أما المنقبة الثانية للعلماء والناس , وهي درس اجتماعي لو حفظه الآباء لما بقى في البيت بنت كاسدة , ولما بقى في البلد شاب فاسق .
واسمعوا القصة :
نحن في المدينة , وفي المدينة شيء لا ندري ماهو ؟ ان الناس قد خرجوا الى الطريق , والنساء قد أطللن من شقوق النوافذ , انهم يرقبون شيئا" , تعالوا نسأل ماذا هنا ؟
ان الناس يرتقبون موكب رسول الخليفة , المندوب الخاص لعبدالملك , قادما" بمهمة لا يعرف الناس ما هي , فهم يتخرصون ويحزرون .
لقد وصل الموكب , وأسرع الى المسجد , والمسجد هو مجمع كل أمر جلل , فيه تكون البيعة , وفيه يستقبل الأمير , وفيه تلتقي الوفود , وفيه يكون القاضي وتجرى المحاكمات , وفيه تلقى الدروس ويؤخذ العلم , فهو البرلمان وهو القصر وهو المحكمة وهو الجامعة .
وأقبل الرسول حتى وقف على حلقة سعيد , فأبلغة سلام أمير المؤمنين , وأنة قادم يخطب الية ابنته , للوليد ولي عهد المسلمين , وغبط الناس سعيدا" على هذة النعمة , التي نزلت عليه وعلى هذا التشريف الذي نالة , وعلى الدنيا التي سيقت اليه , بنته زوجة الوليد ولي عهد المسلمين اليوم , وأمير المؤمنين غدا" , وسيد البلاد الاسلامية كلها .
وارتقبوا أن يهش سعيد ويبش , ويطير فرحا" بهذة النعمة , ولكن موازين الناس غير ميزان سعيد , ميزانة ميزان الشرع , الناس يفتشون عن المال والجاه , ولكن سعيدا" يفتش لابنته عن السعادة الزوجية , عن الخلق والدين , عن الطهر والفضيلة , وماذا تفيده دنيا الوليد , ان مهرت ابنته بهذه الدنيا دينها ؟.
ان الرجل الدين الحسم الخلق الفقير , خير للمرأة من ابن امير المؤمنين , لان هذا يكون لها وحدها وذاك تشركها فيه الزوجات والجواري ومن تدرى ومن لا تدرى ...
واذا كان لك عبد مخلص , يحبك ويشكر فضلك , ويطيع أمرك , وأرسلته بأمانة ليدفعها الى زيد فأعطاها عمر" , هل تكون راضيا" ؟
كذلك أنت أيها الأب .
انك عبدالله , والبنت أمانة عندك , وقد أمرك أن تعطيها لمن يماثلك في مسلكه ومشربه , ويرضيك دينه وخلقه , فان رفضته وبحثت عن الغنى . أو جعلت بنتك سلعة تباع , فقد أسخطت ربك وآذيت بنتك .
وهل البنت فرس أو نعجة حتى تباع لمن يدفع فيها الثمن الأكبر ؟ وماذا يفيدك كثرة المهر . والزواج اذا كان موفقا" كان لها ماله وله مالها , وان لم يكن موفقا" لم ينفع البنت ما أخذت من مال .
فكر سعيد في هذا كله في لحظات . والرسول واقف ينتظر جةابه , ولا يشك في أنه جواب الموافقة ولا شك الناس .
واذا سعيد يقول : لا .
لا ! انة رفض أن يعطي ابنته لأمير المؤمنين .
ومرت أيام , وكان له تلميذ اسمه ابوداعة متين الدين , رضى الخلق , انقطع عن الدرس , ثم جاء فسألة فقال : مرضت زوجتي فمرضتها وعنيتبها , ثم توفيت فدفنتها .
فقال : هل تزوجت غيرها .
قال : ومن يزوجني ولا أملك الا أربعة دراهم ؟ فمن يزوجني بأربعة دراهم ؟ قال سعيد : أنا .
هل سمعتم يا أيها السادة , سعيد الذي رفض ابن أمير المؤمنين , الذي يملك ما بين البحر الأطلنطي وجبال الصين , يزوج أبا وداعة لا يملك الا أربعة دراهم .
وشدة الرجل وكذب أذنة وعقدت لسانة ... وحسب نفسه في منام ولكن سعيدا" دعا بالشهود وعقد العقد . وذهب الرجل الى داره وهو لا يزال في حمى الدهشة , وقدم عشاءه خبزا" وزيتا" واذا بالباب يقرع .
قال : من ؟ .. قال : سعيد .
قال أبو وداعة : ومر على بالي كل سعيد في الدنيا الا سعيد بن المسيب , لأنة لم يطرق باب أحد من أربعين سنة , ولا رئي الا بين بيته والمسجد .
ففتح له فقال : كرهت أن يسألني الله عن وحدتك ولك زوجة , فجئت بها , ودفع العروس .
هكذا ! بلا حفلات ولا عرس ولا جهاز !قال : رحمك الله , ألا انتظرت حتى أحصل مالا" وأعد للعروس عدة .
قال : أما قلت : ان معك أربعة دراهم !
أربعة دراهم ! فعلام الحفلات ؟ وهل الزواج رباط بين روحين , وصلة بين قلبين وبيت يضم اثنين أو هو معرض أثاث وثياب , ومنافر كرم واكتساب شهرة ؟ ان الحفلات يا ناس , لا تخرب بيت الزوج والأب فقط , بل تخرب عشرين بيتا" , تتزوج بنت عم خال امرأتك فتكلفك ثوبا" ويعجز عنه موردك , فان شريته اضطربت موازنتك , وان أبيت تنغص عيشك .
قال أبو وداعة :ورأيتها أجمل امرأة وأكملها , ولما أصبحت غدوت لأذهب , قالت : الى أين ؟ قلت : الى مجلس سعيد , فقالت : اقعد أعلمك علم سعيد .
واذا هي عالمة محدثة , ولقد كنا بعد اذا أعيت العلماء مسألة , رجعنا اليها .
يا سادة ! اني لا أستطيع أن أحدثكم بمناقبة كلها . فلنقف عند هاتين المنقبتين , ولنأخذ منهما دروسا , درسا" للعلماء ودرسا" للآباء . ورحم الله من يسمع فيعي .. ويعلم فيعمل .
المصدر : رجال من التاريخ -- الجزء الاول -- ص : 103-106
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق