
فقلت له : أيها الوزير ، أسمعك دائماً تتبرم بالوزارة ، وتتمنى الإنصراف عنها في خلوتك خوفاً من آثامها ، فلو كنت في بيتك ، هل كنت تقدر أن تحصل هذا الثواب ولو أنفقت فيه أكثر مالك ؟ فلا تفعل ، ولا تتبرم بهذا الأمر فلعل يمكنك ويجري على يديك أمثال هذا الفعل ، فتفوز بثوابه في الآخرة ، كما تفردت بشرف الوزارة في الدنيا .
__________________________________
المصدر : نشوار المحاضرة للقاضي التنوخي رحمه الله تعالى
قال : كنت خصيصاً بأبي الحسن علي بن عيسى ، وربما شاورني في شيء من أمره ،
قال : دخلت عليه يوماً وهو مغموم جداً، فقدرت أنه بلغه عن المقتدر أمر كرهه ، فقلت هل حدث شيء؟ وأو مات إلى الخليفة .
فقال : ليس غمي من هذا الجنس، ولكن مما هو أشد منه .فقلت : إن جاز أن أقف عليه فلعلي أقول فيه شيئاً .فقال : نعم، كتب إلى عاملنا بالثغر، أن أسارى المسلمين في بلد الروم، كانوا على رفق وصيانة إلى أن ولي آنفاً، ملك الروم ، حدثان ، فعسفا الأسارى ، وأجاعهم ، وأعرياهم ، وعاقباهم ، وطالباهم بالتنصر ، وأنهم في جهد جهيد ، وبلاء شديد ، وليس هذا مما لي فيه حيلة ، لأنه أمر لا يبلغه سلطاننا ، والخليفة لا يطاوعني ، فكنت أنفق الأموال ، وأجتهد ، وأجهز الجيوش حتى تطرق القسطنطينية.
فقلت أيها الوزير ، هاهنا رأي أسهل مما وقع لك، يزول به هذا .فقال : قل يا مبارك .فقلت : إن بانطاكية عظيماً للنصارى يقال له البطرك ، وببيت المقدس آخر يقال له القاثليق ، وأمرهما ينفذ على ملك الروم ، حتى انهما ربما حرما الملك فيحرم عندهم ، ويحلانه فيحل .
وعند الروم أنه من خالف منهم هذين فقد كفر ، وأنه لا يتم جلوس الملك ببلد الروم إلا برأي هذين ، وأن يكون الملك قد دخل إلى بيعتهما ، وتقرب بهما ، والبلدان في سلطاننا ، والرجلان في ذمتنا ، فيأمر الوزير بأن يكتب إلى عاملي البلدين بإحضارهما ، وتعريفهما ما يجري على الأسارى ، وإن هذا خارج الملك ، وإنهما إن لم يزيلا هذا ، لم يطالب بجريرته غيرهما ، وينظر ما يكون من الجواب .
قال: فاستدعي كاتباً ، وأملى عليه كتابين في ذلك ، وأنفذهما في الحال ، وقال : سريت عني قليلاً ، وافترقنا .
فلما كان بعد شهرين وأيام ، وقد أنسيت الحديث ، جاءني فرانق من جهته يطلبني ، فركبت وأنا مشغول القلب بمعرفة السبب في ذلك ، حتى وصلت إليه ، فوجدته مسروراً ، فحين رآني قال: يا هذا ، أحسن الله جزاءك عن نفسك ودينك وعني .
فقلت : ما الخبر ؟.قال: كان رأيك في أمر الأسارى أبرك رأي وأصحه، وهذا رسول العامل قد ورد بالخبر، وأومأ إلى رجل كان بحضرته، وقال له: خبرنا بما جرى.
فقال الرجل : أنفذني العامل مع رسول البطرك والقاثليق ، برسالتهما إلى قسطنطينية وكتبا إلى ملكيهما : إنكما قد خرجتما عن ملة المسيح بما فعلتماه بالأسارى وليس لكما ذلك ، فإنه حرام عليكما ، ومخالف لما أمرنا به المسيح من كذا وكذا ، وعددا أشياء في دينهما ، فإما زلتما عن هذا واستأنفتما الإحسان إلى الأسارى ، وتركتما مطالبتهم بالتنصر ، وإلا لعناكما على هذين الكرسيين وحرمنا كما .
قال : فمضيت مع الرسول ، فلما صرنا بقسطنطينية ، حجيت عن الملكين أياماً ، وخليا بالرسول ، ثم استدعياني إليهما ، فسلمت عليهما ،
فقال لي ترجمانهما : يقول لك الملكان ، إن الذي بلغ ملك العرب من فعلنا بالأسارى ، كذب وتشنيع ، وقد أذنا في إدخالك دار البلاط لتشاهد أساراكم ، فترى أحوالهم بخلاف ما بلغكم ، وتسمع من شكرهم لنا ، ضد ما اتصل بكم .
قال : ثم حملت إلى دار البلاط فرأيت الأسارى ، وكأن وجوههم قد أخرجت من القبور ، تشهد بالضر الشديد والجهد الجهيد وما كانوا فيه من العذاب إلى حين قدومنا إلا أنهم مرفهون في ذلك الوقت ، وتأملت ثيابهم ، فإذا جميعها جدد ، فعلمت أني منعت من الوصول تلك الأيام حتى غير زي الأسارى وأصلح أمرهم .
وقال لي الأسرى : نحن للملكين شاكرين ، فعل الله بهما وصنع ، وأومأوا إلي : إن الأمر كان كما بلغكم ، ولكنه خفف عنا ، وأحسن إلينا ، بعد حصولك هاهنا .
وقالوا لي كيف عرفت حالنا ؟ ومن تنبه علينا ، وأنفذك بسببنا ؟.
فقلت لهم : ولي الوزارة علي بن عيسى فبلغه ذلك ، فأنفذ من بغداد ، وفعل كذا وكذا .
قال: فضجوا بالدعاء إلى الله تعالى للوزير، وسمعت امرأة منهم تقول : مر يا علي بن عيسى لا نسي الله لك هذا الفعل .
قال: فلما سمع ذلك علي بن عيسى أجهش بالبكاء ، وسجد حمداً لله سبحانه وتعالى ، وتر الرسول ، وصرفه .
فقلت له : أيها الوزير ، أسمعك دائماً تتبرم بالوزارة ، وتتمنى الإنصراف عنها في خلوتك خوفاً من آثامها ، فلو كنت في بيتك ، هل كنت تقدر أن تحصل هذا الثواب ولو أنفقت فيه أكثر مالك ؟ فلا تفعل ، ولا تتبرم بهذا الأمر فلعل يمكنك ويجري على يديك أمثال هذا الفعل ، فتفوز بثوابه في الآخرة ، كما تفردت بشرف الوزارة في الدنيا .
__________________________________
المصدر : نشوار المحاضرة للقاضي التنوخي رحمه الله تعالى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق