ألمانيا الهتلرية كما عرفتها
تحقيق ومشاهدات واقعية
للأستاذ محمد عبدالله عنان
1- شعب يعيش بمعزل عن العالم
حينما هبطنا الشاطئ الأوربي في منتصف أغسطس، كان ثمة شعور من التفاؤل يبدو في كل مكان. وكان ثمة أمل يلوح في الأفق بأن الأزمة الأوربية التي أثارتها ألمانيا حول مسألة دانزيج والممر سوف تحل بالمفاوضة والتفاهم . ولم تك ثمة بوادر تدل على أن العاصفة توشك أن تنقض بمثل هذه السرعة الصاعقة؛ وكان كل ما يزعج الرأي العام الأوربي هو الاستعدادات الحربية العظيمة التي تقوم بها ألمانيا حول الحدود البولونية. غير أنه كان يخفف من هذا الازعاج الاعتقاد بأن ألمانيا - جريا على سابق خدتها - إنما ترمي إلى الضغط على بولونيا والدول الديمقراطية بتحقيق غايتها دون حرب، على نحو ما وقع في أزمة سبتمبر الماضي .
ولم نلاحظ مدى الأيام القلائل التي قضيناها في سويسرا شيئا من الانزعاج، ففي جنيف كان الهدوء يسود كل شي ؟ وكانت المدينة الباسمة التي أسبغت عليها عصبة الأمم طابعاً سياسياً خاصاً، تموج بالزائرين من كل صوب من عشاق بحيرتها وسحرها، وتسطع بالليل كالآلئ المنيرة؛ وكانت زيوريخ عاصمة سويسرا الصناعية مشغولة بمعرضها القومي، تموج بالآف الوافدين عليها لزيارته. وكانت أمارات الرضى تبدو في كل مكان على هذا الشعب النشط الرغد. ولكن الشعب السويسري مع ذلك كثر اليقظة، يتتبع الموقف الدولى بعناية، وينظر إلى حركات ألمانيا بكثير من التوجس. وقد سمعت من أستاد سويسري كان زميلي في السفر فيما بين لوزان وچنیف، أن سويسرا ليست مطمئنة إلى سير الأحوال الدولية، وأنها على قدم الأهبة، ولا سيما من ناحية الحدود الشمالية، وأنها ترتاب كل الريبة في نيات ألمانيا و مقاصدها، وتزمع أن تقاوم الاعتداء عليها بكل ما وسعت. وأنذرني سائق السيارة التي أقلتني إلى المحطة، حينما علم أني أقصد السفر إلى برلين، بأن الأخبار الأخيرة لا تدعو إلى الإطمئنان؛ وأن شبح الحرب بلوح قويا في الأفق. وقد كانت الصحف السويسرية الصادرة في مساء اليوم وهو يوم ۲۱ أغسطس تؤيد في الواقع هذا التشاؤم..
ولما وصلنا إلى محملة أنهالت ( برلين ) في صباح يوم الثلاثاء ۲۲ أغسطس كان كل شيء عادياً، ولم يك ثمة ما يلفت النظر سوی شیء واحد، هو صدور الصحف الألمانية هذا الصباح بعناوين ضخمة بارزة عن مشروع الميثاق الألماني السوفیینی، و من سفر وزير الخارجية فون ريبنتروب إلى موسكو لتوقيعه، وكان هذا أول نبأ نشر عن هذا الميثاق. وكانت مفاجاة لها في الجماهير أعظم وقع، وكانت الدهشة تعلو وجه كل قارىء. ولا غرو فقد لبث الشعب الألماني أكثر من ستة أعوام يسمع زعمائه وقادته أشد المطاعن والتهم في حق حكومة السوفيت وزعمائها البلاشفة؛ وقد ذكره هتلر في كتابه (كفاحي) بأشنع النعوت ووصفهم بأنهم مجرمون لوشت أيدهم بالدماء، لا شرف لهم ولا ذمام؛ وما زال إلى أشهر قلائل يحمل عليهم في خطبة أقسى الحملات. فما هو السر في هذا التحول العجيب في سياسة الزعيم ؟
كانت أمارات التساؤل تبدو علي جميع الوجوه، ولكنه تساؤل في صمت وذهول واستسلام، فلا كلمة ولا ملاحظة إلاهمساً وفيها بين الجدران، حينما كانت تسنح لنا فرص الحديث مع الألمان القلائل الذين يخاطرون الكلام معنا. ذلك أن الشعب الألماني ليس له أن يتكلم أو يلاحظ، وعليه فقط أن يستمع وأن يطيع؛ والواقع الذي يلفت نظر الزائر الأجنبي بنوع خاص هو أن الشعب الألماني يكاد يعيش في عالم وحده، وأنه (الرجل المادي) لا يعرف شيئاً عما يدور خارج ألمانيا، وليست لديه أية فكرة صحيحة عن موقف الدول الأخرى و تصرفاتها، ولا يعرف من ذلك إلا ما تقدمه إليه الصحف الألمانية من صور وأنباء تباعد الحقائق المعروفة. والصحف الألمانية - وهي تعد بالآلاف - تصدر في ظل النظام الهتلري في أوضاع واحدة، ولا تكاد تختلف محتوياتها في الشئون العامة الداخلية والخارجية في شيء، سواء من حيث التحرير و اللهجة؛ وإنك لتقرأ في اليوم الواحد الصحيفة بعد الصحيفة فالا تقع على جديد مطلقاً، و كل محتوياتها وتعليقاتها في جميع المسائل الهامة من وضع وزارة الدعاية، وهي جميعاً صورة واحدة في جميع أنحاء ألمانيا، وعلی جميعاً سخيفة مملة بما تفرق فيه من صنوف الارجاف المنظم والدعاية المتماثلة. ففي الفترة التي تقدمت نشوب الحرب كانت أنكلترا مثال تقدم إلى الشعب الألماني في صورة عدو خطر يتحرش بألمانيا ويعمل على تطويقها ويحرض خصومها عليها، وأنها تقف حجر عثرة في سبيل أمانيها القومية، و نشجع بولونيا على موقفها العدائي، ثم تقدم إليه في نفس الوقت كدولة شاخت ولحنها الوهن، وأنها لن تجرؤ بأي حال على محاربة ألمانيا أو الوقوف في وجهها. وفرنسا تقدم إليه في صور مماثلة ، وأنها عدو ألمانيا التاريخي الذي يجب سحقه. وبولونيا تقدم إليه في صورة أمة همجية تنكل بالألمان وتمعن فهم قتلا و تعذيباً، ويجب الانتقام العاجل منها. والصحف الألمانية تمعن في نشر هذه الأراجيف باستمرار، ولا تنقطع محطات الاذاعة بالنهار أو الليل عن تكرارها. والألماني المستنير لا يكاد يؤمن بشیء منها. وقد سمعت من كثيرين أنهم لا يعتقدون في صحة شيء من هذه الأراجيف . وذكر لي شخص مثقف أنهم يقدرون أن عشرة في المائة فقط من هذه الأخبار يمكن تصديقها. ولكن (الرجل العادي) يقبل على سماعها ويعلق عليها، وعلى هذا (الرجل العادي) الساذج المستسلم يعتمد هتلر ونظامة قبل كل شيء.
أما الوقائع والتطورات الدولية الهامة فلا يكاد الشعب الألماني يعرف شيئا عنها. فهو مثلاً لم يعرف شيئاً عن موقف انكلترا وفرنسا خلال الأزمة، ولا عما دار في البرلمان البريطاني ولا عن تصريحات مستر تشمبرلين في إصرار انكلترا على تأييد بولونيا. ولم يعرف شيئاً عن تصريح السنيور موسوليني في مساء أول سبتمبر بأن إيطاليا لن تدخل حربا اعتدائية، وستحتفظ بحيدتها؛ بل لم يعرف شیناً عن البلاغ النهائي الذي وجهته انكلترا وفرنسا إلى ألمانيا في نفس اليوم، ثم عن إعلان حالة الحرب ضد ألمانيا من جانب انكلترا وفرنسا على أثر انتهاء مدة البلاغ النهائي في يوم الأحد ۳ سبتمبر. أجل لم يعرف الشعب الألماني شيئاً عن هذه الأحداث الجسام إلا بعد ذلك بأيام. ولم يعرفها في حينها إلا القلائل ممن أتيح لهم الاستماع إلى الاذاعة الأجنبية أو سمعوها من بعض الأصدقاء الأجانب. أما الصحف الأجنبية فلم يكن يرد منها إلا كميات قليلة جداً. وكان من أشق الأمور علينا خلال الأزمة أن نحصل على جريدة انكليزية أو فرنسية في وقتها. وفي اليوم الذي تصادر فيه الصحف الأجنبية - وهو كثيرا ما يحدث - يرد علينا دائماً بأنها نفذت ولم منها شيء.
وقد شعرنا ونحن نتلو نبأ عقد الميثاق الألماني الروسي بأنه يخفي و راءة بعض الأحداث الجسام، وشعرنا في الوقت نسه بأن الحكم قد صدر على بولونيا، وبأن العاصفة پوشك أن تبدو نذرها رغم هذه السكينة الظاهرة. ولم يمض يومان على ذلك حتى تم توقيع الميثاق وأذيعت نصوصه، وأخذت الصحف الألمانية ومحطات الإذاعة الألمانية تفيض في وصف هذا الانتصار الدبلوماسي الباهر التي أحرزته (الريخ) على الدول الديمقراطية، وتنوه بقيمة الصداقة الجديدة. ونشرت الصحف الألمانية خريطة روسيا، وبدأت لأول مرة منذ قيام الحكم النازي تتحدث عن مواردها العظيمة وتشير من طرف حق إلى أن ألمانيا تستطيع عند الحاجة أن تعتمد على هذه الموارد. وظهرت الصحف الروسية لأول مرة عند باعة الصحف. ولكن ذلك كله لم يبدد ما أحاق من الغموض بهذا التحول الفجائي في سياسة الهتلرين. وكانت أرجح النظريات في تفسير هذا التحول هو أنه وقع بناء على ضغط (الريخسفر) (الجيش الألماني) وأن (الريخسفر) لم يغفر قط لهتلر أنه أغضب روسيا وأثار عداوتها لألمانيا بحملاته المفرقة عليها المغرقة عليها، وأنه دفعه إلى استعادة صداقها، حتى إذا نشبت حرب بين ألمانيا وخصومها أمكنها أن تقاتل في جبهة واحدة وأن تكفل بمصادقة روسيا سلامتها في الجهة الشرقية؛ وعلى أي حال فإنه لم تمض سوى أيام قلائل حي ظهرت طلائع العاصفة التي سرعان ما انقضت على بولونيا.
مجلة الثقافة / العدد 40 / بتاريخ: 3 - 10 - 1939
2- أمة في طريق الجوع
تعيش ألمانيا الاشتراكية الوطنية ( الهتلرية ) من الناحية الاقتصادية في ظل أنظمة مصطنعة تناقض في معظمها قوانين الاقتصاد المرعية. والاشتراكية الوطنية تسخر موارد الشعب الألماني وثرواته جميعاً لبناء القوة العسكرية التي تحلم بأن تغزو بها العالم. وقد أرغمت من جراء ذلك على أن تلتجئ إلى القواعد والقيود الإستثنائية في كل ما يمس الاقتصاد الوطني. والمعروف أن موارد ألمانيا وثرواتها قد استنزفت خلال الأعوام الأخيرة في سبيل المعدات العسكرية، وأن اقتصادها الوطني يقوم الآن على أسس مصطنعة واهية.
وليس من غرضنا أن ندرس في هذا الفصل نظم ألمانيا الاقتصادية، وإنما نريد فقط أن نلقي نظرة عاجلة على مظهر من مظاهر هذه النظم، وما أدت إليه من دفع الشعب الألماني إلى براثن الضيق والحاجة؛ وأبرز هذه المظاهر بلا ريب، وأكثرها مساساً بحياة الشعب، هو حالة التغذية والتموين، وهي حالة تبعث اليوم إلى الشعب الألماني أعظم الوساوس والمخاوف .
وستعتمد في ذلك قبل كل شيء على المشاهدات الواقعة، ومشاهداتنا في ذلك ترجع إلى العام الماضي؛ وقد لاحظنا عندئذ في النمسا وألمانيا أن الأطعمة في نقص. وأن الأصناف الممتازة أصبحت نادرة، وأن الغلاء أشتدعن ذي قبل؛ وقيل لنا يومئذ إن ذلك لا يرجع إلى نقص في تموين ألمانيا، وإنما رجع إلى ما تقوم به السلطات من تخزين المؤن تحوطاً للميتقبل.
أما في زيارتنا الأخيرة لألمانيا ( قبل نشوب الحرب )، فقد شعرنا في الحال بأن أحوال التغذية قد ساءت إلى حد كبير، وأن الشعب الألماني يعاني حقيقة أزمة ظاهرة من الشظف والحرمان. وكانت بعض الأصناف تصرف منذ أشهر بطريق البطاقات مثل الزبد والبن والشاي، وكان الجمهور يتهامس بأن البطاقات ستشمل بعد أيام قلائل كل شيء؛ وقد كانت ذلك فعالا، فمنذ ۲۹ أغسطس صدر نظام البطاقات شاملا لمعظم الأطعمة والحاجات الضرورية، ووزعت على جميع أفراد الشعب الألماني، وعلى الأجانب النازلي في ألمانيا، وأمامنا نص القرار الذي صدر في هذا الشأن، متضمناً للأصناف والمقادير، وهذا بيان ما ورد فيه مخصصاً لكل فرد من أفراد الشعب .
الصنف المقدار
اللحم سواء بأصنافة العادية أو المقددة ۷۰۰ جرام في الأسبوع
منتجات اللبن أو الزيت أو الشحم ۰ ٦ جراماً في اليوم
السكر ۲۸۰ جراماً في الأسبوع
المربى ۱۱۰ = = =
ولكن أيضا استبدال المربى والسكر بمقدار ۵۵ = = =
الشعير اللؤلؤي والحب المجروش بأنواعة ۱۵۰ = = =
البن أو ما يقابله (⅛الرطل) ۳ ٦ = = =
الشاي ۰ ۲ = = =
اللبن ۰ ۲ر۰ = = =
(۱) ولأطفال الذين أقل من ست سنوات علاوة على ما تقدم نصف لتر من اللين في اليوم، وذلك بناء على شهادة من السلطات المختصة، فيكون أقصى ما يخصهم ۷۰ر۰ من اللتر في اليوم.
(۲) وللحوامل والأمهات المرضات ۰ ۳ ر ۰ من اللتر من اللبن، علاوة على ما تقدم في اليوم، وذلك بناء على شهادة السلطات المختصة، فيكون أقصي ما يخص الواحدة ۵۰ ر ۰ من اللتر في اليوم.
( ۳ ) والعمال الذين يزاولون أعمالاً شاقة من الزيت أو الدهن ۵۰ جراما في اليوم علاوة على ما تقدم به، و ٤٩٠ جراماً من اللحم علاوة في الأسبوع، أو بعبارة أخرى لهم أن يحصلوا في الأسبوع على ۱۱۹۰ جراماً من اللحم.
وتثبت حالة العمال الذين يزاولون أعمالاً شاقة وفقاً لنظام خاص.
صابون الغسيل ۱۲۰ جرامًا كل أربعة أسابيع
أو من صابون الزفر السائل ٢٠٠ = = = =
أو من صابون الزينة ١٢٥ = = = =
مسحوق الصابون ٢٥٠ = = = =
أو صابون الزفر السائل ٢٠٠ = = = =
أو صابون الزينة ١٢٥ = = = =
أو أية مواد أخرى للغسيل ۱۰۰ = = = =
أما عن الأقمشة فإنه يجب التزود بالبطاقات لشراء ما يأتي:
الثياب الخارجية للرجال والنساء - الثياب الداخلية - أغطية الفراش - اللوازم المنزلية - وكل ما بیع بالمتر.
کذناك يجب التزود بالبطاقات أيضاً لشراء الأحذية والبضائع الخلية.
والثياب والأحذية والبضائع الجلدية يمكن شراؤها إذا أقيم الدليل على ضرورتها، وذلك بناء على شهادة تعطي من السلطات المحلية.
وفيما يتعلق بالفنادق والبنسيونات والمطاعم والمستشفيات والمعاهد، فإنه يجب عليها أن تحصل على المقادير اللازمة لها من مختلف الحاجات بواسطة شهادات تعطى لها من االسلطة المختصة.
وإلى أن تصدر أوامر أخرى يمكن للأفراد الأكل في المطاعم دون تذاكر.
(وفي الأنباء الأخيرة أن ما يصرف إلى المطاعم من الشحم واللحم قد خفض إلى ٦٠ في المائة، وخفض ما يصرف من السكر إلى النصف، وذلك لكي لا يتجاوز الأفراد حدود البطاقات بالأكل في المطاعم).
وقد بقى الخبز والبطاطس والدقيق والفاكهة والبقول مؤقتاً حرة من قيود البطاقات.
هذه محتويات القرار الوزاري الصادر بتنظيم بطاقات الأطعمة والحاجات الضرورية. وقد علقت الصحف على هذا القرارتطمياً للشعب بقولها إنه لا يقصد به التضييق والحرمان، ولكن يقصد به التنظيم والتوزيع العادل حتى يستطيع كل أن يشتري ما يخصه، وحتى لا يطغى الأغنياء بمالهم على الفقراء، وإن ألمانيا لديها من المؤن المخزون ما يكفيها لمدة عام، هذا فضلا عن المحصول الجديد، وإن في وضع هذا النظام دليل على اعتماد ألمانيا على نفسها واستغنائها عن معاونة الخارج.
على أن هذه التعليقات المعسولة لا تغير شيئاً من الحقيقة المرة، وهو أن الشعب الألماني يعاني منذ أشهر حالة من شظف العيش تنذر بأن تغدو في القريب العاجل نوعاً من المجاعة الواضحة. ويكفي أن نلقى نظرة على المقادر الضئيلة التي تمنح للأفراد من اللحم والشحم والسكر والمربى في الأسبوع لنقدر هذه الحقيقة؛ وقد تقررت هذه المقادير قبیل نشوب الحرب، ولم تمض أيام قلائل على نشوبها حتى أنقصت جراية اللحم إلى ۵۰۰ جرام لكل شخص في الأسبوع، وأنقصت جراية السكر والزبد، ومنع اللبن من البالغين بتاتاً، ولا يسمح به الآن إلا للأطفال و الأمهات. وقيد بيع الخبز والدقيق وأخضع لنظام الجراية. وسوف تنقص هذه المقادر بالا ريب متی طال أمد الحرب. والشعب الألماني كما هو معروف شعب أكول، ويمكننا أن نتصور ما يعانيه في ظل هذا الحرمان من الآلام النفسية والجسمية. ولقد لمسنا من دلائل هذا الشظف والحرمان حينما تقلبنا في المطاعم والمقاهي، حتى قبل أن يصدر نظام البطاقات. ففي أكبر المطاعم البرلينية وأفخمها كانت تقدم ألوان محدودة جداً. هذا فضلاً عن رداءة معظم هذه الألوان وقدمها، وكان من النادر أن يقدم إلينا لون جيد طازج، والأطعمة المحفوظة هي الكثرة الغالبة، والبقول والفاكهة نادرة جداً؛ و الزبد أو الشحم المستعمل في الطهي أو الذي يقدم إليك في مختلف المناسبات وهو واحد دائماً هو أشنع ما يمكن تصوره رداءة وطعماً، بل هو كالسم اللاذع برائحته و طعمة الكريه. ولقد حدث أكثر من مرة أن قدمت إلينا في مطاعم فخمة في برلین و فينا ألوان وأطباق باردة متغيرة الرائحة كنا نرغم على أكلها خيفة الجوع. واشتريت ذات يوم من محل حلوى فخم في برلين فطائر منظرها شھی جميل لآكلها بالمنزل، ولكن ما كنت أتناولها حتى ذعرت لرائحتها الكريهة، وألقيتها في الحال في سلة المهملات، ولو عرضت مثل هذه الأطعمة في القاهرة لكان محققاً أن تعدمها وزارة الصحة وأن يحاكم مقدموها؛ وتقدمت في فينا إلى محل بقالة لأشتري بعض الأطعمة المقددة فراراً مما يقدم إلينا في المطعم، فقيل لي إنه لا سبيل إلى شرائها إلا بالبطاقة، ولم أحصل عليها؛ وقالت لي ربة منزل إنها تتوق منذ أيام إلى اقتناء شيء من البيض، وأنها لم توفق بعد البحث إلا إلى اقتناء بيضة واحدة. وذكر لي صديقي قنصل مصر في فينا أنه حاول أن يحصل لطفله على ربع لتر من اللبن فوق المقرر بالبطاقة، فطلب إليه أن يقدم شهادة من طبيب بحاجة الطفل إلى ذلك. والأمثلة الواقعية لا حصر لها على هذا الشظف الواضح الذي يعانيه الشعب الألماني، ومن المحقق أن هذا الشظف يزداد مع الأيام شدة، وقد يغدو قبل بعيد مجاعة حقيقية تفتك بصحة الشعب أيما فتك وتقضي على ما تبقى من قواه المعنوية.
وهل من حاجة إلى القول بأن تقرير نظام البطاقات الغذائية في ألمانيا حتى قبل نشوب الحرب هو أسطع دلیل على إفلاس النظام الهتلري من الناحية من الناحية الاقتصادية؛ إن هذه الحقيقة التي حاول الهتلريون إخفاءها طويلا تبدو اليوم بكل روعتها للشعب الألماني. وفي اعتقادنا أنها ستكون من أهم العوامل في تقويض أسس النظام الهتلري. ولقد منى الهتلريون الشعب الألماني طويلاً بأن قواهم العسكرية التي اقتضت حرمانه من لذائذ العيش الرغد، ستغدو كفيلة بأن تحقق له هذا الرغد بالاستيلاء على أراضي الأمم الأخرى وثرواتها بحجة الفضاء الحيوي وما إليه من النظريات الاستعمارية المغرقة، ولكن ظهر أن هذه الأمنية دونها معركة الحياة والموت، وأن الشعوب الأخرى تحرص على أراضيها و ثرواتها حرص ألمانيا الهتلرية على استلابها.
مجلة الثقافة / العدد 41 / بتاريخ: 10 - 10 - 1939
3- نذر الانحلال في النظام الهتلري
يتساءل الكثيرون عن موقف الشعب الألماني من النظم النازية ومن (الزعيم) هتلر وسياسته، وعما إذا كان الشعب الألماني يعيش راضياً في طل هذه النظم الحديدية المرهقة، وعما إذا كان بنوع خاص بؤيد هتلر في سياسته المغرقة؟ والجواب على ذلك يقتضي بعض التفصيل. ففي العام الماضي حينما كنا في ألمانيا خلال الأزمة الدولية التي أثارتها مسألة السودیت كنا نسمع من جميع الطبقات والأفراد ثناءً على هتلر و سیاسته التي أدت إلى ضم النمسا دون اهراق دماء، وكان الشعب الألماني يتحمس لفكرة الجامعة الألمانية وألمانيا الكيري. وكانت الأغلبية الساحقة تقف وراء هتلر في مسألة السودیت وتطری حزمه وشجاعته، و تعرب عن ثقتها التي لا حد لها فيه وفي عبقريته؛ وحتى في النمسا التي لم تكن قد أطمأنت إلى مصيرها بعد، کانت الطبقات الوسطي والعاملة تنعقد آمالها حول هتلر وحول النظام الجديد، وكانت ترجو أن تنال في ظلة الخير والرغد الاقتصادي، وكانت الأعمال الجديدة التي بدی بها تطبيقاً لبرنامج السنوات الأربع، والتي اقتضت تشغيل عدد كبير من العمال العاطلين، تعتبر مقدمة حسنة للانتعاش الاقتصادي المنشود؛ ولما تم لهتلر الفوز في مؤتمر ميونخ، وسلمت الدولتان الديمقراطيتان الكبيرتان بجميع طلباته، واحتوى على بلاد السودیت دون أية مقاومة، كان لفوزه أعمق الأثر في جميع الطبقات وارتفعت هيبته إلى الذروة، وأحيط شخصه بنوع من الإعجاب الذی يدنو إلى العبادة والتقديس.
ولكن اجتياح هتلر لتشيكوسلوفاكيا في مارس الماضي كان صدمة شديدة أصابت العقيدة النازية وأصابت هيبة هتلر، فقد كان الشعب الألماني يعتقد حسبما تملي عليه ألسنة وزارة الدعاية أن (الزعيم) يعمل فقط لمثل أعلى، هو جمع أشتات الجنس الألماني حول الأم الكبرى، فلما دخل (الزعيم) براج فاتحاً ولم يمض على تعهداته في مؤتمر ميونيخ باحترام استقلال تشيكوسلوفاکیا وتاكيداته العديدة بأنه لا يريد ضم (التشك) إلى ألمانيا، سوی أشهر قلائل، سقط قناع المبادئ والمثل العليا التي كان پستتر به، وتساءل الشعب : أين يسير (الزعيم) بألمانيا؟ وأخذ يوجس خيفة من الاتجاه الجديد الخطر الذي تتجه إليه السياسة النازية.
وكانت الأزمة الاقتصادية أثناء ذلك تشتد وطأتها على جميع الطيقات، ولما وضعت البطاقات الأولى للزبد والقهوة والشاي أدرك الناس أنهم أبعد ما يكون عن عهد الرغد والرخاء المنشود، وأن استيلاء (الريخ) على الأراضي الجديدة لا يفيد في تخفيف الضيق الاقتصادي.
وتستطيع الآن أن نقول إنا شهدنا في زيارتنا الأخيرة تطوراً عميقاً في نفسية الشعب الألماني إلى موقفه من (الزعيم) ومن النظم النازية، فقد فترت هذه الحماسة القديمة، وفرت هذه الثقة العمياء التي كانت تقدمها الجماهير على (الزعيم)، وحل محليا كثير من التوجس والشك، وأخذ النظام النازی يبدو لكثير من الناس في صورته الحقيقية، نظام طغیان حزبي شنیع، وتحكم فرد أو أفراد قلائل زجت سياستهم العنيفة القصيرة النظر بألمانيا إلى مغامرات وأزمات خطرة لا تؤمن عواقبها؟ وجرت عليها الخراب الاقتصادي، ودفعت بشعبها إلى براثن الضيق والحرمان؛ وأثارت عليها سخط العالم كله وأفقدتها كل عطف. وقد جاء عقد الميثاق الألماني الروسي صدمة جديدة قوية للعقيدة النازية، وكان أسطع دليل على تناقض السياسة الهتلرية وتخبطها وتجردها من المثل العليا التي تزعم الانضواء تحت لوائها؛ ولم تفلح ألسنة وزارة الدعاية من صحف وإذاعة وغيرها هذه المرة في إزالة الأثر السيء العميق الذي أحدثه هذا التناقض الشنيع فى مثل زعماء الوطنية الاشتراكية.
والواقع أنه تبدو في ألمانيا منذ أشهر بوادر تذمر لاشك فيها، وهي تتبع مجاريها الخفية، ولاسيما بين طبقات العمال التي حددت أجورها بطرق تعسفية والتى أرهقها الغلاء وانحطاط قوة المارك الشرائية؛ ومع أن مجال العمل قد أتسع بتطبيق برنامج السنوات الأربع، وقضى على المطلة قضاء تماما واحتاجت ألمانيا إلى استيراد العمل من الخارج،فإن الطبقات العاملة تئن من الظروف المرهقة التي تعمل فيها، سواء من حيث الأجور أو ساعات العمل أو وسائل التغذية، ومع أن النظام الحديدي التي تعمل في ظله يقضي على كل تذمر في مهده، فإن بوادر التذمر تبدو من آن لآخر؛ وقد أذيعت أخيراً في داخل ألمانيا وخارجها بعض الأنباء عن حركات المعارضة الخفية ومن المنشورات السرية التي توزع بين العمال أو تلصق خلسة على الجدران. ورجال الجستابو (البوليس السري السياسی) پطاردون هذه الحركات بلا رأفة، ويسيغون عليها تهم التجسس والخيانة العليا. وقد أشارت الصحف الألمانية في المدة الأخيرة إلى كثير من المحاكمات التي جرت في هذا الشأن وقضى فيها بالعقوبات الشديدة ومنها الإعدام. وشهد في محطات السكك الحديدية والميادين العامة إعلانات كبيرة فيها تحذير من التجسس والخيانة العليا و بيان للعقوبات المروعة التي قررت لمرتكبي هذه الجرائم؛ وفي نشرها بهذه الصورة البارزة دليل على القلق الذي ساور السلطات من انتشار روح المعارضة والخروج على النظام. وإنك لتشهد بوادر هذا التذمربين باقي الطبقات. وفي وسعك أن تلمس ذلك بالأخ في كثير من التضيحات والتعليقات بالتي تلقى عرضاً في الفندق وفي المقهى وفي المتجر وفي عربات الترام والأسيبوس وغيرها . وهذه التلمحيات تلقى بحذر وإهتمام أجنبي تؤمن عاقبته وفيما بين الجدران الصامتة. وقد سمنا الكثير منها من رجال وسيدات من مختلف الطبقات، وكنا نتلقاها دائماً كما نتلقى الأسرار الرهيبة وكأنها كابوس يسريه الإفضاء؛ ذلك أن التصريح أو المجاهرة بها خطر يحسن اجتنابه دائماً.
والشعب الألماني يسوده اليوم نوع من الحيرة والشك في مصيره. فهو يشعر بأنه قوي من الناحية العسكرية، وأنه استطاع بالجهد المتواصل أن يعيد إلى ألمانيا تفوقها العسكري القديم، ولكنه يخشى من جهة أخرى قوی انكلترا وفرنسا المتحدتين. ولقد سمعنا موظفاً سیاساً كبيراً من النازي المتطرفين يقول إن ألمانيا تستطيع الظفر في أية حرب محلية تخوضها، ولكنها إذا أرغمت أن تخوض حرباً أوربية عامة أو حرباً عالمية فإن ذلك يكون نهاية الوطنية الاشتراكية ( الهتلرية ) ونهاية الأمة الألمانية مهما تكن القوى الحليفة التي تؤازرها. وهذا الرأي هو الغالب بن كثيرين من المثقفين والمتنورين. على أن هؤلاء لم يخفوا في الوقت نفسه ثقتهم بأن الزعيم (هتلر) مصمم على ألا يشتبك في أية حرب غير محلية وأنه يستعطیع أن يحقق مطالبه دون حرب، وأنه لن يرتكب قط مثل الخطأ الذي ارتكبه الساسية الألمان وأركان الحرب الألماني في سنة 1914 فيزج بألمانيا في أتون حرب عالية.
وقد كان هم الدعاية الألمانية منصرفاً في الأيام الأخيرة من أغسطس، أعني في الأيام القلائل التي سبقت نشوب الحرب، إلى إقناع الشعب الألماني بأن انكلترا وفرنسا لن تدخلا الحرب إلى جانب بولونيا، مهما كانت الظروف والأحوال ، و بأن بولونيا فريسة سهلة لن يقتضی غزوها والإجهاز عملها سوى أيام قلائل، وكان الجمهور يميل إلى تصديق هذا التأكيد ، وكانت سابقه میونیخ ماثلة أمام عينيه، يأتنس بها، وينسج على منوالها، ويری في تردد السفير البريطاني على دار المستشارية بالردود والمقترحات دليل التسليم السلمي بمطالب ألمانيا. ولم تر في الواقع ألمانياً يعتقد أن انكلترا وفرنسا ستدخلان الحرب ضد ألمانيا، تأييداً لبولونيا، ولكي تحولا بذلك دون تحقيق ما يصفونه بأماني ألمانيا المشروعة؛ ومع ذلك فقد كانت هذه الفكرة، أعني دخول انكلترا وفرنسا الحرب تزعج الجمهور أيما إزعاج؛ وذلك بالرغم من كل ما تذيعة الدعاية الألمانية حول ضعف انكلترا ونقص أهبتها؛ ولم ينس الشعب الألماني عبرة الحرب الكبرى، ولم ينس بالأخص ماعاناه من آلام الجوع والحرمان في أواخر الحرب الكبری من أثر الحصار البريطاني لألمانيا، ولم ينس أن ألمانيا كانت تملك يومئذ قوة بحرية كبيرة، فلم تغنها شيئاً، فما بالك وألمانيا ليس لها اليوم أسطول يعتد به ؟
والخلاصة أن الدلائل و القرائن كلها تدل على أن النظام الهتلری يواجه في الداخل موجة من التذمر والاستياء لا سبيل إلى إخفائها، وأن الأحوال الاقتصادية المرهقة التي يعانيها الشعب الألماني بجميع طبقاته، تزيد هذا الاستياء وتذکیه. ومن المحقق أن دخول ألمانيا في الحرب ويضاعف المتاعب والأخطار التي تواجهها الاشتراكية الوطنية (الهتلرية). وقد يكون من سبق القول أن نتحدث الآن عن المعارضة المنظمة في ألمانيا النازية؛ ولكن الذي لا ريب فيه هو أن عناصر هذه المعارضة تتكون بسرعة بين جميع الطبقات، وقد لا يمضي بعيد حي تضطر المصابة الهتلرية للكفاح عن سلطانها وكيانها في الداخل؛ وفي اعتقادنا أن أول هزيمة خطيرة يلقاها الجيش في ميدان الحرب كفيلة بإنهيار سلطانها ونظمها.
مجلة الثقافة / العدد 42 / بتاريخ: 17 - 10 - 1939
4- أيام الفزع
في سبتمبر من الماء الماضي، حينما اضطرمت الأزمة الدولية من جراء مسألة السوديت، کنا طوال الوقت في ألمانيا، فشهدنا تطورات الأزمة كلها ، وسمعنا كل خطب هتلر الرنانة في مؤتمر نيومبرج، وفي قصر الألعاب (شبورت بالاست)، ورأينا مواكب الحرب الصاخبة تترى أمام أعيننا، وقطعنا في فنيا مديدة في الظلام الدامس؛ ومع ذلك فقد كان يخالجنا شعور عميق من التفاؤل، واعتقاد راسخ بأن الحرب لن تنشب هذه المرة.
ولكننا حينما هبطنا إلى برلين في أواخر أغسطس الماضى، لم يكن يخالجنا مثل هذا التفاؤل؛ ذلك أن نذر العاصفة كانت تبدو في الأفق على أثر عقد الميثاق السوفيتي الألماني؛ وكان الجزع يسود كل مكان وكل مجتمع، ولكن شخصية واحدة من لقينا كانت لا تزال تحتفظ خلال الجزع العام بكل هدوئها وتفاؤل: كان صديقنا الذكي اللبق أمين بث رسم قنصلنا لي برلين - جزاه الله من وافر شهامته ومروءته خير الجزاء، وأسبغ عليه جميل رعايته، فهو قد ألفي أن يغادر برلين قبل أن يغادرها آخر مصري، وهو لا يزال هناك رهن تصرف القدر - يعتقد دائماً أن الحرب بعيدة الوقوع؛ وكان هذا رأيه منذ العام الماضي، حينما التقينا به ذات مساء في أوائل اکتوبر في قهوة (صاخر) الشهيرة في فينا، على أثر مؤتمر ميونيخ وانقشاع أزمة السودیت؛ وقد استقبلنا هذه المرة في برلین بابتسامته الساحرة، وأكد لنا أنه لا يزال متفائلا بنسبة تسعة وتسعين في المائة، وأن نشوب الحرب رهين بواحد في المائة فقط.
ولكن لم يأت على ذلك يوم أو يومان حتى انقلبت الآية، وغدا من الواضح أن كفة الحرب قد فازت بنسبة التسعة والتسعين، وتركت لاسلام واحد في المائة فقط؛ وكان لا زال بصيص ضئيل من الأمل يساور النفوس الجزعة من جراء زيارات السفير البريطاني للمستشار هتلر، وتردده بالمقترحات والردود بين برلين ولندن، ولكن طللائع الحرب من جهة أخرى كانت تترى بسرعة؛ ففي يوم السبت ۲٦ أغسطس صدر نظام البطاقات الشخصية بالنبسة الأطعمة والمواد الضرورية؛ وفي نفس اليوم قيدت المواصلات على السكك الحديدية الألمانية، وخفضت تخفيظاً عظيماً، وأوقفت القطارات الدولية وقطارات الحدود، وهرعت الجاليات الأجنبية إلى مغادرة العاصمة الألمانية بناء على تعليمات مثلها، وفي مقدمتها الأنكليز والفرنسيون واليابانيون والترك.
وقصدنا نحن المصريين في صباح يوم الأحد ۲۷ أغسطس إلى المفوضية المصرية، لنقف على مجرى الأمور؛ ولم تكن هناك تعليمات أو نصائح واضحة تلقي إلينا، وكل ما استطعنا أن نعرفه هو أنه وردت برقية بأن (الكوثر) تنتظر المصريين في مرسيليا؛ وفي اليوم التالى، هرعنا مع باقي إخواننا المصريين إلى دار المفوضية مرة أخرى، فعلمنا عند الظهر أن المفوضية اتصلت بالسلطات الألمانية في فيلهلم شتراسه (وزارة الخارجية) وحصلت على جميع التأكيدات اللازمة بالنسبة للمصريين، فمن شاء البقاء مهم فليفعل، ومن شاء السفر فليسافر، دون قيد ولا حرج؟ وأن مبلغاً كبيراً أرسل من مصر إلى المفوضية ليكون رهن الطواريء، ولمساوية من تعوزه الموارد، وأنه لا محل للازعاج.
ولكن هذه التأكيدات كان ينقصها الطابع العملي؛ ذلك أن مواصلات قيدت،ولم تبقى حسبما علمنا من المصادر المختصة، ثمة مواصلات عادية مع فرنسا أو سوسيرا أو بلجيكا، وقد أغلقت الجنود الفرنسية والسويسرية؛ فكيف السبيل إلى العودة إذا؟ لم يكن بوسع مكاتب السفر أن تقدم إلينا أية معاونة أو معلومات ، وترددنا على محطات برلين أنهالت، و فريدريش، وغيرها، وكانت جميعاً غاصة بالناس، وكان الأنزعاج بادياً على جميع الوجوه، وكانت مكاتب الاستعلامات تحاصرها جموع كبيرة، وتتصدرها صفوف طويلة من المستفهمين؛ وكنا نلقى من الموظفين أجوبة موجزة عامة؛ وكل ما علمناه هو أن السفر ممکن إلى العواصم الألمانية الداخلية، مثل كولونيا، ميونيخ، فينا و غيرها، أما قطارات الحدود فليس يعرف شیء عنها، ولا يضمن بشأنها شيء.
وكنا عندئد في الأيام الأخيرة الحاسمة؛ ولم يبق عندئذ شك في انقضاض العاصفة . متي ؟ في أقرب فرصة بلا ريب، وكانت العاصمة الألمانية يسودها عندئد نوع من الهدوء المريب الذي لا يكاد يستر ما وراءه، وكانت مقاهي (والكورفرستندام) تسطع ليلاً كعادتها، وتغص بالحضور؛ ولكن طابعاً من الوجوم العام كان يسود في كل مكان، وكانت طبعات الصحف وملاحقها الخاصة، وتلهف الناس على تخاطفها، وتلهفهم على سماع الإذاعة الأخبارية، مما يبعث الكآبة إلى النفس، ويذکرنا في كل لحظة بأن الكارثة أصبحت وشيكة الوقوع.
وقد لمست أثر هذا الجزع العام في النزل الذي كنت أقيم به؛ فقد كان هذا البنسيون الكبير الفخم قبل يومين غاصاً بالضيوف، ولكن أصبحت يوم الثلاثاء ۲۹ أغسطس فلم یکن به إنسان سواي وسوى زميل مصري آخر، وفد إليه مؤخراً.
وفي هذا اليوم قررت السفر، ومغادرة ألمانيا بأي وسيلة، ورأيت أني أقصد میونیخ، ثم أرى هناك ما يمكن عمله! وقصدت مساءً إلى محطة أنهالت، وكانت تعج بالناس عجاً، كان ثمة ثلاثة قطر ستسافر تباعاً إلى میونیخ؛ ومع أني وصلت قبل أن يقوم أولها بنحو ساعة، فإني لم أجد موضعاً لقدم، فوقفت في رواق العربة مع كثيرين من ركاب الدرجتين الأولى والثانية رجالا ونساءً؛ وكان المسافرون مزيجاً دولياً عجيباً، فمنهم يابانيون، وسويسريون وترك، ويونان، وإيطاليون، وأمريكيون … الخ؟ وكان الانزعاج بادياً على الجميع، وكانت هنا وهناك مناظر وداع مؤثرة، وقبلات و عناق، وأنات ودموع؟ ولن أنسی منظر ميونيخ في تلك الليلة؛ فقد كانت کساحة الحشر، وكانت الجماهير المتراصة ألوفاً مؤلفة، بأمتعتها وحقائبها، كأنها جيش منهزم يبحث من سلامته؛ ولما تحرك القطار بقى الضجيج لحظة، ثم ساد بينا هدوء موحش تحت المصابيح القائمة؛ وسار القطار حثيثاً صوب الجنوب؛ وكانت ليلة صافية الأديم، والقمر يرسل أشعته على المدن، والبسائط العديدة التي نمر بها؛ وکنا طول الليل نری من خلال النوافذ عشرات القطارات تسير في مختلف الأنحاء، وهي غاصة بالجند، والمدافع، والسيارات، والدبابات، ينعكس عليها ضوء القمر؛ ورأينا أروع هده المناظر على مقربة من نیرمبرج، حيث كانت تبدو كمعسکر هائل؛ و کنا تأمل هذه المناظر صامتين واجمين، ولم يجرؤ إنسان على الملاحظلة أو التساؤل.
وصلنا إلى ميونيخ في صباح اليوم التالى - يوم الأربعاء٣٠ أغسطس - بعد رحلة مضنية، متأجرين ساعتين أو ثلاثاً عن الموعد المعتاد؛ ورأينا في ساحة محطتها الكبيرة نفس المناظر التي رأيناها في محطة أنهالت : جموع خاصة تروح وتجيء، وصفوف طويلة من الناس أمام مكاتب الاستعلامات؛ وقضينا اليوم في السؤال التحري من خير الطرق لمغادرة ألمانيا، فعلمنا أن الحدود الفرنسية (كیل - شتراسبورج ) قد أغلقت نهائياً، وأن الحدود السويسرية الشمالية كلها (شافهاوزن وبازل) قد أغلقت أيضاً، ولم يبق مفتوحاً سوى محطة (لفالد) من الشرق، ولكن للسويسريين فقط؛ وكان طريق إيطاليا (برترو) مفتوحاً، ولكن هل كان ثمة ما يشجع على سلوك هذا الطريق، خصوصاً بعد أن جاءت الأنباء باغلاق البحر الأبيض المتوسط، ووقوف السفن الايطالية في موانيها؟ و عندئذ لم يبق أمامنا سوى طريق الشرق والبلقان، فسافرنا في مساء نفس اليوم إلى سالزبورج؛ وأنتظرنا هنالك من منتصف الليل حي الفجر، لكي نتمكن من اتخاذ القطار الوحيد الذي يسافر إلى فينا؛ ورأينا في محطة سالزبورج منظراً غريباً! فقد كان مطعمها الشاسع غاصاً بالناس، وهم ما بين قائم ونائم على مائدته أو حقيبته؛ وكان القائمون يشربون أقداحهم أويدخنون لفائفهم ذهولا، وكانت الأنوار ضئيلة، والأصوات خافته؛ ولقد آثرت أن أتجول في مدينة موتسارت التي أعرفها جيداً ، على أن أبقي إلى جانب هذا المنظر الموحش؛ بيد أني ما كدت أجوس شوارعها، حتی ذعرت لما یسودها من الفقر والكآبة، وقد رأيت معظم فنادقها الشهيرة، التي كانت تعج أيام موسمها الموسيقى الشهير، مثل فندق أوربا، و برستول و غيرها، وقد أغلقت نهائياً.
وفي الفجر ركبنا القطار إلى فينا، وكان غاصاً لا موضع به لقدم، وكان الركاب مزيجاً من مختلف الجنسيات، وكانت أمارات اللهفة والتساؤل تبدو على جميع الوجوه، هل تصل حقا إلى فينا؟ ومتى؟ هذا ما كان يجهله موظفو القطار أنفسهم، وكان ثمة سؤال يحرق كل شفة، هل تقع الحرب؟ ولم تجد في جرائد الصباح شيئاً؛ سمعنا أخبار الإذاعة من آلة رادو كانت مع آنسة مسافرة معنا فلم نقف منها على جديد، ولكن منظر القطر المحملة بالمدافع والدبابات والذخائر في كل مكان كان خير جواب على سؤالنا وكان يثير في نفوسنا أفكاراً مشئومة.
وأخيراً وصلنا بعد العصر إلى فينا بعد رحلة شاقة، وقد أستغرقنا ضعف الوقت المعتاد. وكانت العاصمة النمسوية هادئة، ولكنها فقدت كل مظاهر بهجتها القديمة وأقفرت مقاهي (الرنج) الشهيرة من زوارها.
وكان يوم الجمعة أول سبتمبر بوماً حاسماً، ففي الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ألق هتلر خطابة المشئوم، وصرح فيه بأنه أعطى الأوامر بالزحف على بولونيا.
وكانت الجوع تعسى واجمة جزعة في كل مقهى و كل میدان، وكأنها تسمع الحكم على مستقبلها ومصيرها؟ واستمرت محطات الإذاعة إلى ما بعد منتصف الليل تكرر إذاعة الخطاب، ويرغم الجمهور على سماعه في كل مقهی ومتدى؛ وفي مساء نفس اليوم صدر قانون بربري يعاقب الذين يستمعون من الألمان إلى الإذاعات الأجنبية في منازلهم بالحبس سنتين، فإذا نشروا بين الجمهور ما سمعوا من الأخبار، كانت العقوبة الإعدام.
وفي اليوم التالي علمت من صدیقي صفوت باك قنصل مصر في فينا، خلاصة ما سمعه من الاذاعة الخارجية من الأنباء الهامة؛ وهو أن انكلترا وفرنسا وجهتنا بالأمس إنذارهما الشهير إلى الحكومة الألمانية، باعلان حالة الحرب معها إذا لم تسحب جيوشها من بولونيا في ظرف ثمانية وأربعين ساعة، وأن السنيور موسوليني ألقى تصريحه الخطير بأن إيطاليا لن تدخل حربا اعتدائية؛ ولم تنشر هذه الأنباء في الصحف الألمانية، ولم يعلم بها سوى القليل ممن أتيح لهم أن يتلقوها من محطات الإذاعة الأجنبية -
ولم يك عندئذ شك في وقوع الکار ثة ، ولم يبق سوى التساؤل عن المدي الذي تبلغ إليه.
وفي وسط الظلام الحالك الذي خيم على فينا منذ أول سبتمبر، أعددت حقائبي. وفي صباح يوم الأحد الثالث من سبتمبر، كانت عدة من الأوتوكارات الكبيرة الفخمة التي تسير بين فينا وبودابست، قد اصطفت منذ الصباح الباكر في ميدان (شفارترنبرج) لنقل جماهير الأجانب الذين آثروا مغادرة هذه الديار التي غدت في ظل الحكم النازي وظل الحرب القائم جحيما لا يطاق؛ فاتخذت مکانی في إحداها؛ و تنفست الصعداءحينما سارت بنا العربة الفخمة التي غدت وسيلة السفر الوحيدة إلى بودابست بعد بعد أن وقفت القطر. وما كدنا نصل إلى العاصمة المجرية، ونستريح ساعات قلائل، حتى علمنا أن الإنذارین الإنكلیزی والفرنسي للحكومة الألمانية قد انتهى أجلهما، وعدت انكلترا وفرنسا في حالة حرب مع ألمانيا.
ومثلت في الحال أمام أعيننا الحقيقة الروعة: لقد بدأت الحرب العالمية الثانية.
مجلة الثقافة (1939)