بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 16 يناير 2021

السفور والحجاب

 


ذو الحجة - 1343ه
ـيوليو - 1925م

الكاتب: شكيب أرسلان
__________

السفور والحجاب

(كثر في هذه السنين خوض الكُتاب في مسألة حجاب النساء المسلمات وسفورهن فأُلفت فيها الكتب، وأخذت مجالاً واسعًا من أبحاث الصحف المنتشرة، فالمتفرنجون يدعون إلى هتك الحجاب على ما يلزمه من خلع جلباب الحياء والتبرج والتهتك والفجور، وأهل الدين يدعون إلى المحافظة عليه أو على العرض والنسب به، ولكن أكثر ما كتب في ذلك مباحث نظرية، وتخيلات شعرية، حتى عثرت الجرائد في هذه الأيام على بحث علمي فيه لأمير البيان شكيب أرسلان فنشره الكثير منها على اختلاف مشاربهم في المسألة، ورأينا نحن أن ننشره في المنار أيضًا؛ لما فيه من العبرة والبيان الذي لا يعارَض بالمراء والخلابة وهو:
منذ نحو ثلاث سنوات كانت المعيشة في ألمانيا في غاية الرخص، فكان طالب العلم في إحدى الكليات يقدر أن يعيش بنحو جنيهين أو ثلاثة في الشهر، فانتهزت هذه الفرصة لتذكير أبناء وطني سورية وفلسطين بكون المعيشة في ألمانيا
هي أرخص منها في نفس بلادنا، فالذين يعتذرون عن تقصيرهم في تعليم أولادهم بقلة ذات اليد ليس عليهم إلا أن يرسلوهم إلى ألمانيا؛ فيتاح لهم أرقى تعليم عصري بأخف ما يتصور العقل كلفة وأقرب منالاً، ونشرت ذلك في جريدة الصباح التي كانت تصدر في القدس الشريف، فأقبل على إثر هذه الكتابة نحو أربعين طالبًا عربيًّا يريدون مناهل العلم في برلين ولايبسيغ وكونستانز وغيرها، وإنما كثرت علي الأسئلة يومئذ في موضوع التعليم في ألمانيا والمعاش في ألمانيا بصورة وصلت إلى أدق الأمور التافهة إلى أن عجزت عن الجواب، وأحلت ذلك إلى لجنة خاصة أشرت بتأليفها في برلين لهذا الغرض.

وكان من جملة من استفتاني في أمر التعليم بأوربا رجل من أعيان فلسطين، كتب إلي أن له في ألمانيا ولدين ابنًا وابنة، فأما الصبي فهو في المدرسة المسماة جمنازيوم وهو في الثامنة من العمر، وأما الفتاة فهي في مدرسة بنات قد بلغت الثانية عشرة من العمر، وهو يلتمس رأيي في أمر تعليمهما هل يتركهما يكملان التحصيل في ألمانيا أم يسحبهما إلى الوطن، ولا سيما البنت فإنها كادت تبلغ سن الرشد وهذا محل شاهدنا في هذه القضية.

فأتذكر أنني جاوبته بأن الولد يمكنه أن يتم تعليمه هناك بشرط أن يتعلم اللغةالعربية، وبالفعل كل ولد عربي لا يتعلم لغة أهله منذ الصغر ولا يعرف نفسه عربيًّا منذ الصغر، لو بلغ من العلم أعلى درجة لم يكن لنا أن ندعوه غصنًا مهذبًا
من أغصان هذه الشجرة بل نعده غصنًا اقتُطع منها وغُرس في حقل آخر، وهو قد أصبح ليس منا ولا يفيدنا بشيء، وأما من جهة البنت فقد جاوبته أنني لا أدري ماذا أقول لك؛ لأنني لا أعرف مشربك الخاص والمسألة هي بحسب مشربك، فيمكنك أن تسحب بنتك من ألمانيا منذ الآن وتكمل تعليمها في القدس، وثق أنه يوجد في
القدس علوم تكفي ابنتك ولا تقصر عن شأو رغبتها، كما أنه يمكنك أن تُبقي ابنتك في ألمانيا إلى أن تتم تحصيلها كأحسن بنت ألمانية، ولكن على الوجه الأول تتعلم ابنتك مع بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية اللغة العربية والعقيدة الإسلامية وتخرج مسلمة، وأما على الوجه الثاني فتتعلم بعض اللغات الأوربية والعلوم
العصرية، ولكنها تخرج مسلمة بالاسم فقط وعربية باللفظ العامي لا غير، وعلى الوجه الأول تبقى ابنتك لك ولا تتزوج إلا مسلمًا، وعلى الوجه الثاني تبقي ابنتك لك إذا هي شاءت وإن لم تشأ لم تقدر أن تعارض إرادتها في شيء، ولا ينبغي لك أن تكون مبغوتًا إذا قيل لك: إن ابنتك أحبت شابًّا ألمانيًّا وأخذته - لا بل شابًّا يهوديًّا واقترنت به، فاختر أنت لنفسك أحد الوجهين، فإنني لا أعرف مشربك الخاص في هذه المسألة ولا أنا عليم بذات صدرك حتى أقول لك: إن أخذت بهذا الوجه أو ذاك الوجه تتعب ويحصل لك كما يقال وجع رأس، وترى أني لست قائلاً
لك هذا الوجه أولى من هذا وإياك أن تعمل هذا، كلا. لم أقل لك شيئًا من هذا المعنى بل قصارى ما قلت لك: إن كان يكرثك أن تلبس ابنتك البرنيطة، وتخاصر أي شاب استلطفته في الطريق، وتقترن بمن تريد ولو غير مسلم وما أشبه ذلك مما هو جديد في الإسلام [1] فأولى بك أن تسحب ابنتك من اليوم من ألمانيا قبل أن يعسو عودها فإنك بعد ذلك لا تقدر على ردها عما تريد، ولا أقول لك: إنها ستتزوج حتمًا بغير مسلم، وستخاصر حتمًا من شاءت من الشبان بدون إذن منك أو من أمها، كلا وإنما أقول لك: إنه يجوز أن تفعل ذلك، وحينئذ لا تقدر أنت أن تمنعها.

وأما إذا كنت أنت ترى أن ما وسع الألماني وما وسع الأوربي بأسره يسع المسلم أيضًا وهم بشر ونحن بشر، وكما جاز للأوربية أن تتزوج مسلمًا برضا والديها أو بدون رضاهما، يجوز للمسلمة أن تقترن بأوربي أو بيهودي أو بصيني
بوذي أو بهندي براهمي إلخ بدون رضا والديها؛ فعند ذلك أقول لك: دعها تكمل تحصيلها في ألمانيا. فالمسألة مسألة وجهة ونظر، فالذي يرى هذه الوجهة فطريقه هذا والذي يرى تلك الوجهة فطريقه هذا، فأما أن يرسل ابنته إلى أوربا ويخرجها في مدارس لا تعلم لغة عربية ولا عقيدة إسلامية، أو يخرجها عند الراهبات العذاريات أو عند راهبات الناصرة، ثم يطالبها بأن تبقى مسلمة دينًا وشرقية ذوقًا ومشربًا وأن لا يعطيها واحدًا، وأن يحاسبها على عشرة، فهذا تكليف ما لا يطلق، وأضم إلى هذا المثال مثالاً آخر:
عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال أحمد رضا بك من زعماء أحرار الترك: (ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة التركية على جسر غلطه وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية) فكانت
هذه المرحلة الأولى، وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب فالح رفقي بك الذي كان كاتبًا عند جمال باشا في سورية كتب: أنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت أيان شاءت ولو كان من غير المسلمين، بل ما دامت لا تقدر أن تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلمًا أو غير مسلم - فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياه) فهذه هي المرحلة الثانية.

فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض، لا بد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، وإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة أن يقبلها بحذافيرها بدون تعنت ولا تثاقل، فإن كان ممن يرى رأي فالح رفقي بك - إن كان كما بلغني؛ لأنني لم أقرأ كلامه وإنما أرجح صحته - بهذه الصراحة التامة التي معناها أنه يجب لتمام الرقي أن تصير الفتاة المسلمة قادرة أن تتزوج بمن شاءت نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مجوسيًّا، بل أن
تخادن من شاءت كذلك ولا حرج عليها في قانون بلاها، فقد انحل المشكل وارتفع النزاع، ولم يبق حاجة إلى أن نقول: السفور خير من الحجاب، أو الحجاب خير من السفور، بل تنحصر المسألة في هل يجب أن نقبل هذه النتائج بحذافيرها أم لا؟
وأما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت، وتحادث من أرادت، وتضاحك من أرادت، وتغامز من أرادت، ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا، فذهبت وساكنته، وكان بينها وبينه ما
يكون بين الرجل وزوجته - أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا ياللحمية وياللأنفة ويا للغيرة على العرض! فهذا لا يكون وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون.

والنتيجة التي نريدها قد حصلت وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة بالقذة في مسألة المرأة هذا، له توابع ولوازم لا بد أن نقبلها ولا يبقى معها محل لكلمة: أعوذ بالله، كلا. لا يوجد هناك (أعوذ بالله) بل تلك مدنية وهذه مدنية،
تلك نظرية وهذه نظرية، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: أعوذ بالله.

إن الشاب المصري منطقي الحكم سر
يع الفهم، ما نطق بكلمة: أعوذ بالله. عندما قال له الأستاذ الرافعي: أفتَرضَى أن تقعد أختك عند أوروبي بالإجازة؟ أو بمعناه - ألا انتبه إلى كون تعوذه هذا مخالفًا للقاعدة التي زعم أن لا إصلاح إلا
بها.. . وهي حرية النساء المطلقة في العالم الإسلامي كما في العالم الأوروبي: 
تأخذ المسلمة من تشتهيه نكاحًا أو سفاحًا ولا يُحرَّج عليها في ذلك، قاعدة فالح رفقي بك الذي مر بنا قوله، قاعدة عبد الله جودت الذي أشار لأجل تجديد دم الأتراك بتزويج التركيات من شبان الألمان والطليان والحصول على نسل جديد، وكتب ذلك منذ أشهر، وامتعض من كلامه بعض فتيان الترك من أنصار الجمهورية، ولكن لم يتحرروا من وساوس الغيرة على العرض فقام ورد عليه قائلاً:
نحن الأتراك دمنا أطهر من أن نصلحه بهذا الاختلاط الذي أشار به عبد الله جودت، ولكن الحقيقة هي أن القاعدة ما قاله الدكتور عبد الله جودت وما قاله فالح رفقي وما قاله الشاب المصري مخاطب الأستاذ الرافعي، هذه هي القاعدة لا غيرها، ويأبى المنطق أن تكون هي القاعدة، وأن يقال على إثر قبولها: أعوذ بالله من مفاعيلها، لذلك لم يلبث الشاب المصري الذكي أن قال: ما أنا وأمثالي إلا شذوذ، والقاعدة يجب أن تبقى أبدًا قاعدة، وبعبارة أخرى يقول: أنا وأمثالي لا نزال تحت سلطان الوهم، ونأبى أن ندع أخواتنا يؤجرن أنفسهن من الأوربيين، لا عملاً بمقتضى الحكمة والعقل، ولا جريًا على سنن الطبيعة، ولا اتباعًا لمذاهب المدنية العصرية، بل خضوعًا لأوهام ووساوس لم نتحرر بعد منها، فهو يعترف بصحة القاعدة التي توجب هذه الإباحة، ولكنه لا يزال يخجل أن يعلن كونه يرضى بمخادنة أخته لشاب تتفق معه فتؤجره نفسَها بدون عقد نكاح شرعي، نعم هو لا يزال ينكص عن إعلان الرضا بمثل هذه الفضيحة، وإنما يرجو أن يكون ابنه أو حفيده ممن يغضي النظر عليها، أو يشترك في سن قانونها في مجلس النواب المصري سنة 1950 مثلاً.

(للمقال بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ...
__________

(1) يعني بالإسلام عالم الإسلام: أي المسلمين لا دين الإسلام.



__________________________________________


المحرم - 1344هـ
أغسطس - 1925م

الكاتب: شكيب أرسلان
__________

السفور والحجاب
تتمة من مقال الأمير شكيب أرسلان

(تنبيه من المنار)

(كنا رأينا مقال الأمير في عدد من جريدة البيان العربية النيويوركية فحفظناه لأجل نقله منها، فلما نشرته بعض الصحف المصرية مجزءًا في عددين أو ثلاثة أعداد، جمعه عمال مطبعتنا من بعضها، فإذا هي قد حذفت منه ما نقله فيه الأمير عن الأديب الكبير صادق أفندي الرافعي من حوار دار بينه وبين شاب مصري من المتفرنجين لم تنقله الجريدة؛ لأن رأي قلم التحرير فيها ورئيسه هو رأي الشاب المتفرنج الذي سفه رأيه الرافعي وأقره الأمير شكيب، وكان من غفلة الجريدة أنها لم تحذف من بقية المقالة ما قاله صاحبها في رأي الشاب المصري وذكره بحرف التعريف والبحث في كلامه فلما وصلت عند تصحيح المقالة إلى هذا الموضع (في ص209 ج3 الماضي) 

أمرت بالإمساك عن نشر بقية المقالة في الجزء الماضي وطفقت أبحث عن نسخة جريدة البيان لنقل عبارة الرافعي، وهاكها بنصها، ومحلها بعد السطر الحادي عشر منها، قال:
واقرأ النبذة الآتية للأستاذ حجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي أنقلها لك عن كتاب حديث أخرجه آية من آيات البلاغة وهي قوله في شاب حصل العلم في أوربا كان باحَثَه في هذا الموضوع.
(كان صاحبنا فتى تلمع عليه غرة الشباب، وقد رق حتى كاد يخالط حد الأنوثة، ولان حتى قارب أن يفوت معنى الرجولة، وظرف حتى أوشك أن يكون إنسانًا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلاً صحيحًا أمررته على
عينيك كما تمر كتابًا لا تريد أن تقرأه، فقد تمدن في أوربة ولبث بعيدًا عن قومه ما شاء الله، ثم رجع إليهم كأن أمه لم تلده، وكأن أباه جده الأعلى، فبينه وبين أبيه هذا بضعة أجداد منهم المسيو والمستر أو السنيور أو الهر.. وأصبح يحس أن كل شيء في هذا الاجتماع الشرقي مسلط على نفسه الرقيقة النحيلة بالغلظة والجفاء والعنت والأذى، إلى أن قال:
(سألت هذا الفتى: تُرى أنت مصري؟ قال: ووطني صميم، قلت: أفترى تصلح في علمك وتهذيبك أن تكون مثالاً يتأسى بك نشء بلادك؟ قال: إني لأرجو ذلك، قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية ومساواتها بالرجل في الحرية
المطلقة وبعثها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟ قال: ذلك مذهبي، قلت فكيف ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصهروا إلى الأوربين وخلطوا الشمل بالشمل؟ 
قال: لعل ذلك خير الطب لبلادنا فلا معدل عنه في رأيي إذ يأتيها بالدم الجديد، ويدمج
في طباعها النظام والدقة، ويبني البيوت من داخلها.
قلت: أحسنت بارك الله عليك، فكيف ترى إذا سألناك التسوية وقلنا لك: دع أختك تصبُ إلى رجل أوربي وتتزوج منه إجازة.. . وتأتِ به إلى مصر كما أتيت أنت بصاحبة لك، ثم لتفعل كل امرأة مصرية فعلها؛ فيكون لكم أوربيات، ويقوم عليهن أوربيون؟ 
قال: أعوذ بالله! 
قلت: فعل الله بك وفعل، أفبلغ من غفلتك أن لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا
حين تراه غريبًا منقطعًا لا حق له في واحد من أهله.
فقال (أي الشاب المصري) : فما أنا وأمثالي إلا شذوذ من القاعدة التي يجبأن تبقى أبدًا قاعدة. 
قلت: فعليكم غضب القاعدة ومقتها وسخطها، والله لأن تفجع البلاد فيكم جميعًا وتستركم بالقبور رمة بعد رمة خير من أن تتقلد منكم بلية الحياة في اختلاط الأنساب، وارتداد الأسماء العربية عن دينها إلخ. 
فقال الشاب: فكم من امرأة وطنية هي حمل على ظهر صاحبها.
قلت: وكم من امرأة إفرنجية هي كَيَّة على قفا صاحبها (هذه عند العرب كناية عن المرأة، يسكت الناس عنها أمام
زوجها، فإذا ولى عنهم قالوا في ظهره ما قالوا.. . وكووا قفاه) نكتفي بهذا القدر من كلام حجة العربية الرافعي [1] .

ولا شك أن كثيرًا من قراء هذه المقالة سيفغرون أفواههم الآن، ويرفعون عقائرهم قائلين: ما هذا الذي جئتنا به؟ فليس هذا من لوازم هذا، وقد يجوز أن نطلق حرية المرأة، ونكون من أنصار العِرض والدين، وقد يصح أن ندعو إلى
السفور، وأن لا نترك أخواتنا يصرن حظايا للآخرين، وما نحسب الأمم التي تدين بحرية المرأة ولا تعرف للحجاب معنى أقل منا شرف رجال وعفة نساء، ألا وإن حرية المرأة لا تأتي إلا مع التعليم، ألا وإن المرأة إذا تعلمت وتهذبت كان لها من عِلمها حجاب يحجبها عن الفاحشة - وغير ذلك من الأقوال التي كلنا نعلمها، والتي تكررت كثيرًا بحيث قد عرفها العوام فضلاً عن الخواص، فأنا أقول لإخواني هؤلاء: مهلاً مهلاً. لا تعجلوا عليَّ، ولا تخلطوا شيئًا بشيء، فالموضوع عريض متشعب الأطراف، لا تكفيه مقالة ولا اثنتان ولا ثلاث، فأما السفور مع العفة والصون وحفظ الأنساب ورعاية أحكام الدين فهو السفور الشرعي الذي يجيز للمرأة أن تبرز وتتعاطى الأشغال، وتذهب وتجيء، ولا يوجب أن تسدل على وجهها ولا أن تدفن نفسها في الحياة، وهذا سنكتب فيه مقالة تحت عنوان (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) ولكن لا يجوز أن تنسوا أن هذا السفور لا يشمل إلى حد جواز المخادنة الجهرية، ولا إلى زواج المسلمة بغير المسلم، وأنه إذا كانت المسألة مقصورة على هذه الدرجة فليست في شيء من الرقي الذي يبغيه فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب المصري، وكثيرون غيرهم ممن نعرف أسماءهم وممن لم نعرف، فهذا الرقي هو في عرفهم ليس بأن تمشي المرأة المسلمة في الأسواق سافرة عن وجهها فحسب، فإن هذه الدرجة هم يعلمونها جائزة شرعًا، وطالما برزت النساء المسلمات، وأخذن وأعطين في العهود الماضية، واشتركن في جلائل الأعمال مع الرجال، ولم يمنع ذلك شرع ولا عرف، وما جاء من الإفراط في الحجاب وعدم خروج النسوة من المنازل إلا في الندرى، إن هو إلا من التعصب الناشئ عن فرط الغيرة، ولم يكن من الدين الإسلامي.

ولكن هذه الفئة لا ترى هذه الدرجة إلا أدنى درجات الرقي الذي يتطلبونه للنساء المسلمات في هذا العصر، وهم في ترقية المرأة لا يقنعون بشيء دون حرية الزواج بين المسلمين وغير المسلمين طردًا وعكسًا، لا بل حرية المسلمات أن يخادنَّ من شئن على نسق الأوربيات بالتمام، فإن كان هذا الذي تطلبونه أنتم معاشر الدعاة إلى السفور ولا سيما الذين ناشدوني إعطاء رأيي فيه، فينبغي أن تصرحوا بكل جرأة وتقبلوه بمتمماته، ولا تقولوا كما قال الشاب المصري (أعوذ بالله) فإن هذه النظرية هي نظرية مئات ملايين من العالم المتمدين، وحسبكم أن تكونوا مثلهم في الهيئة الاجتماعية، وإن كنتم لم تصلوا بعد إلى تلك الدرجة من (الرقي) ، وكان مرادكم إعطاء المرأة المسلمة الحرية المطلقة على شرط أن لا تخدن ولا تتزوج بغير المسلم أجبناكم: إن هذين نقيضان لا يجتمعان، الحرية المطلقة من جهة، والتقيد بزواج المسلم دون غيره، وبالزواج الشرعي دون غيره من جهة أخرى، نعم تنطبق على الشريعة الحرية المقيدة التي إن كنتم بتبغونها فالشريعة الإسلامية قد ضمنتها أحسن ضمان بدون أدنى مَنٍّ ولا تكلف، فأما الحرية النسوية المطلقة التامة والإسلام فلا يجتمعان أبدًا، وعلى المتخير أن يختار أحدهما، وليس الإسلام وحده غير مطابق للحرية النسوية المطلقة، بل النصرانية أيضًا هي غير مطابقة لها؛ لأن النصرانية تمنع المخادنة أيضًا، وتحظر على الفتاة المسيحية أن تقترن بغير مسيحي، وتزيد على الإسلام في التقييد في كون الإسلام قيد المسلمة بزواج المسلم دون غيره، ولكنه أباح للمسلم الزواج بغير المسلمة ولو بقيت على دينها، وأما النصرانية فإنها تمنع زواج المسيحية بغير المسيحي، وزواج
المسيحي بغير المسيحية، فالإسلام في هذا الموضوع أسمح وأوسع، ثم إن النصرانية قيدت أبناءها في أمر الطلاق، بحيث لا تجيز للمرأة أن تطلق زوجها، ولا للرجل أن يطلق امرأته، وإذا أقدما على ذلك لم تُجِز لهما أن يتزوجا فيما بعد لا هو ولا هي، فأنت ترى أن حرية المرأة في الدين المسيحي هي أيضًا غير مطلقة ولا تامة، وإذا كنا نرى الأوربيين والأمريكيين قد خالفوا هذه القواعد، فالذين يخالفونها منهم ليسوا عاملين بمبادئ النصرانية، وإلى يومنا هذا كل من ينطبق عمله في الحياة الدنيا على مبادئ الكنيسة لا يقول بحرية مطلقة للمرأة.

فأما كون الأمم التي ليس فيها حجاب لا تقل عن الأمم القائلة بالحجاب عفة نساء وصون حلائل فليس بصحيح، إن بين الفريقين في هذا الموضوع فرقًا بعيدًا، أما نصارى المشرق فإنهم مثلنا في العادات والأخلاق، وتقييد حرية المرأة في
الأمور التي يخشون منها على عفتها، ولذلك لا نقدر أن نتخذهم هنا مثالاً، وأما العالم الغربي الذي أباح الحرية التامة للمرأة، وتركها تفعل ما تشاء بعد بلوغها سن الرشد، فلا أحد يمكنه أن يقول: إن العفة والصون اللذين هما من شرائط الإسلام والنصرانية متوافران فيه بالدرجة التي هما في العالم الإسلامي والعالم المسيحي الشرقي، لعمري إن ما يحصل في باريس وحدها من الفسق والفجور يساوي كل ما يحصل من هذا النوع في جميع العالم الإسلامي.

وأما كون التعليم برقي المرأة إلى سنام العفاف، ويجعلها في غنى عن الحجاب وعن مراقبة بعلها، فمع كوننا لا ننكر أن التعليم يهذب كثيرًا من أخلاق المرأة ويعصم من هواها، فلا نستطيع أن نقول: إنه كافٍ في هذا الموضوع ساد
مسد المراقبة الزوجية والقيود الشرعية، فالتعليم لا يقوم مقام الخوف ولا يصح وحده وازعًا، وها نحن أولاء نعرف من الرجال الذين بلغوا الدرجة القصوى من العلم، ولم يزدهم علمهم ولا فضلهم عفة مئزر ولا طهارة ذيل، فنقص الفسق والفجور في العالم الشرقي عن مثله في العالم الغربي لا يقدر ولا يحصى، إنما هو بقوة سيطرة الرجال على النساء، وينضم إليه كون الدين لا يزال في الشرق أرسخ مما هو في الغرب، فتجد المرأة المسلمة والمسيحية الشرقية تخاف عقاب ربها وعقاب زوجها، بخلاف كثير من الأوربيات اللائى أصبحن لا يخفن لا من الخالق ولا من المخلوق.

بقي علينا اعتراض قد يقول به كثيرون من الذين يحبون أن يقال لهم:
(عصريون) محررون من الأوهام والعقائد، سائرون في طريق الرقي بعقول علمية صرفة، وبصائر فنية محضة - وهو أن نفور المسلم من أن يرى أخته أو بنته حليلة لرجل مسيحي أو يهودي أو وثني، ونفور المسيحي من رؤية أخته أو
بنته زوجة لرجل مسلم أو يهودي أو وثني، إنما هو من تأثير الأوهام ورسوخ العقائد، لا بل من رسوخ الوساوس التي ليست من الحقائق في شيء، وكذلك يقال في مخادنة المسلمة أو المسيحية العاملة بدينها لرجل تتفق معه على بدل معلوم تبيعه به عرضها، فهذا هو أيضًا من عمل الأوهام والوساوس التي بمرور الأزمان وشدة التكرار، انقلبت شرفًا وغيرة وحمية، حال كون العلم ينبغي أن يزيل هذه الأوهام من الأذهان، وأن يصفيها للحقائق دون غيرها، وأن أهم مهمة يقوم بها العصر الحاضر هو تبديد الأوهام وإزالة دولة الخرافات، فإن وقع هذا الاعتراض من أحد فنكون رجعنا إلى قاعدة فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب الذي تحاور مع الرافعي، ولسنا في هذه المقالة رامين إلى تفنيد هذا الزعم من حيث هو، وإنما نقول لهم:
إنهم كانوا يرون المدنية الأوروبية أرجح من الصون والطهر فلا بأس بقبول هذه النظرية على علاتها، وإلا فإذا كانوا يلتزمون مبادئ العفة والطهارة والاحتياط التام لأجل حصول الولد من صلب أبيه، فلا بد لهم من رفضها أو تقييدها على الأقل وإنني أؤكد لهم أن الإنسان ما دام إنسانًا وما دام هذا تركيبه فلن يمكنه التحرز مما نسميه بالأوهام والعقائد، ولن يعول على الحقيقة المجردة من كل عادة وتقليد إلا إذا رضي بحالة تشبه حالة البهائم.

إننا إذا تأملنا بعين الحقيقة المجردة وجدنا النكاح والسفاح واحدًا لا فرق بينهما، وأي فرق في العمل بين من يتزوج ومن يزني؟ 
فلماذا إذا خامرت الإنسان شبهة في امرأته طلقها، وإذا وجد عندها رجلاً متمتعًا بعرضها جاز له قتله بدون أن يقاص ولا يضار لا في الشريعة الإسلامية وحدها [1] ، بل في جميع الشرائع وفي أحدث القوانين الديموقراطية العصرية الجمهورية؟ إذا قلنا جاء ذلك لتسلط الزاني على امرأة غيره، أجبناك: إن هذا الزنا إنما وقع برضاها واختيارها فلماذا جاز للزوج أن يقتل الزاني بامرأته ويذهب دم هذا هدرًا؟ 
ولماذا اتفق أكثر البشر على كون هذه الكبيرة هي أعظم الكبائر، وإن معرتها أفظع المعرات، وإنه لا يهدم الشرف والمجد في البيوت مثل دنس الوساد، ولا يرفع الرأس ويريح الوجدان ويلحف الإنسان الشرف بمطرفيه مثل نقاء العرض وطهارة البيت. لماذا هذا كله؟ 
مع أنه بينما هو يعد أكبر الكبائر وأفضح المعرات بدون صورة شرعية، إذ هو بمجرد شهادة اثنين أو بقصاصة ورق انقلب ناموسًا عظيمًا وعملاً شريفًا، وجاء والد البنت نفسه يفرح بتهاليل ابنته، واجتمع أهل العروس يطبلون ويزمرون، ويقبلون التهاني على هذا العمل الذي لولا قصاصة الورق تلك كان استوجب القتل مما تجد فيه سر الحديث النبوي الشريف (جَدعَ الحلالُ أنفَ الغيرة) [2] .

(الجواب) 
أن الناس اصطلحوا من قديم الدهر على اعتبار هذا العمل على إثر اتفاق شرعي حلالاً وعمرانًا للكون وداعيًا للفرح والتهنئة، وعلى عده بدون هذه المعاملة الشرعية فضيحةً وجنايةً وإثمًا كبيرًا. 
وما هذا الذي رسخ في الأذهان من هذين الاعتبارين سوى تواطؤ قديم بين البشر، واصطلاح ساروا عليه منذ قرون لا يعلم بدؤها. وبالجملة فوهم ليس له علاقة بطبيعة العمل نفسه، نعم هو وهم مقدس، ولكن كونه مقدسًا لا يخرجه عن كونه تواطؤًا واصطلاحًا ووهمًا [2] ، إذ الإنسان لا يزال بعيدًا عن أن ينسخ أعماله عن الطبيعة رأسًا بدون  أوهام وعقائد، وما ينزل على حكم الطبيعة رأسًا بدون أوهام وخيالات سوى الحيوانات.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان
__________

(1) بعد هذه الجملة يجيء ما بعد السطر الحادي عشر من ص 209 إلى آخر ما نشر من المقالة في ص 110 ويلي ذلك قوله.
(2) كرر الكاتب لفظ الأوهام حكاية لأقوال الملاحدة على الطريقة الحديثة.

الجمعة، 8 يناير 2021

من طرف المجالس (ندوة الأستاذ كامل كيلاني)



من طرف المجالس:

في ندوة الأستاذ كامل كيلاني بدار مكتبة الأطفال، قال فؤاد شيرين باشا محافظ القاهرة إنه دخل مرة بابنته الصغيرة محلاً لبيع (الشكولاته) بإحدى مدن ألمانيا، وكانت التي تبيع فيه سيدة، وبعد أن اشتريا منها وخرجا قالت الابنة لأبيها: لماذا تبيع المرأة (الشكولاته) ولا تأكلها؟

قال الأستاذ كامل كيلاني: هذا بعينه هو معنى الخيام في رباعياته إذ يقول: هل يشترى الخمار بما يبيع به الخمر أثمن منها؟

وكان المجاهد الأمير عبد الكريم الخطابي حاضراً، فانتقل الحديث إلى الاستبسال في الحروب وأثر الإيمان فيه، وهنا انبرى أحمد حلمي باشا رئيس عموم حكومة فلسطين، فجعل يقص روائع شاهده من حسن البلاء في المواقع التي اشترك فيها.
قال: سقط أحد الجنود المسلمين في حرب الأتراك مع الإنجليز سنة 1914 - جريحاً ولم يستطع الكلام، فأخرج ورقة من جيبه وتناول عوداً من الأرض وجعل يغرزه في جرحه الغائر برقبته ويكتب في الورقة بالدم، فكتب أولاً: أين القبلة؟ 
فدلوه عليها، فاستقبلها، ثم كتب: فليأخذ جيشنا بثأري. وأخيراً كتب: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم فاضت نفسه.
وقال حلمي باشا: وهذه الورقة محفوظة بأحد المتاحف بتركيا.

قال الأستاذ كامل كيلاني: لم أر في هذا المجال أبدع مما قالت أم حكيم زوجة قطري بن الفجاءة وهي تتقدم في الحرب ولا أدل منه على الصدق في الجهاد، قالت:
أحمل رأساً قد مللت حمله.
وقد مللت دهنه وغسله.
ألا فتى عني ثقله؟
فأين جان دارك وغير جان دارك من هذه الروعة؟
قالت شيرين باشا: وهل تعرف جان دارك أن تقول مثل هذا؟

مجلة الرسالة العدد 844 - بتاريخ: 05 - 09 - 1949

الاثنين، 9 نوفمبر 2020

الأنساب للإمام السمعاني


أشهر مؤلفات أبي سعد السمعاني. ويضم جميع أوجه النسبة، سواء كانت إلى جد أو بلدة أو حرفة أو غير ذلك. 
افتتحه بمقدمة في أنساب العرب، وهو عندما يورد نسبة أحد إلى قبيلة يتبعها بشيء من أنسابها. 

طبع لأول مرة بعناية الإنكليزي مارجليوث سنة 1912 بطريقة الزنكوغراف، محافظة على أصل النسخة الخطية التي عثر عليها، وتقع في (1206 صفحات) وجاء الكتاب كله في هذه الطبعة في مجلد ضخم جداً. 
ثم طبع بتحقيق أمين مكتبة الحرم المكي الشيخ عبد الرحمن المُعَلِّمي اليماني في حيدر أباد الدكن سنة 1962م فأصدر أربعة مجلدات منه =حتى نهاية حرف الزاي= وحالت المنية دون إتمام الكتاب. 

وهو الكتاب الذي اختصره عز الدين ابن الأثير (ت655هـ) وسماه (اللباب في تهذيب الأنساب. ط).
وللبلبيسي الكناني إسماعيل بن محمد (ت802هـ) كتاب (الجمع بين كتابي الرشاطي وابن الأثير) اشتمل على فرائد من الكتابين، ومنه نسخة في مكتبة عاشر أفندي باستنبول. والمراد بكتاب الرشاطي كتابه: (اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار) وهو من أكثر الكتب المؤلفة في موضوعه فائدة، كان للأندلسيين تعويل كبير عليه، إلا أنه لم يصل إلى بلاد المشرق إلا في عهد متأخر. 
انظر التعريف به في مجلة العرب (س27 ص145) . 

ومن أهم ما ألف في هذا الفن في العصر الحديث: كتاب (طبقات النسابين) تأليف الشيخ بكر أبو زيد، بناه على (15) طبقة مع أربعة ملاحق، والطبقة الخامسة عشرة منه، (من سنة 1401هـ إلى 1406هـ) . 
انظر التعليق عليه في مجلة العرب (س28 ص379) . 

وفيها (س15 ص481) تعريف بكتاب (تذكرة الألباب في أصول الأنساب) للبَتِّي الأندلسي أحمد بن عبد العزيز، الذي أحرقه الأسبان في بلنسية سنة 488هـ. 
وفيها (من س 26 حتى س30) نقد مطول، في (27) حلقة، لطبعة كتاب (التعريف في الأنساب والتنويه بذوي الأحساب) أحصى فيها الجاسر (1893) غلطاً في (249) صفحة من الكتاب، دعا في آخرها إلى وأد تلك الطبعة. 
وهو من نوادر التراث، ألفه محمد بن أحمد الأشعري الزَبيدي الحنفي، من أهل القرن السادس. 
وفيها (س28 ص293) التعريف بكتاب (النسب) لأبي عبيد القاسم بن سلّام، لخصه من كتاب (الجمهرة) لابن الكلبي.


[التعريف بالكتاب، نقلا عن موقع الوراق]

السبت، 10 أكتوبر 2020

من الأمير إلى الملك

 

رجب - 1343هـ
فبراير - 1925م
الكاتب: شكيب أرسلان

من الأمير إلى الملك [*]

بعث الأمير شكيب أرسلان بكتاب سياسي خطير إلى الملك حسين رأينا أن ننشره لما تضمنه من الحقائق التاريخية قال:
الأمير النبيل سليل العترة الفاطمية، وطراز العصابة الهاشمية، أطال الله بقاءه، وسدد إلى الصواب آراءه، آمين.
لا يخفى أن من الأحاديث المأثورة المشهورة عن جدك سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) [1] .
فإذا كان الأمر كذلك أيها الأمير، ويطابق على صحته العقل وتظاهر بداهته الحديث، فما قولك بالمؤمن يُلْدغ ألف مرة؟ وما ظنك بالمؤمن ابن المؤمن والشريف ابن الشريف ولي نعمة الإيمان، ومشرق نور الإسلام، وأمير بلد الله الحرام، أن لدغ من جحر قد سبق أنه لدغ منه غيره من المؤمنين لا مرة ولا مرتين، بل مرارًا يضيع عندها الحساب، ولا يستوفيها كتاب؟
أيها الأمير عندنا في بر الشام مثل سائر: إن أنت لم تمت ألم تر من مات
، فعلى فرض أن الإنكليز لم يخونوك إلى الآن أيها الأمير، أفلا تنظر إلى من خانوا قبلك؟ 
وعلى تقدير أنه لم يأت وقتك، أفلا اعتبرت بمن أمهلوا قبلك ثم أخذوه؟
وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز
، فيمكنك أن تربح فكرك منها منذ الآن [2] ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى علية الصلاة والسلام، تفاديًا من العجلة التي قد تخالف الحكمة، وتجر الوحشة، على حين لم يسترح بالهم ولا تحققت آمالهم، أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء، والفضل، ومطالعة التواريخ، وقياس الحاضر على الماضي، وقوة الاستنتاج ما يدلك على أنك بعد ركود العواصف، ومضي الأزمنة، وانقضاء الغرض من مراعاتك، ومدارتلك صائر إلى ما صار إليه غيرك، ولا حق بمن تقدمك من ملوك الإسلام الذين وقعوا في حبائل الإنجليز طوعًا وكرهًا، فما زالوا حتى عفوا آثارهم: وأطفئوا منارهم، وجعلوهم في الغابرين.

أتظن أيها الأمير أن الإنكليز يغدرون بكل هؤلاء الملوك والممالك ويستثنونك أنت من الجميع
، فيتعلمون فيك الوفاء، ويخرقون من أجلك خطة الغدر التي ساروا عليها إلى يومنا هذا مع كل من ظللته الخضراء، وأقلته الغبراء، حال كون غرضهم في محو إمارتك وأخذ بلدك أعظم من غرضهم في أخذ غيرك، وحال كون مصلحتهم في طي سجلك أهم من مصلحتهم في حذف أي أمارة من أمارات الإسلام لأنهم يرون أنهم إن استولوا على الحرمين الشريفين، فقد استولوا على الرأس،  فصارت في أيديهم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعاد المسلمون لا يملكون معهم عينًا تطرف ولا نفسًا تصعد، وأمنوا جانب انتقاضهم عليهم في مستقبل الأيام، وكل فتوحاتهم لا يحسبونها شيئًا بالقياس إلى نشر أجنحتهم على الحجاز وعلى البلد الأمين - والعياذ بالله - وجعله من جملة مستعمرات بريطانيا.

أم غرك كون الإنكليز عقدوا معك عهدًا؟ 
قُلْ بحرمة جدك أيها الشريف ابن الشريف: كم عقدًا عقد الإنكليز ولم ينقضوه؟ 
وكم عهدًا أبرموه ثم لم يجعلوه أنكاثًا؟
وما أخالك تجهل التاريخ
،  وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود والمواثيق إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة،  التي تتجلى في جميع معاملاتهم سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم.
ناشدتك الله أيها الأمير هل أنت مصدق في ذات صدرك وذخيرة نفسك أن للإنكليز عهدًا يرعونه معك أو مع غيرك، أو ذمامًا يحفظونه لك أو لسواك إذا قضت سياستهم [3]،  أفلم تكن تقرأ،  ولم يخبرك أبوك الأمير الكبير أنه قرأ إعلانات حكومتهم الصريحة الرسمية مرارًا بأنهم يخلون مصر عندما يستتب فيها الأمن ويعيدونها إلى أهلها؟ 
فماذا كان بعد ذلك سوى أنهم لبثوا يلتهمونها تدريجًا حتى انتهوا باستلحاقها بدون أدنى مبالاة بعهود خطية، ولا بمواعيد رسمية، وضموها إلى سائر مستعمراتهم؟ 
وإن أحسوا بأدنى مقاومة لأفكارهم في أرض مصر ينسخون هذه الحكومة القائمة فيها كالشبح الماثل، ويجعلونها ولاية كسائر الولايات، ولا نطيل عليك بسرد ما صنعوه في الهند وزنجبار وجنوبي اليمن ومسقط والبحرين والكويت والعجم وبلوخستان وغيرها، وكل مبادئهم مع هذه البلاد لم تكن إلا كمبادئهم معك، فكان من البديهي أن ينتهي معك الأمر كما انتهى مع غيرك.

وإلى كم أيها الأمير تمر بنا المثلات ولا نعتبر، وتعظنا الحوادث ولا ندّكر؟
ونكون أشبه بالغنم يأخذها الجزار للذبح واحدًا بعد واحد وهي لا تعقل ماذا يصنع بها حتى يصير السكين في أعناقها؟
فإذا كان من المقرر عند أهل الشرق والغرب أن الإنكليز ينكثون عهودهم لما هو أقل شأنًا من الحجاز وتلك البقاع المقدسة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين من كل حدب
، فهل هناك في يدك من قوة مادية تمنعهم من دخول قلب بلادك، ويكونون مضطرين أن يحترموك من أجلها؟ 
أو تردعهم فيما لو قضت عليهم سياستهم عن سلب إمارتك، لا بل والإيقاع بك واستئصال جرثومتك؟
لا جرم أنك تقدر أن تدعى بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي تكفل دفع إنكلترا بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من الخلق يرتاح إلى هذه الدعوة، فأنت إذًا باتفاق كلمة جميع العقلاء وأهلك وقومك باقون تحت رحمة إنكلترا ورهن إرادتها، وقيد إشارتها، موكول أمركم إلى أمانتها وكرم أخلاقها [4].

لا قوة معنوية تتكلون عليها من حفظ العهود، وتأكيد الوعود، بعد ما رأينا سياسة إنكلترة مع غيرك. 
ولا قوة مادية من جيوش منظمة، ومدافع وذخائر وأعتاد وطيارات وبوارج وغواصات وما أشبه ذلك مما تلتزم إنكلترة معه جانب الأدب والكياسة، فبماذا أنت آمن شر تلك الدولة على جزيرة العرب ولا سيما على الحجاز منذ أحقاب [5]؟ 
وأي ضمان عندك على كونها لا تقلب لك ظهر المجن، فتندم حين لا ينفعك الندم؟ 
وبعد أن يكون تسلط غير المسلمين على أقدس تراب عند المسلمين منذ 13 قرنًا.

ليس من باباوية في الإسلام أيها الأمير، ولا مزية للمسلم على المسلم إلا بالتقوى
، وأقرب الناس إلى الرسول أطوعهم لوصاياه، وأنت لا تجهل ما في كلام الله وأحاديث جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم مما يثبت لك أن مزيتك هذه المتعلقة بسلالة الرسالة وبنور النبوة إنما تبدأ عند حفظ حدود الله لا غير.
أم تظن (أن الغاية تبرر الواسطة) كما يقولون؟ 
وإنك إنما تريد لتضع أساس دولة عربية تبدأ في أول أمرها بالنشوء تحت حماية إنكلترة، حتى إذا بلغت أشدها استقلت تمامًا، وأن تلك هي سنة النشوء والارتقاء؟ 
فاعلم أيها الأمير أن الذين يزينون لك هذه الأوهام هم قوم قد عرفناهم ونعرفهم لا خلاق لهم، ابتلى الله بهم هذه الأمة كما ابتلى كل الأمم بأمثالهم، وما هم في واقع الحال سوى سماسرة الإنكليز يسعون أن يتمموا لإنكلترة صفقة البلاد العربية، وأسماؤهم مقيدة في دفتر المبالغ السرية التي تنقدها إنكلترة سماسرتها السياسيين كلاً على قدر خدمته يدخل هؤلاء عليك وعلى غيرك بمثل هذه الأعاليل، التي هي أسخف من أن يتنزل عاقل مثلك لاستماعها فضلاً عن أن يتلقاها بالقبول.

هل الإنكليز الذين حلموا في المنام بطائر حلق فوق الهند
، فهبوا مذعورين وأرسلوا ببزاة طياراتهم لاصطياده في لوح الجو، يرضون أن هذا العرق العربي النجيب الذي سبق له ما سبق في التاريخ العام يتمكن من تأسيس دولة عربية مستقلة على ضفاف البحر الأحمر دهليز الهند، تسد على الإنكليز طريق حياتهم ومجاري أنفاسهم أي وقت شاءت؟ 
أيظن أولئك المخدوعون بالإنكليز أنهم صاروا أدهى من رجال بريطانيا، وأعلى كعبًا في السياسة، وأبعد نظرًا في عواقب الأمور، حتى انتبهوا إلى ما غفلت هي عنه، وفكروا في مستقبل الأمة البريطانية.
أم هذه الأمة البريطانية التي هي أربعون مليونًا خَامَرَ عقولها الجنونُ
، فصارت تسعى بإرادتها في تأسيس استقلال للعرب على طريق الهند، أو في مقابلة مصر والسودان وتبحث عن حتفها بظلفها؟
قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية
، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟.
ليقولوا لنا ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم
، ونقر بفضلهم؟ 

لأننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقال والقيل أمام الحقائق.
أترانا اكتفينا بأن يتلقبوا بألقاب الحكام ذوي السلطان؟ 
فهل الملك بالألقاب والألفاظ الضخمة؟
ليتلقب واحدهم بملك الملوك أو سلطان السلاطين وهو ذو قوة نعرفها كما هي فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها [6].
إن قلت: إنك مستقل في الحجاز وأنها أول بلاد عربية استقلت أجبناك: إن الحجاز وحده لا يمكن أن يستقل عن بريطانيا طرفة عين مادام الحجاز عيالاً على الخارج وعلى ما وراء البحر
، وما دام ليس هناك استقلال اقتصادي ممكن، وإن قلت: إنه يقدر أن يستغني عن البحر، وأن يعيش من الداخل، فأي داخل دخل عليك لهذه المملكة الجديدة؟

(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) ...
__________

(*) رأينا هذا الكتاب بهذا العنوان في جريدة (الوطن) السورية البرازيلية
، ولم نره في جريدة أخرى، والظاهر أنه كتب في أوائل سني الحرب الكبرى، فلم ندر كيف وصل إلى هذه الجريدة المنشأة لنشر الإعلانات التجارية دون غيرها من الجرائد التي اعتدنا أن نرى فيها جولات يراع أمير البيان، فنشرناه بنصه لما فيه من الحجج الناهضة على جهل الشريف حسين وغروره وجنايته على الأمة العربية وبلادها، ومن النصائح الناصعة والحكم البالغة التي يجب أن يعرفها كل عربي.
(1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
(2) وضع هذه الجملة التفريعية بين الجملة الشرطية
، وما عطف عليها غير ظاهر.
(3) كذا في الأصل
، والمعنى إذا قضت سياستهم غير ذلك أو أن يخفروه.
(4) المنار: كان الأولى بالكاتب أن يخاطب حسينًا هنا بلغته وعرفه في التعبير عن اتكاله على إنكلترة فيقول: موكول أمركم إلى (الحسيات النجيبة البريطانية) وهو حين كتب هذا لم يكن يعلم أنه هو وأولاده بَنَوْا أساس سياستِهم على أن يكون الحجاز وما دونه من بلاد العرب تحت حماية الإنكليز بشرط أن يجعلوهم ملوكًا وأمراء فيها.
(5) لعله قد سقط من هنا كلمة يتعلق بها ما بعدها
، كان يقال: الطامعة هي فيه منذ أحقاب.
(6) قوله: وهو ذو قوة نعرفها كما هي: يعني أنها لا غناء فيها ولا اعتداء بها، وإلا فالمقام مقام النفي أي وهو ليس بذي قوة يصدق بها اللقب وقوله: فما يؤثر علي الأمة الإسلامية الخ لعل أصله الأمة العربية
،فحرف في الطبع أو سبق القلم قبله،وتعدية التأثير بعلى من أغلاط الجرائد التي يجتنب مثلها الأمير شكيب،ولكنها مما كثر استعماله قولاً وكتابة، حتى صارت تجري بها الأقلام كالألسنة ولا يتذكر الكاتب العالم بها أنها من الغلط.

مجلة المنار / العدد 25 / صفحة: 713

__________________________________

ذو الحجة - 1343هـ
يوليو - 1925م
الكاتب: شكيب أرسلان

بمناسبة كتاب مفتوح [1]

حضرة الأستاذ الثقة الحجة مفخر العالم الإسلامي السيد رشيد رضا نفع الله به.
سنة 1918 أي السنة الأخيرة من سني الحرب الكبرى بلغني إذ أنا في الآستانة أن الأمير عليًا بن الملك الحسين بن علي أغار على أطراف حوران وجبل الدروز واستجاش أهالي تلك الديار للقيام على الدولة العثمانية والالتحاق بالجيش الحسيني العربي الذي كان يعمل يدًا واحدة مع الجيش البريطاني في جنوبي سورية، وبلغني أيضًا أن الزعماء الذين استفزهم للثورة أجابوه يومئذ بأنهم يأبون أن يقبلوا دعوة لم تكن لتفيد غير الأجنبي الطامح إلى الديار، والطامع في القضاء على ما بقي من ملك الإسلام، وأنذروه بالحرب إن لم يعد من حيث أتى، فحررت كتابًا
مفتوحًا إلى الأمير علي بن الحسين أحذره فيه عاقبة هذه الغارات، وأنهاه عن التضريب بين العرب خدمة لمصلحة العدو، وأقول له: أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنكلترة على جزيرة العرب وفرنسة على سورية واليهود على فلسطين، وما أشبه ذلك مما ورد في مناركم في الجزء التاسع من المجلد الخامس والعشرين.

إلا أنه بلغني فيما بعد أن الشريف الحجازي الذي ظهر يومئذ على ماء الأزرق جنوبي جبل الدروز على مسافة يومين منه لم يكن الشريف علي بن الحسين، بل شريفًا آخر اسمه علي من قواد الجيش الحجازي، وقد تبجحت بذلك (القبلة)
في أحد أعدادها الصادرة سنة 1913 في عرض مقالة ردت فيها على كتابي المذكور بعد نشره بخمس سنوات؛ بمناسبة ظهوره في مجموعة أخبار ووثائق عن الحرب لأديب مسيحي سوري، وقد جعلت (القبلة) المنحرفة في الواقع عن القبلة الحجة القاطعة (! !) على عدم صحة ما كتبته في هذا الكتاب المفتوح من أوله إلى آخره كون الأمير علي بن الحسين لم يذهب إلى الأزرق.
مع أن ذهاب علي بن الحسين أو علي آخر إلى الأزرق لا يقدم ولا يؤخر شيئًا في جوهر الموضوع، فالموضوع هو نهي هؤلاء الجماعة الثائرين يومئذ على الدولة عن التهور في مناصرة دولة أجنبية، كانوا يخدمونها ببذل دماء العرب؛ ليصلوا فيما بعد إلى غاية ليس منها شيء للعرب كما حققت ذلك الحوادث، ويا للأسف من بعد الحرب، وعلى فرض أن الأمير علي بن الحسين لم يكن ذهب إلى الأزرق قد ذهب أخٌ له من الأشراف إلى الأزرق، وكلهم كانوا في الثورة سواء الذي ذهب إلى الأزرق والذي لم يذهب.

على أنني أنا كنت بعثت بالكتاب المفتوح المذكور إلى جريدة (الشرق) التي كانت تطبع بالشام، وصادف أنني يوم ظهوره في تلك الجريدة كنت في برلين، فلم أطلع على العدد الذي فيه هذا الخطاب من جريدة (الشرق)، ويظهر أنه قد
سقطت فيه أغلاط كثيرة في الطبع، لا بل جرى تقديم وتأخير في بعض الجمل وأهملت جمل برمتها، فجاء المجاور لها قلقًا غير مستو على وضين الأصل، ولم أشعر بذلك في وقته؛ لأنني لم أطلع على (الشرق) إذ أنا في الغرب ومضت الأيام والأعوام إلى السنة الماضية 1924 فإذا بجريدة أبابيل البيروتية، قامت تنشر هذا المكتوب إما نقلاً عن جريدة (الشرق) أو عن مجموعة الأديب المار ذكره، لست أعلم عن أي مصدر أخذته، وقصار ما أعلم أنني أول ما رأيته مطبوعًا في جريدة أبابيل البيروتية أيضًا، والآن أراه في المنار منقولاً عن جريدة (الوطن) الصادرة في البرازيل، والذي أريد أن أنبه عليه هو:
أولاً - إن المكتوب كان موجهًا لا إلى الملك حسين رأسًا بل إلى ولده علي.
ثانيًا - إنه يوجد في المكتوب إشارة لا إلى إنكلترة فقط بل إلى فرنسة أيضًا، فالجرائد البيروتية التي نقلته حذفت ما تعلق بفرنسة، ونشرت ما يمس إنكلترة؛ خوفًا من قلم المراقبة.
ثالثًا - يوجد في المكتوب أغلاط كثيرة مطبعية وكلمات محرفة مثل (وبنوة النبوة) جعلوها (بنور النبوة) وكلمات مثل (أو ذمامًا يحفظونه لك أو بسواك إذا قضت سياستهم غير ذلك) فأطاحوا جملة (غير ذلك) ومثل (فيما لو قضت عليهم سياستهم عن سلب إمارتك) وأصلها (بسلب إمارتك) كما لا يخفى ومثل (وما إخالك تجهل التاريخ وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود والمواثيق، إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى في جميع معاملاتهم سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم) وأصلها (التواتر عمن شأنهم الإخلال بالعهود والمواثيق إلى الحد الذي لا تقدر أن تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى) إلخ؛ ومثل (لا جرم أنك تقدر أن تدعي بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي تكفل دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء
الخلق يرتاح إلى قبول هذه الدعوة) وهي جملة لا يخرج لها معنى وأصلها (لا جرم أنك تقدر أن تدعي وجود بعض عشائر من العرب توفر لك القوة التي تكفل بها دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء الخلق يرتاح إلى قبول هذه الدعوى) ومثل (ولا سيما على الحجاز منذ أحتاب) وأصلها (ولا سيما على الحجاز الذي هو نصب عينها منذ أحقاب) وأما جملة (وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز فيمكنك أن تريح فكرك منها منذ الآن، ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ تفاديًّا من العجلة إلخ، فإن عبارة (فيمكنك أن تريح فكرك منها منذ الآن) كانت فيما أتذكره موضوعة بين خطين هكذا - فيمكنك منذ الآن أن تريح فكرك منها - وهي جملة معترضة، والجملة الشرطية من عند قولي: (وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم) إلى قولي: (ولا حاولوا إدخال عسكرهم) إلى قولي: (ولا وضعوا ضباطهم إلخ) جوابها (أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء والفضل ومطالعة التواريخ) إلخ، وأما جملة (فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها) فهي من سبق القلم، والمراد أن أقول: فما يؤثر في الأمة العربية أو الإسلامية) بمعنى ما يؤثر بين الأمة أو في وسط الأمة، والخلاصة لم أجد فيما نقل عني كتابًا تعاورته الأيدي بالحذف والطرح والتقديم والتأخير، فضلاً عما أسقطه مرتبو الحروف مثل هذا الكتاب، فأرجو نشر هذا التصحيح ولكم الفضل.

... ... ... ... ... شكيب أرسلان
_______________________

(1) يعني الكتاب الذي نشر بعضه في ج9 م25 بعنوان (من الأمير إلى الملك) .

مجلة المنار العدد 26 / صفحة 238


الجمعة، 14 أغسطس 2020

بين هتلر ونابليون

 



بين هتلر ونابليون

محمد كامل الصيرفي

يستطيع الباحث المدقق أن يتبين من سير الحوادث العسكرية والسياسية في هذه الحرب الحالية أن هتلر يتتبع - إن عفواً أو قصداً - نفس الخطوات التي تتبعها نابليون الأول إمبراطور فرنسا في السياسة والحرب، حتى أصبح أكثر من فرد واحد يجزم تماماً بأن نهاية هتلر سوف لا تختلف كثيراً عن نهاية سيده ومثله الأعلى نابليون.

بدأ نابليون وهتلر حياتهما العسكرية والسياسية تموج نفسهما بحب العظمة والغرور، فرأينا الهر هتلر حارباً نمسوياً ينظم إلى صفوف الجيش الألماني في الحرية الماضية جنديا بسيطاً ليس له شأن يذکر. فلما خرجت ألمانيا مهزومة مدحورة منهوكة القوى في عام ۱۹۱۸ م، بدأ ذات النمسوي الماكر يشق طريقه قدماً إلى الأمام، وسرعان ما لاح في الأفق أن ذلك الجندي البسيط سوف يكون له من الحظ السعيد ما يفوق غيره من البشر، واستطاع فعلاً بمساعدة شرذمة بسيطة من أعوانه بعد مضي فترة من الزمن أن يصل إلى منصب المستشار الأعلى للرايخ الألماني؛ وعقب وفاة المارشال هندنبرج خطا هتلر خطوة أخرى أوصلته إلى منصب دیکتاتور الدولة وسيدها الأجل وعاهلها الأول.

وفي حالة نابليون نراه يبدأ حياته العسكرية والسياسية ضابطاً كورسیكياً (ولد نابليون في جزيرة كورسيكا، وكانت في ذلك الوقت تابعة لفرنسا) بسيط في الجيش الفرنسي، فكأنه غريب عن فرنسا، إلا أنه استطاع بمهارته وحذقه أن يصل إلى زعامتها؛ وهو في هذه الحالة شبيه لهتلر الذي توصل إلى زعامة ألمانيا مع أنه نمسوي الأصل.

وقد بدأ كل من نابليون وهتلر حياتهما السياسية بعد وصولهما إلى أكبر مناصب الدولة، في كل من فرنسا وألمانيا بسلسلة عظيمة من الانتصارات الحربية والسياسية الهائلة.



فمنذ عام ۱٧۹۹إلى عام ۱۸۱۱ استطاع نابليون أن يحرز نصراً كاملاً مبيناً على دول أوربا جميعها؛ ونرى هتلر بدوره يبدأ كفاحه السياسي والحربي بسلسلة طويلة من الانتصارات. فمنذ عام ۱۹۳۹ م إلى أواخر عام ۱۹٤۲ تمكن هذا العاهل الألماني منقهر أوربا كلها: فتسقط بولندا، وتخر كل من هولندا وبلجيكا صريعة في الميدان؛ ثم يخترق الحصون الفرنسية المنيعة، فتضطر الجمهورية الفرنسية إلى الإذعان والتسليم بمطالب النسر الألماني فتعقد معه الهدنة في يونيه من عام ۱۹٤۰ م. وقد استطاع هتلر نفسه أن يجبر هنغاريا ورومانيا وفلندا على الإذعان والتسليم لمطالبه، فتحتل جنوده بلادهم وتخرب دورهم، وبذلك أصبحت أوربا جميعها عند موطئ قدميه تدين له بالولاء والطاعة، وأن أوامره صاغرة.

وعقب سقوط فرنسا نری هتلر يقف شارداً مفكراً، إذ ليس أمامه سوى الجزيره النائية التي طالما تحدث عنها وحلم بدكها دکا، إلا أن قوة البحرية الألمانية لم تكن قادرة على تحقيق هذه الأمنية، فبدأ سلسلة طويلة من الغارات الجوية اعتقادا منه أن ما تلقيه طائراته من الرعب والفزع في قلوب البريطانيين سوف يمكنه من تنفيذ رغباته، ويساعده على إنزال جنوده على سواحل الجزيرة البريطانية؛ إلا أن هذه الغارات لم تأت النتيجة المرجوة، فبدأ حملة أخرى أراد من وراها عقد الصلح مع بريطانيا، وكان رسوله في هذه المرة صديقه و زميله الهر هيس، إلا أن الأسد البريطاني أظهر أنه أشد دهاءص ومكراً من النسر الألماني، فما لبث أن أسر هيس، وبذلك ضاعت آماله و آمال سيده هتلر في عقد الصلح.

وكان نابليون في عام ۱۸۰۷ م قد عقد معاهدة صداقة وتحالف مع روسيا، وكان غرضه من هذه المعاهدة تأمین ظهره لما سوف يقوم به من فتوحات في أوربا الغربية، إلا أن أحلام نابليون لم تتحقق، إذ كان يعتقد أن روسيا سوف تسلم بما آل إليه نفوذه وسلطانه في الغرب، فأظهرت الأيام عكس ما كان يرجوه، فقد بدأ الإسكندر قيصر الروس مبادأته ومعاداته. وعندئد تبددت أحلامه وأوهامه، ووجد نفسه في عام ۱۸۱۲ أمام تيارين: أحدهما يرمي إلى القضاء على عدوته الأولى إنجلترا وغزوها في بلادها، وإرغامها على التسليم بفتوحاته وانتصاراته العظيمة في القارة الأوربية التي امتدت من المانش شمالاً إلى البحر الأبيض جنوباً إلى جبال الكربات شرقاً؛ ثانيهما يرمي إلى الاعتداء على صديقته روسيا ليرغمها سريعاً على الإذعان له و إجبار قيصرها على التسليم دون قيد أو شرط. ولما كانت إنجلترا قوية شديدة البأس لا يقوى على فتح أراضيها أو النزول بجنوده على سواحلها، فقد فضل نابليون الاتجاه بقواته ناحية الشرق لينتهي من الروس أولا، ثم يالتفت إلى الجانب البريطاني قوياً شديد البأس، فتخر له بريطانيا صاغرة و تعترف له بفتوحاته الهائلة.

إلا أن الأيام أظهرت عكس ما كان يأمل، إذ أن غزو الروسيا في صيف عام ۱۸۱۲ واجتياح أراضيها ووصوله إلى موسكو ودخوله قصر الكرملين - قصر الحكومة الروسية - لم يجلب عليه سوى الهزيمة و العار، إذ کر علیه الروس وأرجعوه مهزوماً مدحوراً إلى بلاده تطارده فرسان القوزاق القوية الماهرة.

وفي حالة هتلر نراه يعقد في عام ۱۹۳۸ نفس المعاهدة التي عقدها نابليون مع الروس في عام ۱۸۰۷ م، وكان الغرض الألماني من هذه المعاهدة شبيهاً بالغرض الفرنسي النابليوني في السابق، إذ أراد هتلر أن يؤمن طهره لما يقوم به في أوربا في المستقبل القريب من حروب. فلما سقطت فرنسا في عام ۱۹٤۰ م، وجد هتلر نفسه أمام نفس التيارين اللذين وجد نابليون نفسه أمامهما في عام ۱۸۱۲ م، فهذه بريطانيا رابضة كالأسد بعد سقوط حليفتها فرنسا، وهذا عاهلها تشرشل يعلن على الملأ عزم الشعب البريطاني الأكيد على الاستمرار في الحرب ورغبته الأكيدة في دحر الألمان وزعيمهم هتلر - وهذه روسيا تقلب له ظهر المجن، وترتاع لهذا التقدم الهائل في البلقان، عقب تسليم بلغاريا ورومانيا وهنغاريا لمطالبه، وعقب اجتياح يوغوسلافيا واليونان؛ ففضل أن ينتهج السبيل الذي سار عليه نابليون في عام ۱۸۹۴، فغزا روسيا في نفس الوقت وفي نفس الشهر الذي غزاها به نابليون، فوصلت جنود في مدی عامين من ( ۱۹٤۱ - ۱۹٤۲ ) إلى قلب القوقاز، واحتلت عساكره بلاد الیوكرين. إلا أن الدب الروسي الذي طرد نابليون وتعقبه إلى حدود بلاده في القرن الماضي، استطاع بمهارته العظيمة وقوة شكيمة زعيمه ستالين أن يكر على النسر الألماني، فرده إلى بلاده مهزوماً، وها هو الآن يربض على حدود الرايخ الألماني ويهدد وينذر باختراقها والأحذ بثأر من هذا المعتدي الأثيم.

وفي الجملة يجعل بنا أن نقول إنه إذا كانت روسيا هي الصخرة التي تحطمت عليها آمال نابليون وأمانيه في عام ۱۸۱۲، فإنها نفسي الصخرة التي حطمت بل انهارت عليها جل آمال هتلر في عام ۱۹٤۳م.

وعقب غزو الروسيا من كل من العاهلين الفرنسي والألماني تبدأ فترة جديدة في حياة كل منهما، إذ يصبح كلاهما عند مفترق الطرق؛ فالتقهقر النابليوني عن البلاد الروسية كانت له رنة فرح عظيمة في أنحاء القارة الأوربية، فهذا هو الإمبراطور اللذي دوخ أوربا واقتلع عروشها فطأطأ له ملوکها رؤوسهم صاغرين، ينهزم لأول مرة في حياته أمام جحافل الروس الهائلة! فلما رأت أوربا هذه الهزيمة الساحقة سرت روح القومية بین شعوبها وأخذوا يأملون في تلك الساعة التي يستطيعون خلالها تحرير أنفسهم من ربقة الحكم الفرنسي؛ وسرعان ما انضمت السويد والنمسا إلى بروسيا والروسيا وإنجلترا، فقويت شركة الحلفاء، و أطبقوا عليه بجنودهم، فسلم صاغراً ورضي لنفسية النفي إلى إلبا؛ ودخل الروس والإنجليز باريس وقضوا على أنصار ذلك الطاغية الجبار. وإذا كان نابليون قد استطاع العودة إلى بلاده وإعادة ملكه من جديد، فإن هذا النصر المفاجيء لم يطل، إذ انهزمت جنوده مرة أخرى في صيف عام ۱۸۱٥ على يد القائد الإنجليزي ولنجتون، وبذا ضاعت إمبراطورية نابليون، ودفنت معها آماله ومطامعة.

وهذا هو هتلر يتقهقر من بلاد الروس فيصل إلى حدود ألمانيا مهزوماً مدحوراً، ويجبره الإنجليز على التقهقر عن شمال إفريقيا، ثم ينزلون جنودهم في إيطاليا، و يفتحون جبهة جديدة في شمال فرنسا وأحرى في جنوبها، وتتقدم قوتهم فتحتل باريس وبروكسل؛ وتخطو جنودهم قدماً إلى داخل الأراضي الألمانية، فتنتبه أذهان أوربا، فيقاومه الفرنسيون ويجبروه على التقهقر سريعاً أمام قوات الحلفاء االعظيمة، ويعمد الأتراك إلى قطع علاقاتهم بألمانيا، وتطلب رومانیا وبلغاريا وفنلندا وهنغاريا الصلح من الحلفاء، وذلك تقوى شكيمة الجانب البريطاني، ويلوح في الأفق أن ساعة هتلر آتية لا ريب فيها، كما حلت ساعة زميله نابليون من قبل.


مجلة الثقافة / 1944

ألمانيا الهتلرية كما عرفتها

 


ألمانيا الهتلرية كما عرفتها

تحقيق ومشاهدات واقعية

للأستاذ محمد عبدالله عنان


1- شعب يعيش بمعزل عن العالم


حينما هبطنا الشاطئ الأوربي في منتصف أغسطس، كان ثمة شعور من التفاؤل يبدو في كل مكان. وكان ثمة أمل يلوح في الأفق بأن الأزمة الأوربية التي أثارتها ألمانيا حول مسألة دانزيج والممر سوف تحل بالمفاوضة والتفاهم . ولم تك ثمة بوادر تدل على أن العاصفة توشك أن تنقض بمثل هذه السرعة الصاعقة؛ وكان كل ما يزعج الرأي العام الأوربي هو الاستعدادات الحربية العظيمة التي تقوم بها ألمانيا حول الحدود البولونية. غير أنه كان يخفف من هذا الازعاج الاعتقاد بأن ألمانيا - جريا على سابق خدتها - إنما ترمي إلى الضغط على بولونيا والدول الديمقراطية  بتحقيق غايتها دون حرب، على نحو ما وقع في أزمة سبتمبر الماضي . 

   ولم نلاحظ مدى الأيام القلائل التي قضيناها في سويسرا شيئا من الانزعاج، ففي جنيف كان الهدوء يسود كل شي ؟ وكانت المدينة الباسمة التي أسبغت عليها عصبة الأمم طابعاً سياسياً خاصاً، تموج بالزائرين من كل صوب من عشاق بحيرتها وسحرها، وتسطع بالليل كالآلئ المنيرة؛ وكانت زيوريخ عاصمة سويسرا الصناعية مشغولة بمعرضها القومي، تموج بالآف الوافدين عليها لزيارته. وكانت أمارات الرضى تبدو في كل مكان على هذا الشعب النشط الرغد. ولكن الشعب السويسري مع  ذلك كثر اليقظة، يتتبع الموقف الدولى بعناية، وينظر إلى حركات ألمانيا بكثير من التوجس. وقد سمعت من أستاد سويسري كان زميلي في السفر فيما بين لوزان وچنیف، أن سويسرا ليست مطمئنة إلى سير الأحوال الدولية، وأنها على قدم الأهبة، ولا سيما من ناحية الحدود الشمالية، وأنها ترتاب كل الريبة في نيات ألمانيا و مقاصدها، وتزمع أن تقاوم الاعتداء عليها بكل ما وسعت. وأنذرني سائق السيارة التي أقلتني إلى المحطة، حينما علم أني أقصد السفر إلى برلين،  بأن الأخبار الأخيرة لا تدعو إلى الإطمئنان؛ وأن شبح الحرب بلوح قويا في الأفق. وقد كانت الصحف السويسرية الصادرة في مساء اليوم وهو يوم ۲۱ أغسطس تؤيد في الواقع هذا التشاؤم..


 ولما وصلنا إلى محملة أنهالت ( برلين ) في صباح يوم الثلاثاء ۲۲ أغسطس كان كل شيء عادياً، ولم يك ثمة ما يلفت النظر سوی شیء واحد، هو صدور الصحف الألمانية هذا الصباح بعناوين ضخمة بارزة عن مشروع الميثاق الألماني السوفیینی، و من سفر وزير الخارجية فون ريبنتروب إلى موسكو لتوقيعه، وكان هذا أول نبأ نشر عن هذا الميثاق. وكانت مفاجاة لها في الجماهير أعظم وقع، وكانت الدهشة تعلو وجه كل قارىء. ولا غرو فقد لبث الشعب الألماني أكثر من ستة أعوام يسمع زعمائه وقادته أشد المطاعن والتهم في حق حكومة السوفيت وزعمائها البلاشفة؛ وقد ذكره هتلر في كتابه (كفاحي) بأشنع النعوت ووصفهم بأنهم مجرمون لوشت أيدهم بالدماء، لا شرف لهم ولا ذمام؛ وما زال إلى أشهر قلائل يحمل عليهم في خطبة أقسى الحملات. فما هو السر في هذا التحول العجيب في سياسة الزعيم ؟ 

    كانت أمارات التساؤل تبدو علي جميع الوجوه، ولكنه تساؤل في صمت وذهول واستسلام، فلا كلمة ولا ملاحظة إلاهمساً وفيها بين الجدران، حينما كانت تسنح لنا فرص الحديث مع الألمان القلائل الذين يخاطرون الكلام معنا. ذلك أن الشعب الألماني ليس له أن يتكلم أو يلاحظ، وعليه فقط أن يستمع وأن يطيع؛ والواقع الذي يلفت نظر الزائر الأجنبي بنوع خاص هو أن الشعب الألماني يكاد يعيش في عالم وحده، وأنه (الرجل المادي) لا يعرف شيئاً عما يدور خارج ألمانيا، وليست لديه أية فكرة صحيحة عن موقف الدول الأخرى و تصرفاتها، ولا يعرف من ذلك إلا ما تقدمه إليه الصحف الألمانية من صور وأنباء تباعد الحقائق المعروفة. والصحف الألمانية - وهي تعد بالآلاف - تصدر في ظل النظام الهتلري في  أوضاع واحدة، ولا تكاد تختلف محتوياتها في الشئون العامة الداخلية والخارجية في شيء، سواء من حيث التحرير و اللهجة؛ وإنك لتقرأ في اليوم الواحد الصحيفة بعد الصحيفة فالا تقع على جديد مطلقاً، و كل محتوياتها وتعليقاتها في جميع المسائل الهامة من وضع وزارة الدعاية، وهي جميعاً صورة واحدة في جميع أنحاء ألمانيا، وعلی جميعاً سخيفة مملة بما تفرق فيه من صنوف الارجاف المنظم والدعاية المتماثلة. ففي الفترة التي تقدمت نشوب الحرب كانت أنكلترا مثال تقدم إلى الشعب الألماني في صورة عدو خطر يتحرش بألمانيا ويعمل على تطويقها ويحرض خصومها عليها، وأنها تقف حجر عثرة في سبيل أمانيها القومية، و نشجع بولونيا على موقفها العدائي، ثم تقدم إليه في نفس الوقت كدولة شاخت ولحنها الوهن، وأنها لن تجرؤ بأي حال على محاربة ألمانيا أو الوقوف في وجهها. وفرنسا تقدم إليه في صور مماثلة ، وأنها عدو ألمانيا التاريخي الذي يجب سحقه. وبولونيا تقدم إليه في صورة أمة همجية تنكل بالألمان وتمعن فهم قتلا و تعذيباً، ويجب الانتقام العاجل منها. والصحف الألمانية تمعن في نشر هذه الأراجيف باستمرار، ولا تنقطع محطات الاذاعة بالنهار أو الليل عن تكرارها. والألماني المستنير لا يكاد يؤمن بشیء منها. وقد سمعت من كثيرين أنهم لا يعتقدون في صحة شيء من هذه الأراجيف . وذكر لي شخص مثقف أنهم يقدرون أن عشرة في المائة فقط من هذه الأخبار يمكن تصديقها. ولكن (الرجل العادي) يقبل على سماعها ويعلق عليها، وعلى هذا (الرجل العادي) الساذج المستسلم يعتمد هتلر ونظامة قبل كل شيء.

   أما الوقائع والتطورات الدولية الهامة فلا يكاد الشعب الألماني يعرف شيئا عنها. فهو مثلاً لم يعرف شيئاً عن موقف انكلترا وفرنسا خلال الأزمة، ولا عما دار في البرلمان البريطاني ولا عن  تصريحات مستر تشمبرلين  في إصرار انكلترا على تأييد بولونيا. ولم يعرف شيئاً عن تصريح السنيور موسوليني في مساء أول سبتمبر بأن إيطاليا لن تدخل حربا اعتدائية، وستحتفظ بحيدتها؛ بل لم يعرف شیناً عن البلاغ النهائي الذي وجهته انكلترا وفرنسا إلى ألمانيا في نفس اليوم، ثم عن إعلان حالة الحرب ضد ألمانيا من جانب انكلترا وفرنسا على أثر انتهاء مدة البلاغ النهائي في يوم الأحد ۳ سبتمبر. أجل لم يعرف الشعب الألماني شيئاً عن هذه الأحداث الجسام إلا بعد ذلك بأيام. ولم يعرفها في حينها إلا القلائل ممن أتيح لهم الاستماع إلى الاذاعة الأجنبية أو سمعوها من بعض الأصدقاء الأجانب. أما الصحف الأجنبية فلم يكن يرد منها إلا كميات قليلة جداً. وكان من أشق الأمور علينا خلال الأزمة أن نحصل على جريدة انكليزية أو فرنسية في وقتها. وفي اليوم الذي تصادر فيه الصحف الأجنبية - وهو كثيرا ما يحدث - يرد علينا دائماً بأنها نفذت ولم منها شيء.

 وقد شعرنا ونحن نتلو نبأ عقد الميثاق الألماني الروسي بأنه يخفي و راءة بعض الأحداث الجسام، وشعرنا في الوقت نسه بأن الحكم قد صدر على بولونيا، وبأن العاصفة پوشك أن تبدو نذرها رغم هذه السكينة الظاهرة. ولم يمض يومان على ذلك حتى تم توقيع الميثاق وأذيعت نصوصه، وأخذت الصحف الألمانية ومحطات الإذاعة الألمانية تفيض في وصف هذا الانتصار الدبلوماسي الباهر التي أحرزته (الريخ) على الدول الديمقراطية، وتنوه بقيمة الصداقة الجديدة. ونشرت الصحف الألمانية خريطة روسيا، وبدأت لأول مرة منذ قيام الحكم النازي تتحدث عن مواردها العظيمة وتشير من طرف حق إلى أن ألمانيا تستطيع عند الحاجة أن تعتمد على هذه الموارد. وظهرت الصحف الروسية لأول مرة عند باعة الصحف. ولكن ذلك كله لم يبدد ما أحاق من الغموض بهذا التحول الفجائي في سياسة الهتلرين. وكانت أرجح النظريات في تفسير هذا التحول هو أنه وقع بناء على ضغط (الريخسفر) (الجيش الألماني) وأن (الريخسفر) لم يغفر قط لهتلر أنه أغضب روسيا وأثار عداوتها لألمانيا بحملاته المفرقة عليها المغرقة عليها، وأنه دفعه إلى استعادة صداقها، حتى إذا نشبت حرب بين ألمانيا وخصومها أمكنها أن تقاتل في جبهة واحدة وأن تكفل بمصادقة روسيا سلامتها في الجهة الشرقية؛ وعلى أي حال فإنه لم تمض سوى أيام قلائل حي ظهرت طلائع العاصفة التي سرعان ما انقضت على بولونيا.



مجلة الثقافة / العدد 40 / بتاريخ: 3 - 10 - 1939

2- أمة في طريق الجوع


تعيش ألمانيا الاشتراكية الوطنية ( الهتلرية ) من الناحية الاقتصادية في ظل أنظمة مصطنعة تناقض في معظمها قوانين الاقتصاد المرعية. والاشتراكية الوطنية تسخر موارد الشعب الألماني وثرواته جميعاً لبناء القوة العسكرية التي تحلم بأن تغزو بها العالم. وقد أرغمت من  جراء ذلك على أن تلتجئ إلى القواعد والقيود الإستثنائية في كل ما يمس الاقتصاد الوطني. والمعروف أن موارد ألمانيا وثرواتها قد استنزفت خلال الأعوام الأخيرة في سبيل المعدات العسكرية، وأن اقتصادها الوطني يقوم الآن على أسس مصطنعة واهية. 

    وليس من غرضنا أن ندرس في هذا الفصل نظم ألمانيا الاقتصادية، وإنما نريد فقط أن نلقي نظرة عاجلة على مظهر من مظاهر هذه النظم، وما أدت إليه من دفع الشعب الألماني إلى براثن الضيق والحاجة؛ وأبرز هذه المظاهر بلا ريب، وأكثرها مساساً بحياة الشعب، هو حالة التغذية والتموين، وهي حالة تبعث اليوم إلى الشعب الألماني أعظم الوساوس والمخاوف . 

     وستعتمد في ذلك قبل كل شيء على المشاهدات الواقعة، ومشاهداتنا في ذلك ترجع إلى العام الماضي؛ وقد لاحظنا عندئذ في النمسا وألمانيا أن الأطعمة في نقص. وأن الأصناف الممتازة أصبحت نادرة، وأن الغلاء أشتدعن ذي قبل؛ وقيل لنا يومئذ إن ذلك لا يرجع إلى نقص في تموين ألمانيا، وإنما رجع إلى ما تقوم به السلطات من تخزين المؤن تحوطاً للميتقبل. 

أما في زيارتنا الأخيرة لألمانيا ( قبل نشوب الحرب )، فقد شعرنا في الحال بأن أحوال التغذية قد ساءت إلى حد كبير، وأن الشعب الألماني يعاني حقيقة أزمة ظاهرة من الشظف والحرمان. وكانت بعض الأصناف تصرف منذ أشهر بطريق البطاقات مثل الزبد والبن والشاي، وكان الجمهور يتهامس بأن البطاقات ستشمل بعد أيام قلائل  كل شيء؛ وقد كانت ذلك فعالا، فمنذ ۲۹ أغسطس صدر نظام البطاقات شاملا لمعظم الأطعمة والحاجات الضرورية، ووزعت على جميع أفراد الشعب الألماني، وعلى الأجانب النازلي في ألمانيا، وأمامنا نص القرار الذي صدر في هذا الشأن، متضمناً للأصناف والمقادير، وهذا بيان ما ورد فيه مخصصاً لكل فرد من أفراد الشعب .


الصنف                                               المقدار

اللحم سواء بأصنافة العادية أو المقددة     ۷۰۰ جرام في الأسبوع

منتجات اللبن أو الزيت أو الشحم             ۰ ٦ جراماً في اليوم

السكر                                          ۲۸۰ جراماً في الأسبوع 

المربى                                          ۱۱۰ =      =     =

ولكن أيضا استبدال المربى والسكر بمقدار  ۵۵   =      =     =

الشعير اللؤلؤي والحب المجروش بأنواعة  ۱۵۰ =      =     =

البن أو ما يقابله (⅛الرطل)                   ۳ ٦ =       =     =

الشاي                                            ۰ ۲ =       =     =

اللبن                                          ۰ ۲ر۰ =       =      =

   (۱) ولأطفال الذين أقل من ست سنوات علاوة على ما تقدم نصف لتر من اللين في اليوم، وذلك بناء على شهادة من السلطات المختصة، فيكون أقصى ما يخصهم ۷۰ر۰ من اللتر في اليوم.

(۲) وللحوامل والأمهات المرضات ۰ ۳ ر ۰ من اللتر من اللبن، علاوة على ما تقدم في اليوم، وذلك بناء على شهادة السلطات المختصة، فيكون أقصي ما يخص الواحدة ۵۰ ر ۰ من اللتر في اليوم.


( ۳ ) والعمال الذين يزاولون أعمالاً شاقة من الزيت أو الدهن ۵۰ جراما في اليوم علاوة على ما تقدم به، و ٤٩٠ جراماً من اللحم علاوة في الأسبوع، أو بعبارة أخرى لهم أن يحصلوا في الأسبوع على ۱۱۹۰ جراماً من اللحم. 

     وتثبت حالة العمال الذين يزاولون أعمالاً شاقة وفقاً لنظام خاص.

 صابون الغسيل                        ۱۲۰ جرامًا كل أربعة أسابيع 

أو من صابون الزفر السائل           ٢٠٠  =     =    =      =

أو من صابون الزينة                   ١٢٥ =     =    =      =

مسحوق الصابون                      ٢٥٠ =     =    =      =

أو صابون الزفر السائل               ٢٠٠  =     =    =      =

أو صابون الزينة                       ١٢٥ =     =    =      =

أو أية مواد أخرى للغسيل             ۱۰۰ =     =    =      =


     أما عن الأقمشة فإنه يجب التزود بالبطاقات لشراء ما يأتي:

 الثياب الخارجية للرجال والنساء - الثياب الداخلية - أغطية الفراش - اللوازم المنزلية - وكل ما بیع بالمتر.

    کذناك يجب التزود بالبطاقات أيضاً لشراء الأحذية والبضائع الخلية. 

   والثياب والأحذية والبضائع الجلدية يمكن شراؤها إذا أقيم الدليل على ضرورتها، وذلك بناء على شهادة تعطي من السلطات المحلية.

   وفيما يتعلق بالفنادق والبنسيونات والمطاعم والمستشفيات والمعاهد، فإنه يجب عليها أن تحصل على المقادير اللازمة لها من مختلف الحاجات بواسطة شهادات تعطى لها من االسلطة المختصة.

    وإلى أن تصدر أوامر أخرى يمكن للأفراد الأكل في المطاعم دون تذاكر.

    (وفي الأنباء الأخيرة أن ما يصرف إلى المطاعم من الشحم واللحم قد خفض إلى ٦٠ في المائة، وخفض ما يصرف من السكر إلى النصف، وذلك لكي لا يتجاوز الأفراد حدود البطاقات بالأكل في المطاعم).

    وقد بقى الخبز والبطاطس والدقيق والفاكهة والبقول مؤقتاً حرة من قيود البطاقات. 

    هذه محتويات القرار الوزاري الصادر بتنظيم بطاقات الأطعمة والحاجات الضرورية. وقد علقت الصحف على هذا القرارتطمياً للشعب بقولها إنه لا يقصد به التضييق والحرمان، ولكن يقصد به التنظيم والتوزيع العادل حتى يستطيع كل أن يشتري ما يخصه، وحتى لا يطغى الأغنياء بمالهم على الفقراء، وإن ألمانيا لديها من المؤن المخزون ما يكفيها لمدة عام، هذا فضلا عن المحصول الجديد، وإن في وضع هذا النظام دليل على اعتماد ألمانيا على نفسها واستغنائها عن معاونة الخارج.

   على أن هذه التعليقات المعسولة لا تغير شيئاً من الحقيقة المرة، وهو أن الشعب الألماني يعاني منذ أشهر حالة من شظف العيش تنذر بأن تغدو في القريب العاجل نوعاً من المجاعة الواضحة. ويكفي أن نلقى نظرة على المقادر الضئيلة التي تمنح للأفراد من اللحم والشحم والسكر والمربى في الأسبوع لنقدر  هذه الحقيقة؛ وقد تقررت هذه المقادير قبیل نشوب الحرب، ولم تمض أيام قلائل على نشوبها حتى أنقصت جراية اللحم إلى ۵۰۰ جرام لكل شخص في الأسبوع، وأنقصت جراية السكر والزبد، ومنع اللبن من البالغين بتاتاً، ولا يسمح به الآن إلا للأطفال و الأمهات. وقيد بيع الخبز والدقيق وأخضع لنظام الجراية. وسوف تنقص هذه المقادر بالا ريب متی طال أمد الحرب. والشعب الألماني كما هو معروف شعب أكول، ويمكننا أن نتصور ما يعانيه في ظل هذا الحرمان من الآلام النفسية والجسمية. ولقد لمسنا من دلائل هذا الشظف والحرمان حينما تقلبنا في المطاعم والمقاهي، حتى قبل أن يصدر نظام البطاقات. ففي أكبر المطاعم البرلينية وأفخمها كانت تقدم ألوان محدودة جداً. هذا فضلاً عن رداءة معظم هذه الألوان وقدمها، وكان من النادر أن يقدم إلينا لون جيد طازج، والأطعمة المحفوظة هي الكثرة الغالبة، والبقول والفاكهة نادرة جداً؛ و الزبد أو الشحم المستعمل في الطهي أو الذي يقدم إليك في مختلف المناسبات وهو واحد دائماً هو أشنع ما يمكن تصوره رداءة وطعماً، بل هو كالسم اللاذع برائحته و طعمة الكريه. ولقد حدث أكثر من مرة أن قدمت إلينا في مطاعم فخمة في برلین و فينا ألوان وأطباق باردة متغيرة الرائحة كنا نرغم على أكلها خيفة الجوع. واشتريت ذات يوم من محل حلوى فخم في برلين فطائر منظرها شھی جميل لآكلها بالمنزل، ولكن ما كنت أتناولها حتى ذعرت  لرائحتها الكريهة، وألقيتها في الحال في سلة المهملات، ولو عرضت مثل هذه الأطعمة في القاهرة لكان محققاً أن تعدمها وزارة الصحة وأن يحاكم مقدموها؛ وتقدمت في فينا إلى محل بقالة لأشتري بعض الأطعمة المقددة فراراً مما يقدم إلينا في المطعم، فقيل لي إنه لا سبيل إلى شرائها إلا بالبطاقة، ولم أحصل عليها؛ وقالت لي ربة منزل إنها تتوق منذ أيام إلى اقتناء شيء من البيض، وأنها لم توفق بعد البحث إلا إلى اقتناء بيضة واحدة. وذكر لي صديقي قنصل مصر في فينا أنه حاول أن يحصل لطفله على ربع لتر من اللبن فوق المقرر بالبطاقة، فطلب إليه أن يقدم شهادة من طبيب بحاجة الطفل إلى ذلك. والأمثلة الواقعية لا حصر لها على هذا الشظف الواضح الذي يعانيه الشعب الألماني، ومن المحقق أن هذا الشظف يزداد مع الأيام شدة، وقد يغدو قبل بعيد مجاعة حقيقية تفتك بصحة الشعب أيما فتك وتقضي على ما تبقى من قواه المعنوية.

    وهل من حاجة إلى القول بأن تقرير نظام البطاقات الغذائية في ألمانيا حتى قبل نشوب الحرب هو أسطع  دلیل على إفلاس النظام الهتلري من الناحية من الناحية الاقتصادية؛ إن هذه الحقيقة التي حاول الهتلريون إخفاءها طويلا تبدو اليوم بكل روعتها للشعب الألماني. وفي اعتقادنا أنها ستكون من أهم العوامل في تقويض أسس النظام الهتلري. ولقد منى الهتلريون الشعب الألماني طويلاً بأن قواهم العسكرية التي اقتضت حرمانه من لذائذ العيش الرغد، ستغدو كفيلة بأن تحقق له هذا الرغد بالاستيلاء على أراضي الأمم الأخرى وثرواتها بحجة الفضاء الحيوي وما إليه من النظريات الاستعمارية المغرقة، ولكن ظهر أن هذه الأمنية دونها معركة الحياة والموت، وأن الشعوب الأخرى تحرص على أراضيها و ثرواتها حرص ألمانيا الهتلرية على استلابها.



مجلة الثقافة / العدد 41 / بتاريخ: 10 - 10 - 1939

3- نذر الانحلال في النظام الهتلري


يتساءل الكثيرون عن موقف الشعب الألماني من النظم النازية ومن (الزعيم) هتلر وسياسته، وعما إذا كان الشعب الألماني يعيش راضياً في طل هذه النظم الحديدية المرهقة، وعما إذا كان بنوع خاص بؤيد هتلر في سياسته المغرقة؟ والجواب على ذلك يقتضي بعض التفصيل. ففي العام الماضي حينما كنا في ألمانيا خلال الأزمة الدولية التي أثارتها مسألة السودیت كنا نسمع من جميع الطبقات والأفراد ثناءً على هتلر و سیاسته التي أدت إلى ضم النمسا دون اهراق دماء، وكان الشعب الألماني يتحمس لفكرة الجامعة الألمانية وألمانيا الكيري. وكانت الأغلبية الساحقة تقف وراء هتلر في مسألة السودیت وتطری حزمه وشجاعته، و تعرب عن ثقتها التي لا حد لها فيه وفي عبقريته؛ وحتى في النمسا التي لم تكن قد أطمأنت إلى مصيرها بعد، کانت الطبقات الوسطي والعاملة تنعقد آمالها حول هتلر وحول النظام الجديد، وكانت ترجو أن تنال في ظلة الخير والرغد الاقتصادي، وكانت الأعمال الجديدة التي بدی بها تطبيقاً لبرنامج السنوات الأربع، والتي اقتضت تشغيل عدد كبير من العمال العاطلين، تعتبر مقدمة حسنة للانتعاش الاقتصادي المنشود؛ ولما تم لهتلر الفوز في مؤتمر ميونخ، وسلمت الدولتان الديمقراطيتان الكبيرتان بجميع طلباته، واحتوى على بلاد السودیت دون أية مقاومة، كان لفوزه أعمق الأثر في جميع الطبقات وارتفعت هيبته إلى الذروة، وأحيط شخصه بنوع من الإعجاب الذی يدنو إلى العبادة والتقديس.

    ولكن اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا في مارس الماضي كان صدمة شديدة أصابت العقيدة النازية وأصابت هيبة هتلر، فقد كان الشعب الألماني يعتقد حسبما تملي عليه ألسنة وزارة الدعاية أن (الزعيم) يعمل فقط لمثل أعلى، هو جمع أشتات الجنس الألماني حول الأم الكبرى، فلما دخل (الزعيم) براج فاتحاً ولم يمض على تعهداته في مؤتمر ميونيخ باحترام استقلال تشيكوسلوفاکیا وتاكيداته العديدة بأنه لا يريد ضم (التشك) إلى ألمانيا، سوی أشهر قلائل، سقط  قناع المبادئ والمثل العليا التي كان پستتر به، وتساءل الشعب : أين يسير (الزعيم) بألمانيا؟ وأخذ يوجس خيفة من الاتجاه الجديد الخطر الذي تتجه إليه السياسة النازية.

   وكانت الأزمة الاقتصادية أثناء ذلك تشتد وطأتها على جميع الطيقات، ولما وضعت البطاقات الأولى للزبد والقهوة والشاي أدرك الناس أنهم أبعد ما يكون عن عهد الرغد والرخاء المنشود، وأن استيلاء (الريخ) على الأراضي الجديدة لا يفيد في تخفيف الضيق الاقتصادي.


   وتستطيع الآن أن نقول إنا شهدنا في زيارتنا الأخيرة تطوراً عميقاً في نفسية الشعب الألماني إلى موقفه من (الزعيم) ومن النظم النازية، فقد فترت هذه الحماسة القديمة، وفرت هذه الثقة العمياء التي كانت تقدمها الجماهير على (الزعيم)، وحل محليا كثير من التوجس والشك، وأخذ النظام النازی يبدو لكثير من الناس في صورته الحقيقية، نظام طغیان حزبي شنیع، وتحكم فرد أو أفراد قلائل زجت سياستهم العنيفة القصيرة النظر بألمانيا إلى مغامرات وأزمات خطرة لا تؤمن عواقبها؟ وجرت عليها الخراب الاقتصادي، ودفعت بشعبها إلى براثن الضيق والحرمان؛ وأثارت عليها سخط العالم كله وأفقدتها كل عطف.  وقد جاء عقد الميثاق الألماني الروسي صدمة جديدة قوية للعقيدة النازية، وكان أسطع دليل على تناقض السياسة الهتلرية وتخبطها وتجردها من المثل العليا التي تزعم الانضواء تحت لوائها؛ ولم تفلح ألسنة وزارة الدعاية من صحف وإذاعة وغيرها هذه المرة في إزالة الأثر السيء العميق الذي أحدثه هذا التناقض الشنيع فى مثل زعماء الوطنية الاشتراكية.

    والواقع أنه تبدو في ألمانيا منذ أشهر بوادر تذمر لاشك فيها، وهي تتبع مجاريها الخفية، ولاسيما بين طبقات العمال التي حددت أجورها بطرق تعسفية والتى أرهقها الغلاء وانحطاط قوة المارك الشرائية؛ ومع أن مجال العمل قد أتسع بتطبيق برنامج السنوات الأربع، وقضى على المطلة قضاء تماما واحتاجت ألمانيا إلى استيراد العمل من الخارج،فإن الطبقات العاملة تئن من الظروف المرهقة التي تعمل فيها، سواء من حيث الأجور أو ساعات العمل أو وسائل التغذية، ومع أن النظام الحديدي التي تعمل في ظله يقضي على كل تذمر في مهده، فإن بوادر التذمر تبدو من آن لآخر؛ وقد أذيعت أخيراً في داخل ألمانيا وخارجها بعض الأنباء عن حركات المعارضة الخفية ومن المنشورات السرية التي توزع بين العمال أو تلصق خلسة على الجدران. ورجال الجستابو (البوليس السري السياسی) پطاردون هذه الحركات بلا رأفة، ويسيغون عليها تهم التجسس والخيانة العليا.  وقد أشارت الصحف الألمانية في المدة الأخيرة إلى كثير من المحاكمات التي جرت في هذا الشأن وقضى فيها بالعقوبات الشديدة ومنها الإعدام. وشهد في محطات السكك الحديدية والميادين العامة إعلانات كبيرة فيها تحذير من التجسس والخيانة العليا و بيان للعقوبات المروعة التي قررت لمرتكبي هذه الجرائم؛ وفي نشرها بهذه الصورة البارزة دليل على القلق الذي ساور السلطات من انتشار روح المعارضة والخروج على النظام. وإنك لتشهد بوادر هذا التذمربين باقي الطبقات. وفي وسعك أن تلمس ذلك بالأخ في كثير من التضيحات والتعليقات بالتي تلقى عرضاً في  الفندق وفي المقهى وفي المتجر وفي عربات الترام والأسيبوس وغيرها . وهذه التلمحيات تلقى بحذر وإهتمام أجنبي تؤمن عاقبته وفيما بين الجدران الصامتة. وقد سمنا الكثير منها من رجال وسيدات من مختلف الطبقات، وكنا نتلقاها دائماً كما نتلقى الأسرار الرهيبة وكأنها كابوس يسريه الإفضاء؛ ذلك أن التصريح أو المجاهرة بها خطر يحسن اجتنابه دائماً.

        والشعب الألماني يسوده اليوم نوع من الحيرة والشك في مصيره. فهو يشعر بأنه قوي من الناحية العسكرية، وأنه استطاع بالجهد المتواصل أن يعيد إلى ألمانيا تفوقها العسكري القديم، ولكنه يخشى من جهة أخرى قوی انكلترا وفرنسا المتحدتين. ولقد سمعنا موظفاً سیاساً كبيراً من النازي المتطرفين يقول إن ألمانيا تستطيع الظفر في أية حرب محلية تخوضها، ولكنها إذا أرغمت أن تخوض حرباً أوربية عامة أو حرباً عالمية فإن ذلك يكون نهاية الوطنية الاشتراكية ( الهتلرية ) ونهاية الأمة الألمانية مهما تكن القوى الحليفة التي تؤازرها. وهذا الرأي هو الغالب بن كثيرين من المثقفين والمتنورين. على أن هؤلاء لم يخفوا في الوقت نفسه ثقتهم بأن الزعيم (هتلر) مصمم على ألا يشتبك في أية حرب غير محلية وأنه يستعطیع أن يحقق مطالبه دون حرب، وأنه لن يرتكب قط مثل الخطأ الذي ارتكبه الساسية الألمان وأركان الحرب الألماني في سنة 1914 فيزج بألمانيا في أتون حرب عالية.

   وقد كان هم الدعاية الألمانية منصرفاً في الأيام الأخيرة من أغسطس، أعني في الأيام القلائل التي سبقت نشوب الحرب، إلى إقناع الشعب الألماني بأن انكلترا وفرنسا لن تدخلا الحرب إلى جانب بولونيا، مهما كانت الظروف والأحوال ، و بأن بولونيا فريسة سهلة لن يقتضی غزوها والإجهاز عملها سوى أيام قلائل، وكان الجمهور يميل إلى تصديق هذا التأكيد ، وكانت سابقه میونیخ ماثلة أمام عينيه، يأتنس بها، وينسج على منوالها، ويری في تردد السفير البريطاني على دار المستشارية بالردود والمقترحات دليل التسليم السلمي بمطالب ألمانيا. ولم تر في الواقع ألمانياً يعتقد أن انكلترا وفرنسا ستدخلان الحرب ضد ألمانيا، تأييداً لبولونيا، ولكي تحولا بذلك دون تحقيق ما يصفونه بأماني ألمانيا المشروعة؛ ومع ذلك فقد كانت هذه الفكرة، أعني دخول انكلترا وفرنسا الحرب تزعج الجمهور أيما إزعاج؛ وذلك بالرغم من كل ما تذيعة الدعاية الألمانية حول ضعف انكلترا ونقص أهبتها؛ ولم ينس الشعب الألماني عبرة الحرب الكبرى، ولم ينس بالأخص ماعاناه من آلام الجوع والحرمان في أواخر الحرب الكبری من أثر الحصار البريطاني لألمانيا، ولم ينس أن ألمانيا كانت تملك يومئذ قوة بحرية كبيرة، فلم تغنها شيئاً، فما بالك وألمانيا ليس لها اليوم أسطول يعتد به ؟ 


     والخلاصة أن الدلائل و القرائن كلها تدل على أن النظام الهتلری يواجه في الداخل موجة من التذمر والاستياء لا سبيل إلى إخفائها، وأن الأحوال الاقتصادية المرهقة التي يعانيها الشعب الألماني بجميع طبقاته، تزيد هذا الاستياء وتذکیه. ومن المحقق أن دخول ألمانيا في الحرب ويضاعف المتاعب والأخطار التي تواجهها الاشتراكية الوطنية (الهتلرية). وقد يكون من سبق القول أن نتحدث الآن عن المعارضة المنظمة في ألمانيا النازية؛ ولكن الذي لا ريب فيه هو أن عناصر هذه المعارضة تتكون بسرعة بين جميع الطبقات، وقد لا يمضي بعيد حي تضطر المصابة الهتلرية للكفاح عن سلطانها وكيانها في الداخل؛ وفي اعتقادنا أن أول هزيمة خطيرة يلقاها الجيش في ميدان الحرب كفيلة بإنهيار سلطانها ونظمها.



مجلة الثقافة / العدد 42 / بتاريخ: 17 - 10 - 1939

4- أيام الفزع


في سبتمبر من الماء الماضي، حينما اضطرمت الأزمة الدولية من جراء مسألة السوديت، کنا طوال الوقت في ألمانيا، فشهدنا تطورات الأزمة كلها ، وسمعنا كل خطب هتلر الرنانة في مؤتمر نيومبرج، وفي قصر الألعاب (شبورت بالاست)، ورأينا مواكب الحرب الصاخبة تترى أمام أعيننا، وقطعنا في فنيا مديدة في الظلام الدامس؛ ومع ذلك فقد كان يخالجنا شعور عميق من التفاؤل، واعتقاد راسخ بأن الحرب لن تنشب هذه المرة.

    ولكننا حينما هبطنا إلى برلين في أواخر أغسطس الماضى، لم يكن يخالجنا مثل هذا التفاؤل؛ ذلك أن نذر العاصفة كانت تبدو في الأفق على أثر عقد الميثاق السوفيتي الألماني؛ وكان الجزع يسود كل مكان وكل مجتمع، ولكن شخصية واحدة من لقينا كانت لا تزال تحتفظ خلال الجزع العام بكل هدوئها وتفاؤل: كان صديقنا الذكي اللبق أمين بث رسم قنصلنا لي برلين - جزاه الله من وافر شهامته ومروءته خير الجزاء، وأسبغ عليه جميل رعايته، فهو قد ألفي أن يغادر برلين قبل أن يغادرها آخر مصري، وهو لا يزال هناك رهن تصرف القدر - يعتقد دائماً أن الحرب بعيدة الوقوع؛ وكان هذا رأيه منذ العام الماضي، حينما التقينا به ذات مساء في أوائل اکتوبر في قهوة (صاخر) الشهيرة في فينا، على أثر مؤتمر ميونيخ وانقشاع أزمة السودیت؛ وقد استقبلنا هذه المرة في برلین بابتسامته الساحرة، وأكد لنا أنه لا يزال متفائلا بنسبة تسعة وتسعين في المائة، وأن نشوب الحرب رهين بواحد في المائة فقط.

    ولكن لم يأت على ذلك يوم أو يومان حتى انقلبت الآية، وغدا من الواضح أن كفة الحرب قد فازت بنسبة التسعة والتسعين، وتركت لاسلام واحد في المائة فقط؛ وكان لا زال بصيص ضئيل من الأمل يساور النفوس الجزعة من جراء زيارات السفير البريطاني للمستشار هتلر، وتردده بالمقترحات والردود بين برلين ولندن، ولكن طللائع الحرب من جهة أخرى كانت تترى بسرعة؛ ففي يوم السبت ۲٦ أغسطس صدر نظام البطاقات الشخصية بالنبسة الأطعمة والمواد الضرورية؛ وفي نفس اليوم قيدت المواصلات على السكك الحديدية الألمانية، وخفضت تخفيظاً عظيماً، وأوقفت القطارات الدولية وقطارات الحدود، وهرعت الجاليات الأجنبية إلى مغادرة العاصمة الألمانية بناء على تعليمات مثلها، وفي مقدمتها الأنكليز والفرنسيون واليابانيون والترك.


وقصدنا نحن المصريين في صباح يوم الأحد ۲۷ أغسطس إلى المفوضية المصرية، لنقف على مجرى الأمور؛ ولم تكن هناك تعليمات أو نصائح واضحة تلقي إلينا، وكل ما استطعنا أن نعرفه هو أنه وردت برقية بأن (الكوثر) تنتظر المصريين في مرسيليا؛ وفي اليوم التالى، هرعنا مع باقي إخواننا المصريين إلى دار المفوضية مرة أخرى، فعلمنا عند الظهر أن المفوضية اتصلت بالسلطات الألمانية في فيلهلم شتراسه (وزارة الخارجية) وحصلت على جميع التأكيدات اللازمة بالنسبة للمصريين، فمن شاء البقاء مهم فليفعل، ومن شاء السفر فليسافر، دون قيد ولا حرج؟ وأن مبلغاً كبيراً أرسل من مصر إلى المفوضية ليكون رهن الطواريء، ولمساوية من تعوزه الموارد، وأنه لا محل للازعاج.


    ولكن هذه التأكيدات كان ينقصها الطابع العملي؛ ذلك أن مواصلات قيدت،ولم تبقى حسبما علمنا من المصادر المختصة، ثمة مواصلات عادية مع فرنسا أو سوسيرا أو بلجيكا، وقد أغلقت الجنود الفرنسية والسويسرية؛ فكيف السبيل إلى العودة إذا؟ لم يكن بوسع مكاتب السفر أن تقدم إلينا أية معاونة أو معلومات ، وترددنا على محطات برلين أنهالت، و فريدريش، وغيرها، وكانت جميعاً غاصة بالناس، وكان الأنزعاج بادياً على جميع الوجوه، وكانت مكاتب الاستعلامات تحاصرها جموع كبيرة، وتتصدرها صفوف طويلة من المستفهمين؛ وكنا نلقى من الموظفين أجوبة موجزة عامة؛ وكل ما علمناه هو أن السفر ممکن إلى العواصم الألمانية الداخلية، مثل كولونيا، ميونيخ، فينا و غيرها، أما قطارات الحدود فليس يعرف شیء عنها، ولا يضمن بشأنها شيء.

   وكنا عندئد في الأيام الأخيرة الحاسمة؛ ولم يبق عندئذ شك في انقضاض العاصفة . متي ؟ في أقرب فرصة بلا ريب، وكانت العاصمة الألمانية يسودها عندئد نوع من الهدوء المريب الذي لا يكاد يستر ما وراءه، وكانت مقاهي (والكورفرستندام) تسطع ليلاً كعادتها، وتغص بالحضور؛ ولكن طابعاً من الوجوم العام كان يسود في كل مكان، وكانت طبعات الصحف وملاحقها الخاصة، وتلهف الناس على تخاطفها، وتلهفهم على سماع الإذاعة الأخبارية، مما يبعث الكآبة إلى النفس، ويذکرنا في كل لحظة بأن الكارثة أصبحت وشيكة الوقوع. 

     وقد لمست أثر هذا الجزع العام في النزل الذي كنت أقيم به؛ فقد كان هذا البنسيون الكبير الفخم قبل يومين غاصاً بالضيوف، ولكن أصبحت يوم الثلاثاء ۲۹ أغسطس فلم یکن به إنسان سواي وسوى زميل مصري آخر، وفد إليه مؤخراً.

    وفي هذا اليوم قررت السفر، ومغادرة ألمانيا بأي وسيلة، ورأيت أني أقصد میونیخ، ثم أرى هناك ما يمكن عمله! وقصدت مساءً إلى محطة أنهالت، وكانت تعج بالناس عجاً، كان ثمة ثلاثة قطر ستسافر تباعاً إلى میونیخ؛ ومع أني وصلت قبل أن يقوم أولها بنحو ساعة، فإني لم أجد موضعاً لقدم، فوقفت في رواق العربة مع كثيرين من ركاب الدرجتين الأولى والثانية رجالا ونساءً؛ وكان المسافرون مزيجاً دولياً عجيباً، فمنهم يابانيون، وسويسريون وترك، ويونان، وإيطاليون، وأمريكيون … الخ؟ وكان الانزعاج بادياً على الجميع، وكانت هنا وهناك مناظر وداع مؤثرة، وقبلات و عناق، وأنات ودموع؟ ولن أنسی منظر ميونيخ في تلك الليلة؛ فقد كانت کساحة الحشر، وكانت الجماهير المتراصة ألوفاً مؤلفة، بأمتعتها وحقائبها، كأنها جيش منهزم يبحث من سلامته؛ ولما تحرك القطار بقى الضجيج لحظة، ثم ساد بينا هدوء موحش تحت المصابيح القائمة؛ وسار القطار حثيثاً صوب الجنوب؛ وكانت ليلة صافية الأديم، والقمر يرسل أشعته على المدن، والبسائط العديدة التي نمر بها؛ وکنا طول الليل نری من خلال النوافذ عشرات القطارات تسير في مختلف الأنحاء، وهي غاصة بالجند، والمدافع، والسيارات، والدبابات، ينعكس عليها ضوء القمر؛ ورأينا أروع هده المناظر على مقربة من نیرمبرج، حيث كانت تبدو كمعسکر هائل؛ و کنا تأمل هذه المناظر صامتين واجمين، ولم يجرؤ إنسان على الملاحظلة أو التساؤل.

    وصلنا إلى ميونيخ في صباح اليوم التالى - يوم الأربعاء٣٠ أغسطس - بعد رحلة مضنية، متأجرين ساعتين أو ثلاثاً عن الموعد المعتاد؛ ورأينا في ساحة محطتها الكبيرة نفس المناظر التي رأيناها في محطة أنهالت : جموع خاصة تروح وتجيء، وصفوف طويلة من الناس أمام مكاتب الاستعلامات؛ وقضينا اليوم في السؤال التحري من خير الطرق لمغادرة ألمانيا، فعلمنا أن الحدود الفرنسية (كیل - شتراسبورج ) قد أغلقت نهائياً، وأن الحدود السويسرية الشمالية كلها (شافهاوزن وبازل) قد أغلقت أيضاً، ولم يبق مفتوحاً سوى محطة (لفالد) من الشرق، ولكن للسويسريين فقط؛ وكان طريق إيطاليا (برترو) مفتوحاً، ولكن هل كان ثمة ما يشجع على سلوك هذا الطريق، خصوصاً بعد أن جاءت الأنباء باغلاق البحر الأبيض المتوسط، ووقوف السفن الايطالية في موانيها؟ و عندئذ لم يبق أمامنا سوى طريق الشرق والبلقان، فسافرنا في مساء نفس اليوم إلى سالزبورج؛ وأنتظرنا هنالك من منتصف الليل حي الفجر، لكي نتمكن من اتخاذ القطار الوحيد الذي يسافر إلى فينا؛ ورأينا في محطة سالزبورج منظراً غريباً! فقد كان مطعمها الشاسع غاصاً بالناس، وهم ما بين قائم ونائم على مائدته أو حقيبته؛ وكان القائمون يشربون أقداحهم أويدخنون لفائفهم ذهولا، وكانت الأنوار ضئيلة، والأصوات خافته؛ ولقد آثرت أن أتجول في مدينة موتسارت التي أعرفها جيداً ، على أن أبقي إلى جانب هذا المنظر الموحش؛ بيد أني ما كدت أجوس شوارعها، حتی ذعرت لما یسودها من الفقر والكآبة، وقد رأيت معظم فنادقها الشهيرة، التي كانت تعج أيام موسمها الموسيقى الشهير، مثل فندق أوربا، و برستول و غيرها، وقد أغلقت نهائياً. 

      وفي الفجر ركبنا القطار إلى فينا، وكان غاصاً لا موضع به لقدم، وكان الركاب مزيجاً من مختلف الجنسيات، وكانت أمارات اللهفة والتساؤل تبدو على جميع الوجوه، هل تصل حقا إلى فينا؟ ومتى؟ هذا ما كان يجهله موظفو القطار أنفسهم، وكان ثمة سؤال يحرق كل شفة، هل تقع الحرب؟ ولم تجد في جرائد الصباح شيئاً؛ سمعنا أخبار الإذاعة من آلة رادو كانت مع آنسة مسافرة معنا فلم نقف منها على جديد، ولكن منظر القطر المحملة بالمدافع والدبابات والذخائر في كل مكان كان خير جواب على سؤالنا وكان يثير في نفوسنا أفكاراً مشئومة.

     وأخيراً وصلنا بعد العصر إلى فينا بعد رحلة شاقة، وقد أستغرقنا ضعف الوقت المعتاد. وكانت العاصمة النمسوية هادئة، ولكنها فقدت كل مظاهر بهجتها القديمة وأقفرت مقاهي (الرنج) الشهيرة من زوارها. 


      وكان يوم الجمعة أول سبتمبر بوماً حاسماً، ففي الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ألق هتلر خطابة المشئوم، وصرح فيه بأنه أعطى الأوامر بالزحف على بولونيا. 

     وكانت الجوع تعسى واجمة جزعة في كل مقهى و كل میدان، وكأنها تسمع الحكم على مستقبلها ومصيرها؟ واستمرت محطات الإذاعة إلى ما بعد منتصف الليل تكرر إذاعة الخطاب، ويرغم الجمهور على سماعه في كل مقهی ومتدى؛ وفي مساء نفس اليوم صدر قانون بربري يعاقب الذين يستمعون من الألمان إلى الإذاعات الأجنبية في منازلهم بالحبس سنتين، فإذا نشروا بين الجمهور ما سمعوا من الأخبار، كانت العقوبة الإعدام.


وفي اليوم التالي علمت من صدیقي صفوت باك قنصل مصر في فينا، خلاصة ما سمعه من الاذاعة الخارجية من الأنباء الهامة؛ وهو أن انكلترا وفرنسا وجهتنا بالأمس إنذارهما الشهير إلى الحكومة الألمانية، باعلان حالة الحرب معها إذا لم تسحب جيوشها من بولونيا في ظرف ثمانية وأربعين ساعة، وأن السنيور موسوليني ألقى تصريحه الخطير بأن إيطاليا لن تدخل حربا اعتدائية؛ ولم تنشر هذه الأنباء في الصحف الألمانية، ولم يعلم بها سوى القليل ممن أتيح لهم أن يتلقوها من محطات الإذاعة الأجنبية - 

     ولم يك عندئذ شك في وقوع الکار ثة ، ولم يبق سوى التساؤل عن المدي الذي تبلغ إليه.

     وفي وسط الظلام الحالك الذي خيم على فينا منذ أول سبتمبر، أعددت حقائبي. وفي صباح يوم الأحد الثالث من سبتمبر، كانت عدة من الأوتوكارات الكبيرة الفخمة التي تسير بين فينا وبودابست، قد اصطفت منذ الصباح الباكر في ميدان (شفارترنبرج) لنقل جماهير الأجانب الذين آثروا مغادرة هذه الديار التي غدت في ظل الحكم النازي وظل الحرب القائم جحيما لا يطاق؛ فاتخذت مکانی في إحداها؛ و تنفست الصعداءحينما سارت بنا العربة الفخمة التي غدت وسيلة السفر الوحيدة إلى بودابست بعد بعد أن وقفت القطر. وما كدنا نصل إلى العاصمة المجرية، ونستريح ساعات قلائل، حتى علمنا أن الإنذارین الإنكلیزی والفرنسي للحكومة الألمانية قد انتهى أجلهما، وعدت انكلترا وفرنسا في حالة حرب مع ألمانيا. 

     ومثلت في الحال أمام أعيننا الحقيقة الروعة: لقد بدأت الحرب العالمية الثانية.


مجلة الثقافة (1939)