بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 11 يناير 2017

الألعاب العربية


للأستاذ محمد محمود زيتون

- 1 -

لم يكن العرب بمعزل عن الحضارات التي أحاطت ببلادهم، بل كانوا على اتصال وثيق بها، في الأخذ والعطاء. على أن الرمال السوافي، والجبال الرواسي، والبطاح المترامية، لم نحجب عن العرب أصداء الفرس والروم والأحباش والهنود والسريان والمصريين.

ويخطئ من يظن أن العرب لم يحتفلوا بالألعاب الرياضية احتفال الرومان والفرس بها. وفي الحق أن العرب عنوا بالرياضة لا باعتبارها لهوا ولعبا؛ ولكن على أنها تربية ذات طابع قومي، ونهج واضح، وغاية رفيعة.

والتراث العربي حافل بهذا اللون من التربية، سواء في كتاب الله، وسنة رسوله، ودواوين الشعراء، والقواميس والمعاجم، مما أضاف إلى الحضارة العربية ثروة جديدة ذات قيمة نادرة، وإن كان الدارسون منا ومن المستشرقين لم يلمسوا هذه الزاوية في قليل أو كثير، إلا أنها لا تقل أهمية عن مظاهر هذه الحضارة التي نعتز بإذاعتها في الناس.

ولنذكر أولا في هذا البحث الألعاب المشهورة عند العرب ليقف القارئ البصير على مقدار نفعها البدني، وغايتها في تربية الفرد وأثرها في المجتمع، ولنا بعد ذلك وقفة عند موقف الإسلام الحنيف من هذه الألعاب التي نستخرجها من كتب اللغة والأدب والسيرة ونذكر منها:

المفايلة: لعبة لفتيان العرب يخبئون الشيء في التراب ثم يقسمونه فإذا أخطأ المخطئ قيل له فال رأيك.

الجثة: تشبه المفايلة هي أن يختبئ الصبيان شيئا تحت التراب ثم يصدع صدعين ثم يضرب أحدهم بيده على أحدهما أو على بعضه؛ فإن قبض على الخبء فيه قمر.

عظم وضاح: لعبة الصبيان بالليل وهي أن يأخذوا عظما أبيض شديد البياض فيلقوه ثم يتفرقوا في طلبه فمن وجده منهم ركب أصحابه.

خراج: يمسك أحدهم شيئا بيده ويقول لسائرهم اخرجوا ما في يدي.

الخطرة: وهي اللعب بالمخراق.

الضب: وهي أن يصور الضب في الأرض ثم يحول أحدهم وجهه ويقول: ضع يدك على صورة الضب، على أي موضع من الضب وضعته فإن أصاب قمر.

النقيري: وهي لعبة بالتراب، ويقال الصبيان ينقرون أي يلعبون النقيري.

المقلاء والقلة: عودان يلعب بهما الصبيان فالعود الذي يضرب به يسمى المقلاء وهي خشبة قدر ذراع - والقلة هي الخشبة الصغيرة - والقلو لعبك بالقلة وذلك رمها في الجو ثم ضربها بمقلاء في اليد فتستمر القلة ماضية فإذا وقعت كان طرفاها ناتئين على الأرض فتضرب أحد طرفيها فتستدير وترتفع ثم تعترضها بالمقلاء فتضربها في الهواء فتستمر ماضية - والفعل قلا يقلو قلوا.

المقلاع: معروف ويستخدم في رمي حجرة إلى مكان بعيد.

العرعار: لعبة للصبيان أيضا.

الخذروف: شيء يدوره الصبي في يده بخيط فيسمع له دوي - قال امرئ القيس يصف فرسه في شدة جريه:

درير كخذروف الوليد أثره ... تتابع كفيه بخيط موصل

الكرة: معروفة ويقال كرا الكرة يكررها ومقطها يمقطها أي يضرب بها الأرض ثم يأخذها.

الطبطابة: مضرب الكرة.

الصاعة: البقعة الجرداء ليس فيها شيء، يكسحها الغلام وينحى حجارتها ويكرو فيها بالكرة.

الكجة: يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة فهو يكج أي يلعب بالكجة.

التوز: الخشبة تلعب بها الكجة.

البكسة: خرقة يلعب بها وتسمى الكجة.

الصولجان: المحجن وهو قضيب يثنى طرفه.

الميجار: شبه صولجان تضرب به الكرة.

القفيزي: خشبة ينصبها الصبيان يتقافزون عليها.

النفاز: لعبة يتنافزون عليها أي يتواثبون.

الحوفزي: أن تلقي الصبي على أطراف رجليك فترفعه - والفعل حوفزي.

البنات: التماثيل الصغار يلعب بها وهي المعروفة في الفرنسية باسم:

الربيعة: حجر تمتحن بإشالته القوى.

الزحلوقة: مكان منحدر مملس.

الأرجوحة: خشبة توضع على تل ثم يجلس غلام على أحد طرفيها وغلام آخر على الطرف الآخر فتترجح الخشبة بهما وتتحركان فيميل أحدهما بالآخر - والفعل ترجح يترجح على الأرجوحة.

الحمص: هو الترجح والفعل حمص يحمص حمصا.

الجعري: أن يحمل الصبي بين اثنين على أيديهما.

المقثة: خشبة مستديرة على قدر قرص يلعب بها الصبيان تشبه الخرارة.

الخرارة: عود يوثق بخيط ويحرك الخيط وتجر الخشبة فيصوت.

المطثة والمطخة: خشبة عريضة يدقق أحد رأسيها يلعب به الصبيان.

الحجورة: يخط الصبيان خطا مستديرا ويقف فيه صبي ويحيط به الصبيان ويضربونه فمن أخذ منهم أقامه مكانه.

الجماح: سهم يجعل على رأسه طين كالبندقية يرمي به الصبيان.

التخاسي: الرجلان يتخاسيان أي يلعبان بالزوج والفرد يقال: خساً أو زكا أي فرد أو زوج.

الأمبوثة: هي أن يحفر الصبيان حفيرا ويدفنون فيه شيئا فمن استخرجه فقد غلب.

الدعلجة: لعبة يختلف فيها الصبيان للجيئة والذهاب.

الحوالس: هي أن يخطو خمسة أبيات في أرض سهلة ويجعلوا في كل بيت خمس بعرات وبينها خمسة أبيات ليس فيها شيء ثم يجر البعر إليها وكل خط منها حالس.

المخراق: منديل أو نحوه يلوى فيضرب به.

الرجاحة: حبل يعلق ويركبه الصبيان.

الجنابا أو الجنابى: هي أن يتجانب اثنان فيعتصم كل واحد من الآخر.

ردت الجارية: أي رفعت رجلا ومشت على أخرى تلعب.

يتبادح الصبيان: أي يترامون بالبطيخ والرمان والكرين ونحوها.

البوصاء: عود في رأسه نار يديرنه على رءوسهم.

المخزق: عوبد في طرفه مسمار محدد يكون عند بياع البسر بالنوى وله مخازق كثيرة فيأتيه الصبي بالنوى فيأخذه فيه ويشرط له كذا وكذا ضربة بالمخزق فما انتظم له من البسر فهو له قل أو كثر، وإن أخطأ فلا شيء له وذهب نواه.

التضرفط: أن تركب أحداً وتخرج رجليك من تحت إبطيه وتجعلهما على عنقه.

الرهان والمراهنة: هي المخاطرة والمسابقة على الخيل.

الوجب: السبق في الرمي، وهم يتخاطرون أي يتراهنون في الرمي.

الميسر: اللعب في القداح.

هذا فضلا عن الكعب والشطرنج والنرد والدامة والمصارعة والرماية والفروسية والمسايفة والمبارزة والسباحة والرقص واللعب بالمشاعل والرماح والحراب مما يدخل في باب اللعب الذي هو ضد الجد والذي هو أحيانا اللهو.

ومن مادة (لعب) اشتق العرب الاصطلاحات الآتية:

اللعبة: وهي ما يلعب به.

اللعاب: وهو الرجل الذي حرفته اللعب.

اللعب: وهي تماثيل من عاج.

تلعب: لعب مرة بعد أخرى.

ورجل تلعابة. كثير اللعب. التلعاب: اللعب واللعب.

الملعبة: وهي الثوب لا كم له يلعب به الصبي.

الملعب: المكان الذي يلعب فيه الصبيان.

وكذلك قالوا:

برحى: للمخطئ في مرمى.

مرحي: للمصيب في الرمي.

الطالع: وهو السهم الذي يقع وراء الهدف.

الشعوذة: وهي خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين، والرجل مشعوذ.

النيرج والنيرنج: وهي الشعوذة.

وبرزت عناية العرب بسباق الخيل وابتدعوا المصطلحات الوفيرة له منها المصلي والمجلي كما سموا الأخير باسم الفسكل وأجازوا الحائز لقصب السبق ومنحوه نوط الجدارة والصرة وهي البدرة من المال. وقال الشاعر يصف الخيل في السباق:

ترى ذا السبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان

وبلغ من عنايتهم بالتشجيع وإفساح المجال أمام الضعيف أن قالوا: (وعند مستبق الزود تسبق العرجاء) ليكون باب الأمل مفتوحا على مصراعيه، وافتخروا بنشأتهم على ظهور الخيل فقالوا:

كأنهم في ظهور الخيل نبت ربي ... من شدة الحزم لا من شدة الحزم

فكانوا حقاً وصدقا رهبان الليل وفرسان النهار.

وتعمقوا في دراسة الخيل من كل وجه فدرسوا أعضاءها وأطوار حياتها وطباعها وألوانها وفصائلها وتناسلها وألفوا في ذلك الموسوعات التي من أشهرها كتاب (جر الذيل في علم الخيل) واحتفل بها القرآن الكريم وأقسم بها رب العزة فقال في كتابه العزيز (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغريات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا) وأمر الله بإرهاب العدو بكل ما يستطاع من قوة (ومن رباط الخيل) وما أبلغ النبي العربي بقوله (يا خيل الله اركبي) وليس بعجيب أن يأمر النبي المسلمين بتربية الخيل وإعدادها للجهاد نهيا عن اتخاذها لمجرد الزينة والتفاخر قائلا بعد ذلك (الخير تحت أقدام الخيل) وقد قرن المتنبي عزة الفارس بفضل الكتاب فقال:

أعز مكان في الدنى سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب


وكان العرب كذلك أسبق الشعوب إلى حركة الكشف فهم المشهورون بقص الأثر والتعرف على الخصائص الدقيقة لصاحبه بمجرد النظر إلى ما خلفه قدمه على الرمل السافي أو صفاة الجبل فيعرفون إذا كان رجلا أو امرأة، عذراء أو حاملا. وكذلك هم المشهورون بالنار وإشعالها بالليل لهداية الضال وإكرام الضيف وتحدي العدو فقالوا (ناركم منار غيركم) وجاء في الحديث الشريف (إن الرائد لا يكذب أهله.) وكانوا حراصا على تنشئة فتيانهم على المجازفة والمخاطرة فكان منهم أسود البحار الذين قهرت عزائمهم كل قوة وسادت تعاليمهم كل مصر؛ وحتى نعتهم رسول الله بأنهم (الملوك على الأسرة) فذلت لهم رقاب العمالقة والفراعنة، ودانت لهم عروش القياصرة والأكاسرة وبهذا كان العرب جادين حين يلعبون - وبالإسلام صاروا أصحاب رسالة تتجلى آثارها في حركاتهم وسكناتهم وتنضج بها شعائر دينهم ومظاهر دنياهم حتى أصبحوا أصحاب اللهو المشروع الذي لم يتخلف قيد أنملة عن مجال الدعوة المحمدية في أقطارها البعيدة.




- 2 -


ومن البداهة أن الألعاب العربية - وأن كان بعضها في الأصل فارسيا - قد أدت مهمتها في شغل أوقات الفراغ لدى صبيان العرب وصباياهم. مما يدل على أن قسوة الصحراء وخشونة العيش وعنجهية الطبع كل ذلك لم يمنع من إعطاء الحياة لونا زاهيا يشيع معه الفرح والمرح ويهدف إلى تسلية النفس وتسرية الخاطر وترفيه الروح حتى أنتجت مصانع العروبة فوارس الغارات وحماة الثغور.


ولا يخفي ما في هذه الألعاب من استجابة للغريزة البشرية عامة وللبيئة العربية خاصة، ولعل كثيرا وكثيرا جدا غير ما ذكرنا من ألعاب - كان سائدا في تلك البيئة التي نبع منها الشعر وفاضت به البحور.


والشعر ليس إلا نوعا من اللعب كان يلهو به العربي كلما ترامى بين يديه الزمان والمكان جميعا، ولعل معالي أستاذنا الدكتور طه حسين بك كان موفقا كل التوفيق إذ اعتبر (لزوميات ما لا يلزم) نوعا من اللعب الذي كان يزجى به أبو العلاء المعري وقته وهو رهين المحبسين.


ومن هنا تبرز القيمة الحضارية للألعاب العربية فلا ينبغي لها أن ينظر إلها الدارسون على أنها عاديات (أنتيكة) ولكنها في جوهر الحقيقة معالم حظارة، ومعارف حياة: فيها عرق ينبض، ودم يجري، ونسيم يرف، ورمال تسفو، وبعر يتفتت، وشباب يجد ويلعب.
وإلى جانب هذا نرى الإسلام يسجل للألعاب العربية ما تستحقه من ذكر؛ مشجعا على النافع، مبغضا في الضار، كالقمار والميسر والأزلام وغيرها.


ومقياس النفع والضرر في العرف الإسلامي لا يشذ عن روح هذا الدين المتين وهو إعلاء الغريزة البشرية كأساس للتربية الصحيحة الكاملة لكل من الفرد والجماعة.
وأقرب مثل لذلك أن النبي كان يلعب وهو صغير بعظم وضاح مع الغلمان فمر به يهودي فرأى مهارته في اللعب وميزته على رفقائه فدعاه اليهودي وتوسم فيه البراعة وقال له: لتقتلن صناديد هذه القرية. 



ومن هذا يتضح أن الكبار من العرب لم يكونوا ينظرون نظرة العابرين إلى ألعاب الصبيان وإنما كانوا - وهم أصحاب الفراسة - يتفحصون (شخصية اللاعب) أثناء اللعب حتى إذا جاء الإسلام ذهب بغريزة اللعب إلى أبعد مدى تستقيم معه كرامة الإنسان.
أشاد الإسلام بمبدأ (القوة) لأن الله تعالى (ذو قوة) وهو سبحانه (القوي) (أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
والمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه إنما هي (قوى) بل كوى تتجلى منها آيات صاحب الحول والطول حتى يعلم العبد المحدود في إمكانياته أنه (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومن هنا أكبرت بنت شعيب قوة موسى إذ قالت لأبيها (أن خير من استأجرت القوي الأمين) وناجى موسى عليه السلام ربه فقال (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) فاطمأن موسى إلى تأييد ربه إذ (قال سنشد عضدك بأخيك فنجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا، أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال أيضا كليم الله يلتمس القوة من رب القوة ليستعين به على فرعون وملئه (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري وأشركه في أمري).
وهذا محمد عليه السلام يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) وينزل عليه من السماء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ويرى عمر بن الخطاب رجلا يتنطع ويتماوت فيضربه ويقول (لا تمت علينا ديننا أماتك الله). .


وكان النبي يقول وهو يدخل مكة حاجا في العام السابع لهجرته (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) وكان يقول عند دخولها في عمرة الحديبية (أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم) وهذه هي المناورة المشروعة في الإرهاب المشروع.
سئل أعرابي: لم تسمون أبنائكم بشر الأسماء: نحو كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسن الأسماء: نحو رزق ومرزوق ورباح فقال: إنما نسمي أبنائنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا.


وهكذا عنى العرب بالقوة حتى في تسمية أبنائهم لينشئوا أقوياء الأجسام ومن هنا قال النبي الكريم (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا) وذلك بقصد ربط الخلف بالسلف برباط وثيق من الرمي كمظهر على القوة والشجاعة.
وكان الأنصار يستقبلون النبي يوم هجرته فيقولون: يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة - وكل بني دار يدعونه إليهم معتزين بما عندهم من عدد وعدة وسلاح وخلائف ودرك.
ولم يمهل نبي الإسلام وأمام القوة والإيمان حقوق البدن فقال: (إن لبدنك عليك حقا) ذلك البدن الذي هو (بناء الله) كما سماه سرول الله إذ يقول (من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون) وكان النبي يتمنى في بدأ الدعوة أن يعز الله دين الإسلام بعمر بن الخطاب لأنه كان رجلا طوالا عراضا أوتي بسطة في الجسم. فلما اكتمل به عدد المسلمين أربعين خرجوا من مخبأ الأرقم في صفين على رأسيهما حمزة وعمر وقد انتضيا السيف وقريش تنظر مخلوعة القلب وقد أخذ الإرهاب من صناديدها ما أخذ.
ومر رجل على النبي فرأى الصحابة من جلده ونشاطه ما حداهم إلى القول: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).



والمعروف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع الحدود لكل لهو مشروع؛ فقد عصم الله تعالى نبيه منذ نعومة أظفاره يوم دفعته الغريزة والصبا إلى الربوة ليستمع إلى لهو السامرين وعزف العازفين في عرس بمكة ذات ليلة فضرب الله على قلبه فنام حتى الصباح ولم يتدنس طبعه بفساد.


وكان المسلمون في عصر النبي ينتظرون عودة دحية الكلبي من تجارته وهو القسيم الوسيم فيستقبلونه بالطبول والزمور حتى لقد كانوا يتركون النبي قائما على منبره ويخرجون إلى دحية فنزلت (وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة).


وإنه لتوجيه سليم لسائر الأجيال الإسلامية ينفرد به رسول الله من بين معلمي الخير وأساتذة الإنسانية إذ يقول (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) ويقول المربي الأكبر عليه السلام (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل) كما يقول (تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة).


وحث على مواصلة تعلم الألعاب فقال (من تعلم الرمي ثم نسيه فقد عصى) وقرن تعلم الألعاب بتعلم القرآن إذ قال (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني؛ ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس مني) وفي رواية أخرى (فهي نعمة جحدها).


ويزيد هذا الحديث إيضاحا وتبيانا قوله الكريم (كل شييْ ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة).


وكأنما أدرك رسول الله أن الألعاب ليست وقفا على الفراغ عند العرب في أول عهدهم بالدعوة فدعا إلى مزاولتها مهما اتسع نطاق حياتهم وامتدت رقعة دعوتهم وخرجوا بفتوحاتهم من البداوة إلى الحضارة فهو يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهوا بأسهمه).


وإنه لدرس نافع من النبي المرشد إذ يقول (كل شيْ يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته).
وعلى الجملة فإن الرسول الكريم إنما يهدف إلى صقل الروح وتهذيبها والبعد بها عما يثقل الكاهل من هموم وأحزان فيقول (من كثر همه سقم بدنه) وباللعب يتفادى المرء هذا السقم.
وعندئذ يبدأ مرحلة جديدة من التربية هدفها امتلاك النفس عند الغضب، وإحكام زمامها خشية الزلل، وقيادتها نحو معالي الأمور.


فإذا كان الصرعة هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال فإن رسول الله كان أول من دعا بالفطرة الخالصة إلى تعلية الغريزة وكبح جماح النفس إذ يقول (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهذا هو الجهاد الأكبر: جهاد النفس المركبة من شتى الغرائز حتى لقد سئل النبي: ما الهجرة؟ فقال: (أن تهجر السوء) ثم سئل فأي الهجرة أفضل؟ فقال (الجهاد) قيل وما الجهاد؟ قال: (أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وقال أيضا (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ذلك بأن الجهاد منهج المؤمن في سبيل انتصار الحق وانتشار الخير وصدق رسول الله (اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
ومن أجل هذه الغاية البعيدة وذلك الهدف الرفيع كان العربي يعلم ابنه الرماية كل يوم إذ يقول:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني


وفي غزوة أحد أخذ قائد الإسلام ونبي الجهاد يستعرض الصفوف وإذا برافع بن خديج وهو غلام حدث - يشب بقدميه ليبدو طويلا فلا يحرم من الجهاد والاستشهاد فرده النبي لصغر سنه فبكى رافع، فقالوا للنبي: أنه رام، فشفعت له الرماية وأنتظم في سلك المجاهدين. ثم مر النبي القائد بسمرة بن جندب فرده أيضا لصغر سنه فقال أبوه: يا رسول الله إنه يصرع رافعا - فأمرهما النبي فتصارعا فأحسنا المصارعة فأجازهما وقاتلا أحسن القتال.


وفي هذه الغزاة كان نساء قريش يحرضن الرجال ويذمرنهم على القتال وقد اتخذن المعازف والدفوف بينما الأناشيد والأراجيز تلهب ظهور المحاربين حمية وحماسة.
وأخذ أبو دجانة سيف النبي بحقه واعتصب بالموت الأسود وأخذ يتبختر فأنكروها عليه فقال النبي (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) وجاءت إلى النبي أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأله في جهاد النساء وأغلب - الظن أنها وغيرها قد سمعت أم عمارة في دفاعها عن النبي يوم أحد - فقال النبي (انصرفي يا أسماء واعلمي أنك من النساء إن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وأتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال) من سعي وجهاد وشهود للجنائز والجماعات.


وكان النبي أعرف الناس بفوائد السفر ومنافع الرحيل فقال (سافروا تصحوا وترزقوا) وكان يسافر إلى الشام صغيرا مع عمه كما كان يتاجر وهو شاب في مال خديجة فأفاد من كل ذلك فوائد جمة. وكان رسول الله مثلا يحتذي في حياته المليئة بكل ما يدفع الإنسانية إلى الرفيع من كل أمر؛ فقد حدثت أم المؤمنين عائشة قالت (خرجت مع النبي في سفر من أسفاره فنزلنا منزلا فقال: تعالي أسابقك، فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلا فقال: تعالي حتى أسابقك فسبقني، ثم ضرب بيده بين كتفي وقال: هذه بتلك).


وكان عليه السلام يقول (إذا أعيا أحدكم فليهرول فإنه يذهب العياء) ولحكمة أسنن الله السعي بين الصفا والمروة هرولة وجعلها من مناسك الحج.
ومن هنا تبرز صفحة جديدة في الإسلام عنوانها (لهو المؤمن) ليتبين المسلم ما أحل الله له وما حرم عليه من صنوف اللهو واللعب، وفي هذا الباب يقول نبي الإسلام (خير لهو المؤمن السباحة وخير لهو المرأة المغزل).


ومما يروى عنه عليه السلام أنه - وله من العمر ست سنوات - أقام بدار النابغة مع أمه وحاضنته أم أيمن، فلما نزل قصر بني عدي بن النجار بالمدينة نظر إلى ذلك القصر وقال: (كنت ألاعب أنيسة - جارية من الأنصار - على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائرا كان يقع عليه) ثم نظر إلى الدار وقال: (هاهنا نزلت بي أمي؛ وفي هذا الدار قبر أبي عبد الله ابن عبد المطلب؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).


وكان اليهود يختلفون عليه وهو يستحم مع الصبيان في البئر فيقول أحدهم - كما تروي أم أيمن - هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته.
وفي الحق أن رسول الله قد مارس كثيرا من ألعاب العرب منذ صباه الأول مما كان له أكبر الأثر في نشاطه الجسماني، ورقيه النفساني. وتروي عنه مرضعته حليمة السعدية وتقول (. . . ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان).


وجاء في كتاب (آداب الإسلام) لابن زمنين أن النبي خرج مع أصحابه حتى انتهوا إلى غدير فسبحوا فيه فقال (ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه وأنا أسبح إلى صاحبي) فسبحوا وسبح النبي إلى أبي بكر.
وإذن فقد أخذت الألعاب على يدي النبي طابعا خاصا فأصبح منها ما يمكن أن نطلق عليه: (السباحة الإسلامية) كمظهر من مظاهر لهو المؤمن، إذ أن روح الإسلام لا تفارق كل عمل يدعوا إليه رسول الله؛ فإذا كانت مهمته عليه السلام هي (المؤاخاة بين الناس) فإنه لم يتخلف عنها حتى في وقت السباحة.




- 3 -


رأينا في المقال السابق كيف التقت التربية البدنية بالتربية الدينية عند مبدأ الإخاء حيث تسود الألفة بين المتلاعبين.
ويحرص النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكون الناس في جدهم ولهوهم إخوانا وزملاء فهو القائل (تآخوا في الله أخوين أخوين).
والقائل (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده) ولهذا كان المسلمون في شتى مراحل الدعوة المحمدية أخوين أخوين.
وخرج عمر بن الخطاب يوما في سفر فقال لمن كان معه (ألا تزاملون) وزامل بين كل اثنين.


وحول هذا المحور من الإخاء دارت الألعاب الإسلامية فكان دورها حلقة ذات مكانة مرموقة في تعاليم الإسلام؛ ذلك الدين الذي الآن من عنفوان عمر حتى قال (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي فإذا التمس ما عنده كان رجلا) وكذلك حقا كان عمر مع أولاده الصغار فقد كانوا يركبونه ويسحبونه ويسوقونه وهو أمير المؤمنين وفاتح الأمصار، وما كان أسعده بهذه اللحظات من اللهو البريء الذي هو اللعب المشروع من غير تناقض مع وقار الخليفة وجلال الخلافة، فلما دخل عليه أحد الولاة ورآه على هذا النحو الذي ذكرناه أستنكره منه وعندما سأله عما يفعله هو في بيته قال بما يفيد جفوته مع أهله فعزله أمير المؤمنين.


ومن هذا الباب أيضاً ما قاله علي بن أبي طالب (سلوا هذه النفوس ساعة بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد) وهل تكون هذه التسلية إلا باللهو واللعب الذين هما جلاؤهما وصقالها؟
وفي هذا يقول أبو الدرداء الصحابي الجليل (أني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونا لي على الحق).


ولما كان من أغراض التربية الكاملة تهذيب النفس بترويض الأعضاء على الفنون والصناعات فإن القائمين على شؤون التعليم قد رفضوا دروس الأشغال في المدارس، وبهذا اللون من التربية اليدوية اتسمت حياة النبي الكريم.
سئلت عائشة: كيف كان النبي إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس؛ وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضاحكا بساما.
وسئلت. ما كان يصنع في بيته: فقالت: ما يصنع أحدكم: يرقع ثوبه ويخصف (يخرز) نعله ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة؛ وكان يعمل عمل البيت وكثر ما يعمل الخياطة.


وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يضمر الخيل ليسابق بها، وهو الذي جعل للسباق حدودا لا يتعداها لهو المؤمن إذ قال (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) وما أرفع الغاية التي ينشدها نبي الإسلام للمؤمنين إذ يقول لهم (الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلضة) وتلك من غير شك غاية التربية البدنية، وما أنبلها من غاية.
وتقول عائشة أيضا: كان رسول الله يخصف نعليه وكنت أعزل
وسواء كانت هذه الصناعات اليدوية الصغرى مقصودة لذاتها أو لمجرد اللهو وسد أوقات الفراغ أو مقصودة للكسب المادي فإن كلا الأمرين شريف ومشروع وإن كنا لا نزال نعتقد أنها من ألزم اللزوميات لكل الناس ولا سيما ذوي الهيئات. ونحن نعلم عن مستر تشرشل وقد كان ولا يزال من مديري دفة السياسة البريطانية بل العالمية أنه من المغرمين بالرسم وكثيرا ما يذهب إلى سويسرا لرسم المناظر الطبيعية بريشة الفنان بحيث يستجم لنفسه في مهمته السياسية وما أثقل أعباءها.


وعندنا نحن من النماذج الإسلامية ما يزاحم الرءوس الكبار بما كان لها من أثر فعال في تغيير وجه التاريخ تغييرا شاملا؛ فهذا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وقد عرف عنه أنه كان يذهب وحيدا بعيدا في صيد الوحوش الكواسر وطالما طالع أهل مكة بقوامه الفارع وشبابه المتوثب وهو يتقلد سيفه يتنكب قوسه وينتضى في يديه السهام ويختصر الحراب.


وكان عمر من المهتمين بالتربية عن طريق الأشغال اليدوية والألعاب الرياضية إذ يقول (من خط وخاط وفرس وعام فذاكم الغلام) وبهذا لم يهمل هذا النوع من الأشغال الذي يسمى بالإنجليزية (هوبة). وكان رسول الله يشجع على توجيه الصغار نحو مشاهدة الطبيعة وتأمل الأحياء؛ فقد دخل على أم أنس بن مالك فوجد ابنها أبا عمير حزينا مغتما فقال لها: (يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا؟) قالت: يا رسول الله مات نغيره (عصفوره) فتلفت النبي إليه وقال: (أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان كلما رآه قالها له مداعبا.


ولا شك أن نوع اللعبة تحدده الغريزة الجنسية. كما أنها تستجيب لغريزة حب الاستطلاع، ثم هي مجال طبيعي يتعرف فيه الناشئ على خصائص الحيوان، وفيه تمتد آفاق الخيال، وتتكشف الانفعالات والعواطف نحو الحياة والأحياء في أبسط صورة.
وغريزة اللعب هذه ملازمة للإنسان من المهد إلى اللحد لا تبرح سلوكه ولا ينفك عنها نشاطه.


فلا تعارض بين اللعب والسن مهما يكن من هيبة ووقار.
فقد دخل النبي على عائشة وعمرها تسع سنين، وكانت لعبتها في يدها، ومعها صواحبها في أرجوحة بين نخلتين، فأنزلتها أمها من الأرجوحة لتزفها إلى رسول الله.
ولم تنس عائشة لعبها بعد أن أصبحت زوجة فهي تقول (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو حنين فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع. قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت. جناحان. قال: جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه)
والإسلام يقر اللهو البريء الذي لا يفسد الطبع ولا يصرف عن الجد، وما أصدق روح الإسلام في بيت البارودي إذ يقول:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب=وغيري باللذات يلهو ويلعب
إلى ما في هذه القصيدة من اعتزاز بالدأب على طلب العلا، وافتخار بنفس أبية لها بين أطراف الأسنة مطلب، ولها مع الوحوش صراع، فلا عجب إذا أصغرت هذه الهمامة كل مأرب.


واستقبلت جويريات بني النجار رسول الله بالمدينة بالأناشيد والمعازف؛ كما أخذ الأحباش يلعبون بالحراب بين يديه، وأخذت جاريتان تضربان بالدف في بيته فلم ينكر عليهما ذلك حتى إذا دخل أبوبكر منعهما فقال له النبي: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا. 


وذهبت عائشة يوما إلى عرس في بيت للأنصار فلما رجعت سألها النبي: (أهديتم الفتاة إلى بعلها؟) قالت: نعم. قال: (فبثتم معها من يغني؟) قالت: لا. قال: (أر ما عملت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم=فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا_ء لم نحلل بواديكم
والعرب تطلق كلمة (المقلس) على الرجل يلعب بين يدي الأمير إذا قدم المصر.
والمداعبة والمضاحكة مما يدخل في باب اللهو واللعب بغية التسلية والترفيه، كما كان يفعل النبي، فقد قال لعجوز: (انه لا يدخل الجنة عجوز) فحزنت، ولكنه لم يلبث أن تلا عليها قول الله تعالى (عربا أترابا) فضحكت واستبشرت. لأنها سترتد في الجنة صغيرة السن عذراء حسناء، وذلك ما تتمناه المرأة للطبع المركب فيها.


وليس المزاح من المداعبة في شيء، لما له من أسوء الأثر في النفس، لهذا نهى النبي عنه. ويروى أن رجلا أخذ نعل رجل فغيها وهو يمزح فذكر ذلك للنبي فقال: (لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم) وقال في حديث آخر (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا) كما نهى عن المزاح بالسلاح فقال: (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان يترع في يده فيقع في حفرة من النار).


وكان الإسلام حريصا على صيانة السباحة من الابتذال، فحرم على النساء أن يسبحن عاريات حتى لا تكون فتنة.
ولما دخلت الحمامات بلاد العرب وضع رسول الله حدودها فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) وقال (شر البيوت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات) ودخلت نسوة من الشام على عائشة فقالت لهن: أنتن اللاتي تدخلن نساءكن الحمامات. سمعت رسول الله يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)
ويوم أن سار العرب في حماماتهم على هدى التعاليم الإسلامية صانوا كرامتهم، وشهد لهم جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) فقال (حمامات الشرق أفضل من حمامات الغرب صحة وراحة؛ وهي عدا ذلك محل للاجتماع والمحادثة ولا تقل شأنا عما كان لها أيام الرومان)



والخلاصة أن الإسلام عندما اقر البريء من العاب العرب وشذب بعضها لم يهدف إلى اكتناز العضلات وصلابة العود، ولم يقصد إلى إطالة العمر، ولم يدفع إلى المضارة على الضعيف بالتذرع بحجج أوهى من نسيج العنكبوت مثل (شعب الله المختار) وإنما وضع الرياضة البدنية موضع الاعتبار بأن جعلها (تربية) ذات غرض نافع وهدف رافع.
كان عصر إسيرطة يعد الفتيان للحرب كفاية تقصد لذاتها، وكان أبناء الرومان يقاسون زمهرير الشتاء وذل النفس لينشئوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، أما الأسبان فقد جرت دماء الوحشية في عروقهم إذ اتخذوا من (مصارعة الثيران) مسلاة وملهاة، كلما رأوا اللاعب ينجو من غدر خصمه (الثور) عاجله بطعنة من خنجره فيخر مضرجا بدمائه.
والحق في جانب العرب في الحكم لهم بارتفاع الغريزة عما يشينها من حيوانية صارخة وشهوة عارمة، فهم قد عرفوا رياضة الإنسان وترويض الحيوان، فلما طالعهم الإسلام أحل الله لهم صيد البر والبحر وحثهم على الرفق في الأمر كله، ونهاهم عن المثلة ولو بالكلب العقور فكانوا طرازا نادرا في البطولة والرجولة.
طيروا الحمام الزاجل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. 

وأطلقوا الصقور بين يدي نبالهم تنقض على الصيد المباح، وامتلكوا نواصي الخيل. واعتلوا صهواتها. 
فأكرموا غاية الإكرام وركبوا سفينة الصحراء تشق بهم الوهاد والنجاد. وتربصوا للأسود الضارية والأفاعي الحاوية، فصرعوها في كهوفها، فتطهرت السبل من أذى الإنس والجن.

وكانت العاب العرب في جملتها وتفصيلها مسايرة لمطالب الطبع البشري، فلم يقهروا الغريزة قهرا، - ولو أرادوا لفعلوا - ولم يهربوا من الطبع الغلاب، بل واجهوا الحياة بما هو في الإمكان للسير بها قدما نحو الشرف والرفعة، حتى إذا لم يعد في الطاقة مكان، استسلم المرء للواقع المرير، وفي القلب الكسير حسرة على الماضي القوي، والشباب الصبي، فذلك قول شيخ العرب، وقد ذوى عوده، وانطوى ظله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا=أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به=وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعدما قوة اعز بها=أصبحت شيخا أعالج الكبرا



ولو شاء العربي أن يرمز إلى الحياة الجامحة فإنما تكون نفسه أقرب ما يسعفه إلى غرضه، بل تكون (الناقة) أقرب إليه والى الحياة من نفسه؛ فهي محور الأرض والسماء، ومرصد الشاهد والغائب، ومدار القوي والضعيف، ومقياس الشرف والصفة، ورمز العافية والضياع. ولهذا كان اغلب التعبيرات العربية عن النفس مشتقة من الناقة التي هي سفينة الحياة. وطالما كنى بها العربي عن نفسه في كل مظاهر الشعور.
فكان العقل من قولهم: عقل البعير، والعقل والعقال ما يعقل؛ والعائلة هي العاقلة أي القبيلة لأنها تعقل البعير في أداء الدية عن المعتدي الأثيم من أفرادها. وما أبرع تورية النبي لصاحب الناقة إذ قال (اعقلها وتوكل)


والعربي يرخى لنفسه العنان كما يفعل بناقته ثم يأخذ شكيمتها ويكبح جماحها. ويزجرها عن هواها، ويثنيها عن غربها وشموسها ويأخذ بناصيتها، ويمتلك سنامها، وتميل نفسه إلى ولده متأثرا بحنين الناقة إذا طربت في أثر ولدها، وإذا أناخها فبركت، فإنما هي نفسه التي ينيخها فتبرك. وكذلك حين يسوقها ويقودها ويحثها ويحدو لها فهي ذلول لا شرود، ما دام في يده خطامها يشد عليها زمامها، فيلزمها غرز الفضيلة وتنص به في ركاب الفضلاء، رائدة الخير لها، ينتجه صادرا وواردا.



تلك هي حياة العربي الذي يتخذ من الناقة سفينة إلى معالي المثل ومكارم الأمور، حتى إذا نفض يديه من حطام دنياه لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، لا تخدعه فيها خضراء الدمن.
ولعمري إن الإنسان الذي يتوصل إلى ما بلغه العربي من مجد لأحق بالتمجيد والتخليد، وحسبه شرفا أنه سلك كل وعر، وامتطى كل صعب، حتى ألان الدنيا لأرادته. فكانت طوع أمره، وراض بدنه لنفسه، وروض جوارحه للمعالي، فكان صاحب السيادة.
ومفتاح هذا الظفر أنه اتخذ من الجمل مطية لكل غرض؛ فأصبحت الحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وصار من المألوف المعروف عنه أن يقول (فلان يتخذ الليل جملا).
وانه لمجتمع كريم ذلك الذي يدرك فلسفة الحياة في كلمتين هما:
(الغاية والوسيلة) ويدرك حقيقة البطل في صورة فيها الجسم الجميل، والنفس الكاملة، والغرض السامي.
ولا شك أن الألعاب العربية في هذا الغرض الذي أبديناه قد أوفت على الغاية، واختارت المسلك القريب، فزاحمت بذلك أصحاب الحضارة، وأثبتت أصالتها وعراقتها كلما تعرضت للمقاييس النزيهة مما نعرفه، ولم نعرفه بعد.

________________________________________________

مجلة الرسالة الأعداد 905 / 906 / 907

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق