بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 23 يناير 2017

على طريقة الصين أو أبى دلامة


للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

قرأت في بعض ما كتب عن الصين الحديثة وحروبها الداخلية - قبل أن تغزوها اليابان - أنه كان يحدث أن يخرج القائد من القواد الصينيين لقتال غريمه فيلقى الجمعان ويصطف الجيشان ويبرز أحد القائدين، ويدعو خصمه فيخرج إليه ويقف بين العسكرين يتبارزان ولكن بالحجة والمنطق، ويتصاولان ولكن على الورق والخرائط، ويتجادلان في أي الخطتين كانت خليقة أن تجيء صاحبها بالنصر، حتى يقتنع أحدهما بأن الدائرة ستدور عليه لا محالة، فيعد نفسه مهزوماً، ويرتد بجيشه عن الساحة، وينصرف خصمه وقد رفع ألوية النصر.

كذلك قال بعض الكتاب. وزعموا أيضاً أن هذا بعض ما أطمع اليابان في الصين وأوهمها أن قتالها أمر هين، وأن المنال قريب والغاية في حكم المدركة، فإذا بها تتورط في حرب لا تعرف لها منها مخرجاً ولا تتبين لها نهاية قريبة، بعد أربع سنوات طويلات دخلت في خلالها مئات من المدائن، واحتلت رقعة أوسع من نصف القارة الأوربية وما زالت الحرب - إذا اعتبرنا قوة المقاومة - كأنها في بدايتها.

وليس من همي أن أقول شيئاً عن الصين، وإنما سقت هذا الخبر لأني ذكرت له مشبها له من أخبار أبى دلامة الشاعر الماجن الظريف فقد حكوا عنه - وحكى هو عن نفسه فيما يروون عنه - أن الخليفة - المنصور أو المهدي - غضب عليه لاعتكافه على الخمر، فأمر به فخرج في بحث حرب مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. 

قال أبو دلامة: فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه.
فضحك وقال: والله لأدفعن ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك.
ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى ودعا بغيرهما، فلما حصل ذلك زالت عني حلاوة الطمع فقلت له: أيها الأمير هذا مقام العائذ بك.
فقال: دع عنك هذا.
وبرز رجل من الخوارج يدعو إلى المبارزة.
فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة.
فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي.
قال: والله لتخرجن.
قلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. 
فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعيناه تتقدان، فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت.
فوقف، فقلت: أتقتل من لا يقاتلك. . ..
قال: لا.
قلت: أتقتل رجلاً على دينك.
قال: لا.
قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتل إلى دينك.
قال: فأذهب عني إلى لعنة الله.
قلت: لا أفعل أو تسمع مني.
قال: قل.
قلت: هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك عليّ، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً.
قال: لا والله.
قلت: ولا أن أعرف والله إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأريد السوء لمن أراده لك.
قال: يا هذا جزاك الله خيرا فانصرف.
قلت: إن معي زاداً أحب أن آكله معك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا.
قال: أفعل.
فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلها على معارفها والناس يضحكون، فلما استوفينا ودعني، فقلت له: إن هذا الجاهل - يعني روح بن حاتم - إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل.
قال: قد فعلت.
ثم انصرف وانصرفت، فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك.فأمسك.
وخرج آخر يدعو إلى المبارزة، فقال لي: اخرج، فقلت له:

إني أعوذ بروح أن يقدمني ... إلى النزال فتخزى بي بنو أسد

إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرق بين الروح والجسد

إن المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد

لو أن لي مهجة أخرى لجدت به ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد

فضحك وأعفاني.



وهذا الذي كلم به أبو دلامة قرنه فكفاه شره، احتجاج قوي لترك الحرب، ولو كان الأمر إلى الجنود المسوقة وخوطبت بمثله لكان الأرجح في الرأي والأغلب في الاحتمال أن تلقى السلاح وتنفض يدها من كفاح لا تعرف باعثاً عليه أو موجباً له، ولكن الأمر للقادة والرؤساء وهؤلاء لا يعبئون إلا بما يطمعون فيه ويسعون له، ولا يبالون من رضى ممن سخط، ومن بقى ممن هلك، إذا هم أدركوا بغيتهم ونالوا وطرهم.

وقد خاطب الألمان جنود فرنسا بمثل كلام أبى دلامة - في هذه الحرب فكانوا في الشهور الأولى - شهور الركود والتربص - كل ليلة ينادونهم من خط سجفريد (أن لماذا تحاربوننا يا معاشر الفرنسيين ولا عداء بيننا وبينكم ولا مطمع لنا في مستعمراتكم، وقد سمعتم (الفوهرر) يقول في خطبته إن بناء خط سجفريد اعتراف من ألمانيا بأنها تعد الحدود بينها وبينكم نهائية، ولولا ذلك ما جشمت نفسها مشقة البناء ونفقاته، إنما غريمنا وغريمكم الإنجليز، وقد زجوا بكم إلى الحرب ليقاتلونا بكم) الخ الخ وقد فعل هذا الكلام فعله في نفوس الفرنسيين وظهر أثره في معركة فرنسا.

وأعود بكم إلى صاحبنا أبى دلامة فأقول: إن الرصافي - شيخ شعراء العراق في هذا الزمان - أسبغ الله عليه برد العافية صنع شعراً في خبر أبى دلامة مطلعه (قضت المطامع أن تطيل جدالاً)

قال فيه:

أمن السياسة أن يقتل بعضنا ... بعضاً ليدرك غيرنا الآمالا

تفنى الجيوش ولا ضغائن بينها ... سبقت ولا ترة ولا أذخالا

وأستطرد إلى قصة أبى دلامة ثم ختم القصيدة بقوله:

إن الدهور - وهن أمهر سابك - ... سترد أضداد الورى أشكالاً

حتى كأني بالطباع تبدلت ... غير الطباع وزلزلت زلزالا

وكأنني ببني الملاحم أصبحوا ... لأبي دلامة كلهم أشكالا

ويا عسى ولعل، وسمع الله منك صديقنا، ولكن هيهات. . . هيهات! والسلام عليك إذا لم يكن على الأرض سلام.
___________________________________

مجلة الرسالة العدد 400

الخميس، 12 يناير 2017

المستشرقون في موقفهم الخطير إزاء الإسلام



بقلم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان
(ونشرت في جريدة الجهاد)

هذه مسألة جلى لا يتنبه إليها الشرقيون كما يجب أن يتنبهوا، وكما هو شأنهم في كثير من المسائل، ولكن عليهم من الآن فصاعدًا بعد أن زعموا كونهم تقدموا ورقوا أن يتنبهوا لهذا الموضوع، وذلك أن أوربة عالم كبير قد أخذ بزمام العالم كله في الوقت الحاضر وهو يتلقى معلوماته عن الشرق والشرقيين من طريقين:
أحدهما: طريق القناصل والسفراء والمعتمدين الرسميين وهؤلاء يكتبون عن الشرق والشرقيين كل شيء ولا يكتمون حكوماتهم عنهما حديثًا إلا أن حكوماتهم تتصرف بتقاريرهم كما تشاء بحسب أهوائها ومصالحها فهي تكتمها أحيانًا وقد تطمسها طمسًا تامًّا حتى كأنها لم تُكتب ولم تتقدم، وهي تفشيها أحيانًا إذا اقتضت ذلك سياستها، وكثيرًا ما تكتم شيئًا منها وتنشر شيئًا، وبالاختصار جميع تقارير سفراء أوربة وقناصلها في الشرق هي رهن أغراض النظارات الخارجية في أوربة، وإذا قلنا: إنها رهن أغراض نظارات أوربة الخارجية، فمعنى ذلك أنها رهن التغطية والتمويه والتلفيق والتبديل والتعديل والفصل والوصل، وإنه لا شيء هناك يقال له حقيقة بل لا يوجد هناك إلا ما يقال له: (مصلحة) .


وأما الطريق الثاني لمعرفة أحوال الشرق والشرقيين فهو طريق الاستشراق، وذلك أنه يوجد في أوربة طبقة من المتعلمين تعنى خاصة بدرس اللغات الشرقية، وكل ما يتعلق بالشرق وأهله، وهم يتنوعون في هذه الدروس فمنهم من يتخصص بعلوم الصين، ومنهم من يتخصص بعلوم اليابان، ومنهم بالمعلومات عن الهند أو عن الجاوى، ومنهم من يجعل همته منصرفة إلى الاستقصاء في أخبار فارس، ومنهم من يوجه نظره إلى تركستان وغير ذلك. وإنَّ جانبًا عظيمًا من الاستشراق وربما يكون هو الأعظم متوجه إلى درس الإسلام والبلاد الإسلامية من مشرقها إلى مغربها.

وإن هذه الطبقة التي تعنى بشأن الإسلام والمسلمين هي التي تكيف المعلومات الإسلامية في أوربة بكيفية نظرها وتمثيلها للعالم الإسلامي إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، هذه الطبقة هي الترجمان الذي يلقي إلى ستمائة مليون أوربي وصف أحوال الإسلام والمسلمين، فإن كان هذا الترجمان أمينًا تلقى هؤلاء الستمائة مليون أوربي تلك المعلومات على وجهها، واعتدلوا بحق الإسلام والمسلمين، وإن كان الترجمان خائنًا أو لئيمًا يُحَرِّف الكلم عن مواضعه ويقلب الحقائق عمدًا لمرض في نفسه أو لإحنة في صدره، أمكنه أن يهيج من أحقاد الأوربيين الكامنة على المسلمين، وأن يثير من عداوتهم لهم ما ليس لضرره حد؛ لأن العالم الأوربي إذا فكر قال، وإذا قال فعل، وإذا فعل قام بانقلابات كثيرة، هذا إلى اليوم، ولا نعلم ماذا يكون في الغد؟
فهل هذه الطبقة التي يصح أن يقال: إنها ترجمان العالم الإسلامي لدى العالم الأوربي هي أمينة أم خائنة في الترجمة؟
الجواب عليه هو هذا البحث الذي نريد الآن أن ننبه الأفكار إليه بعد أن نقرر أن هذه الطبقة هي التي تصور أحوال المسلمين للأوربيين بحسب درجتي صدقها وكذبها أو درجتي علمها وجهلها.
من هؤلاء المستشرقين فئة ما استشرقوا ولا خَطَوْا خطوة في هذه السبيل إلا لأجل أن يتعقبوا عورات الإسلام ومثالبه، ويخوضوا في أعراض المسلمين، ويبحثوا عن زلاتهم؛ ليجسموها ويُبْرِزُوها لأنظار الأوربيين بالشكل المُسْتَبْشَع الذي تنفر منه طباعهم، وتثور حفائظهم، وذلك حتى يزدادوا بغضًا للإسلام وبعدًا عنه، وهذه الفئة من حيث إن أصل استشراقها هو العمل لخدمة المسيحية وتشويه الإسلام بما أمكن لا تقتصر على تجسيم العورات إذا وقعت عليها، بل يبلغ بها سوء القصد أن تقلب الحقائق قلبًا، وأن ترتكب التزوير عمدًا، وأن تأخذ بالحوادث الجزئية فتعممها فتجعل منها قواعد، وكل شيء تعمله هذه الفئة على قاعدة (أن الغاية تبرر الواسطة) فالإسلام بزعمها هو شر محض، فينبغي تنفير الناس منه بالحق وبالباطل، وهذه الفرقة من المستشرقين كثيرة العدد يطول بنا تعدد أسمائها، ومن جملتها لامانس اليسوعي البلجيكي ومارتين هارتمان الألماني، ومرغليوث الإنكليزي، وفنسنك الذي ذكر عنه الدكتور حسين الهراوي أنه طعن في الرسول عليه السلام، وأنا لم أقرأ طعن هذا، ولكنني قرأت مطاعن الآخرين، وقد نشرت في (حاضر العالم الإسلامي) أسماء مشاهير المستشرقين الممتازين في التحامل على الإسلام، فليراجع ذلك من أراد في ذلك الكتاب.


ومن المستشرقين فئة أخرى غرضهم أيضًا أن يخدموا المدنية الأوربية والثقافة المسيحية، وأن يبثوها بما أمكنهم بين المسلمين، ولكنهم لا يستبيحون ما تستبيحه الفئة الأولى من الكذب والبهتان، وقلب الحقائق واللوذ بكل عضيهة للتمثيل بالإسلام وأهله، كلا هؤلاء يلتزمون في مباحثهم الطريقة العلمية التي تقتضي معرفة الحق في أي جانب كان، ولكنهم لا يتحرجون عند أول فرصة تلوح لهم أن يتولجوها ويحملوا على الإسلام باسم العلم بزعمهم، وأن يجسموا الهنات، وأن يعمموا الجزئيات في الأحايين، وأن يتجاهلوا ما عندهم من الطامات الكبرى التي لا تقاس إليها معايب الإسلام في كثير ولا قليل فهذه الفئة يتألف منها أكثر المستشرقين وهم يعدون إجمالاً من ذوي الفضل على العلم، وممن يلزم أن يستفاد منهم، ولكن مع دوام الحذر مما يلقونه أحيانًا من السموم بحق الإسلام مما يكون ضرره أشد من ضرر الفئة الأولى التي بهتانها ظاهر للعيان، يمكن أن توصف هذه الفئة (بالعدو العاقل) ومن هؤلاء الأستاذ ماسينيون الأفرنسي وسنوك هور كرونيه الهولندي وغيرهما.

ومن المستشرقين فئة ثالثة قليلة العدد في أوربة إلا أن منها رجالاً محققين، وهؤلاء يتحرون مزيد التحري، وينصفون الإسلام إنصافًا تامًّا لا يشوبه أدنى تحامل، وإن بدر منهم انتقاد للإسلام في شيء فيكون عن اعتقاد أو وجهة نظر نظروها أو خطأ وقعوا فيه لا عن سوء نية، ولا عن تعمد انتقاص، ولا أعلم في هذه الطبقة أشهر من غولد سيهر المجري الذي هو في الحقيقة أفهم الأوربيين لقواعد الإسلام ومنهم في الحياة الأستاذ كامفماير الألماني والأستاذ مونتا السويسري، ومنهم كاراده فو الفرنسي صاحب كتاب مفكري الإسلام، ومنهم الدكتور مايرهوف الألماني، ومنهم غروسه الفرنسي، ومنهم رينه الإفرنسي الذي بلغ به استشراقه من حب الإسلام أن دان بالإسلام وحج البيت الحرام، ومنهم علماء آخرون لست الآن في مقام استقصاء من جهتهم.

ولا شك أن الفئة الأخيرة قد خدمت الإسلام خدمات جلى في أوربة وحولت كثيرًا من العقائد الباطلة بحق الإسلام عن مجراها الأول، وخففت كثيرًا من الأحقاد، وصححت جمهرة من الأوهام، ولكنها مع الأسف لم تقدر أن تنسف تلك الجبال المتراكمة من البغض والعدوان والعقائد الفاسدة بحق الإسلام والمسلمين؛ لأن التيار الأصلي الباقي من القرون الوسطى لا يزال شديدًا.

كان زميلي إحسان بك الجابري يتحدث منذ يومين إلى مهندس كبير قد يكون أشهر مهندس في سويسرة وهو من كبار المفكرين فقال لزميلي: نشأنا من الصغر في بغض الإسلام وربانا آباؤنا ومعلمونا على مبادئ من العداوة للإسلام نحن الآن نعلم بطلانها، لكننا بحكم الاستمرار لا نقدر أن نتخلص منها)

إن غوته الشاعر الألماني الأكبر الذي يقول الألمان: إنه أكبر دماغ ظهر في ألمانية، وكان شبان الألمان ينتحرون من تأثير بعض رواياته الشعرية، نعم غوته هو نفسه قال - وكلامه هذا مُدَوَّنٌ عنه-: إذا كان هذا هو الإسلام أفلسنا كلنا مسلمين؟
هذا الرجل الذي سحر ناشئة الألمان في عصره ولا يزال يسحرها إلى الآن قد عجز عن أن ينسف ما تراكم من الأوهام المتكاثفة بحق الإسلام في ألمانية، هذا والألمان أقل الأمم الأوربية تحاملاً على الإسلام والمسلمين فما ظنك بغيرهم؟ حرَّر الأستاذ الحجة السيد رشيد رضا في المدة الأخيرة كتابا أسماه (الوحي المحمدي) من أنفس ما كتبه المسلمون في هذا العصر وكل عصر، وكأنما كتبه تلقاء الانتقادات الأوربية التي تتوجه على الإسلام، إما عن تحامل وعداوة، وإما عن جهل المستشرقين حقائق كثيرة فاتتهم، أو عن جهل المؤلفين المسلمين أنفسهم بحقائق دينهم وبكيفية الدفاع عنهم إلا من عصم ربك، أو بعدم فهم الكثيرين منهم لأسرار الشرع المحمدي، وقد أهديناه إلى من نحسن الظن فيهم من المستشرقين فلعلهم ينتدبون لترجمته إلى اللغات الأوربية [1] فتتبدد به أوهام، وتنقشع ضلالات، ويتجلى ما في المطاعن على أحكام القرآن من المُحَالات، فالذي يوفق إليه الأستاذ صاحب المنار في هذا الباب لا يوفق إليه غيره.

وأما الخلاصة التي أريدها من هذه المقدمات فليست إخراج المستشرق فنسنك من المجمع اللغوي المصري، هذا شيء يعني الحكومة المصرية ورعاياها المصريين وهي أدرى بشغلها، وأنا لست من مصر ولا أقدر أن أطأ بقدمي أرض مصر، ولكن أريد تنبيه اللجنة المنتدبة لترجمة الإنسيكلوبيذية الإسلامية إلى العربية إلى شيء وهو أنه مع كون ترجمة هذه الإنسيكلوبيذية هي في الدرجة القصوى من الإفادة، بل هي ضرورية لناشئة العالم الإسلامي لا تخلو من تحاملات منكرة على الإسلام، ومن غلطات وخبطات علمية في مباحثها التي تولاها بعض الفئة الأولى المتحاملة من المستشرقين، فإن تحرير هذا الكتاب تشطره عدد كبير من المستشرقين، وكل منهم كتب بحسب معرفته، ومنهم من كتب بمقتضى هواه أيضًا، فعلى لجنة الترجمة التي يجب أن يكون فيها الأديب والمؤرخ والجغرافي والفلكي والرياضي والكيماوي والجيولوجي والطبيب والفقيه والفيلسوف والمتكلم؛ لتكون الترجمة صحيحة أن يكون بجانبها لجنة تضع في الحواشي تصحيح ما يجب تصحيحه من الأغلاط، وتستدرك أيضًا على فوات المتن، وإلا فنكون أدخلنا في عقول ناشئتنا الجديدة ضلالات لا تحصى باسم العلم والفن وحرية الفكر والاستنتاج التحليلي وغير ذلك من الألفاظ التي يلوكها بعض الأوربيين في تسمية سمومهم الخبيثة، ودسائسهم المنكرة لحمل المسلمين على اتخاذ ثقافتهم، والتحول عن الإسلام، فنحن من هذا البلاء في المقيم المقعد الذي يكفينا بدون ترجمة أنسيكلوبيذية إسلامية يحرر فيها لامنس وأضرابه، فكيف إذا أصبحنا نأخذ أخبار الإسلام والمسلمين عن هؤلاء ولا ننبه عليها؟

إليك الدليل على تحامل لامنس ومحاولته قلب الحقائق العلمية ما أرسل به إليَّ أحد أصحابي من مصر من مقال في الأهرام ينقل كلام لامنس عن عرب الأندلس وهو بحرفه: (لم يكن بين المسلمين الذين قاموا بفتح الأندلس إلا القليل من العنصر العربي الخالص، فكان منهم قواد العسكر وأصحاب الرتب فيه ليس غير.
أما أكثرية الجيش فكانت مؤلفة من البربر والأفريقيين وفضلا عن ذلك فإن عدد العرب الأقحاح كان ينقص باطراد متواصل بسبب الحروب الأهلية. فإذا تقرر هذا رأينا أنفسنا مدفوعين إلى الإقرار مع الأستاذ ريبيره بأن نسبة العنصر العربي في تكوين الشعب الأسباني المسلم قليلة جدًّا، ومن ثم فلا شيء يجيز لنا نعت مسلمي الأندلس بالعرب، إلى غير ذلك من الهذيان الذي هذاه لامنس اليسوعي ومن قبله صاحبه العالم الأسبانيولي. العرب يفتخرون بمدنيتهم الأندلسية، والإسلام يتخذها حجة على أهليته للتمدين والتثقيف والسبق في ميدان الحضارة، وهذا بيت القصيد، فلامنس اليسوعي يريد إنكار هذه الحقيقة التي تأتي بعكس ما يقرره دائمًا هؤلاء المتحاملون من أن الإسلام لم يوفق حتى الآن إلى تأسيس مدنية راقية. ولما كانت هذه المقالة قد طالت وكان الرد على كلام لامنس هذا بالأدلة العلمية القاطعة يأخذ بعض أعمدة من (الجهاد) فإننا نرجئ هذا الرد إلى عدد قادم إن شاء الله.


(المنار)
أشكر لصديقي الأمير شكيب هذا البيان لحقيقة حال جماعة المستشرقين وأصنافهم الثلاثة، ثم أشكر له سلفًا ما سيرد به على لامنس اليسوعي المشهور بغلوه في عيوب طغمته وشرها الكذب، وتحريف الكلم فيما ينشرون من الكتب، والخيانة في العلم والأدب لخدمة سياستهم الدينية على قاعدتهم المشهورة (الغاية تبرر الواسطة) عرفت هذا منذ كنت تلميذًا بتحريفهم لكتاب الألفاظ الكتابية، وإني على اعتقادي بأن أمير البيان سيفضح لامنس في رده عليه بما هو أحق به وأهله، وقلَّ أن يقدر عليه غيره، لا يسعني إلا أن أسبقه فأقول للامنس: إن العرب نزلوا كالغيث من سماء الإسلام على جميع الأقطار فأحيوا جميع الشعوب الآسيوية والأفريقية والأوربية وأصلحوا إفساد حضارتهم ومللهم وأديانهم على قلة عددهم في كل قطر، فإن كانوا وجدوا عونًا لهم من أبنائهم البربر الذين مدينوهم بالإسلام على فتح الأندلس، فالفضل الأول على الفريقين لهم، وإلا فلماذا لم يفعل ذلك البربر في أنفسهم قبلهم، فالعرب كانوا أقلية في غير الأندلس، ولكن قليلهم لا يقال له قليل، فهم كالملح قليله يصلح الطعام، وكالنور شعلة منه تطرد الظلام، ولولا أن تداركوا العالم بالإسلام، لقضت محاكم التفتيش الكاثوليكية على حضارة جميع الأقوام.
____________________________
(1) إنني طلبت من صديقي الأمير شكيب عناوين من يعرف من المستشرقين الذين يعرفون لغتنا وأرسلت كتاب الوحي إلى كل من أرسل إليَّ عناوينهم، ووعد بإرسال غيرها وغرضي من الإرسال إليهم إقامة حجة الإسلام عليهم بوقفهم على حقيقته والوقوف على آرائهم فيه بعدُ، وإني لأنتظر منه إرسال عناوين أخرى.

____________________________

مجلة المنار المجلد 33 ص: 435

الأربعاء، 11 يناير 2017

الألعاب العربية


للأستاذ محمد محمود زيتون

- 1 -

لم يكن العرب بمعزل عن الحضارات التي أحاطت ببلادهم، بل كانوا على اتصال وثيق بها، في الأخذ والعطاء. على أن الرمال السوافي، والجبال الرواسي، والبطاح المترامية، لم نحجب عن العرب أصداء الفرس والروم والأحباش والهنود والسريان والمصريين.

ويخطئ من يظن أن العرب لم يحتفلوا بالألعاب الرياضية احتفال الرومان والفرس بها. وفي الحق أن العرب عنوا بالرياضة لا باعتبارها لهوا ولعبا؛ ولكن على أنها تربية ذات طابع قومي، ونهج واضح، وغاية رفيعة.

والتراث العربي حافل بهذا اللون من التربية، سواء في كتاب الله، وسنة رسوله، ودواوين الشعراء، والقواميس والمعاجم، مما أضاف إلى الحضارة العربية ثروة جديدة ذات قيمة نادرة، وإن كان الدارسون منا ومن المستشرقين لم يلمسوا هذه الزاوية في قليل أو كثير، إلا أنها لا تقل أهمية عن مظاهر هذه الحضارة التي نعتز بإذاعتها في الناس.

ولنذكر أولا في هذا البحث الألعاب المشهورة عند العرب ليقف القارئ البصير على مقدار نفعها البدني، وغايتها في تربية الفرد وأثرها في المجتمع، ولنا بعد ذلك وقفة عند موقف الإسلام الحنيف من هذه الألعاب التي نستخرجها من كتب اللغة والأدب والسيرة ونذكر منها:

المفايلة: لعبة لفتيان العرب يخبئون الشيء في التراب ثم يقسمونه فإذا أخطأ المخطئ قيل له فال رأيك.

الجثة: تشبه المفايلة هي أن يختبئ الصبيان شيئا تحت التراب ثم يصدع صدعين ثم يضرب أحدهم بيده على أحدهما أو على بعضه؛ فإن قبض على الخبء فيه قمر.

عظم وضاح: لعبة الصبيان بالليل وهي أن يأخذوا عظما أبيض شديد البياض فيلقوه ثم يتفرقوا في طلبه فمن وجده منهم ركب أصحابه.

خراج: يمسك أحدهم شيئا بيده ويقول لسائرهم اخرجوا ما في يدي.

الخطرة: وهي اللعب بالمخراق.

الضب: وهي أن يصور الضب في الأرض ثم يحول أحدهم وجهه ويقول: ضع يدك على صورة الضب، على أي موضع من الضب وضعته فإن أصاب قمر.

النقيري: وهي لعبة بالتراب، ويقال الصبيان ينقرون أي يلعبون النقيري.

المقلاء والقلة: عودان يلعب بهما الصبيان فالعود الذي يضرب به يسمى المقلاء وهي خشبة قدر ذراع - والقلة هي الخشبة الصغيرة - والقلو لعبك بالقلة وذلك رمها في الجو ثم ضربها بمقلاء في اليد فتستمر القلة ماضية فإذا وقعت كان طرفاها ناتئين على الأرض فتضرب أحد طرفيها فتستدير وترتفع ثم تعترضها بالمقلاء فتضربها في الهواء فتستمر ماضية - والفعل قلا يقلو قلوا.

المقلاع: معروف ويستخدم في رمي حجرة إلى مكان بعيد.

العرعار: لعبة للصبيان أيضا.

الخذروف: شيء يدوره الصبي في يده بخيط فيسمع له دوي - قال امرئ القيس يصف فرسه في شدة جريه:

درير كخذروف الوليد أثره ... تتابع كفيه بخيط موصل

الكرة: معروفة ويقال كرا الكرة يكررها ومقطها يمقطها أي يضرب بها الأرض ثم يأخذها.

الطبطابة: مضرب الكرة.

الصاعة: البقعة الجرداء ليس فيها شيء، يكسحها الغلام وينحى حجارتها ويكرو فيها بالكرة.

الكجة: يأخذ الصبي خرقة فيدورها كأنها كرة فهو يكج أي يلعب بالكجة.

التوز: الخشبة تلعب بها الكجة.

البكسة: خرقة يلعب بها وتسمى الكجة.

الصولجان: المحجن وهو قضيب يثنى طرفه.

الميجار: شبه صولجان تضرب به الكرة.

القفيزي: خشبة ينصبها الصبيان يتقافزون عليها.

النفاز: لعبة يتنافزون عليها أي يتواثبون.

الحوفزي: أن تلقي الصبي على أطراف رجليك فترفعه - والفعل حوفزي.

البنات: التماثيل الصغار يلعب بها وهي المعروفة في الفرنسية باسم:

الربيعة: حجر تمتحن بإشالته القوى.

الزحلوقة: مكان منحدر مملس.

الأرجوحة: خشبة توضع على تل ثم يجلس غلام على أحد طرفيها وغلام آخر على الطرف الآخر فتترجح الخشبة بهما وتتحركان فيميل أحدهما بالآخر - والفعل ترجح يترجح على الأرجوحة.

الحمص: هو الترجح والفعل حمص يحمص حمصا.

الجعري: أن يحمل الصبي بين اثنين على أيديهما.

المقثة: خشبة مستديرة على قدر قرص يلعب بها الصبيان تشبه الخرارة.

الخرارة: عود يوثق بخيط ويحرك الخيط وتجر الخشبة فيصوت.

المطثة والمطخة: خشبة عريضة يدقق أحد رأسيها يلعب به الصبيان.

الحجورة: يخط الصبيان خطا مستديرا ويقف فيه صبي ويحيط به الصبيان ويضربونه فمن أخذ منهم أقامه مكانه.

الجماح: سهم يجعل على رأسه طين كالبندقية يرمي به الصبيان.

التخاسي: الرجلان يتخاسيان أي يلعبان بالزوج والفرد يقال: خساً أو زكا أي فرد أو زوج.

الأمبوثة: هي أن يحفر الصبيان حفيرا ويدفنون فيه شيئا فمن استخرجه فقد غلب.

الدعلجة: لعبة يختلف فيها الصبيان للجيئة والذهاب.

الحوالس: هي أن يخطو خمسة أبيات في أرض سهلة ويجعلوا في كل بيت خمس بعرات وبينها خمسة أبيات ليس فيها شيء ثم يجر البعر إليها وكل خط منها حالس.

المخراق: منديل أو نحوه يلوى فيضرب به.

الرجاحة: حبل يعلق ويركبه الصبيان.

الجنابا أو الجنابى: هي أن يتجانب اثنان فيعتصم كل واحد من الآخر.

ردت الجارية: أي رفعت رجلا ومشت على أخرى تلعب.

يتبادح الصبيان: أي يترامون بالبطيخ والرمان والكرين ونحوها.

البوصاء: عود في رأسه نار يديرنه على رءوسهم.

المخزق: عوبد في طرفه مسمار محدد يكون عند بياع البسر بالنوى وله مخازق كثيرة فيأتيه الصبي بالنوى فيأخذه فيه ويشرط له كذا وكذا ضربة بالمخزق فما انتظم له من البسر فهو له قل أو كثر، وإن أخطأ فلا شيء له وذهب نواه.

التضرفط: أن تركب أحداً وتخرج رجليك من تحت إبطيه وتجعلهما على عنقه.

الرهان والمراهنة: هي المخاطرة والمسابقة على الخيل.

الوجب: السبق في الرمي، وهم يتخاطرون أي يتراهنون في الرمي.

الميسر: اللعب في القداح.

هذا فضلا عن الكعب والشطرنج والنرد والدامة والمصارعة والرماية والفروسية والمسايفة والمبارزة والسباحة والرقص واللعب بالمشاعل والرماح والحراب مما يدخل في باب اللعب الذي هو ضد الجد والذي هو أحيانا اللهو.

ومن مادة (لعب) اشتق العرب الاصطلاحات الآتية:

اللعبة: وهي ما يلعب به.

اللعاب: وهو الرجل الذي حرفته اللعب.

اللعب: وهي تماثيل من عاج.

تلعب: لعب مرة بعد أخرى.

ورجل تلعابة. كثير اللعب. التلعاب: اللعب واللعب.

الملعبة: وهي الثوب لا كم له يلعب به الصبي.

الملعب: المكان الذي يلعب فيه الصبيان.

وكذلك قالوا:

برحى: للمخطئ في مرمى.

مرحي: للمصيب في الرمي.

الطالع: وهو السهم الذي يقع وراء الهدف.

الشعوذة: وهي خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين، والرجل مشعوذ.

النيرج والنيرنج: وهي الشعوذة.

وبرزت عناية العرب بسباق الخيل وابتدعوا المصطلحات الوفيرة له منها المصلي والمجلي كما سموا الأخير باسم الفسكل وأجازوا الحائز لقصب السبق ومنحوه نوط الجدارة والصرة وهي البدرة من المال. وقال الشاعر يصف الخيل في السباق:

ترى ذا السبق والمسبوق منها ... كما بسطت أناملها اليدان

وبلغ من عنايتهم بالتشجيع وإفساح المجال أمام الضعيف أن قالوا: (وعند مستبق الزود تسبق العرجاء) ليكون باب الأمل مفتوحا على مصراعيه، وافتخروا بنشأتهم على ظهور الخيل فقالوا:

كأنهم في ظهور الخيل نبت ربي ... من شدة الحزم لا من شدة الحزم

فكانوا حقاً وصدقا رهبان الليل وفرسان النهار.

وتعمقوا في دراسة الخيل من كل وجه فدرسوا أعضاءها وأطوار حياتها وطباعها وألوانها وفصائلها وتناسلها وألفوا في ذلك الموسوعات التي من أشهرها كتاب (جر الذيل في علم الخيل) واحتفل بها القرآن الكريم وأقسم بها رب العزة فقال في كتابه العزيز (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغريات صبحا، فأثرن به نقعا، فوسطن به جمعا) وأمر الله بإرهاب العدو بكل ما يستطاع من قوة (ومن رباط الخيل) وما أبلغ النبي العربي بقوله (يا خيل الله اركبي) وليس بعجيب أن يأمر النبي المسلمين بتربية الخيل وإعدادها للجهاد نهيا عن اتخاذها لمجرد الزينة والتفاخر قائلا بعد ذلك (الخير تحت أقدام الخيل) وقد قرن المتنبي عزة الفارس بفضل الكتاب فقال:

أعز مكان في الدنى سرج سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب


وكان العرب كذلك أسبق الشعوب إلى حركة الكشف فهم المشهورون بقص الأثر والتعرف على الخصائص الدقيقة لصاحبه بمجرد النظر إلى ما خلفه قدمه على الرمل السافي أو صفاة الجبل فيعرفون إذا كان رجلا أو امرأة، عذراء أو حاملا. وكذلك هم المشهورون بالنار وإشعالها بالليل لهداية الضال وإكرام الضيف وتحدي العدو فقالوا (ناركم منار غيركم) وجاء في الحديث الشريف (إن الرائد لا يكذب أهله.) وكانوا حراصا على تنشئة فتيانهم على المجازفة والمخاطرة فكان منهم أسود البحار الذين قهرت عزائمهم كل قوة وسادت تعاليمهم كل مصر؛ وحتى نعتهم رسول الله بأنهم (الملوك على الأسرة) فذلت لهم رقاب العمالقة والفراعنة، ودانت لهم عروش القياصرة والأكاسرة وبهذا كان العرب جادين حين يلعبون - وبالإسلام صاروا أصحاب رسالة تتجلى آثارها في حركاتهم وسكناتهم وتنضج بها شعائر دينهم ومظاهر دنياهم حتى أصبحوا أصحاب اللهو المشروع الذي لم يتخلف قيد أنملة عن مجال الدعوة المحمدية في أقطارها البعيدة.




- 2 -


ومن البداهة أن الألعاب العربية - وأن كان بعضها في الأصل فارسيا - قد أدت مهمتها في شغل أوقات الفراغ لدى صبيان العرب وصباياهم. مما يدل على أن قسوة الصحراء وخشونة العيش وعنجهية الطبع كل ذلك لم يمنع من إعطاء الحياة لونا زاهيا يشيع معه الفرح والمرح ويهدف إلى تسلية النفس وتسرية الخاطر وترفيه الروح حتى أنتجت مصانع العروبة فوارس الغارات وحماة الثغور.


ولا يخفي ما في هذه الألعاب من استجابة للغريزة البشرية عامة وللبيئة العربية خاصة، ولعل كثيرا وكثيرا جدا غير ما ذكرنا من ألعاب - كان سائدا في تلك البيئة التي نبع منها الشعر وفاضت به البحور.


والشعر ليس إلا نوعا من اللعب كان يلهو به العربي كلما ترامى بين يديه الزمان والمكان جميعا، ولعل معالي أستاذنا الدكتور طه حسين بك كان موفقا كل التوفيق إذ اعتبر (لزوميات ما لا يلزم) نوعا من اللعب الذي كان يزجى به أبو العلاء المعري وقته وهو رهين المحبسين.


ومن هنا تبرز القيمة الحضارية للألعاب العربية فلا ينبغي لها أن ينظر إلها الدارسون على أنها عاديات (أنتيكة) ولكنها في جوهر الحقيقة معالم حظارة، ومعارف حياة: فيها عرق ينبض، ودم يجري، ونسيم يرف، ورمال تسفو، وبعر يتفتت، وشباب يجد ويلعب.
وإلى جانب هذا نرى الإسلام يسجل للألعاب العربية ما تستحقه من ذكر؛ مشجعا على النافع، مبغضا في الضار، كالقمار والميسر والأزلام وغيرها.


ومقياس النفع والضرر في العرف الإسلامي لا يشذ عن روح هذا الدين المتين وهو إعلاء الغريزة البشرية كأساس للتربية الصحيحة الكاملة لكل من الفرد والجماعة.
وأقرب مثل لذلك أن النبي كان يلعب وهو صغير بعظم وضاح مع الغلمان فمر به يهودي فرأى مهارته في اللعب وميزته على رفقائه فدعاه اليهودي وتوسم فيه البراعة وقال له: لتقتلن صناديد هذه القرية. 



ومن هذا يتضح أن الكبار من العرب لم يكونوا ينظرون نظرة العابرين إلى ألعاب الصبيان وإنما كانوا - وهم أصحاب الفراسة - يتفحصون (شخصية اللاعب) أثناء اللعب حتى إذا جاء الإسلام ذهب بغريزة اللعب إلى أبعد مدى تستقيم معه كرامة الإنسان.
أشاد الإسلام بمبدأ (القوة) لأن الله تعالى (ذو قوة) وهو سبحانه (القوي) (أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).
والمعجزات التي أيد الله بها أنبياءه إنما هي (قوى) بل كوى تتجلى منها آيات صاحب الحول والطول حتى يعلم العبد المحدود في إمكانياته أنه (لا حول ولا قوة إلا بالله).
ومن هنا أكبرت بنت شعيب قوة موسى إذ قالت لأبيها (أن خير من استأجرت القوي الأمين) وناجى موسى عليه السلام ربه فقال (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) فاطمأن موسى إلى تأييد ربه إذ (قال سنشد عضدك بأخيك فنجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا، أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال أيضا كليم الله يلتمس القوة من رب القوة ليستعين به على فرعون وملئه (واجعل لي وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري وأشركه في أمري).
وهذا محمد عليه السلام يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) وينزل عليه من السماء (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ويرى عمر بن الخطاب رجلا يتنطع ويتماوت فيضربه ويقول (لا تمت علينا ديننا أماتك الله). .


وكان النبي يقول وهو يدخل مكة حاجا في العام السابع لهجرته (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) وكان يقول عند دخولها في عمرة الحديبية (أرملوا بالبيت ليرى المشركون قوتكم) وهذه هي المناورة المشروعة في الإرهاب المشروع.
سئل أعرابي: لم تسمون أبنائكم بشر الأسماء: نحو كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسن الأسماء: نحو رزق ومرزوق ورباح فقال: إنما نسمي أبنائنا لأعدائنا، وعبيدنا لأنفسنا.


وهكذا عنى العرب بالقوة حتى في تسمية أبنائهم لينشئوا أقوياء الأجسام ومن هنا قال النبي الكريم (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا) وذلك بقصد ربط الخلف بالسلف برباط وثيق من الرمي كمظهر على القوة والشجاعة.
وكان الأنصار يستقبلون النبي يوم هجرته فيقولون: يا رسول الله هلم إلى القوة والمنعة - وكل بني دار يدعونه إليهم معتزين بما عندهم من عدد وعدة وسلاح وخلائف ودرك.
ولم يمهل نبي الإسلام وأمام القوة والإيمان حقوق البدن فقال: (إن لبدنك عليك حقا) ذلك البدن الذي هو (بناء الله) كما سماه سرول الله إذ يقول (من هدم بناء ربه تبارك وتعالى فهو ملعون) وكان النبي يتمنى في بدأ الدعوة أن يعز الله دين الإسلام بعمر بن الخطاب لأنه كان رجلا طوالا عراضا أوتي بسطة في الجسم. فلما اكتمل به عدد المسلمين أربعين خرجوا من مخبأ الأرقم في صفين على رأسيهما حمزة وعمر وقد انتضيا السيف وقريش تنظر مخلوعة القلب وقد أخذ الإرهاب من صناديدها ما أخذ.
ومر رجل على النبي فرأى الصحابة من جلده ونشاطه ما حداهم إلى القول: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).



والمعروف أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي وضع الحدود لكل لهو مشروع؛ فقد عصم الله تعالى نبيه منذ نعومة أظفاره يوم دفعته الغريزة والصبا إلى الربوة ليستمع إلى لهو السامرين وعزف العازفين في عرس بمكة ذات ليلة فضرب الله على قلبه فنام حتى الصباح ولم يتدنس طبعه بفساد.


وكان المسلمون في عصر النبي ينتظرون عودة دحية الكلبي من تجارته وهو القسيم الوسيم فيستقبلونه بالطبول والزمور حتى لقد كانوا يتركون النبي قائما على منبره ويخرجون إلى دحية فنزلت (وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة).


وإنه لتوجيه سليم لسائر الأجيال الإسلامية ينفرد به رسول الله من بين معلمي الخير وأساتذة الإنسانية إذ يقول (حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي) ويقول المربي الأكبر عليه السلام (علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل) كما يقول (تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة).


وحث على مواصلة تعلم الألعاب فقال (من تعلم الرمي ثم نسيه فقد عصى) وقرن تعلم الألعاب بتعلم القرآن إذ قال (من تعلم القرآن ثم نسيه فليس مني؛ ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس مني) وفي رواية أخرى (فهي نعمة جحدها).


ويزيد هذا الحديث إيضاحا وتبيانا قوله الكريم (كل شييْ ليس من ذكر الله عز وجل فهو لهو أو سهو إلا أربع خصال: مشي الرجل بين الغرضين، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، وتعليم السباحة).


وكأنما أدرك رسول الله أن الألعاب ليست وقفا على الفراغ عند العرب في أول عهدهم بالدعوة فدعا إلى مزاولتها مهما اتسع نطاق حياتهم وامتدت رقعة دعوتهم وخرجوا بفتوحاتهم من البداوة إلى الحضارة فهو يقول (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهوا بأسهمه).


وإنه لدرس نافع من النبي المرشد إذ يقول (كل شيْ يلهو به الرجل باطل إلا رمي الرجل بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته).
وعلى الجملة فإن الرسول الكريم إنما يهدف إلى صقل الروح وتهذيبها والبعد بها عما يثقل الكاهل من هموم وأحزان فيقول (من كثر همه سقم بدنه) وباللعب يتفادى المرء هذا السقم.
وعندئذ يبدأ مرحلة جديدة من التربية هدفها امتلاك النفس عند الغضب، وإحكام زمامها خشية الزلل، وقيادتها نحو معالي الأمور.


