بين هتلر ونابليون
محمد كامل الصيرفي
يستطيع الباحث المدقق أن يتبين من سير الحوادث العسكرية والسياسية في هذه الحرب الحالية أن هتلر يتتبع - إن عفواً أو قصداً - نفس الخطوات التي تتبعها نابليون الأول إمبراطور فرنسا في السياسة والحرب، حتى أصبح أكثر من فرد واحد يجزم تماماً بأن نهاية هتلر سوف لا تختلف كثيراً عن نهاية سيده ومثله الأعلى نابليون.
بدأ نابليون وهتلر حياتهما العسكرية والسياسية تموج نفسهما بحب العظمة والغرور، فرأينا الهر هتلر حارباً نمسوياً ينظم إلى صفوف الجيش الألماني في الحرية الماضية جنديا بسيطاً ليس له شأن يذکر. فلما خرجت ألمانيا مهزومة مدحورة منهوكة القوى في عام ۱۹۱۸ م، بدأ ذات النمسوي الماكر يشق طريقه قدماً إلى الأمام، وسرعان ما لاح في الأفق أن ذلك الجندي البسيط سوف يكون له من الحظ السعيد ما يفوق غيره من البشر، واستطاع فعلاً بمساعدة شرذمة بسيطة من أعوانه بعد مضي فترة من الزمن أن يصل إلى منصب المستشار الأعلى للرايخ الألماني؛ وعقب وفاة المارشال هندنبرج خطا هتلر خطوة أخرى أوصلته إلى منصب دیکتاتور الدولة وسيدها الأجل وعاهلها الأول.
وفي حالة نابليون نراه يبدأ حياته العسكرية والسياسية ضابطاً كورسیكياً (ولد نابليون في جزيرة كورسيكا، وكانت في ذلك الوقت تابعة لفرنسا) بسيط في الجيش الفرنسي، فكأنه غريب عن فرنسا، إلا أنه استطاع بمهارته وحذقه أن يصل إلى زعامتها؛ وهو في هذه الحالة شبيه لهتلر الذي توصل إلى زعامة ألمانيا مع أنه نمسوي الأصل.
وقد بدأ كل من نابليون وهتلر حياتهما السياسية بعد وصولهما إلى أكبر مناصب الدولة، في كل من فرنسا وألمانيا بسلسلة عظيمة من الانتصارات الحربية والسياسية الهائلة.
فمنذ عام ۱٧۹۹إلى عام ۱۸۱۱ استطاع نابليون أن يحرز نصراً كاملاً مبيناً على دول أوربا جميعها؛ ونرى هتلر بدوره يبدأ كفاحه السياسي والحربي بسلسلة طويلة من الانتصارات. فمنذ عام ۱۹۳۹ م إلى أواخر عام ۱۹٤۲ تمكن هذا العاهل الألماني منقهر أوربا كلها: فتسقط بولندا، وتخر كل من هولندا وبلجيكا صريعة في الميدان؛ ثم يخترق الحصون الفرنسية المنيعة، فتضطر الجمهورية الفرنسية إلى الإذعان والتسليم بمطالب النسر الألماني فتعقد معه الهدنة في يونيه من عام ۱۹٤۰ م. وقد استطاع هتلر نفسه أن يجبر هنغاريا ورومانيا وفلندا على الإذعان والتسليم لمطالبه، فتحتل جنوده بلادهم وتخرب دورهم، وبذلك أصبحت أوربا جميعها عند موطئ قدميه تدين له بالولاء والطاعة، وأن أوامره صاغرة.
وعقب سقوط فرنسا نری هتلر يقف شارداً مفكراً، إذ ليس أمامه سوى الجزيره النائية التي طالما تحدث عنها وحلم بدكها دکا، إلا أن قوة البحرية الألمانية لم تكن قادرة على تحقيق هذه الأمنية، فبدأ سلسلة طويلة من الغارات الجوية اعتقادا منه أن ما تلقيه طائراته من الرعب والفزع في قلوب البريطانيين سوف يمكنه من تنفيذ رغباته، ويساعده على إنزال جنوده على سواحل الجزيرة البريطانية؛ إلا أن هذه الغارات لم تأت النتيجة المرجوة، فبدأ حملة أخرى أراد من وراها عقد الصلح مع بريطانيا، وكان رسوله في هذه المرة صديقه و زميله الهر هيس، إلا أن الأسد البريطاني أظهر أنه أشد دهاءص ومكراً من النسر الألماني، فما لبث أن أسر هيس، وبذلك ضاعت آماله و آمال سيده هتلر في عقد الصلح.
وكان نابليون في عام ۱۸۰۷ م قد عقد معاهدة صداقة وتحالف مع روسيا، وكان غرضه من هذه المعاهدة تأمین ظهره لما سوف يقوم به من فتوحات في أوربا الغربية، إلا أن أحلام نابليون لم تتحقق، إذ كان يعتقد أن روسيا سوف تسلم بما آل إليه نفوذه وسلطانه في الغرب، فأظهرت الأيام عكس ما كان يرجوه، فقد بدأ الإسكندر قيصر الروس مبادأته ومعاداته. وعندئد تبددت أحلامه وأوهامه، ووجد نفسه في عام ۱۸۱۲ أمام تيارين: أحدهما يرمي إلى القضاء على عدوته الأولى إنجلترا وغزوها في بلادها، وإرغامها على التسليم بفتوحاته وانتصاراته العظيمة في القارة الأوربية التي امتدت من المانش شمالاً إلى البحر الأبيض جنوباً إلى جبال الكربات شرقاً؛ ثانيهما يرمي إلى الاعتداء على صديقته روسيا ليرغمها سريعاً على الإذعان له و إجبار قيصرها على التسليم دون قيد أو شرط. ولما كانت إنجلترا قوية شديدة البأس لا يقوى على فتح أراضيها أو النزول بجنوده على سواحلها، فقد فضل نابليون الاتجاه بقواته ناحية الشرق لينتهي من الروس أولا، ثم يالتفت إلى الجانب البريطاني قوياً شديد البأس، فتخر له بريطانيا صاغرة و تعترف له بفتوحاته الهائلة.
إلا أن الأيام أظهرت عكس ما كان يأمل، إذ أن غزو الروسيا في صيف عام ۱۸۱۲ واجتياح أراضيها ووصوله إلى موسكو ودخوله قصر الكرملين - قصر الحكومة الروسية - لم يجلب عليه سوى الهزيمة و العار، إذ کر علیه الروس وأرجعوه مهزوماً مدحوراً إلى بلاده تطارده فرسان القوزاق القوية الماهرة.
وفي حالة هتلر نراه يعقد في عام ۱۹۳۸ نفس المعاهدة التي عقدها نابليون مع الروس في عام ۱۸۰۷ م، وكان الغرض الألماني من هذه المعاهدة شبيهاً بالغرض الفرنسي النابليوني في السابق، إذ أراد هتلر أن يؤمن طهره لما يقوم به في أوربا في المستقبل القريب من حروب. فلما سقطت فرنسا في عام ۱۹٤۰ م، وجد هتلر نفسه أمام نفس التيارين اللذين وجد نابليون نفسه أمامهما في عام ۱۸۱۲ م، فهذه بريطانيا رابضة كالأسد بعد سقوط حليفتها فرنسا، وهذا عاهلها تشرشل يعلن على الملأ عزم الشعب البريطاني الأكيد على الاستمرار في الحرب ورغبته الأكيدة في دحر الألمان وزعيمهم هتلر - وهذه روسيا تقلب له ظهر المجن، وترتاع لهذا التقدم الهائل في البلقان، عقب تسليم بلغاريا ورومانيا وهنغاريا لمطالبه، وعقب اجتياح يوغوسلافيا واليونان؛ ففضل أن ينتهج السبيل الذي سار عليه نابليون في عام ۱۸۹۴، فغزا روسيا في نفس الوقت وفي نفس الشهر الذي غزاها به نابليون، فوصلت جنود في مدی عامين من ( ۱۹٤۱ - ۱۹٤۲ ) إلى قلب القوقاز، واحتلت عساكره بلاد الیوكرين. إلا أن الدب الروسي الذي طرد نابليون وتعقبه إلى حدود بلاده في القرن الماضي، استطاع بمهارته العظيمة وقوة شكيمة زعيمه ستالين أن يكر على النسر الألماني، فرده إلى بلاده مهزوماً، وها هو الآن يربض على حدود الرايخ الألماني ويهدد وينذر باختراقها والأحذ بثأر من هذا المعتدي الأثيم.
وفي الجملة يجعل بنا أن نقول إنه إذا كانت روسيا هي الصخرة التي تحطمت عليها آمال نابليون وأمانيه في عام ۱۸۱۲، فإنها نفسي الصخرة التي حطمت بل انهارت عليها جل آمال هتلر في عام ۱۹٤۳م.
وعقب غزو الروسيا من كل من العاهلين الفرنسي والألماني تبدأ فترة جديدة في حياة كل منهما، إذ يصبح كلاهما عند مفترق الطرق؛ فالتقهقر النابليوني عن البلاد الروسية كانت له رنة فرح عظيمة في أنحاء القارة الأوربية، فهذا هو الإمبراطور اللذي دوخ أوربا واقتلع عروشها فطأطأ له ملوکها رؤوسهم صاغرين، ينهزم لأول مرة في حياته أمام جحافل الروس الهائلة! فلما رأت أوربا هذه الهزيمة الساحقة سرت روح القومية بین شعوبها وأخذوا يأملون في تلك الساعة التي يستطيعون خلالها تحرير أنفسهم من ربقة الحكم الفرنسي؛ وسرعان ما انضمت السويد والنمسا إلى بروسيا والروسيا وإنجلترا، فقويت شركة الحلفاء، و أطبقوا عليه بجنودهم، فسلم صاغراً ورضي لنفسية النفي إلى إلبا؛ ودخل الروس والإنجليز باريس وقضوا على أنصار ذلك الطاغية الجبار. وإذا كان نابليون قد استطاع العودة إلى بلاده وإعادة ملكه من جديد، فإن هذا النصر المفاجيء لم يطل، إذ انهزمت جنوده مرة أخرى في صيف عام ۱۸۱٥ على يد القائد الإنجليزي ولنجتون، وبذا ضاعت إمبراطورية نابليون، ودفنت معها آماله ومطامعة.
وهذا هو هتلر يتقهقر من بلاد الروس فيصل إلى حدود ألمانيا مهزوماً مدحوراً، ويجبره الإنجليز على التقهقر عن شمال إفريقيا، ثم ينزلون جنودهم في إيطاليا، و يفتحون جبهة جديدة في شمال فرنسا وأحرى في جنوبها، وتتقدم قوتهم فتحتل باريس وبروكسل؛ وتخطو جنودهم قدماً إلى داخل الأراضي الألمانية، فتنتبه أذهان أوربا، فيقاومه الفرنسيون ويجبروه على التقهقر سريعاً أمام قوات الحلفاء االعظيمة، ويعمد الأتراك إلى قطع علاقاتهم بألمانيا، وتطلب رومانیا وبلغاريا وفنلندا وهنغاريا الصلح من الحلفاء، وذلك تقوى شكيمة الجانب البريطاني، ويلوح في الأفق أن ساعة هتلر آتية لا ريب فيها، كما حلت ساعة زميله نابليون من قبل.
مجلة الثقافة / 1944
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق