نشرت سنة 1948
نزعت رجلي من الركاب، وطردت من ذهني همَّ السفر، ونفضت ما علق بذاكرتي من غبار الحاضر ثم نفذت إلى ما احتوت من كنوز الماضي من معجزات البطولة والنبل، من تاريخنا الواقع الذي لا يصل إليه خيال غيرنا ولا يتعلق به وهمهم، وحاولت أن أكتب للعدد الممتاز من الرسالة.
فما سرت في الفصل غيرَ بعيد حتى تباطأ قلمي، ثم تعثر، ثم توقف ... وأحسست في نفسي بهذا الضيق الذي ما انفكّ يلازمني منذ أكثر من عشر سنين، فيطفئ وَقدة حماستي ويعقل نشاطي ويغلق أبواب الإلهام دوني، فلا أكتب ما أكتب إلاّ لملء الفراغ وتَزجية الوقت، كالذي يمشي العشيةَ يجر نفسه جراً، لا يسوقه مقصد ولا تجذبه غاية.
ونظرت فإذا أنا بعد شهرين أُتمّ الأربعين ... أربعين سنة قمرية درت فيها مع الفلك وسايرت الشمس، واستقبلت السنين ثم ودعتها كما استقبلتُها، واستولدت الآمال ثم دفنتها كما استولدتُها، ورأيت أفراحاً ورأيت أتراحاً، وصادقت وعاديت وأحسنت وأسأت، فما الذي خرجت به من ذلك كله؟
لقد قطعت في هذه السنين الأربعين أكثرَ الطريق، ولكن لم أعرف بعد إلى أين المسير!
ومشيت أكثر من أربعة عشر ألف يوم تباعاً، ولكن لم أدرِ إلى أين أمشي!
إنني أصحو كل يوم، فأكلم أهلي وآكل طعامي وأذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فأكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أزور أصحابي أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لأصحو من الغد فأعيد الفصل ذاته ... والأيام تكرّ، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا «أمثّل الرواية» الأبدية: صحو ومنام، وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام ... أما أن أعرف نفسي وأخلو بها ساعة كل يوم وأسأل:
من هي ومن أين جاءت؟
وفيمَ وُجدت وإلى أين تمضي؟
فهذا ما لم أفعله إلى اليوم.
بل إني لأفر منها فراراً وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنها بحديث تافه أو كتاب سخيف أو لهو باطل، وإذا أنا أُلزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجنّ!
وأنا أصرف العمر في قطع العمر وأجعل أكبر همي إضاعة يومي، كأني أُعطيت الحياة لأعمل على تبديدها، فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت واضطررت إلى مواجهة الزمان في ساعة كساعات الانتظار ضقت بعمري، وضجرت وأحسست كأني سأجنّ!
إني أركض أبداً وراء المستقبل؛ ففي المستقبل أبلغ آمالي، وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفيه أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي ولم يجرِ بها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمعت تأليفها ... وفيه أصنع كل شيء.
ولكن المستقبل لن يأتي أبداً، وحين يأتي يصير «حاضراً» وأذهب أفتّش عن «مستقبل» آخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكدُّ نفسه ليدرك حزمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه، يبصرها أبداً أمامه ولا يصل إليها، فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال فيقع، أو تعترضه حفرة فيسقط فيها ... ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها ولا مناص من ورودها، ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا أجير.
وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم هان عليّ وذهب بهاؤه وامَّحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلاّ من بعيد.
لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلماً، وكنت أتوهّم حياة المعلم فأجدها جنة أنزلت الأرض فيها ما تشتهي الأنفس ... أليس المعلم يأمر فيُطاع أمره، وينهى فيُجتنب نهيه، ويوفى التبجيل وينال الإكبار؟
فلما صرت معلماً لم أجد من تلك الجنة إلاّ الذي تجده من الغوطة في الشتاء: أرضاً موحلة ما فيها إلاّ الشوك، وأشجاراً يابسة ما فيها إلاّ الحطب، ورأيت مدرّس الثانوية أعلى قدراً وأقل عملاً وأكبر مرتباً وأوسع جاهاً، فأملت أن أكونه.
وأملت أن أكون كاتباً، وأن أكون قاضياً، وأن أكون خطيباً، وأن أسيح في البلاد ... فلم أجد في الأمل إلاّ الألم لانتظاره، ثم الملل من بقائه، فتيقنت الآن أني لو صرت رئيس الجمهورية أو صاحب «الأهرام» أو كان لي مال «عبود»، لذهبت الأيام بلذة ذلك كله وهوّنه الاعتياد، فلم أستفد منه إلاّ حسد الحساد عليه والحسرة -إن فُقِدَ- لفقده ... وأن متع الدنيا أوهام، مَن لم ينلها تشوّقَ إليها وحسد عليها، ومَن نالها ملّها وتمنى غيرها:
المتزوج يتمنى العزوبة والعَزَب (1) يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال ... تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها ولو كان دونها!
المتزوج يتمنى العزوبة والعَزَب (1) يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال ... تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها ولو كان دونها!
ثم إن الآمال لا تنتهي؛ فمن أُعطي المليون ابتغى المليونين، ومن رُفع في الوظيفة درجة طلب درجتين، فلا يزال في شقاءين: شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به، وبالآتي الذي لا يصل إليه.
أفلهذا وجدت وسعيت أربعين سنة؟ أسعيت لأدرك السراب؟
وتتالت عليّ الفِكَر، وعاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله) إلى طلب الموت من سنين!
وما أشكو المرض فصحتي جيدة، ولا أشكو الفقر فما أجد من المال يكفيني، وإنما أشكو فراغاً في النفس لا أعرف مأتاه، وقوىً فيّ لا أجد لها مصرفاً، وحنيناً إلى شيء غامض لا أدري ما هو على التحقيق.
وتركت القلم والورق وقمت أدور في الغرفة، فوجدت على نضد إبريقاً من البلّور الصافي طويل العنق واسع البطن، فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب متقدمة بقوة وبأس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها، فتعاود الكرّة وهي لا تبصر الجدار وإنما تبصر ما وراءه، فتحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب. فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة، كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء وباب الحرية هو من «فوق» لا عن يمين ولا عن شمال ...
فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافياً عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق إنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين أو نعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال أو في متع الجمال، وهيهات! وها هم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض بأحاديثهم ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم، فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم؟
وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفرداً في غرفتك مبتئساً تَعِس النفس محزون القلب؟
وها هم أولاء الشباب الأغنياء، يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع الجمال؟
هل شبعت شهواتهم؟
أم أن ذلك كالماء المالح كلما شربتَه جدّدَ لك ظمأً؟
وها هم أولاء المحبون المدنفون، يعانقون مَن يحبون، والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا اقتراب، ولا يشبعها شيء من متع الجسد. وها هم أولاء «الملايِرة» (2) المؤلِّفون، هل أشبعت ملايينهم نفوسَهم ورزقتهم القناعة والاطمئنان؟
فما هذا طريق السعادة.
إن الطريق على الأرض مسدود، والفضاء من حولك له حدود، وما طريق الفضاء وسبيل الانطلاق إلا من «فوق»، هناك عالم النفس، تنشط النفس كلما برقت لها منه بارقة أو لاح علم، كلما سمعت نغمة سحرية فيها رنّة من ذلك العالم أو قرأت قصة عبقرية فيها إشارة إلى ذلك المجهول، أو وعت موعظة علوية فيها قطرة من ذلك الينبوع.
الآن عرفت، فيا ضيعة هذه السنين الأربعين!
* * *
لا تقولوا: إنك تكتب في الدين وفي الفضيلة وإنك تدعو إلى الخير، لأني عزمت على أن أقول الليلة الحق ولو كان على نفسي.
الحق -يا سادة- أن الدعاة اليوم إلى الله (لا أستثني واحداً ممن أعرف منهم) كلهم ممثلون؛ يلبسون في المجلة أو على المنبر ثياب المسرح فيبدون بالجبة والعمامة، فإذا انقضى «الفصل» خلعوها وعادوا إلى بيوتهم، فعكف عابد الدينار منهم على معبوده ما له إلاّ جمع المال همّ، وعابد الشهوة عليها، وعابد الجاه، وعابد المنصب ... تعددت الأصنام والشرك واحد!
إنهم ممثلون وأنا أول الممثلين.
ولو كنت صادقاً لما ألّفت في سيرة أبي بكر وعمر ثم عدلت عن سنتهما وسرت غير سيرتهما، ولو كنت صادقاً إذ أدعو إلى الإسلام لكنت في سري وجهري وفي لساني ويدي واقفاً عند أمر الإسلام ونهيه، ولو كنت صادقاً لما انغمست في حمأة هذه الحياة التي سال علينا سيلها من الغرب، ولو كنت (وكان عشرة مثلي، صادقين) لما بقي في الأرض فساد.
ولقد طهّر الأرضَ من أوضارها منبر واحد من الخشب، ثلاثُ درجات ليس لها درابزين ولا عليها قبة ولا لها باب، فلِمَ لا تطهر الأرضَ مئةُ ألف منبر مزخرفة منقوشة محلاة لها أبواب جميلة وقِباب؟
ألأنّ الناس فسدت طبائعهم؟
ألأنّ الزمان قد دنا آخره؟
لا؛ بل لأن القائمين عليها وعّاظ من خشب، يحملون سيوفاً من خشب!
لا؛ بل لأن القائمين عليها وعّاظ من خشب، يحملون سيوفاً من خشب!
* * *
أما إن الحق الذي لا بد الليلة من الصدع به أنه: لا هذه المواعظ ولا هذه المقالات هي التي توصل إلى الله، ولكن يوصل إليه أن يعود كل إلى نفسه فيسأل: من أين جاءت، وفيمَ خُلقت، وإلى أين المصير؟
وأن يعلم كلٌّ أن الطريق من «فوق»، فيرفع رأسه ليرى الطريق.
ومَنْ منا يرفع اليوم رأسه، ونحن كالنحلة لا نبصر إلاّ الأرض؟
بل إن منّا مَن هو كالفراشة تسعى إلى النار، تحسب أنها باب الانطلاق!
إن المسيحيين يصلّون لربهم قبل الطعام على المائدة وقبل الدرس في المدرسة ويوم الأحد في الكنيسة، فتعلم أنهم مسيحيون، فما يصنع كثير من المسلمين؟
وأي علامة تدل على أنهم مسلمون، من ساعة يصبحون إلى ساعة يمسون؟!
لا صلاة، ولا ذكر، ولا تمييز لحلال من حرام ... إن عملوا خيراً فباسم الأخلاق والفضيلة والصحة لا باسم الإسلام. فما الفرق بينهم وبين غيرهم؟
يقولون إن الدين المعاملة والصدق والقصد والاعتدال وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. صحيح؛ ولكن هذا من الدين، وليس هو الدين! وهذا شأن كل شريف، يستوي فيه الشرفاء جميعاً، فما معنى تفريقهم إلى مؤمنين وملحدين وعبّاد وثن؟ وهذا كله للحياة الدنيا، فما الذي نعمله للحياة الأخرى؟
لا صلاة، ولا ذكر، ولا تمييز لحلال من حرام ... إن عملوا خيراً فباسم الأخلاق والفضيلة والصحة لا باسم الإسلام. فما الفرق بينهم وبين غيرهم؟
يقولون إن الدين المعاملة والصدق والقصد والاعتدال وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. صحيح؛ ولكن هذا من الدين، وليس هو الدين! وهذا شأن كل شريف، يستوي فيه الشرفاء جميعاً، فما معنى تفريقهم إلى مؤمنين وملحدين وعبّاد وثن؟ وهذا كله للحياة الدنيا، فما الذي نعمله للحياة الأخرى؟
لا، بل الدين أن تتصل بالعالم العلوي، وأن تراقب الله، وأن تعلم أنه مطلع عليك أبداً، وأنه يرعاك بعينه فترعاه بقلبك وتطيعه بجوارحك.
هذه غاية الخلق وهذا سرّ الوجود: {مَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدون}، لا عبادة عادة، وصلاةَ رياضة، وصومَ استشفاء، وحجَّ سياحة؛ بل العبادة التي يحسّ بها القلب حلاوة الإيمان، ويذوق فيها لذة العبودية، ويستشعر فيها القيام بين يدي الله.
ولتغامر مع ذلك في ميدان الحياة، ولتقحم لجَّها، ولتأخذ أوفر قسط من طيباتها ومن علومها ومن فنونها، ولتكن قوياً ولتكن غنياً.
هذه حقيقة الدين وهذه غاية الحياة، فهل يصل إلى الغاية من مشى أربعين سنة مائلاً عنها ضالاً طريقها؟
ألا يا ضيعة هذه السنين الأربعين!
* * *
_________________________________________________
(1) قال صاحب القاموس: "العَزَب من لا أهل له، ولا تقل أعزب"، وفي المعجم الوسيط: " «الأعزب» استعمال قليل، والأجود «عَزَب» " (مجاهد).
(2) جمع مليونير. و «المؤلِّفون» أردت بها أصحاب الآلاف.
من حديث النفس 243 إلى 250
راجعه وصححه وعلق عليه: حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق