بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 17 مايو 2016

الحضارة الصينية لها سبق في العديد من العلوم والاكتشافات العلمية


الحضارة الصينية لها سبق في العديد من العلوم والاكتشافات العلمية منها :

ما كتبه الصينيون عن الخسوف، وعن مجموعات من النجوم منذ عهد أسرة تشو : ( 1122-256 ق.م )، ومن القرن الرابع قبل الميلاد أوردوا ملاحظات على الضوء، والمرايا المقعرة والمحدبة والمستوية، وكانوا عارفين بمسائل البرونز، وأدركوا النسبة الصحيحة في النحاس والقصدير لصنع خواص معينة منه.

واخترع تساوي لون حوالي (105 م) الورق من قشر الشجر والقنب والخرق، وقد كانوا قبله يكتبون على الخيزران والحرير، والخيزران الثقيل، والحرير غال.

واخترع الصينيون البارود (نترات البوتاسيوم)، واستعملوه في الأسلحة منذ نهاية القرن العاشر الميلادي، ولما اخذه العرب عنهم، قالوا عنه : الثلج الصيني.

واخترعوا البوصلة، والخزف، والطباعة حيث عرفوا الحروف المتحركة منذ عام (1041م)، وتقدمت الكيمياء فعرفوا الحبر الأسود، والحبر الأحمر.

والصينيون من أوائل الأمم التي اتخذت الفحم الحجري من مناجمه في الأرض منذ سنة (1922 ق.م).

وفي مجال الرياضيات حلوا بعض المعادلات المجهولة من الدرجة الاولى، مع تأثير متبادل مع حضارة الهند في هذا المجال، وخلف العالم الرياضي جانغ تسانج ( ت: 152 ق.م ) كتاباً في الجبر والهندسة، فيه إشارة معروفة للكميات السالبة .

واخترع تشانج هنج (132م) آلة لتسجيل الزلازل، وكان في وسع الفلكيين في أيام كنفوشيوس التنبؤ بالخسوف تنبؤاً دقيقاً .

واهتم الصينيون بالأنهار والترع، وبنوا سور الصين العظيم، الذي انتهى بناؤه (214 ق.م)، في عهد الإمبراطور شيه هوانغ تي، الذي رمم في اوقات مختلفة، ارتفاعه م بين 6-10 أمتار، وطوله 1400 ميل.

____________________________________________


الدكتور شوقي أبوخليل: الحضارة العربية الإسلامية وموجز عن الحضارات السابقة (ص:61-61).

الأحد، 15 مايو 2016

سعد الخير البلنسي الاندلسي الصيني (الإمام الرحالة)



الرحالة الشهير ابن بطوطة (ت: 779 هـ : 1377 م) مشهور أنه من أوائل الرحالة الذين رحلوا إلى الصين.

وكذلك مشهور أن الرحالة الشهير ماركو بولو (ت: 724هـ : 1324م) سبقة إلى صين.

ولكن الغير مشهور هو العالم الرحالة سعد الخير (ت: 541 هـ : 1146 م) والذي سبق الجميع من سنوات طويلة جداً إلى الصين.

ولا يعرف متى ولد رحالتنا ولكن مكان مولده في بلنسة شرق الأندلس من أشهر مدن البحر المتوسط وتسمى في عصرنا فلنسيا في مملكة أسبانيا.

وهذا السبق غير مستغرب من أندلسي، فقد عرف عن أهل الأندلس حبهم للعلم ودراسة شعوب العالم، فعند مراجعتي لمراجع الكتاب وجدت أن مراجع كثيرة هي من الأندلس، وبعض المراجع يتفردون بها كما ذكر البكري عن فتنة بابشو ويبدو أنه نقل من رحلة السيرافي ولكنه زاد عندما قارن وضع الصين بعد هذه الفتنة بما حصل للأندلس في بداية القرن الخامس الهجري من فتنة دول الطوائف وانقسام الأندلس إلى دويلات متناحرة بعد أن كانت دولة قوية متماسكة، ولو تحدثنا عنهم لطال الحديث ولا يكفي كتاب ولا كتابان لذكر مآثر هذا القطر، والذي له الفضل في نقل الحضارة الأوروبية إلى ماهي عليه اليوم وذلك بشهادة المنصفين منهم.

يقول العلامة اللغوي الهندي عبدالعزيز الميمني:
أهل الأندلس يستحقون كل فضل وثناء، وقد مضت مئات السنين ولكن لم يظهر شعب على مسرح العالم يعشق العلم كما يعشقه أهل الأندلس.

وسعد الخير هو الشيخ الامام، المحدث المتقن، الجوال الرحال، أبو الحسن، سعد الخير بن محمد بن سهل بن سعد الأنصاري الأندلسي البلنسي التاجر.
سار من الاندلس إلى إقليم الصين، فتراه يكتب: سعد الخير الاندلسي الصيني.
وركب البحار وقاسى المشاق، وسافر في التجارة إلى الصين، وكان صاحب ثروة ومال طائل، وقد أطال الغيبة.

وأما رحلة من الأندلس إلى الصين فلا نعرف متى كانت ولكنها قبل سنة (522هـ) وهي السنة التي ولدت فيها ابنته فاطمة بالصين.

ولا شك أن المسافة بعيدة جداً بين أقصى دول المغرب الأندلس وأقصى دول المشرق الصين، وهذه الرحلة تدل على مدى العلاقات الطيبة بين دول العالم في ذاك الزمان وسهولة التنقل بين شعوبها.
ورحلة سعد الخير إلى الصين تدل على أن الأوضاع السياسية قد استقرت خاصة بعد الفتنة التي قادها بابشو، وكذلك الأوضاع في الأندلس فقد لستقرت بعد عصر دول الطوائف بتوحيد مدنها في عصر دولة المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين.


وفي الصين عندما رحل إليها سعد الخير كانت في عصر الدولة التاسعة عشر وأول ملوكها تابي تسو، جلس على العرش وأمر بأن تفتح أبواب قصره الأربع كما فتحت أبواب قلبه لرعاياه، ومما ينقل عنه أن جيشه كان يحاصر مدينة نالكين ويضايقها، فمرض فجاءه القواد يعودونه فخاطبهم بقوله: ( ها أنتم تروني مريضا ولكني أعلم بأن دوائى في أيديكم. قالوا جميعاً: ماهو هذا الدواء؟ أجاب: هو أن تحقنوا دماء الأهالي)، فلم تكن إلا ساعات حتى فكوا الحصار فقام الامبراطور معافى سليماً.
وفي عام (1023م) مات فتولى ابنه دجين تسونغ وكان مثل أبيه رحيم القلب محباً للعلوم شفوقاً برعاياه إلا أنه لم يعش كثيراً فخلفه ملوك كثيرون الى ان كانت سنة (1163م) فابتدا أمر المغول بالظهور ثم سنة (1226م) واستولى جنكيزخان على جزء من الصين.

وسعد الخير من الأئمة الأعلام روى عن كثير من علماء عصره، وكان حافظاً، زاهداً، ثقة، فقيهاً متديناً، عالماً، فاضلاً.
سمع ببغداد: أبا عبد الله النعالي، وابن البطر، وطِراد بن محمد.
وسمع بأصبهان: أبا سعد المطرّز.
وسمع بالدون( الدوني: بالضم إلى دُونة قرية بنهاوند أيضاً ودون قرية بدينور) سنن النسائي من الدوني، وحصّل الكثير من الكتب الجيدة.
وحدّث ببغداد، وسكنها مدة بعد انفصاله عن إصبهان.
روى عنه: ابن عساكر، وابن السمعاني، وأبو موسى المديني، وعبد الخالق بن أسد ووصفه بالحفظ، وأبو اليُمن الكندي، وأبو الفرج بن الجوزي، وبنته فاطمة بنت سعد الخير، وعمر بن أبي السعادات بن صرما.
وتفقّه ببغداد على أبي حامد الغزالي، وسمع الحديث.
وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي.
وهو آخر من حدث بالمشرق.
توفي يوم السبت العاشر من محرم سنة إحدى وأربعين وخمسمائة من الهجرة.
وقد أوصى عند وفاته أن يصلي عليه الغزنوي، وأن يدفن عند قبر عبد الله بن الإمام أحمد، وحضر جنازته خلائق من الناس.


وابنته فخر النساء فاطمة هي الشيخة المسندة (المسند: ما اتصل سنده مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.) أم محمد المصري.
ولدت سنة (522هـ) وقد اخلتف في مكان ولادتها على أقوال، القول الأول: بالصين، والقول الآخر: بأصبهان.
وتوفيت بالقاهرة سنة ( 600 هـ) تلقت العلم عن والدها، وعن غيره من المحدثين الكبار ببغداد، ثم قامت بالتدريس فى القاهرة ودمشق، وسمع منها جماعة من الشيوخ- منهم شيوخ المنذرى الحافظ، الذى يقول عنها: سمع منها شيوخنا ورفقاؤنا، ولنا منها إجازة.
تزوجت من الفقيه الواعظ المفسر زين الدين أبي الحسن علي الأنصاري المعروف بابن نجية.

وكان مبعوث نور الدين محمود بن زنكي إلى بغداد، وسمع هناك الحديث من سعد الخير كثيراً.
وصاهره على ابنته فاطمة، ونقلها معه إلى مصر، وانتقلت كتب سعد الخير إليه.
كان ذا رأي صائب. وكان صلاح الدين - يعني ابن يوسف بن أيوب - يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه.
وقال أَبُو شامة: كان صلاح الدين يكاتبه، ويحضر مجلسه هو وأولاده: العزيز، وغيره. وكان له جاه عظيم.
وتوفي في السنة التي توفيت فيها زوجته فاطمة، وقيل قبلها بسنة.


_________________________________________

المرجع: الفصل التاسع من كتابي: الحضارة الصينية في التراث العربي (قريب يطبع باذن ربنا المعين).


مصادر الفصل:

1- البغدادي (ت: 463هـ): تاريخ بغداد.
2- البكري الأندلسي (ت: 487هـ): المسالك والممالك.
3- السمعاني (ت: 562هـ): الأنساب.
4- ابن الجوزي (ت: 597هـ): المنتظم في تاريخ الملوك والأمم .
5- ابن نقطة (ت: 629هـ): التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد.
6- ابن الأبار البلنسي (ت: 658هـ):  التكملة لكتاب الصلة.
7- الذهبي (ت:748): سير أعلام النبلاء .
8- تاريخ الإسلام.
9- الصفدي (ت: 764هـ): الوافي بالوفيات.
10- السبكي (ت: 771هـ): طبقات الشافعية الكبرى.
11- ابن كثير (ت: 774هـ): البداية والنهاية.
12- ابن رجب: (ت: 795هـ): ذيل طبقات الحنابلة.
13- الهيثمي (ت:807 هـ): مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
14- ابن ناصر الدين (ت: 842هـ):  توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم.
15- السيوطي (المتوفى: 911هـ): لب اللباب في تحرير الأنساب>
16- ابن العماد (ت: 1089هـ):  شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
17- بن الغزي (المتوفى: 1167هـ): ديوان الإسلام.
18- محمد فريد وجدي: دائرة المعارف القرن العشرين.
19- الزركلي: الأعلام.
20- عبدالعزيز الميمني: بحوث وتحقيقات.
21- محمد الغزالي: تراثنا الفكري في ميزان العقل والشرع.
22- الطحان: تيسير مصطلح الحديث.
23- محمد  محمدين: المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة.

الأحد، 8 مايو 2016

بين حزم سليمان القانوني وهفوة المنصور الموحدي





المنصور أبويوسف يعقوب الموحدي بطل معركة الأرك الخالدة والتي حدثت في الأندلس (الفردوس المفقود) في 9 من شعبان عام 591هـ الموافق 18 يوليو 1195م.
وسليمان القانوني بن سليم الأول العثماني بطل معركة موهاكس الخالدة والتي حدثت في المجر (الفردوس الآخر المفقود) في 21 من ذي القعدة عام 932هـ الموافق 29 أغسطس 1526م.

ما يجمع القائدين العظيمين أنهما :
خلد التاريخ اسمهما لمعركتين من أعظم معارك الإسلام.
وكلاهما أرغم أنف أهل الصليب في القارة الأوروبية.

ولكن هناك حدث يفرق بينهما خطأ فادح من المنصور الموحدي والذي أعترف بهذا الخطأ وهو يحتضر وأنة ندم على ذلك وهو إطلاق أسرى الصليبيون بعد الإنتصار في معركة الأرك والسبب كما يذكر رحمه الله تعالى : " لا بد لهم أن يطلبوا بثأرهم ".
وصدق تفرس المنصور، بعد سنوات قليلة حدثت المعركة المؤلمة العقاب سنة (609هـ) الموافق (1212م) والتي كان من عماد جيشها الأسرى الذين أطلقوا (كعادت أهل الصليب لا ينفع فيهم معروف) والتي بعدها تداعت مدن الأندلس الكبيرة وسقطت سقوط مدوي.....
وسقط حكم الموحدين في الأندلس وبعده سقط في المغرب الإسلامي....

أما بطلنا الثاني سليمان القانوني فكأنة رحمه الله تعالى تعلم من خطأ أخية المنصور الموحدي.
فكان قرار السلطان سليمان القانوني الذي لن تنساه أوروبا له حتى الآن وللأتراك العثمانيين وتذكره بكل حقد : لا أسرى ! .

وأخذ الجنود العثمانيون يناولون من يريد الأسر من الأوروبيين سلاحه ليقاتل أو يذبح حياً ! وبالفعل قاتلوا قتال الميئًوس واليائس، وانتهت المعركة بمقتل فيلاد، والأساقفة السبعة الذين يمثلون النصرانية، ومبعوث البابا، وسبعون ألف فارس، ورغم هذا تم أسر 25 ألف جريح ، وتم عمل عرض عسكري في العاصمة المجرية من قبل العثمانيين، وقبَّل الجميع يد السلطان سليمان تكريما له، بما فيهم الصدر الأعظم، ونظم شئون الدولة ليومين ورحل ،وانتهت أسطورة أوروبا والمجر، وقد استشهد من العثمانيين 150 جندياً فقط ( مختلف عليه ) ، وجرح 3000 آلاف، والجيش في كامل قوته لم يُستنزَف أبداً !
وأستمر حكم بني عثمان قرون طويلة، وكان الأذان يرفع في المجر وما حولها خمس مرات في اليوم لقرون عديدة، قبل النكسة في العصر الحديث، والأحداث المؤلمة والتي تشابه سقوط المدن الاندلسية بعد معركة العقاب المؤلمة....


رحمه الله تعالى القائدين العظيمين يعقوب الموحدي وسليمان العثماني، ورزق الأمة قادة أمثالهم يرفعون راية الجهاد، ويدافعون عن الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

____________________________

المراجع:
معركة الأرك للدكتور شوقي أبوخليل رحمه الله تعالى


معركة موهاكس: ما لم تنساه أوربا للسلطان سليمان القانوني !

الخميس، 5 مايو 2016

إفساد التعليم والأخلاق على الطريقة الفرنسية


يقول الشيخ الأديب علي الطنطاوي رحمه الله تعالى:


جاءتني رسالة من رفيق زركلي، الطالب في السوربون، يقون إنه قرأ في الحلقات الأخيرة من ذكرياتي حملة قاسية على رجال الرعيل الأول في سوريا، من أمثال هشام الأتاسي وشكري القوّتلي وفخري البارودي وسعد الله الجابري، ولم يقرأ لي كلمة واحدة على غيرهم مِمّن عدا على العقائد فأفسدها، وعلى الأموال فغصبها، وعلى الأعراض ...

وجوابي أن من ذكر من الزعماء كنت أعمل معهم وأمشي وراءهم وأئتمر -أيام كنت أقود الطلاب من خمس وخمسين سنة (أي سنة 1931) - بأمرهم. ما كنت عدوّهم ولا أنا بالكاره لهم، ولكنّ لهم عيوباً. ما ادّعوا لأنفسهم ولا ادّعى أحدٌ أنهم كانوا مبرَّئين من العيوب معصومين من الذنوب. وأنا أدوّن ذكرياتي، أروي فيها ما رأيت وما سمعت، أذكر عيوبهم كما أذكر محاسنهم، لا بغضاً لهم ولكن نصحاً لغيرهم، وكذلك يصنع من يكتب التاريخ، لا يصوغ قصيدة في المدح.

كان هؤلاء كثوب أبيض به بقع من الزيت والطين والأوضار، فأنا أشير إليها وأدلّ عليها لتُزال فتعود بيضاء نظيفة، أو لئلاّ يصيب صاحب الثوب النظيف بقع مثلها. وربما كان في الناس مَن ثوبُه كله وضر وزيت وطين ما فيه بقعة بيضاء نظيفة، فلا يفيد معه الإشارة إلى وسخ ثوبه ولا إلى بيان عيبه، لأن الثوب كله أوساخ وهو كله عيوب.

أعود إلى حديثي. قلت إن الفرنسيين كانوا أشدّ عناية بلغتنا وأحرص عليها ممّن جاء بعدهم. وهذا حقّ، ولكن ليس الفضل لهم فيه وإنما لأولئك الغُيُر (جمع غيور) على العربية الذين كانوا يدفعون الفرنسيين إلى العناية بها ويخوّفونهم عواقب إهمالها، وكانوا يصنعون ذلك حباً بها ودفاعاً عنها وحفاظاً على القرآن الذي أُنزِل بها. من أمثال سليم الجندي وعبد القادر المبارك ومحمد البِزم وعبد الغني الباجِقْني، وطبقة بعدهم من أمثال ياسين طربوش وعبدالرزاق الباجقني، وإخوان لهم وأقران لا أُحصيهم الآن.

ورفيقنا سعيد الأفغاني الذي تسلّم أمر العربية في جامعة دمشق أكثر من ربع قرن، فكان له ولمن معه عمل ظاهر في الدفاع عنها. حتى إنه ألزم الطلاّب (وفيهم غير المسلم) دراسة القرآن باعتبار أنه كتاب العربية وهم يدرسون العربية، وأنه النص الأوّل الذي يُعتمَد فيها عليه ويُرجَع إليه.

ثم جاءت طبقة جديدة من تلاميذه كان منها راتب النفّاخ الذي بلغ بالعلم بالعربية مرتبة ما نالها إلاّ قليل، ومازن المبارك، وعاصم البيطار، ومن قبلهم عبد الرحمن الباني، ومعهم أو من بعدهم عبد الرحمن الباشا. هؤلاء على اختلاف أزمانهم وتفاوت أسنانهم، وأمثال هؤلاء من إخوانهم، هم الذين حفظ الله بهم العربية في الشام.

وقد نسيت عاملاً آخر هو الأستاذ كرد علي، والمجمع العلمي الذي أسّسه سنة 1920 فكان أبا المجامع العربية كلها، ومَن كان معه مِن رجال المجمع: الشيخ عبد القادر المغربي والأستاذ عزّالدين التنوخي والأستاذ عارف النكدي، وأمثال هؤلاء. ثم مَن جاء بعدهم من المَجْمعيّين: شكري فيصل وشاكر الفحّام وعبدالكريم اليافي وعدنان الخطيب.

والعامل الثالث أساتذة المعهد الطبّي (أي كلّية الطبّ) الذين قاموا بما قعدَت عنه الجامعات والمجامع، فعرّبوا على مدى نصف قرن جميع مصطلحات العلوم الطبّية: الأساتذة الأطباء حسني سبح رئيس مجمع اللغة العربية الآن، وحمدي الخياط وجميل الخاني وصلاح الدين الكواكبي ومرشد خاطر وشوكة الشطي، وأمثال هؤلاء المجاهدين الأفاضل.

وتمشي اليوم على الألسنة كلمات صارت ملكاً للناس جميعاً وعُدَّت من اللغة العامّة، وأنا أعرف تاريخ الكثير منها وشهدت مولده. فكلمة «عبقرية» من وضع الشيخ عبد القادر المغربي ترجمة لكلمة «جيني» الفرنسية، وكلمة «فيزياء» وكلمة «برمائية» من وضع التنوخي، وكلمة «عفوي» ترجمة للفظ الفرنسي «سبونتانيه» من وضع سليم الجندي (وفي مصر يقولون «تلقائي» بدلاً من عفوي). وكلمة «هاتف» للتلفون و «سيارة» و «درّاجة» وُضعت في أوائل النهضة العربية. وكان أسبق البلاد إلى هذا التعريب الشام أي سوريا، ثم العراق، ثم حمل العبء الأكبر مجمعُ اللغة العربية في القاهرة.

وكان في مجمع دمشق أوائل العهد بالانتداب الفرنسي لجنة دائمة لتعريب المصطلحات والأسماء، وأذكر أن شيخنا المبارك مرّت معه في الدرس إحدى هذه الكلمات فلم نتنبّه لها، فقال: إن هذه الكلمة كلّفت الدولة مئة ليرة ... يوم كانت مئة الليرة راتب وكيل وزارة.

يا سقى الله تلك الأيام ويا ما أطيب ذكراها، يوم كنّا نراجع في لسان العرب ونحن في السنة الأولى من المرحلة المتوسطة، ونقرأ مقالات الكبار كالرافعي والعقّاد والمازني وطه حسين، فنأخذ عليهم كلمة وضعوها في غير موضعها أو خالفوا فيها عن طريقها. سمعنا في شعر شوقي كلمة «حنايا» ففتّشنا المعاجم فلم نجد إلاّ «أحناء» فأنكرناها عليه. وأنكرنا على خير الدين الزركلي سنة 1925 قوله «سوريا الشهيدة» لأن الفصيح أن يُقال سوريا الشهيد لا الشهيدة، فعلنا ذلك بإرشاد مشايخنا وأساتذتنا الذين قوّموا ألسنتنا وألزمونا حفظ الشعر الجاهلي والإسلامي (الذي لا يُحتَجّ باللغة إلاّ به) والرجوعَ إلى الكتب الكبار.

ألا تعجبون إن قلت لكم إني كنت أخطب ساعة ارتجالاً وأنا شابّ فلا يزلق لساني ولا يزلّ بكلمة ولا آتي بلحن، فصرت الآن بعد هذا العمر كله يسبق لساني أحياناً إلى الخطأ، فإذا سمعته عند إذاعته تحسّرت على نفسي وواريت خجلاً وجهي.

كان الفضل في حفظ العربية لهؤلاء وأمثالهم، لا إلى الفرنسيين.

* * *

أما الجانب الآخَر من المصيبة (الذي وقفت في آخر الحلقة الماضية عنده) فهو نزع حجاب البنات، والسعي الدائب لاختلاط الشبّان بالشابّات، حتى كُشفت العورات وصار بعض المدارس كالمراقص والملهيات، وصار الرقص (لا الرقص الرياضي، بل الرقص العادي) مادّة من الموادّ المقرّرات تُجبَر على تعلّمه الطالبات!

إي والله العظيم، ما أقول إلاّ ما وقع، لا أسير وراء خيالي ولا أفتري على الناس الكذب. ولم نصل إلى هذا في يوم واحد، بل كانت خُطّة مرسومة؛ كانت فصلاً من كتاب محاربة الإسلام.

لقد حاقت بالإسلام مصائب وحلّت به نكبات: الردّة التي كانت بعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، حيث رجع أكثر العرب عن الاتّباع الكامل للإسلام، فمنهم من تبع متنبّئاً كذّاباً وترك الدين الحقّ، ومنهم من أراد أن يهدم ركناً من الأركان التي يقوم عليها بنيان الإسلام فيمنع الزكاة. وظنّ بعض خصوم الإسلام أنه انتهى، ولكن الإسلام عاد بحمد الله أقوى ممّا كان.

ثم جاءت سلسلة طويلة من المصائب التي تعرفونها، وما أنشأت هذا الفصل لبيانها ولكن أشير إليها لأذكّركم بها: الفتن الداخلية التي أثارها ابن سبأ، اليهودي المتنكّر بلباس الإسلام. ثم الحروب الصليبية، وهجمات المغول والتتر، وما تعرفون من أمثال ذلك، وأمثالُه كثير. ولكن الإسلام كان ينتفض فيُلقي عنه ما علق، ويشفى ممّا أصابه، ويعود قوياً محفوظاً بحفظ الله.

أمّا الحرب التي تواجه الإسلام الآن فهي أشدّ وأنكى من كل ما كان؛ إنها عقول كبيرة جداً، شريرة جداً، تمدّها قُوى قوية جداً وأموال كثيرة جداً، كلّ ذلك مسخَّر لحرب الإسلام على خُطَط مُحكَمة، والمسلمون أكثرهم غافلون.

يجدّ أعداؤهم ويهزلون، ويسهر خصومهم وينامون. أولئك يحاربونهم صفاً واحداً، والمسلمون قد فرّقت بينهم خلافات في الرأي ومطامع في الدنيا.

يدخلون علينا من بابَين كبيرَين حولهما أبواب صغار لا يُحصى عددها، أمّا البابان الكبيران فهما باب الشبهات وباب الشهوات. أمّا الشبهات فهي كالمرض الذي يقتل مَن يصيبه، ولكنّ سريانه بطيء وعدواه ضعيفة. فما كلّ شابّ ولا شابّة إذا أُلقيَت عليه الشُّبَه في عقيدته يقبلها رأساً ويعتنقها.

أمّا الشهوات فهي داء يُمرِض وقد لا يقتل، ولكنه أسرع سرَياناً وأقوى عدوى؛ إذ يصادف من نفس الشابّ والشابّة غريزة غرزها الله وغرسها لتُنتج طاقة تُستعمل في الخير، فتنشئ أسرة وتُنتج نسلاً وتقوّي الأمّة وتزيد عدد أبنائها، فيأتي هؤلاء فيوجّهونها في الشرّ، للّذّة العاجلة التي لا تُثمِر. طاقة نعطلها ونهملها ودافع أُوجد ليوجَّه إلى عدوّنا لندافع بها عن بلدنا، فنحن نطلقها في الهواء فنضيعها هباء، أو يوجّهها بعضنا إلى بعض. هذا هو باب الشهوات، وهو أخطر الأبواب. عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلّوه، وأول هذا الطريق هو الاختلاط.

بدأ الاختلاط من رياض الأطفال، ولمّا جاءت الإذاعة انتقل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات. ونحن لا نقول إن لبنت خمس سنين عورة يحرم النظر إليها كعورة الكبيرة البالغة، ولكن نقول إن من يرى هذه تذكّره بتلك فتدفعه إلى محاولة رؤيتها. ثم إنه قد فسد الزمان حتى صار التعدّي على عفاف الأطفال مُنكَراً فاشياً ومرضاً سارياً، لا عندنا، بل في البلاد التي نَعُدّ أهلها هم أهل المدنية والحضارة في أوربّا وأميركا.

كان أعداء الحجاب يقولون إن اللواط والسحاق وتلك الانحرافات الجنسية سببها حَجب النساء، ولو مزّقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها ورجعتم إلى الطريق القويم. وكنّا -من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا- نصدّقهم، ثم لمّا عرفناهم وخبرنا خبرهم ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة.

إنْ كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ فخبروني: هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجّبات الحجاب الشرعي؟ فكيف إذن نرى هذا الشذوذ منتشراً فيهم حتى سنّوا له قانوناً يجعله من المباحات؟

ثم إن أصول العقائد وبذور العادات ومبادئ الخير والشرّ إنما تُغرَس في العقل الباطن للإنسان، من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الستّ الأولى من عمره. فإذا عوّدنا الصبيّ والبنت الاختلاط فيها، ألا تستمر هذه العادة إلى السبع والثمان، ثم تصير أمراً عادياً ينشأ عليه الفتى وتشبّ الفتاة، فيكبران وهما عليه؟ وهل تنتقل البنت في يوم معيّن من شهر معيّن، من الطفولة إلى الصِّبا في ساعات معدودات، حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب؟ أم هي تكبر شعرة شعرة، كعقرب الساعة تراه ثابتاً فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه؟ فهو إذن يمشي وإن لم ترَ مشيه. فإذا عوّدنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم؟

ثم سلَّموا التعليم في المدارس الأوّلية لمعلّمات بدلاً من المعلّمين. ونحن لا نقول إن تعليم المرأة أولاداً صغاراً أعمارهم دون العاشرة محرّم في ذاته. لا، ليس محرّماً في ذاته، ولكنه ذريعة إلى الحرام وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام، وسدّ الذرائع من قواعد الإسلام.

والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير ولا يحسّ إن نظر إليها بمثل ما يحسّ به الكبير، ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكرته فيُخرجها من مخزنها ولو بعد عشرين سنة. أنا أذكر نساء عرفتهنّ وأنا ابن ستّ سنين قبل أكثر من سبعين سنة، وأستطيع أن أتصور الآن ملامح وجوههن وتكوين أجسادهن!

ثم إن من تُشرِف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياتَه كلّها، يظهر في عاطفته وفي سلوكه وفي أدبه إذا كان أديباً. ولا تبعد في ضرب الأمثال، فهاكم الإمام ابن حزم يحدّثكم في كتابه العظيم الذي ألّفه في الحب «طوق الحمامة» حديثاً مستفيضاً في الموضوع.

خلق الله الرجال والنساء بعضهم من بعض، ولكن ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب. فمَن طلب الرحمة والمودّة واللذّة والسكون والاطمئنان دخل من الباب، والباب هو الزواج. ومن تسوّر الجدار أو نقب السقف أو أراد سرقة متعة ليست له بحقّ، ركبه في الدنيا القلق والمرض وازدراء الناس وتأنيب الضمير، وكان له في الآخرة عذاب السعير.

فما الذي صنعناه؟ إن للأعراض لصوصاً كما أن للأموال لصوصاً، ولصوص المال أخفّ شراً وأقلّ ضراً من لصوص الأعراض. وهم يحومون دائماً حول بناتنا، ولكنهم لا يستطيعون أن يقتحموا علينا بيوتنا إلاّ إذا صار الأمر فوضى، وصار «حاميها حراميها»، وعاد الناس كوحش الغاب.

ففكَّروا وقدَّروا واستوحوا شياطينهم، فوصلوا إلى الرأي: وهو أن يدخلوا علينا من طريق المدارس. فكيف دخلوا من طريق المدارس؟

إن لذلك قصّة طويلة الذيول عريضة الحواشي، أعرفها كلها ولكن لا أستطيع الآن أن أرويها كلها، لذلك أسرد اليوم العناوين وأعود يوماً إلى المضامين.

بدؤوا بإدخال المدرسين من الرجال على البنات بحُجّة فقد المدرّسات القادرات. وكان المدرّسون أولاً من أمثال الشيخ محيي الدين الخاني والأستاذ أديب التقي البغدادي والأستاذ محمد علي السراج، وممّن درّس فيها حيناً شيخنا الشيخ بهجة البيطار وأنا. ثم فُتح الباب للشباب، ومن الشباب قِلّة هم أصلح وأتقى لله من الشيوخ الكبار، وأكثر الشباب من المَستورين الذين لا يُعرَف عنهم إقبال على المعصية ولا تمسّك قوي في الدين. ومنهم من هو فاسق يُخفي فسوقه، ومنهم من يجاهر به ويُعلِنه ويجد من الناس من يعجب بهذه المجاهرة ويصفّق لهذا الإعلان.

ثم احتجّوا بالرياضة، فكشفوا من أجلها العورات واستباحوا المحرّمات.

ثم اتخذوا الحفلات السنوية طريقاً إلى ما يريدون، يصنعون فيها ما لا يجرؤون عليه في غيرها. ولمّا كنت أُدرّس في ثانوية البنات سنة 1949 دُعيت إلى هذه الحفلة السنوية فلم أذهب. وكانت الطالبات (وكلهن بالغات كبيرات) يأتين المدرسة بالثوب الرسمي الساتر، وكُنّ يحتجبن في درسي ودرس الشيخ بهجة. فلما كان يوم الحفلة -وقد جئت المدرسة لبعض المعاملات- رأيت الطالبات في الثياب العادية، أي التي يُذهَب بها إلى الأعراس؛ أي أنني رأيتهن متكشّفات بأبهى زينة! فنصحت من سلّمَت عليّ وانصرفت عائداً.

فلما انقضت الحفلة ومرّت عليها أيام أهدت إليّ إحدى الطالبات ظرفاً كبيراً فيه أكثر من ثمانين صورة ملوّنة للبنات أُخذت في الحفلة. والذي صوّرها رجل أجنبي عنهن، ليس أباهن ولا أخاهن. ثم رأيت هذه الصورة في محلّ هذا المصوّر (ومحلّه على طريقي الذي أجتازه كلّ يوم) معروضة في واجهة المحل!

ثم اخترعوا نظام المرشدات (وهو مثل نظام الكشفية للأولاد) وصرن يذهبن في رحلات قصيرة في قُرى دمشق. ثم جاءت المصيبة التي أنست ما قبلها من المصائب، وهي نظام «الفُتُوّة»، أي إلباس الطالبات لباس الجند وتدريبهن على حمل السلاح.

لماذا؟ وهل انقرض الرجال حتى نقاتل بربّات الحِجال؟ ولمَن تُترك إدارة البيوت وتربية الأطفال؟ لماذا والشباب يتسكّعون في الطرقات ويزدحمون على أبواب السينمات، فندع الشباب لهذا ونقاتل أعداءنا بالبنات؟

قالوا: أنتم رجعيون متأخّرون جامدون. ألا ترون اليهود كذلك يصنعون؟ أتكون الفتاة اليهودية أشجع من العربية؟

ولو أنهم قرؤوا ما نقله الدكتور محمد علي البار (جزاه الله خيراً) في كتابه عن النساء المجنّدات في الجيش والشرطة في أميركا وأوربّا لعضّوا الأنامل ندماً، وبكوا بدل الدموع دماء على أنهم جعلوا أئمّتهم اليهود.

تقول العوامّ (وفي بعض ما يقولون حكمة بالغة وحق بيّن)، يقولون: «المال الداشر يعلّم الناس السرقة». ذلك لأن كلّ نفس تميل إلى المال، وأكثر وأقوى من الميل إلى المال الميل إلى الجمال. وهؤلاء الذين سلّمناهم بناتنا (ومنهم من لا تعصمه زوجة ولا يردعه دين ولا يمسكه خوف من الله والدار الآخرة)، هؤلاء تدفعهم غرائزهم إلى هذا الذي فعلوا، ولا يزالون دائبين ليصلوا لأكثر ممّا نالوا. فأين حُرّاس هذا الجمال المعروض؟ أين الآباء والأولياء لهؤلاء البنات؟ لو جاؤوا يسرقون منهم أموالهم لغضبوا لأموالهم وهبّوا يدافعون عنها يستميتون في سبيلها، فما لهم لايغضبون لأعراضهم ولا يعملون على حمايتها؟

* * *

لم يبقَ في الميدان إلاّ المشايخ. والمشايخ لم يكونوا صفاً واحداً إلاّ أياماً قليلة، ولا يزالون مختلفين. وهذه حقيقة يقطع ذكرُها القلبَ أسفاً وحزناً. ليس المشايخ على قلب رجل واحد، منهم الصوفي والسلفي وأتباع المذاهب والآخذون رأساً من الكتاب والسنّة والإخوان المسلمون وخصوم الإخوان المسلمين، وأتباع كل شيخ يتنكّرون للشيخ الآخر.

هؤلاء هم الإسلاميون العاملون، هذه حالهم، أمّا المشايخ الذين يَنظرون: كلّ حاكم ماذا يريد، فيفتّشون له في الكتب عمّا يؤيّد ما أراده ويجعلون ذلك ديناً، وأما المشايخ الموظفون الذين أهَمّتهم وظائفهم (أي رواتبهم) فلا يحرصون إلاّ عليها ولا يبالون إلاّ بها، هؤلاء وأمثالهم لا أتكلّم عنهم ولا أمل لي فيهم.

كان المشايخ الباقون في الميدان يجتمعون فيتشاكَون ويتباكون ثم لا يجدون (وأنا واحد منهم، يُقال عني كلّ ما أقوله عنهم) لا يجدون إلاّ أن يجمعوا صفوفهم فيراجعوا الرئيس أو الوزير، فلا تنفعهم المراجعة شيئاً. ويعلنون النصح للناس، ويجهرون بكلمة الحقّ من فوق المنابر، فيخرج الناس من صلاة الجمعة فيتحدّثون بما سمعوه ويُثنُون على الخطيب ويدعون له، ثم ينغمسون في حمأة الحياة فينسون ما قاله وما سمعوا.
_________________________________

ذكريات 5/ 345-356

الأحد، 1 مايو 2016

من آداب الحديث للعلامة عبدالرحمن السعدي


قال العلامة ابن سعدي - رحمه الله تعالى - :
" ومن الآداب الطيبة إذا حدثك المحدث بأمر ديني أو دنيوي ألا تنازعه الحديث إذا كنت تعرفه، بل تصغي إليه إصغاء من لا يعرفه ولم يمر عليه، وتريه أنك استفدت منه، كما كان ألباء الرجال يفعلونه، وفيه من الفوائد تنشيط المحدث، وإدخال السرور عليه، وسلامتك من العجب بنفسك، وسلامتك من سوء الأدب،. فإن منازعة المحدث في حديثه من سوء الأدب ". ( الرياض الناضرة ص548).

والعلامة السعدي رحمه الله تعالى كان يعامل الناس بمثل ما ذكرة.
وينقل ابنه تعامل العلامة مع الناس يقول:
" في زمن الحرب العالمية كان الناس من أهل عنيزة يحرصون على الاجتماع بالشيخ والمشي معه، وذلك في حال ذهابه للمسجد أو خروجه منه، وكان الناس يتوددون للوالد رحمه الله ويبادلهم هو نفس الشعور.
وكان الناس ينقلون للوالد أخبار الحرب وما سمعوه من المذياع، فيأتي الواحد ولديه خبر أو قصة سمعها من شخص أو من المذياع وينقلها للوالد، والوالد يصغي له وينصت ولا يقاطعه، ثم يشكره على ذلك ويبدي إعجابه رحمه الله، ثم يأتي شخص آخر، ويقص على الوالد نفس القصة، أو ينقل له نفس الخبر الذي نقله الأول، والوالد يسمع له ولا يتكلم ولا يقاطعه ويظهر له التعجب والسرور، فيظن الرجل أنه هو أول من نقل الخبر للشيخ وهو السابق إلى هذا الحديث فيشتد فرحه، والوالد يظهر إعجابه واستغرابه من القصة كأنه يسمعها لأول مرة، وهذا ما يقصده الوالد من حسن الاستماع لغرض جبر خواطر الناقلين للخبر، ثم يأتي شخص ثالث وينقل للشيخ قريبًا مما حدّث به الأول والثاني والشيخ لا يقاطعه ولا يشعره بأنه قد سمع أو علم تلك الأخبار والقصص.
وهذا دأبه مع الناس، وقد شاهدت ذلك بعيني وسمعته بأذني، والشيخ الوالد رحمه الله يفعل هذا مرارًا لحكمة يراها رحمه الله، وفعلاً كسب قلوب الناس العامة منهم والخاصة بهذه الأخلاق الحميدة."
(مواقف من حياة الشيخ الوالد عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص58-59)