فإذا كان الصرعة هو الذي يصرع الرجال ولا يصرعه الرجال فإن رسول الله كان أول من دعا بالفطرة الخالصة إلى تعلية الغريزة وكبح جماح النفس إذ يقول (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وهذا هو الجهاد الأكبر: جهاد النفس المركبة من شتى الغرائز حتى لقد سئل النبي: ما الهجرة؟ فقال: (أن تهجر السوء) ثم سئل فأي الهجرة أفضل؟ فقال (الجهاد) قيل وما الجهاد؟ قال: (أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده وأهريق دمه) وقال أيضا (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ذلك بأن الجهاد منهج المؤمن في سبيل انتصار الحق وانتشار الخير وصدق رسول الله (اعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف).
ومن أجل هذه الغاية البعيدة وذلك الهدف الرفيع كان العربي يعلم ابنه الرماية كل يوم إذ يقول:
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني


وفي غزوة أحد أخذ قائد الإسلام ونبي الجهاد يستعرض الصفوف وإذا برافع بن خديج وهو غلام حدث - يشب بقدميه ليبدو طويلا فلا يحرم من الجهاد والاستشهاد فرده النبي لصغر سنه فبكى رافع، فقالوا للنبي: أنه رام، فشفعت له الرماية وأنتظم في سلك المجاهدين. ثم مر النبي القائد بسمرة بن جندب فرده أيضا لصغر سنه فقال أبوه: يا رسول الله إنه يصرع رافعا - فأمرهما النبي فتصارعا فأحسنا المصارعة فأجازهما وقاتلا أحسن القتال.


وفي هذه الغزاة كان نساء قريش يحرضن الرجال ويذمرنهم على القتال وقد اتخذن المعازف والدفوف بينما الأناشيد والأراجيز تلهب ظهور المحاربين حمية وحماسة.
وأخذ أبو دجانة سيف النبي بحقه واعتصب بالموت الأسود وأخذ يتبختر فأنكروها عليه فقال النبي (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن) وجاءت إلى النبي أسماء بنت يزيد الأنصارية تسأله في جهاد النساء وأغلب - الظن أنها وغيرها قد سمعت أم عمارة في دفاعها عن النبي يوم أحد - فقال النبي (انصرفي يا أسماء واعلمي أنك من النساء إن حسن تبعل (ملاعبة) إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته وأتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال) من سعي وجهاد وشهود للجنائز والجماعات.


وكان النبي أعرف الناس بفوائد السفر ومنافع الرحيل فقال (سافروا تصحوا وترزقوا) وكان يسافر إلى الشام صغيرا مع عمه كما كان يتاجر وهو شاب في مال خديجة فأفاد من كل ذلك فوائد جمة. وكان رسول الله مثلا يحتذي في حياته المليئة بكل ما يدفع الإنسانية إلى الرفيع من كل أمر؛ فقد حدثت أم المؤمنين عائشة قالت (خرجت مع النبي في سفر من أسفاره فنزلنا منزلا فقال: تعالي أسابقك، فسبقته. وخرجت معه بعد ذلك في سفر آخر فنزلنا منزلا فقال: تعالي حتى أسابقك فسبقني، ثم ضرب بيده بين كتفي وقال: هذه بتلك).


وكان عليه السلام يقول (إذا أعيا أحدكم فليهرول فإنه يذهب العياء) ولحكمة أسنن الله السعي بين الصفا والمروة هرولة وجعلها من مناسك الحج.
ومن هنا تبرز صفحة جديدة في الإسلام عنوانها (لهو المؤمن) ليتبين المسلم ما أحل الله له وما حرم عليه من صنوف اللهو واللعب، وفي هذا الباب يقول نبي الإسلام (خير لهو المؤمن السباحة وخير لهو المرأة المغزل).


ومما يروى عنه عليه السلام أنه - وله من العمر ست سنوات - أقام بدار النابغة مع أمه وحاضنته أم أيمن، فلما نزل قصر بني عدي بن النجار بالمدينة نظر إلى ذلك القصر وقال: (كنت ألاعب أنيسة - جارية من الأنصار - على هذا الأطم وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائرا كان يقع عليه) ثم نظر إلى الدار وقال: (هاهنا نزلت بي أمي؛ وفي هذا الدار قبر أبي عبد الله ابن عبد المطلب؛ وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار).


وكان اليهود يختلفون عليه وهو يستحم مع الصبيان في البئر فيقول أحدهم - كما تروي أم أيمن - هو نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته.
وفي الحق أن رسول الله قد مارس كثيرا من ألعاب العرب منذ صباه الأول مما كان له أكبر الأثر في نشاطه الجسماني، ورقيه النفساني. وتروي عنه مرضعته حليمة السعدية وتقول (. . . ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان).


وجاء في كتاب (آداب الإسلام) لابن زمنين أن النبي خرج مع أصحابه حتى انتهوا إلى غدير فسبحوا فيه فقال (ليسبح كل رجل منكم إلى صاحبه وأنا أسبح إلى صاحبي) فسبحوا وسبح النبي إلى أبي بكر.
وإذن فقد أخذت الألعاب على يدي النبي طابعا خاصا فأصبح منها ما يمكن أن نطلق عليه: (السباحة الإسلامية) كمظهر من مظاهر لهو المؤمن، إذ أن روح الإسلام لا تفارق كل عمل يدعوا إليه رسول الله؛ فإذا كانت مهمته عليه السلام هي (المؤاخاة بين الناس) فإنه لم يتخلف عنها حتى في وقت السباحة.




- 3 -


رأينا في المقال السابق كيف التقت التربية البدنية بالتربية الدينية عند مبدأ الإخاء حيث تسود الألفة بين المتلاعبين.
ويحرص النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكون الناس في جدهم ولهوهم إخوانا وزملاء فهو القائل (تآخوا في الله أخوين أخوين).
والقائل (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده) ولهذا كان المسلمون في شتى مراحل الدعوة المحمدية أخوين أخوين.
وخرج عمر بن الخطاب يوما في سفر فقال لمن كان معه (ألا تزاملون) وزامل بين كل اثنين.


وحول هذا المحور من الإخاء دارت الألعاب الإسلامية فكان دورها حلقة ذات مكانة مرموقة في تعاليم الإسلام؛ ذلك الدين الذي الآن من عنفوان عمر حتى قال (ينبغي للرجل أن يكون في أهله كالصبي فإذا التمس ما عنده كان رجلا) وكذلك حقا كان عمر مع أولاده الصغار فقد كانوا يركبونه ويسحبونه ويسوقونه وهو أمير المؤمنين وفاتح الأمصار، وما كان أسعده بهذه اللحظات من اللهو البريء الذي هو اللعب المشروع من غير تناقض مع وقار الخليفة وجلال الخلافة، فلما دخل عليه أحد الولاة ورآه على هذا النحو الذي ذكرناه أستنكره منه وعندما سأله عما يفعله هو في بيته قال بما يفيد جفوته مع أهله فعزله أمير المؤمنين.


ومن هذا الباب أيضاً ما قاله علي بن أبي طالب (سلوا هذه النفوس ساعة بعد ساعة فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد) وهل تكون هذه التسلية إلا باللهو واللعب الذين هما جلاؤهما وصقالها؟
وفي هذا يقول أبو الدرداء الصحابي الجليل (أني لأستجم نفسي ببعض اللهو ليكون ذلك عونا لي على الحق).


ولما كان من أغراض التربية الكاملة تهذيب النفس بترويض الأعضاء على الفنون والصناعات فإن القائمين على شؤون التعليم قد رفضوا دروس الأشغال في المدارس، وبهذا اللون من التربية اليدوية اتسمت حياة النبي الكريم.
سئلت عائشة: كيف كان النبي إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس؛ وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان ضاحكا بساما.
وسئلت. ما كان يصنع في بيته: فقالت: ما يصنع أحدكم: يرقع ثوبه ويخصف (يخرز) نعله ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة؛ وكان يعمل عمل البيت وكثر ما يعمل الخياطة.


وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يضمر الخيل ليسابق بها، وهو الذي جعل للسباق حدودا لا يتعداها لهو المؤمن إذ قال (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) وما أرفع الغاية التي ينشدها نبي الإسلام للمؤمنين إذ يقول لهم (الهوا والعبوا فإني أكره أن أرى في دينكم غلضة) وتلك من غير شك غاية التربية البدنية، وما أنبلها من غاية.
وتقول عائشة أيضا: كان رسول الله يخصف نعليه وكنت أعزل
وسواء كانت هذه الصناعات اليدوية الصغرى مقصودة لذاتها أو لمجرد اللهو وسد أوقات الفراغ أو مقصودة للكسب المادي فإن كلا الأمرين شريف ومشروع وإن كنا لا نزال نعتقد أنها من ألزم اللزوميات لكل الناس ولا سيما ذوي الهيئات. ونحن نعلم عن مستر تشرشل وقد كان ولا يزال من مديري دفة السياسة البريطانية بل العالمية أنه من المغرمين بالرسم وكثيرا ما يذهب إلى سويسرا لرسم المناظر الطبيعية بريشة الفنان بحيث يستجم لنفسه في مهمته السياسية وما أثقل أعباءها.


وعندنا نحن من النماذج الإسلامية ما يزاحم الرءوس الكبار بما كان لها من أثر فعال في تغيير وجه التاريخ تغييرا شاملا؛ فهذا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء وقد عرف عنه أنه كان يذهب وحيدا بعيدا في صيد الوحوش الكواسر وطالما طالع أهل مكة بقوامه الفارع وشبابه المتوثب وهو يتقلد سيفه يتنكب قوسه وينتضى في يديه السهام ويختصر الحراب.


وكان عمر من المهتمين بالتربية عن طريق الأشغال اليدوية والألعاب الرياضية إذ يقول (من خط وخاط وفرس وعام فذاكم الغلام) وبهذا لم يهمل هذا النوع من الأشغال الذي يسمى بالإنجليزية (هوبة). وكان رسول الله يشجع على توجيه الصغار نحو مشاهدة الطبيعة وتأمل الأحياء؛ فقد دخل على أم أنس بن مالك فوجد ابنها أبا عمير حزينا مغتما فقال لها: (يا أم سليم ما بال أبي عمير حزينا؟) قالت: يا رسول الله مات نغيره (عصفوره) فتلفت النبي إليه وقال: (أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان كلما رآه قالها له مداعبا.


ولا شك أن نوع اللعبة تحدده الغريزة الجنسية. كما أنها تستجيب لغريزة حب الاستطلاع، ثم هي مجال طبيعي يتعرف فيه الناشئ على خصائص الحيوان، وفيه تمتد آفاق الخيال، وتتكشف الانفعالات والعواطف نحو الحياة والأحياء في أبسط صورة.
وغريزة اللعب هذه ملازمة للإنسان من المهد إلى اللحد لا تبرح سلوكه ولا ينفك عنها نشاطه.


فلا تعارض بين اللعب والسن مهما يكن من هيبة ووقار.
فقد دخل النبي على عائشة وعمرها تسع سنين، وكانت لعبتها في يدها، ومعها صواحبها في أرجوحة بين نخلتين، فأنزلتها أمها من الأرجوحة لتزفها إلى رسول الله.
ولم تنس عائشة لعبها بعد أن أصبحت زوجة فهي تقول (قدم رسول الله من غزوة تبوك أو حنين فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع. قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت. جناحان. قال: جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ فضحك حتى بدت نواجذه)
والإسلام يقر اللهو البريء الذي لا يفسد الطبع ولا يصرف عن الجد، وما أصدق روح الإسلام في بيت البارودي إذ يقول:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب=وغيري باللذات يلهو ويلعب
إلى ما في هذه القصيدة من اعتزاز بالدأب على طلب العلا، وافتخار بنفس أبية لها بين أطراف الأسنة مطلب، ولها مع الوحوش صراع، فلا عجب إذا أصغرت هذه الهمامة كل مأرب.


واستقبلت جويريات بني النجار رسول الله بالمدينة بالأناشيد والمعازف؛ كما أخذ الأحباش يلعبون بالحراب بين يديه، وأخذت جاريتان تضربان بالدف في بيته فلم ينكر عليهما ذلك حتى إذا دخل أبوبكر منعهما فقال له النبي: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا. 


وذهبت عائشة يوما إلى عرس في بيت للأنصار فلما رجعت سألها النبي: (أهديتم الفتاة إلى بعلها؟) قالت: نعم. قال: (فبثتم معها من يغني؟) قالت: لا. قال: (أر ما عملت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم=فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا_ء لم نحلل بواديكم
والعرب تطلق كلمة (المقلس) على الرجل يلعب بين يدي الأمير إذا قدم المصر.
والمداعبة والمضاحكة مما يدخل في باب اللهو واللعب بغية التسلية والترفيه، كما كان يفعل النبي، فقد قال لعجوز: (انه لا يدخل الجنة عجوز) فحزنت، ولكنه لم يلبث أن تلا عليها قول الله تعالى (عربا أترابا) فضحكت واستبشرت. لأنها سترتد في الجنة صغيرة السن عذراء حسناء، وذلك ما تتمناه المرأة للطبع المركب فيها.


وليس المزاح من المداعبة في شيء، لما له من أسوء الأثر في النفس، لهذا نهى النبي عنه. ويروى أن رجلا أخذ نعل رجل فغيها وهو يمزح فذكر ذلك للنبي فقال: (لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم) وقال في حديث آخر (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا) كما نهى عن المزاح بالسلاح فقال: (لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان يترع في يده فيقع في حفرة من النار).


وكان الإسلام حريصا على صيانة السباحة من الابتذال، فحرم على النساء أن يسبحن عاريات حتى لا تكون فتنة.
ولما دخلت الحمامات بلاد العرب وضع رسول الله حدودها فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام) وقال (شر البيوت الحمام ترفع فيه الأصوات وتكشف فيه العورات) ودخلت نسوة من الشام على عائشة فقالت لهن: أنتن اللاتي تدخلن نساءكن الحمامات. سمعت رسول الله يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها)
ويوم أن سار العرب في حماماتهم على هدى التعاليم الإسلامية صانوا كرامتهم، وشهد لهم جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) فقال (حمامات الشرق أفضل من حمامات الغرب صحة وراحة؛ وهي عدا ذلك محل للاجتماع والمحادثة ولا تقل شأنا عما كان لها أيام الرومان)



والخلاصة أن الإسلام عندما اقر البريء من العاب العرب وشذب بعضها لم يهدف إلى اكتناز العضلات وصلابة العود، ولم يقصد إلى إطالة العمر، ولم يدفع إلى المضارة على الضعيف بالتذرع بحجج أوهى من نسيج العنكبوت مثل (شعب الله المختار) وإنما وضع الرياضة البدنية موضع الاعتبار بأن جعلها (تربية) ذات غرض نافع وهدف رافع.
كان عصر إسيرطة يعد الفتيان للحرب كفاية تقصد لذاتها، وكان أبناء الرومان يقاسون زمهرير الشتاء وذل النفس لينشئوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، أما الأسبان فقد جرت دماء الوحشية في عروقهم إذ اتخذوا من (مصارعة الثيران) مسلاة وملهاة، كلما رأوا اللاعب ينجو من غدر خصمه (الثور) عاجله بطعنة من خنجره فيخر مضرجا بدمائه.
والحق في جانب العرب في الحكم لهم بارتفاع الغريزة عما يشينها من حيوانية صارخة وشهوة عارمة، فهم قد عرفوا رياضة الإنسان وترويض الحيوان، فلما طالعهم الإسلام أحل الله لهم صيد البر والبحر وحثهم على الرفق في الأمر كله، ونهاهم عن المثلة ولو بالكلب العقور فكانوا طرازا نادرا في البطولة والرجولة.
طيروا الحمام الزاجل إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس. 

وأطلقوا الصقور بين يدي نبالهم تنقض على الصيد المباح، وامتلكوا نواصي الخيل. واعتلوا صهواتها. 
فأكرموا غاية الإكرام وركبوا سفينة الصحراء تشق بهم الوهاد والنجاد. وتربصوا للأسود الضارية والأفاعي الحاوية، فصرعوها في كهوفها، فتطهرت السبل من أذى الإنس والجن.

وكانت العاب العرب في جملتها وتفصيلها مسايرة لمطالب الطبع البشري، فلم يقهروا الغريزة قهرا، - ولو أرادوا لفعلوا - ولم يهربوا من الطبع الغلاب، بل واجهوا الحياة بما هو في الإمكان للسير بها قدما نحو الشرف والرفعة، حتى إذا لم يعد في الطاقة مكان، استسلم المرء للواقع المرير، وفي القلب الكسير حسرة على الماضي القوي، والشباب الصبي، فذلك قول شيخ العرب، وقد ذوى عوده، وانطوى ظله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا=أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به=وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعدما قوة اعز بها=أصبحت شيخا أعالج الكبرا



ولو شاء العربي أن يرمز إلى الحياة الجامحة فإنما تكون نفسه أقرب ما يسعفه إلى غرضه، بل تكون (الناقة) أقرب إليه والى الحياة من نفسه؛ فهي محور الأرض والسماء، ومرصد الشاهد والغائب، ومدار القوي والضعيف، ومقياس الشرف والصفة، ورمز العافية والضياع. ولهذا كان اغلب التعبيرات العربية عن النفس مشتقة من الناقة التي هي سفينة الحياة. وطالما كنى بها العربي عن نفسه في كل مظاهر الشعور.
فكان العقل من قولهم: عقل البعير، والعقل والعقال ما يعقل؛ والعائلة هي العاقلة أي القبيلة لأنها تعقل البعير في أداء الدية عن المعتدي الأثيم من أفرادها. وما أبرع تورية النبي لصاحب الناقة إذ قال (اعقلها وتوكل)


والعربي يرخى لنفسه العنان كما يفعل بناقته ثم يأخذ شكيمتها ويكبح جماحها. ويزجرها عن هواها، ويثنيها عن غربها وشموسها ويأخذ بناصيتها، ويمتلك سنامها، وتميل نفسه إلى ولده متأثرا بحنين الناقة إذا طربت في أثر ولدها، وإذا أناخها فبركت، فإنما هي نفسه التي ينيخها فتبرك. وكذلك حين يسوقها ويقودها ويحثها ويحدو لها فهي ذلول لا شرود، ما دام في يده خطامها يشد عليها زمامها، فيلزمها غرز الفضيلة وتنص به في ركاب الفضلاء، رائدة الخير لها، ينتجه صادرا وواردا.



تلك هي حياة العربي الذي يتخذ من الناقة سفينة إلى معالي المثل ومكارم الأمور، حتى إذا نفض يديه من حطام دنياه لم يكن له فيها ناقة ولا جمل، لا تخدعه فيها خضراء الدمن.
ولعمري إن الإنسان الذي يتوصل إلى ما بلغه العربي من مجد لأحق بالتمجيد والتخليد، وحسبه شرفا أنه سلك كل وعر، وامتطى كل صعب، حتى ألان الدنيا لأرادته. فكانت طوع أمره، وراض بدنه لنفسه، وروض جوارحه للمعالي، فكان صاحب السيادة.
ومفتاح هذا الظفر أنه اتخذ من الجمل مطية لكل غرض؛ فأصبحت الحياة بسيطة لا تعقيد فيها، وصار من المألوف المعروف عنه أن يقول (فلان يتخذ الليل جملا).
وانه لمجتمع كريم ذلك الذي يدرك فلسفة الحياة في كلمتين هما:
(الغاية والوسيلة) ويدرك حقيقة البطل في صورة فيها الجسم الجميل، والنفس الكاملة، والغرض السامي.
ولا شك أن الألعاب العربية في هذا الغرض الذي أبديناه قد أوفت على الغاية، واختارت المسلك القريب، فزاحمت بذلك أصحاب الحضارة، وأثبتت أصالتها وعراقتها كلما تعرضت للمقاييس النزيهة مما نعرفه، ولم نعرفه بعد.

________________________________________________

مجلة الرسالة الأعداد 905 / 906 / 907

الثلاثاء، 10 يناير 2017

بين ابن خلدون ومنتسكبو



القوانين والمجتمع

للأستاذ محمد محمود زيتون

عاش أبن خلدون المغربي المسلم في القرن الرابع عشر، وتأمل التاريخ فوضع موسوعته الخالدة (المقدمة)، وهي أول بحث علمي منظم في الاجتماع، وبعده بأربعة قرون جاء منتسكيو الفرنسي المسيحي بكتابه (روح القوانين) أستغرق في وضعه عشرين عاماً قضاها في دراسات واسعة في المجتمعات وظروفها السياسية والاجتماعية والدينية التي تحدد قوانينها.

عني أبن خلدون بالاجتماع الإنساني وما يلحقه من العوارض والأحوال كما أهتم منتسكيو بالمناخ والدين والقوانين والنظم الحكومية والتقاليد والعادات والأحوال المعيشية، وكلها أمور تتحكم في المجتمع وتؤلف (الروح العامة) وهي ما يحدد خصائص الأمة، ويميز شخصيتها عن سائر الأمم. وبمقتضى هذه الروح العامة يجب أن تسن القوانين (ويجب أن تكون القوانين ملائمة للشعب الذي من أجله سنَّتْ بحيث إذا لاءمت شعباً آخر غيره كان ارتباك عظيم. . . ويجب أن تكون متمشية مع طبيعة البلد ومناخه. . . ومع طبيعة أرضه وموقعه وأتساعه، ومع نوع المعيشة التي يعيشها الشعب من زراعة أو صيد أو رعي، ويجب أن نتفق أيضاً مع مقدار الحرية التي كفلها الدستور، ومع ديانة السكان وميولهم وثروتهم وتعدادهم وتجارتهم وعاداتهم وأحوالهم العامة. . . في كل هذه النواحي يجب أن نعالج القوانين).

وينشأ الاجتماع الإنساني - في رأي أبن خلدون - عن الإحساس بالضعْف من جانب الفرد في الحصول على الغذاء والسلاح، وعن الظلم والعدوان مما لا يزال عالقاً بالنوع الإنساني. أما منتسكيو فيرى أن ما يقرب بين الحيوان وأفراد جنسه إنما هي بوادر الخوف المشترك، وكذلك الإنسان.

ولقد أراد (دوركيم) زعيم المدرسة الاجتماعية الفرنسية الحديثة أن يصبغ جهوده في الاجتماع بالصبغة العلمية فميز في هذا العلم ناحيته (الاستقرارية هو معروف في العلوم البحتة كالميكانيكا والكهربائية وغيرهما).

فطن أبن خلدون إلى هذا قبل (دوركيم) إذ يرى أن المجتمع ينتقل من البداوة إلى الحضارة، وهما حالتان طبيعيتان تعرضان له حتى توفرت الظروف. ويحدث هذا التطور تبعاً لنوع المعاش وانتقاله ومن البسيط إلى المركب، من الضروري إلى الكمالي، ومن البداوة إلى الحضارة: فأهل البدو على الفطرة الأولى، وهم أقرب إلى الخير من أهل الحضر، ونظراً (لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ولا يثقون فيها بغيرهم) فهم لذلك أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر.

ومن مظاهر البداوة: (العصبية) التي تكون بالالتحام بالنسب بين القبائل و (سكني البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية) التي بها (تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم) وتكون الرياسة لمن كان (أعرق في البداوة وأكثر توحشاً (والرياسة في نظر أبن خلدون سؤدد، وإذا أنقلب السؤدد إلى الحكم بالقهر والغلبة انتقلت الرياسة إلى الملك وطرأت على المجتمع عوارض الترف والنعيم والأنقياد، ويعرض له التنافس في معالي الأمور كما تعاوره الوحشية وبكل ذاك يكون المجتمع في صميم طور الحضارةلأنالمعاش كان ضرورياً فصار كمالياً، ولأن (الحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع). والملك يتسع إذا كان أساسه الدين أولاً.

هذا هو المجتمع الدنياميكي عند أبن خلدون. أما منتسكيو فيستنتج قوانين طبيعية أولا هي أسباب التطور في المجتمع، منها السلم الناشئ عن شعور الفرد بضعفه إزاء المتوحشين فيشعر (بالدونية) ولا يشعر بالمساواة، ولا يرغب في المهاجمة فيسالم، ويتلو الشعور بالسلم الشعور بالحاجة ثم الشعور بالفرحة المشتركة.

ومن أهم العوامل الفعالة في المجتمع الإنساني (الدين) لما له من أثر في الأخلاق والتربية، وكذلك في السياسة والملك. ويفضل أبن خلدون الأحكام الشرعية على الأحكام التعليمية لأن الأولى يكون الوازع فيها هو الضمير لا المخافة والانقياد كما هو الشأن في الأخرى. لهذا يعتبر التعاليم الشرعية هي أصول التربية والأخلاق، وكل ما عداها مفسد ضار، (فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس، لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي).

وللدين الأثر القوي في الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، (لان الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية، واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب، وتأليفها، إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه. . . وسرُّه أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل، حصل التنافس، وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق، اتحدت وجهتها فذهب التنافس، وقل الخلاف، وحسن التعاون، والتعاضد، وأتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة). والدعوة الدينية في نظره تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية، والإمام خليفة عن صاحب الشرع.

أما منتسكيو - مع سعة إحاطته بالدين المقارن - فإنه ينظر إلى الدين من حيث صلاحيته للدولة (فسوف لا أعالج مختلف أديان العالم إلا من حيث علاقتها بالخير الذي تحققه للدولة). ويقول (إن الأمير الذي يحب الدين ويخشاه إنما هو أسد يذعن لليد التي تدلله، أو الصوت الذي يناغيه، والأمير الذي يخشى الدين ويبغضه إنما هو الوحش الضاري الذي يعض السلسلة التي تمنعه من التهجم على المارة، وأما ذلك الذي لا دين له أصلاً فهو ذلك الحيوان المرعب الذي لا يشعر بحريته إلا عند ما يتهجم ويفترس).

لهذا أخذ منتسكيو يعرض على كل حكومة ما يناسبها من الأديان والمذاهب حسب اعتدال هذه الحكومة أو استبدادها (لأن الدين يتبع عادة لون الحكومة) ولأن الدين خير ضامن للناس إخلاص الناس، فإذا وجب ألا يتعارض الدين مع القوانين فقد وجب كذلك ألا يتعارض مع الأخلاق.

يفترض أبن خلدون الفوضى قبل الملك وبعده مما يوجب السياسة الدينية التي يقررها الشرع، أما السياسة العقلية التي يفوضها العقلاء فإنها لا ترقى إلى غاية الأحكام الشرعية. (فالسياسة والملك هي كفالة للخلق، وخلافة لله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم، وأحكام الله في خلقه وعباده إنما هي بالخير ومراعاة المصالح كما تشهد به الشرائع، وأحكام البشر إنما هي من الجهل والشيطان).

وأنواع الملك ثلاثة: الملك الطبيعي، والملك السياسي، والخلافة. فالأول حمل الكافة على الغرض والشهوة. 

والثاني حملهم على العقل في جلب النفع الدنيوي، ودفع الضرر. 
والأخير هو حملهم على الشرع دنيا وأخرى، وهي خلاف عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.

وإذ تتكون الدولة على هذا النحو، يستقصي أبن خلدون أطوارها الخمسة فيما يلي: - الظفر والاستبداد والترف والمسللة والإسراف: ويرى أيضاً أن المال والجند هما العاملان الرئيسيان في إقامة دعائم الملك إذا وجد، وتقويضها إذا فقدا.

ويستطرد من البحث في الخلافة التي هي الملك الصحيح أو الدولة المثالية إلى البحث في ماهيتها وشروطها وخططها التي في مقدمتها الصلاة، ثم تطورها وانتقالها إلى الملك، ولا ينسى الحروب وأسبابها التي لا تعدو أن تكون من هذه الأربعة: - غيرة ومنافسة، عدوان، غضب لله ولدينه، غضب للملك. والنوعان الأولان حروب بغي وفتنة، والآخران حروب جهاد وعدل.

والعادات تتأثر بالسياسة، فالناس على دين الملك، وعوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، والمغلوب يقلد الغالب، وتعاقب الأمم والأجيال في الملك يؤدي إلى المخالفة في العادات باطراد. والفضيلة دعامة قوية لقيام الدولة، والعدل أساس الملك، والظلم فساد للدولة وإفساد للرعية.

وعند منتسكيو أن القوانين تنجم عن طبائع الأشياء، والموضوعية منها أو السياسية التي تواضع عليها العقل الإنساني ما هي غلا حالات يتجلى فيها العقل، وهذه القوانين دولية وتشريعية ومدنية: الأولى تتعلق بما بين الدول من علاقات، فهي القانون الدولي العام، والثانية تتعلق بما بين السلطات التي تنظم الدولة من جهة، وبما بينها وبين الدولة من جهة أخرى، والأخيرة تتعلق بتنظيم العلاقات بين الأفراد. ثم يتحدث عن العلاقة بين القوانين الوضعية وبين شكل الحكومة، والأسس التي يقوم عليها الحكم والبيئة الجغرافية والاقتصاد وكل هاتيك العناصر التي تسمى (الروح العامة).

والحكومات عنده أربع: الجمهورية وهي إما ديمقراطية أو أرستقراطية، والملكية، والمستبدة، ولكل حكومة فضيلة تخصها. 

فالديمقراطية فضيلتها حب الوطن أو حب المساواة. 
والأرستقراطية فضيلتها الاعتدال. 
والملكية فضيلتها الشرف. 
والاستبدادية صفتها السياسية والخوف. 
فهي إذن فضائل سياسية لا تمت بصلة إلى الدين أو الأخلاق.

ويقول أبن خلدون (إن الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات منقباً عن عورات الناس، وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالخديعة والمكر والكذب، فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحرب. . .).

وللإصلاح الاجتماعي حدود في منتسكيو إذ يقول (إذا أراد أمير أن يغير من أحوال شعبه فعليه أن يصلح بالقوانين ما هو مؤسس بالقوانين، وأن يغير بالعادات ما هو مؤسس بالعادات، وإنها لسياسة عمياء أن يغير بالقوانين ما يجب تغييره بالعادات).

أما أبن خلدون فإنه ينشد الإصلاح الاجتماعي الذي غايته الاقتداء (إذ هو - أي التاريخ - يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا).

فالظواهر الاجتماعية والعوامل الطبيعية ذات علائق بالقوانين المشتقة من الروح العامة لتي تنتج عن تفاعل هذه العوامل، وتلك الظواهر في كل مجتمع على حدة.

ومن هذا العرض الموجز يرى القارئ مدى الائتلاف والاختلاف بين أبن خلدون رائد التاريخ، وبين منتسكيو رائد السياسة وكيف التقيا في ميدان الاجتماع.
__________________________________________________

مجلة الرسالة العدد 855

السبت، 7 يناير 2017

الهجرة الكبرى في سبيل السلام


للأستاذ محمد محمود زيتون

(والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر

إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون

على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه

فأولئك هم المفلحون. .).

قرآن كريم

لم تكن هجرة النبي عليه السلام إلا مرحلة من مراحل الدعوة إلى السلام، فقد دعا العرب إلى الحق والخير، بالحكمة والموعظة الحسنة، فآذوه في شخصه وأهله وصحبه، وطوى الزمن ثلاثة عشر عاماً، وهم بين مضروب ومشجوج ومعذب بالرمضاء تارة، وبالحديد والنار تارة أخرى.

واحتل المعذبون مكانهم في التاريخ، وتلألأت صفحاته بآل ياسر وبلال وخباب وزنيرة، أولئك الذين ابتلوا فصبروا، وامتحنوا فشكروا، وهل الإيمان إلا الشكر والصبر.

وإنها لكبيرة على النفس أن تحتمل من العنت والرهق ما لا تطيق، وأكبر من ذلك أن يغير عشرات الرجال وقليل من النساء معهم، مجاهل الجزيرة في سنوات: فإذا الوجه العباس يرتد يساماً ضحوكاً، والقلب المتحجر يرفض بالرحمة والرقة، والعقل البليد يتفتح لنور الحق، ويستجيب لصوت السماء.

وكان طبيعياً أن يكون الجهر بالإسلام بمثابة إعلان الثورة على جميع الأوضاع المألوفة، ولكن يؤلف عن العربي سكوته على الضيم والهوان، فكيف بهؤلاء الصفوة يفتنون في دينهم، ويستضعفون في وطنهم!

تلك المشكلة التي تتطلب الحل المعقول، وإن كان الوقت يمطلها بالتردد والتخير كالمعهود في أشباهها ونظائرها، فقد تم إعداد الحل المسعف، وسرعان ما نزل من السماء على لسان محمد، ومضى أتباعه في الطريق المستقيم.

ذلك بأن دعوة الإسلام ليس لها أن تنحدر إلى مخلفات الجاهلية فتقاوم الإساءة بالإساءة، وتقابل العدوان بمثله، وإلا كان دين الإسلام متناقضاً مع نفسه: يتنزى الدم من يديه، وتتساقط الأشلاء من بين شدقيه.

والحل الذي يستقيم مع روح هذا الدين هو (الهجرة) المرسومة في بدئها وختامها المليئة بمدخراتها للتاريخ إذا أعوزه الكشف عن مواطن العبرة، ومظن الفخار، وليس بدعا من الأحداث أن يهاجر محمد، فقد سبقه لوط إذ هاجر بأهله ونزل بهم بالمؤتفكة. ولكن ما أصعب الهجرة من المواطن المضيم.

فما بال محمد وتابعيه تهون عليهم مكة، وفيها بيت الله الحرام وبها الأهل والوالد؟ ألم يقف محمد في وسط لمجلس يوم خرج مهاجراً، والتفت إلى الكعبة فقال: (إني لأعلم ما وضع الله بيتاً أحب إلى الله منك، وما في الأرضبلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني).

وتهامس الأغرار: أنه قرار، واستدرك الدهاة: بل استنصار حقا، أنه بالأمانة خشية الضياع، لهذا قال النبي الرسول (من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً من أرض استوجب له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم خليل الله، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم)، وحقا أنه استنصار للدعوة من أتباعها فيما وراء الحدود، ولكن هل سكنت ثائرة من قال أنه فرار، وهل أجدى دهاء القائلين بأنه استنصار.

وفر أبو بكر بدينه يعبد الله عليه بأرض اليمن، لولا أن أخذ ابن الدغنة له الجوار من (القارة) شارطين عليه أن يتعبد بداره ولا يستعلن، ولأن أبو بكر فقبل ورجع فإنني في داره مسجدا اخذ يصلى فيه ويقرأ القرآن وبرفع صوته، والبكاء يغالبه، والناس يتهافتون عليه مسلمين من كل صوب، فلما كلمه صاحب الجوار قال له: رددت عليك جوارك، ورضيت جوار ربي) وضربت قريش الحصار على شعب أبي طالب فلم يتمكن أهل النبي مع البيع والشراء والمصاهرة، وأضر الجوع بهم، ولا سيما بزوجته خديجة، وكادوا يهلكون من عند آخرهم، وبعد موت خديجة وأبي طالب اشتد الأذى، وأخذت المؤامرات تدبر في الظلام لاغتيال محمد.

هذا وهو ماض في سبيل الدعوة، لا يمل من لقاء الحجيج في المواسم، والاستكثار من القبائل، بينما فراعنة قريش يحاربونه بكل ما يسعفهم به قلوب مريضة، ونفوس منحلة، ومفاسد مستحكمة، والأصنام أيما استبداد.

وما يكون لنبي السلام أن يهدم السلام، وما ينبغي لمنطق الغريزة المقاتلة أن تستثار فلا تستجيب، ولكن التسامي بها هو المطلب الكريم، والأمنية الكبرى، فما هو إلا أن تراكض المسلمون مهاجرين إلى يثرب تاركين المال والعيال، لم يجردوا سيفاً، ولم يتننكبوا رمحاً، بل تجردوا للسلام، إلى حين ينثلم السلاح في أيدي الخصوم، وحاشا لأهل الإيمان أن يطلبوا الثأر على نحو لا يشرف أقدارهم.

لهذا قال أبو أحمد بن جحش في هجرته:

فكم قد تركنا من صميم مناصح ... وناصحة تبكي بدمع وتندب

ترى أن وتراً نائياً عن بلادنا ... ونحن نرى أن الرغاب تطلب

واجتمعت بدار الندوة نزعات إبليس بنزوات الجبت والطاغوت، وانطفأت في الحال جذوة التدبير، وأنقطع حبل التفكير، فما كان من أصحاب الفراغ، بل هو الشيء الذي لا تسعفهم الغريزة بما فوقه.

ولا أقل من أن يجد العدو مصرفاً للضغينة المكتومة فيما درن غرضه المأمول، أما إذا تركوا محمداً في وجهه إلى يثرب، فإن له بها أنصاراً، وإنهم لناصروه، وإنه لفاتح بهم مكة على أهلها عاجلاً أو آجلاً.

يا له من يوم! كلما تمكن من خيالهم وتحدى كيدهم، لا يستطيعون له صرفاً، ولا يزيدون معه إلا تضييقاً على محمد وتنكيلاً بمن سلك سبيله.

خرج صهيب الرومي بماله فخيره بين نفسه وماله، فهجر المال، وهاجر بالنفس، وربح صهيب على كل حال، وخسر هنالك المبطلون. وخرج أبو سلمة، ولما أرادت صاحبته أن تلحق به ومعها طفلها، خيروها بين ابنها ونفسها، فتركت فلذة من كبدها في أيديهم، وخرجت مؤمنة بأنه وديعة في يد الله، وفتنوا من فتنوا، وحبسوا من حبسوا، ولو لم يكونوا قد انشغلوا بهذا القليل لتبددت الهجرة تحت هاتيك الضغوط، ولفظت الدعوة آخر أنفاسها.

وأطلع الله رسوله على دار هجرته، فأخبر بها صاحبه أبا بكر الصديق الذي طالما كان يستأذنه فيستأجره النبي حتى أراد الله لهما (صحبة) في الهجرة الكبرى إلى الله، وأعد أبوبكر ماله كله ليهاجر معه، وتواعد مع النبي على ساعة الخروج من ليلة الفارقة بين العدوان والأمان، الفاصلة بين الشر والخير المراد.

وتسجى على بالبردة الحضرمية الخضراء، ولزم حزب الضلال باب الدار، وسهدوا أجفانهم، وكدوا أذهانهم، فما هي إلا الخيبة التي لا بعدها، على الرغم من الصفوف والسيوف، وما هو إلا نصر السماء (وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).

ولبثا ثلاثا بغار ثور، والطلب لا ينقطع، وكان أبو بكر يسمع القوم يتهامسون ويتخافتون، فيأخذ الخوف من كل سبيل، ولكن الذي أعمى بصائر الكفار عند خروج النبي من الدار هو الذي ضلل حدسهم وهو في الغار (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا).

وخرجا من غار الخفاء إلى نهار الجلاء، ومضيا على راحتيهما بين تصويب وتصعيد، وكلما رأى أهل البادية أبا بكر سألوه عن هذا الرجل الذي معه فيقول لهم في تورية صادقة (هذا الرجل يهديني السبيل)، فلما وصلا إلى الجحفة تحرك الحنين إلى مكة في جوانح نبي الوطنية، فتذكر ما كان من قريش معه وهو يدعوهما لربهم، ومن ثمة نزل عليه جبريل بقول ربه (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى نعاد).

ولم يمض على رحيلهما ثمانية أيام حتى أشرف النبي على المدينة فقابله أهلها، والبشر تندي به وجوه الرجال، وبالغناء تتجاوز دفوف الجواري، وبالشعر تتعالى الفتيان، وبالحراب تنوع ألعاب الأحباش.

والأنصار يتسابقون إلى خطام الناقة ويقول: (هلم يا رسول الله إلى المنعة والقوة) وهو يقول لهم (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).

ولم تلبث إلا قليلا حتى أناخت، لا في (المنعة والقوة) ولكن في مبروك (الأمن) ومناخ (السلام) حيث المربد الذي لسهل وسهيل أبني عمرو والذي اختاره نبي السلام منذ الساعة الأولى له بالمدينة دار السلام.

وتفرق المهاجرون على دور الأنصار، ونزل النبي مع رحله عندأبي أيوب الأنصاري، واجتمع بهم جميعا بدار سعد بن خيثمه، وأعلن (دستور السلام) منذ اللحظة الأولى فقال:

(يا أيها الناس، أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).

وأسرع إلى موادعة يهود المدينة ليستل السخيمة من نفوس فلا يعكروا صفوا السلام، وعقد معهم معاهدة كتب في ختامها (وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكان له الأمان ولليهود التأمين، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه.

ثم التفت إلى الجماعة ينظم أمرها، ويجمع شملها، ويؤلف وحدتها، فابتنى (المسجد) ليكون بمثابة دار السلام لطلاب السلام، وكان بناؤه نقطة التقاء الهجرة والنصرة، فسرعان ما أصلح النبي فيه العلاقات بين الأوس والخزرج، وعجلان ما أنزل فيه التأييد من السماء (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا، والله يحب المطهرين).

ودوى صوت بلال بالأذان للصلاة فكان دعاية لانتصار الهجرة وإذاعة لانتشار التوحيد، ومتى جلجلت البطاح بصوت (الله أكبر) وتجاوزت بصوت (لا إله إلا الله) عرف كل من لا يعرف أن هذه الهجرة الكبرى إنما جاءت لتوحيد الصفوف، ووحدانية المعبود، ووحدة الكلمة، وتلك هي العناصر الأساسية التي لا بد من أن يتألف منها السلام.

وتتابع المهاجرون أرسلا، والمسجد يغص بهم يوما بعد يوم والمسلمون والمؤمنون أخوين سواه في الهجرة أو النصرة وإنه ليوم خالد إذ يجتمع بهم نبيهم في هذا المسجد المبارك، ويسأل عنهم، فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى انتظم شملهم، ثم قال لهم:

- (إني محدثكم فاحفظوه وعده وحدثوه به من يعدكم، أن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) وإنياصطفي منكم من أحب أن أصطفيه، وأؤاخي بينكم كما آخى الله تعالى بين الملائكة. . قم يا أبا بكر. .)، وقام أبو بكر فجثا يديه فقال له.

- (إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل، فأنت مني بمنزلة قميص من جسدي). وحرك النبي قميصه بيده. - (إذن يا عمر. .) فدنا، فقال له النبي:

(كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز بك الدين أو بأبي جهل، ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث من هذه الأمة.)

وآخى بينه وبين أبى بكر في المسجد الذي أصبح بيت المحبة والتعارف، وصار المسلمون أرواحنا مجندة: إلى الله أسلمت الوجوه، وإلى الكعبة توجهت القلوب، وخلف رسول الله انتظمت الصفوف.

وأقبل سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف وقال له: يا أخي إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق أحدهما، فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال عبد الرحمن وقد هاجر ولا مال ولا أهل: يا أخي بارك الله لك في أهلك ومالك.

كل ذلك من إشعاع الإيمان الذي انبثقت عنه الهجرة، ومن وحي المسجد الذي قال فيه النبي الكريم (من ألف المسجد ألفه الله)، وقال (إن للمساجد أوتادا: جلساؤهم، إن غابوا افتقدوا، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم، جليس المسجد على ثلاث خصال، أخ مستفاد، أو كلمة حكمة، أو رحمة منتظرة).

وتفيأ النبي ظلال السلام وأرفه منذ نزل بين الأنصار، لذلك قال في مقام الذكر والشكر (لولا الهجرة لكنت من الأنصار) الذين نصروه وأكرموا من معه (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. .).

ويتأكد هنا لكل منصف أن الهجرة الكبرى لم تكن إلا إسراء بالأرواح قبل أن تكون انتقالا بالأشباح، وبذلك تميزت (الهجرة الكبرى) إذ ارتفعت فيها الإنسانية من الهاوية إلى العلية، وخلفت فيما وراءها غريزة الوحش، وشريعة الغاب، ومضت في تصعيدها إلى القمة، وصدق الشاعر.

إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع بالدون من كان دونا

وسئل النبي: ما أفضل الإيمان؟ فقال: (الهجرة). فسئل وما الهجرة؟ قال: (أن يهاجروا من الضلال والعدوان في بلد أراد الله فيه للناس الأمن والسلام، وفيه البيت الحرام، (ومن دخله كان آمنا).

وظل النبي يحرس السلام، في يقظة وحكمة، فقد قتل قتيل بالمدينة ولم بعرف قاتله، فصعد النبي المنبر وقال (يا أيُها الناس يقتل قتيل وأنا فيكم ولا يعم من قتله، لو اجتمع أهل السماء والأرض على قتل امرئ لعذبهم الله إلا أن يفعل ما يشاء).

ومر شاس بن قيس حبر اليهود بالأوس والخزرج وقد اجتمعت كلمتهم، فغاظه ذلك الائتلاف بينهم فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، وأمر فتى من اليهود بالدس بين الأنصار، وظل بهم حتى تنازعوا وتوعدوا على الحرب، وخرجوا بالسلاح واصطفوه للقتال.

وعلم بذلك حارس الأمن السلام، فخرج إليهم فيمن كان معهم من المهاجرين وقال: (يا معشر المسلمين، الله الله، اتقوا الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم. .).

فعرفوا أنها من نزع الشيطان وكيد العدو، فبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع النبي وقد نزل عليه (يا أيُها الذين آمنوا أن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى آيات الله عليكم وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى الصراط مستقيم، يا أيُها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) وإذ يقول نبي الرحمة (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم وجوه بعض) إنما يدل على أن الكفر هو العدوان وأن الإخاء هو السلام بل الإسلام الذي هو أن يسلم الله قلبك وأن يسلم الناس من لسانك ويدك).

ومضى على النبي عامان نشر فيهما لواء السلام على أهل المدينة واطمأنت فيه النفوس، وأصبحت آيات القرآن تخاطبهم (يا أيُها الذين آمنوا) وقد كان الخطاب بمكة (يا أيُها الناس) فما كان هذا التغير إلا عقب الهجرة التي تصافت فيها الصدور، وتوارت الشرور

فلما تألب اليهود والمنافقون والمشرقون على دعوة السلام، لم يكن بد من أن يتنزل على محمد الأذان بالجهاد (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. وإن الله على نصرهم لقدير) فكان الجهاد من لزوم ما يلزم السلام، شأنه الصفاء لا يرتجي إلا في غمرة العواصف والأعاصير، ولا بد دون الشهد من إبر النحل.

واليوم ونحن على باب سبعين عاما بعد ثلثمائة من الهجرة الكبرى، نرى أن للعالم كله العبرة كل العبرة، فما أحوج الإنسانية إلى هجرة السوء من كل لون، ونصرة الحق في كل حين، ودفع الشر والخصام بنشر الخير والسلام.
_________________________________________

مجلة الرسالة العدد 913

الاثنين، 2 يناير 2017

أسباب سقوط الأندلس


الأندلس قطعة من غربي أوربا، فتحها طارق بن زياد، وموسى بن نصير. واشتهرت فيها مدن؛ كقرطبة، وإشبيلية، وطليطلة، وغرناطة. وآلَ أمرُها إلى ولاة يتبعون العباسيين، إلى أن أتى عبد الرحمن الأموي، الذي عرف بعبد الرحمن الداخل، وسمّاه أبو جعفر المنصور: (صقر قريش).

وأولى ما سقط في أيدي الإِسبان من بلاد الأندلس طليطلة، وهي وسط الأندلس كما قال بعض أدبائها:
الثوبُ ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط

وهي السبب في استدعاء ملوك الطوائف ليوسفَ بن تاشفين سلطانِ مراكش، فكانت واقعة الزلاقة، التي انتصر فيها المسلمون على أعدائهم، وما زالت الحرب قائمة بين الفريقين، وبلادُ الأندلس تسقط واحدة إثر أخرى، إلى أن استولى الإِسبان على غرناطة، وملحقاتها، وصارت ولاية إسبانية. وهي آخر الأندلس خضوعاً للعدو.

ومن أسباب سقوط الأندلس: تفرق أمرائها، وعدمُ اتحادهم، فتسمَّى كل من ملك شيئاً ملكاً كما قال ابن رشيق:
مِمَّا يزهِّدُني في أرض أندلس ... ألقابُ معتضدٍ فيها ومعتمدِ
ألقابُ سلطنةٍ في غير موضعها ... كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ

وجاء أبو الوليد الباجي من الشرق، فوجدهم متفرقين، وهو يعلم عاقبة التفرق، فأخذ يطوف عليهم، ويدعوهم إلى الوفاق والاتحاد، وهم يجملونه في الظاهر، ويستبردونه ويستثقلون نزعته.

ومن أسباب سقوطها أيضاً: جبنُ كثير منهم بعد أن كان جيشها يستخف بالموت في سبيل الدعوة إلى الله، ورفعِ راية الإِسلام.

قال الحافظ أبو بكر بن العربي في "الأحكام" عند قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، وكان قد خرج في جيش واجه العدو حين هجم على بعض المدن، وانتصر العدو: "ولقد نزل العدو سنة سبع وعشرين وخمس مئة، فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا، فقلت للوالي والمولّى عليه: هذا عدو الله قد دخل في الشَّرَك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم في نصرة الدين المتعينةِ عليكم حركة، وليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيحاط به، فإنه هالك لا محالة، فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وِجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله، وإنا إليه راجعون".

ومن أسباب سقوط الأندلس: أن العدو أغرى أهلها بالمال، فساعدوه على الاستيلاء عليها.

وأذكر بهذه المناسبة: أن من الأمثال التي عرّبها العرب من لسان الفرس: أن الأشجار رأت فأساً ملقاة في أرضها، ففزعت منها، فقالت لهن شجرة:

لا تجزعوا منهاة فإنها لا تستطيع أن تكسرنا إلا إذا دخل فيها عود منا. وكذلك المستعمر لا يغلب المؤمنين إلا إذا عاونه طائفة من المسلمين.

ومن نظر في تاريخ الأندلس، وجد كثيراً منهم ينفقون الأموال الطائلة في البناء الضخم وزخرفته، وقد أدرك هذا منذر بن سعيد البلوطي، فكان يعظ عبدَ الرحمن الناصر بخطبه وقصائده حين اعتنى بزخرفة البناء، فدخل عليه منذر وقد بنى مدينة الزهراء، فقال له:
يا بانيَ الزهراء مستغرِقاً ... أوقاتَه فيها أما تمهلُ؟!
للهِ ما أحسنَها منظراً ... لو لم تكن زهرتُها تذبُل!

فقال له الناصر: إن سُقيت بماء الدموع، وهبَّ عليهما نسيم الخشوع، لا تذبل إن شاء الله. فقال المنذر: اللهم اشهد، فقد بلغت.


وروي في تاريخها: أن المأمون بنَ ذي النون، صاحبَ طليطلة بنى قصراً، وأنفق أموالاً طائلة، فسمع منشداً يقول:

أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها قد علمت قليل؟!

ومن نظر في تاربخ الأندلس، وجد كثيرا منهم يتغالون في شرب الخمور، ومجالس اللهو، ويدل على أن كثيراً منهم وقعوا في المدنية الزائفة: أن أهل بلنسية حين هاجمهم العدو، خرجوا إليه في حلل من الحرير والزينة، فقال شاعرهم:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستُمُ ... حللَ الحرير عليكمُ ألوانا
ما كان أقبحَهم وأحسنَكم بها ... لو لم يكن في بترنة ما كانا


يشير الشاعر إلى واقعة "بترنة" التي انهزم فيها أهل بلنسية.


ولما استولى العدو على غرناطة، خيّر المسلمين بالأندلس بين الدخول في النصرانية، أو الخروج من أرض الأندلس، أو القتل، فمنهم من غلب عليه حب ممتلكاته من المزارع والمباني، فاختار الإقامة، ومنهم من عز عليه دينهُ، فهاجر إلى إفريقية؛ كفاس، وتلمسان، وتونس.

وقد أخرجت الأندلس علماء أجلّة في الشريعة؛ كابن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، ومنذر بن سعيد، وأبي بكر بن العربي، والفقيه ابن رشد، وحفيده القاضي الفيلسوف صاحب "بداية المجتهد"، وكأبي محمد بن حزم، وأبي إسحق الشاطبي، ونحاة متضلعين؛ كابن عصفور، والشلوبين، وابن خروف، وابن مالك، وأبي حيَّان، ولغويين مبرزين؛ كابن سيده، صاحب "المحكم"، و"المخصص"، وأدباء بارعين؛ كابن هانئ، وابن خفاجة.

وقد ألف ابن حزم رسالة عما ألفه علماء الأندلس من الكتب، وما تمتاز به من إحاطة وتحقيق، وذيل ابن سعيد رسالةَ ابن حزم برسالة أورد فيها ما فاته، أو أُلِّف بعده.

وهذا المصير المحزن الذي صارت إليه الأندلس، قد حذرنا منه الكتاب الكريم في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، والرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيح: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنهلك وفينا صالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".

وبيان ذلك: أن الصالحين في الأمة إذا سكتوا على المعاصي، ولم يأمروا بالمعروف، ولا نهوا عن المنكر، كانوا هم أنفسهم ظالمين، فاستحقوا أن تصيبهم الفتنة عقوبةً لهم، وإن امتثلوا ما أمر الله به، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، تصبهم الفتنة عقويةً لهم على بقائهم مع الظالمين، وقعودِهم عن الهجرة وهم قادرون عليها، وهو مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].

وعلماء الأندلس قاموا بواجبهم، فأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وحذّروا الناس عاقبة إنفاق الأموال في تنميق البناء وزخرفته، وما يفضي إليه التفرقُ من الضعف، واستيلاء العدو على الممالك، واستنجدوا الممالك الخارجة إلى مساعدتها، فلم يجدوا من الوجهاء ومحبي متاع الدنيا قبولاً، وإشفاقاً مجدياً؛ كقول شاعرهم يخاطب ملك تونس:
أدرِكْ بخيلِك خيلَ الله أندلسا ... إن الطريق إلى منجاتها درسا
____________________________________________

الإمام محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى (المتوفى: 1377 هـ)
موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين 1/ 110 إلى 114
جمعها وضبطها: المحامي علي الرضا الحسيني
الناشر: دار النوادر، سوريا
الطبعة: الأولى، 1431 هـ - 2010 م

أسباب انهيار الفردوس المفقود


هناك أساب لانهيار الفردوس المفقود نحاول إجمالها، وقد أغفل المؤرخون المحدثون بخاصة ذكر هذه الأسباب لأن الذين كتبوا عن الأندلس أكثرهم من الغربيين الذين لا يذكرون الأثر المهم في فتح الأندلس وانهيارها.

والمؤرخون العرب المحدثون ساروا على منوال المؤرخين الأجانب، ولكن المؤرخين القُدامى من المسلمين ذكروا أسباب انهيار الأندلس بشكل غير مباشر، أي أنّ هذه الأسباب وردت في خضمّ السرد الطويل، فمثلاً كتاب (نفح الطيب) للمقري، تطرق إلى هذه الأسباب ولكن في مجال سرد الحوادث، والذي يريد اكتشاف هذه الأسباب عليه أن يقرأ ذلك الكتاب الضخم بأجزائه الكثيرة، وهذا ليس متيسّراً إما لضيق الوقت عند بعض الناس أو لصعوبة قراءة هذا الكتاب الضخم والانتباه إلى أسباب سقوط الأندلس.

وقد لجأت إلى كثير من المؤرخين المعروفين من أساتذة الجامعات والمختصين لكي أجد لديهم أسباب سقوط الأندلس، فلم أحظ بجوابٍ شافٍ بالرغم من كثرة مَن استفسرت منهم، لذلك سأحاول إيجاز هذه الأسباب لتكون دروساً للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، لأنني أعتقد أن أهمية التاريخ تكمن في العبرة من دراسته، لا في الاستمتاع به كحوادث وقصص وأحداث.

لقد فتح المسلمون الأندلس حين كانوا يتمتعون بعقيدتهم التي قادتهم إلى النصر، فلما تخلّوا عن هذه العقيدة تخلّى عنهم النصر وأصبح نصيبهم الهزائم. لقد كان قائد فتح الأندلس (طارق بن زياد) بربرياً، يقود جيشاً من العرب ومن البربر، يسود بينهم الانسجام الروحي والنفسي لأنه يسيطر عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى" وكما جاء في القرآن الكريم ((*إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ*)).

وبعد أن جعل الفاتحون الدين وراءهم ظِهريّاً وفرّقوا بين الناس - المسلمين - بالجنس والمال والمناصب، أصبحوا ضعفاء في كل مكان.

كانت تسيطر على البلاد العربية إمبراطوريتان عظيمتان، الإمبراطورية الساسانية التي كانت تسيطر على العراق والمشرق، والإمبراطورية البيزنطية المسيطرة على سورية ولبنان وشرقي الأردن وفلسطين ومصر وشمالي إفريقية، ومع سعة أملاك هاتين الإمبراطوريتين وعظمة مظاهرهما، وطول مدة حكمهما، إلاّ أنه كان فيهما الكثير من عوامل الضعف والانحلال. من هذه العوامل: ضعف العقيدة، واختلال النظام، ونقص القيادة، وعواقب الترف وتفرق الآراء .. ولكن البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الإمبراطوريتين من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل ... ! فكانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلاّ نظرة السيّد المبجّل إلى الغوغاء المهازيل ... !، الذين يحتاجون إما إلى العطاء وإما إلى التهذيب. لقد كانت عوامل الفناء قد اصطلحت على هدم الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية قبيل الإسلام وأيام الفتح الإسلامي.

ولكن العوامل التي قضت على الفرس والروم بالهزيمة - كائنة ما كانت - ليست هي العوامل التي قضت للعرب المسلمين بقيام دولة، وانتشار عقيدة، لأنّ استحقاق دول للزّوال لا ينشئ لغيرها حق الظهور والبقاء.

كذلك لم يكن انتصار العرب على الفرس والروم لأنهم عرب وكفى ... ! فقد كان في أرض هاتين الدولتين عرب كثيرون يدينون لهما بالطاعة، وينظرون إليهما نظرة الإكبار والمهابة، وكان القادرون منهم على القتال أوفر من مقاتلة المسلمين وأمضى سلاحاً، وأقرب إلى ساحات القتال من أولئك النازحين إليها من الجزيرة العربية.

وقد كان هناك عرب كثيرون انهزموا أمام المسلمين وهم كذلك أوفر في العدد والسلاح، وأغنى بالخيل والإبل والأموال.

بل إنّ الفئة القليلة من العرب المسلمين انتصروا على الفئة الكثيرة من العرب غير المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن بعده في أيام الرِّدّة وأيام الفتح الأول في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق ومَن بعده من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، فهي نصرة عقيدة لا مراء. ولكن القول بانتصار العقيدة هنا لا يغني عن كل قول، فالواقع أن الذين انتصروا بالعقيدة كانوا رجالاً أولي خبرة وقدرة يؤمنون بها ويعرفون كيف يتغلبون بها على أعدائهم؛ عقيدة منشئة يذود عنها حماة قادرون.

ْكان العرب قبل الإسلام ماهرين في حروب العصابات، ماهرين في استخدام السلاح والفروسية، لهم قابلية ممتازة على الحركة من مكان لآخر بسهولة وسرعة، وبأقل تكاليف إدارية، ولكنهم كانوا متفرقين، بأسهم بينهم شديد، لهذا كانت خبرتهم الحربية وشجاعتهم الفطرية تذهب عبثاً في الغارات والمناوشات المحليّة.

فلما جاء الإسلام، وحّد عقيدتهم، ونظّم صفوفهم، وغرس فيهم روح الضبط والطّاعة، وطهّر نفوسهم، ونقّى أرواحهم، وأشاع بينهم انسجاماً فكرياً، فأصبحت قوتهم المبعثرة وجهودهم المضاعة قبل الإسلام تعمل بنظام دقيق وضبط متين بعد الإسلام بقيادة واحدة لهدف واحد، وأصبح المؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله ويهتدون بهديه، وهم أمة واحدة تحيتها السلام ورايتها السلام، ودينها الإسلام.

كما دفعت هذه العقيدة إلى نفوس المسلمين جميعاً حمية سمت بهم إلى الإيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحبّبت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصراً دونه كل نصر، كما بعثت فيهم روح الاعتزاز بالنفس، والشعور بأن عليهم رسالة واجبة الأداء للعالم. كما غرست هذه العقيدة في نفوس المسلمين الإيمان المطلق بالقضاء والقدر، لذلك استهانوا بالموت، وأقدموا عليه فرحين مستبشرين.

إنّ مجمل عوامل انتصار الفاتحين المسلمين هي نشاط العرب ومثلهم البربر وخفّة أثقالهم، وشجاعتهم، وحسن تدريبهم على أسلحتهم، ومهارتهم في الفروسية، واكتفاؤهم الذاتي بأبسط القضايا الإدارية وأقلها، وقابليتهم الممتازة على تطوير أساليب قتالهم، وحفظ خطّ رجعتهم، فهم لذلك جنود ممتازون.

وتيسر قادة أكفاء قادرون على قيادة رجالهم بحزم وجدارة، وانتشار العقيدة الإسلامية بين صفوفهم، وما كانت عليه أحوال الدّول التي فتحوها من اعتلال واختلال، كما أن تسامح المسلمين ونشرهم العدل، وتركهم البلاد المفتوحة على ما هي عليه من دين ومعاملات.

لقد انتصر المسلمون أولاً وقبل كل شيء بعقيدتهم المنشّئة البناءة التي حملها إلى الناس حماة قادرون قادة وجنوداً.

وحين جاء الفاتحون المسلمون للأندلس كانا الحكم فيها ضعيفاً، وكان من بين المسيطرين مَن استعان بالمسلمين على أهل بلاده، ودار الزمن دورته، فأصبح المسلمون متفرقين، يستعين الأخ على أخيه بالأجنبي، كما أنّ المسلم الذي أهمل عقيدته أصبح مشغولاً بالترف والمال، لذلك تخلخلت نخوتهم، وأصبحوا مسلمين جغرافيين، لا مسلمين حقيقيين.

فتح المسلمون الأندلس حين كانت عقيدتهم (عبادة)، فلما تخلّوا عن عقيدتهم وأهملوها، وأصبحت عندهم (عادة)، لذلك سهل عليهم التفريط في بلادهم، والاستعانة بالأجنبيّ على أبناء دينهم.

ولعل خير شاهد على ما نقوله ما سجّله (ابن حزم الأندلسي) - وهو من أوثق مؤرخي الأندلس - قال في كتابه، نَقَط العروس - واصفاً عصر ملوك الطوائف -: 
"لقد شغل عصر الطوائف من حياة الأمة في تحطيم الأخلاق واختلاط الحق بالباطل، والحلال بالحرام" وكل ذلك يجمله ابن حزم في كلمة واحدة، هي المحنة أو الفتنة.
ثم يصوّر لنا المحنة أو الفتنة في كلمات قليلة، ولكنها قوية ورائعة، فيصف ابن حزم في (رسالة التلخيص في وجوه التخليص) فيقول: 
"وأما ما سألت من أمر هذه الفتنة وملابسة الناس بها مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امْتُحِنَّا به، نسأل الله السلامة وهي فتنة سواء، أهلكت الأديان إلاّ مَن وقى الله من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب، وعمدة ذلك أن كل مدبّر مدينة أو حصن في أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساعٍ في الأرض لفساد، والذي ترونه عياناً من شنّهم الغارات على أبناء المسلمين من الرعيّة التي تكون في ملك مَن ضارّهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، وأنهم ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على القوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرين بضرورة لا تبيح ما حرّم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغافلوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفسّاق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيّنون لأهل الشرّ شرّهم، الناصرون لهم على فسقهم"، وقد كان الفقهاء في الواقع في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية أكبر عضد لأمراء الطوائف، في تصويغ طغيانهم وظلمهم وتزكية تصرفاتهم الجائرة وابتزازهم لأموال الرعيّة، فقد كانوا "يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمة كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل الطوائف مجال العمل والدّسّ والاستغلال، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء".

وقد فطن إلى ذلك إلى جانب ابن حزم قرينه ومعاصره المؤرخ (ابن حيّان) فحمل على الفقهاء ونوّه بصمتهم عن فضح الظلم الذي يرتكبه الأمراء لأنهم على حد قوله: "قد أصبحوا بين آكلٍ من حلوائهم وخابطٍ في أهوائهم" وينوّه ابن حزم باختلاط الحلال بالحرام في مجتمع الطوائف ثم يعود وهو بصدد الإجابة عن وجه السلام في المطعم والملبس والمكسب، وينوّه بما كان يسود مجتمع الطوائف من اختلاط الحرام بالحلال في جباية الضرائب ومجانبتها لحكم الشرع.
وهي حالة يقدم لنا عنها الصورة التالية: "وأما الباب الثاني فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زمننا، هذا باب جديد لا يؤثم صاحبه ولا يؤجر، وليس على الناس أن يبحثوا عن أصول ما يحتاجون إليه من أقواتهم ومكاسبهم إذ كان الأغلب هو الحلال، وكان الحرام مغموراً، وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه فإنما هو باب: أغلق عينيك واضرب بيديك ولك ما تخرجه، إما تمرة وإما جمرة، وإنما فرّقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله لأن الغارات في أيام الهدنة لم تكن غالبة ظاهرة كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين إنما كانت على الأرضين خاصّة، وأما اليوم فهي جزية على رؤوس المسلمين يسمونها بالقطيعة، ويؤدونها مشاهرة، وضريبة على أموالهم من الغنم والدّوابّ والنّحل برسم على كل رأس وعلى كل خلية شيء ما، وقبالات ما يؤدّى على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في البلاد، هذا كل ما يقبضه المتغلبون، وهذا هتك الأستار، ونقض لشرائع الإسلام من شعوبهم عروة عروة، وإحداث دين جديد بعيد عن تعاليم الله". 

ويبلغ ابن حزم ذروة حملته على أمراء الطوائف - هذا وإن ابن حزم ليبلغ الذروة على أمراء الطوائف في تهاونهم في أحكام الدّين وما اتسموا به من تهاون في الدين والعقيدة حتى يقول: "والله لو علموا أن في عبادة الشيطان بقاؤهم لبادروا إليها، فيعتمدون على النصارى، ويمكنونهم بتدوين المسلمين، فيمكنونهم منهم ويحملونهم إسارهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع فعمروا البلاد بالنواقيس".


ونستطيع أن نتصور مجتمع الطوائف منحلاّ انحلالاً شاملاً من الناحية الاجتماعية مستهتراً يتّسم بضعف الإيمان وجنوحهم إلى مخالفة تعاليم الدين الحنيف.

وابن حزم يدفع ملوك الطوائف ولا يستثني منهم أحداً بيد أن هذه الملاحظات التهكميّة اللاّذعة وأمثالها، تستحيل بعد ذلك عند ابن حزم إلى نظرات تحليلية عميقة لأحوال مجتمع الطوائف، وأحكام قاسية يصدرها على هذا المجتمع المستهتر التي تقضم أسسه عوامل الانحلال والتفكك المادي والأدبي، ويلتزم ابن حزم التعميم في نظراته وأحكامه، ولكنه صريح لا يلجأ إلى مداجاة أو توريةٍ، وهو يدمغ ملوك الطوائف لا يستثني منهم أحداً، وكان ابن حزم قد اصطدم بوزير غرناطة اليهودي، وقد وردت هذه الأحكام بالأخص في موضعين من رسائله:

الأول: في مستهل رسالته في الرّدّ على ابن التغريدي أو ابن نغرالة وزير غرناطة اليهودي، وإليك ما يقوله الفيلسوف في هذا الموضع: "اللَّهم إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عمّا قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموالهم، ربما كانت سبباً في انقراض أعمالهم وعوناً لأعدائهم عليهم عن حياطة ملتهم التي بها عزّوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم، حتى استشرف لذلك أهل القلّة والذمّة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتمّوا بذلك ضعف همّنا، لأنهم مشاركون لنا من الامتعاض للديانة الزهراء، والحميّة للملّة الغراء، ثم هم بعد ذلك متردّدون بما يؤول إليه إهمال هذه الحال من فساد سياستهم، والقدح في رئاستهم فللأسباب أسباب، وللمداخلة إلى البلاد أبواب والله أعلم بالصواب".

من الواضح أن ابن حزم يقصد من كلامه أمراء الطوائف وهو هنا يركز اهتمامه حول رمي هؤلاء الأمراء بإهمال حياطة الدّين والذّود عنه، لمناسبة ما حدث من قيام (إسماعيل بن نغرالة) اليهودي، بتأليف رسالة في الإسلام، رأى فيها ابن حزم طعناً في بعض آيات القرآن، ورأى تقصير (باديس بن حبوس) أمير غرناطة في ردع وزيره وفي الدفاع عن الدين، بيد أنه لا يتّجه إلى ذكر باديس دون غيره، وإنما يتّجه إلى مخاطبة أمراء الطوائف جميعاً واتهامهم بنفس الاتهام المرّ، فهم جميعاً في نظره سواء في التقصير في حق دينهم، وفي الاشتغال عن صونه ببناء القصور والشؤون الفانية.

مما تقدّم من شهادة ابن حزم وهو مؤرخ ثبت وفقيه وفيلسوف وأديب أن ملوك الطوائف كانوا متفرقين، بأسهم بينهم شديد يستعينون بالعدو على إخوانهم المسلمين، ويستعينون بأعداء دينهم على أهل دينهم.

والاستعانة بالأجنبي له خطورة عظيمة جداً، فهذا الأجنبي يطلع على عورات المسلمين، ويستطلع أرضهم، ويعرف نقاط الضعف فيهم، ويطّلع على اختلافاتهم، فهو يعرف بذلك مداخل المدن والحصون ونواقصها والأمكنة التي يمكن الاستيلاء عليها منها، كما يعرف تفرق كلمة المسلمين، وتشتّت قوتهم وصفوفهم، وأنهم أصبحوا أعداء بعضهم، وهم لا يقاومون كما ينبغي.

لذلك يمكن اعتبار مدة ملوك الطوائف هي المدة التي فتحت أبواب الأندلس للعدو المتربّص بهم، فلذلك كانت المدن الأندلسية العظيمة تتساقط بالتتابع، بينما يبقى المسلمون الآخرون متفرّجين غير متعاونين على صد العدو، وربّما أعان المسلم عدوه على أخيه المسلم، وما هكذا تورد يا سعد الإبل كما يقول المثل ... !



يمكن تلخيص أسباب سقوط الأندلس بما يلى:

1 - تهاون المسلمين في دينهم الذي قادهم للنصر المؤزّر.

2 - تعاون المسلمين مع أعدائهم.

3 - عدم تعاون المسلمين فيما بينهم في حرب أعدائهم.

4 - اهتمام المسلمين بالتّرف على الاهتمام بالتدريب العسكري.

5 - اهتمام المسلمين بالقصور والمال أضعاف اهتمامهم بالجهاد.

6 - ضعف قياداتهم العسكرية والدينيّة.

7 - تفرّق كلمة المسلمين وظهور الاختلاف العنصري والقبلي.

8 - التناحر والتنافس على السلطة.

9 - انتشار الاضطرابات الداخلية.

10 - تمكين أعداء المسلمين من رقاب المسلمين.

11 - تشتت المسلمين بالثورات الداخلية والاستعانة بالعدو على المسلمين.

- اتحاد نصارى الإسبان مع نصارى أوربا وتحت إشراف البابا على كسر المسلمين وإخراجهم من الأندلس.


لقد كان المسلمون الفاتحون الأوّلون يعملون لقلوبهم فأصبح المسلمون الجغرافيون بعد ذلك يعملون لجيوبهم، ولن يكون العمل للجيوب غير الهزيمة والخسران، وما على المسلمين اليوم أن يتعلموه أن يكونوا من أصحاب القلوب لا من أصحاب الجيوب.

لم يكن هناك ارتباط قوي بين العناصر التي وفدت إلى الأندلس فالعرب كانوا في جانب، والبربر كانوا في جانب، والعرب ليسوا وحدة واحدة، وإنّما كانوا شيعاً وأحزاباً، وكذلك كان البربر. ثم نبعت عناصر إسلامية في الأندلس من الصقالبة ومن السكان الأصليّين، ولكل من هؤلاء وأولئك طابع واتجاهات، ويمكننا أن نقول بوجه مجمل:

إن الصّخب والاضطرابات والحروب بين هذه العناصر بدأ مبكّراً واستمرّ استمراراً متّصلاً ولم يهدأ إلا تحت ضغط القوة، وكان يهدأ ليبدأ ثورة عارمةً عندما تتوانى أو تضعف هذه القوّة.

وقد تيسّر القادة الأقوياء الذين سيطروا، ثم ضعف أولئك القادة وأصبحوا يهتمّون بأنفسهم أكثر من اهتمامهم بشعوبهم فكانت الكارثة.

لقد كان الشعب الأندلسي شعوباً جمعها الإسلام، فلما تخلّوا عنه أصبحوا أعداء متفرقين لا شعباً واحداً.
_________________________________________


الواء الركن محمود شيت خطاب رحمه الله تعالى (المتوفى: 1419هـ)قادة فتح الأندلس 2/ 424 إلى 432
الناشر: مؤسسة علوم القرآن - منار للنشر والتوزيع
الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2003 م