بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 4 يناير 2020

إِجْرَاء عين عَرَفَات إِلَى مَكَّة (أعظم أعمال السلطان سليمان القانوني)



وَمِنْهَا: وَهُوَ أعظمها إِجْرَاء عين عَرَفَات إِلَى مَكَّة. وَسبب ذَلِك: أَن الْعين الَّتِي كَانَت بِمَكَّة هِيَ عين حنين الَّتِي أجرتهَا زبيدة بنت جَعْفَر بن الْمَنْصُور زَوْجَة الرشيد، وَاسْمهَا: أمة الْعَزِيز، لِأَن جدها الْمَنْصُور كَانَ يرقصها وَهِي طفلة وَيَقُول: أَنْت زبيدة. فغلب على اسْمهَا، وَكَانَت من أهل الْخيرَات فصرفت عَلَيْهَا خَزَائِن أَمْوَال إِلَى أَن جرت وَهِي فِي وَاد قَلِيل الأمطار بَين جبال شَوَاهِق عاليات خاليات من الْمِيَاه والنبات، وَشقت لَهُ الْقَنَاة فِي الْجبَال إِلَى أَن سلك المَاء من أَرض الْحل إِلَى الْحرم، وَجعلت لَهَا شحاحيذ من كل جبل يكون ذيله مَظَنَّة للْمَاء وَجعلت مِنْهُ قناة مُتَّصِلَة، ومنبع هَذِه الْعين جبل شامخ من تِلْكَ الْجبَال يُقَال لَهُ (طاد) بِالطَّاءِ الْمُهْملَة وَالْألف بعْدهَا دَال مُهْملَة من جبال الثَّنية من طَرِيق الطَّائِف، وَكَانَ المَاء يجْرِي إِلَى أَرض حنين تسقى بِهِ مزارع ونخل مَمْلُوكَة للنَّاس، فاشترت زبيدة ذَلِك الْمحل وأبطلت تِلْكَ الْمزَارِع وَالنَّخْل فَصَارَت تِلْكَ الشحاحيذ يحصل مِنْهَا المدد لهَذِهِ الْعين، وَصَارَ كل شحاذ عينا يساعد عين حنين.

مِنْهَا: عين مشاش، وَعين مَيْمُون، وَعين الزَّعْفَرَان، وَعين البارود، وَعين الطان، وَعين ثقبة، كلهَا تنصب فِي ذيل عين، وَيزِيد بَعْضهَا، وَينْقص بِحَسب الأمطار إِلَى أَن وصلت عين حنين إِلَى مَكَّة المشرفة.

ثمَّ إِنَّهَا أمرت بإجراء عين وَادي نعْمَان إِلَى عَرَفَة وَهِي عين منبعها ذيل جيل كرا وَهُوَ جبل مَعْرُوف فَيصب المَاء من ذيله فِي قناة إِلَى مَوضِع يُقَال لَهُ: الأوجر من وَادي نعْمَان، وَمِنْه إِلَى مَوضِع بَين جبلين شاهقين علو عَرَفَات، ثمَّ مِنْهُ يجْرِي فِي الْقَنَاة إِلَى أَرض عَرَفَات، ثمَّ أدارت الْقَنَاة إِلَى جبل الرَّحْمَة مَحل الْموقف الشريف، وَجعلت المَاء ينصب إِلَى البرك الَّتِي فِي أَرض عَرَفَات فتملأ مَاء يشرب مِنْهُ الْحَاج يَوْم عَرَفَة، ثمَّ استمرت فِي عمل الْقَنَاة إِلَى أَن خرجت من عَرَفَات إِلَى مُزْدَلِفَة، ثمَّ إِلَى جبل خلف منى فِي قبلتها، ثمَّ ينصب المَاء إِلَى بِئْر عَظِيمَة مطوية بالأحجار كَبِيرَة جدا تسمى بِئْر زبيدة إِلَيْهَا انْتهى عمل زبيدة فَوقف، وَهِي من الْأَبْنِيَة المهولة رُبمَا يُوهم بناؤها أَنه من عمل الْجِنّ، ثمَّ صَارَت عين حنين تَنْقَطِع عَن الْوُصُول إِلَى مَكَّة، وَكَذَلِكَ عين عَرَفَات تَنْقَطِع عَن وصولها إِلَى مُنْتَهَاهَا لتهدم قنواتهما وتخريبهما بالسيول.

وَكَانَت الْخُلَفَاء والسلاطين إِذا بَلغهُمْ ذَلِك أرْسلُوا وعمروها عِنْد انتظام سلطنتهم وَقُوَّة تمكنهم فتجري تَارَة وتنقطع أُخْرَى.
فعمرها مظفر الدّين صَاحب إربل سنة خمس وسِتمِائَة.
ثمَّ الْمُسْتَنْصر العباسي سنة سِتّمائَة وتسع وَعشْرين. ثمَّ فِي سِتّمائَة وَثَلَاث وَثَلَاثِينَ، ثمَّ فِي سنة سِتّمائَة وَأَرْبع وَثَلَاثِينَ، وجد ذَلِك مَكْتُوبًا فِي حجر مَبْنِيّ فِي قرب الْموقف الشريف.
ثمَّ عمر عين حنين الْأَمِير جوبان نَائِب السلطنة بالعراقين سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة، فأجراها إِلَى مَكَّة وَتمّ نَفعهَا فَإِنَّهُم كَانُوا فِي جهد عَظِيم لقلَّة المَاء.
ثمَّ عمرها شرِيف مَكَّة الشريف حسن بن عجلَان جد سَادَاتنَا الْأَشْرَاف أَشْرَاف مَكَّة وملوكها الْآن، أدام الله سعادتهم مدى الزَّمَان فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانمِائَة فجرت وانفجرت وَكثر الدُّعَاء لَهُ من أهل الْبِلَاد وَالْحجاج والعباد.
ثمَّ انْقَطَعت وَلَقي النَّاس لذَلِك شدَّة عَظِيمَة إِلَى أَن عمرها الْملك الْمُؤَيد أَبُو النَّصْر شيخ المحمودي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَثَمَانمِائَة.
ثمَّ عمرها وَعمر عين عَرَفَات السُّلْطَان قايتباي أجْرى الأولى إِلَى أَن دخلت مَكَّة، وأجرى الثَّانِيَة إِلَى أَن وصلت إِلَى أَرض عَرَفَات، وَذَلِكَ بمناشرة الْأَمِير يُوسُف الجمالي وأخيه سنقر الجمالي فِي سنة ثَمَانمِائَة وَسبعين.
ثمَّ عمر عين حنين آخر مُلُوك الشراكسة قانصوه الغوري إِلَى أَن جرت وملأت برك الْحجَّاج بالمعلاة، ثمَّ جرت إِلَى بازان، ثمَّ إِلَى بركَة الماجن بِأَسْفَل مَكَّة، ثمَّ انْقَطَعت فِي أَوَائِل الدولة العثمانية وَصَارَ أهل مَكَّة يستقون من آبار حول مَكَّة يُقَال لَهَا: العسيلات علو مَكَّة وَمن آبار بأسفلها بمَكَان يُقَال لَهُ: الزَّاهِر وسُمي الْآن بالجوخي فِي طَرِيق التَّنْعِيم، وَكَذَلِكَ انْقَطَعت عين عَرَفَات وتهدمت قنواتها وَكَانَ الْحجَّاج يحملون المَاء إِلَى عَرَفَات من الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة، وَصَارَ الْفُقَرَاء من الْحجَّاج وَغَيرهم فِي يَوْم عَرَفَة لَا يطْلبُونَ إِلَّا المَاء لغلو المَاء وعزته جدا.

قَالَ الْعَلامَة القطب: وَإِنِّي أذكر سنة تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ، وَأَنا يَوْمئِذٍ مراهق فِي خدمَة وَالِدي أَنِّي اشْتريت قربَة صَغِيرَة جدا يحملهَا الْإِنْسَان بإصبعيه بِدِينَار ذهب، والفقراء يصيحون من الْعَطش يطْلبُونَ مَا يبل حُلُوقهمْ فِي ذَلِك الْيَوْم الشَّديد، فَلَمَّا كَانَ وَقت الْوُقُوف، وَالنَّاس عطاش يلهثون أمْطرت السَّمَاء وسالت السُّيُول من فضل الله وَالنَّاس واقفون، فصاروا يشربون من السَّيْل من تَحت أَرجُلهم ويسقون دوابهم، وَذَلِكَ من رَحْمَة الله ولطفه بعباده.

فبرزت الْأَوَامِر السُّلْطَانِيَّة السليمانية بإصلاحهما، وعُين لذَلِك نَاظر اسْمه مصلح الدّين مصطفى من المجاورين بِمَكَّة، فبذل جهده فِي عمارتهما، فجرت عين حنين إِلَى مَكَّة، وَعين نعْمَان إِلَى عَرَفَات وَذَلِكَ سنة 931 إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة، ثمَّ اشْترى النَّاظر الْمَذْكُور عبيدا سُودًا من مَال السلطنة وزوجهم بمثلهم وَجعل لَهُم جرايات وعلوفات برسم خدمَة الْعين، وَإِصْلَاح قنواتها، فَهِيَ خدمتهم دَائِما وهم باقون إِلَى الْآن طبقَة بعد طبقَة، ثمَّ توجه النَّاظر إِلَى الْأَبْوَاب لعرض أُمُور فِي شَأْن الْعين، فَأُجِيب إِلَى مَا أَرَادَ وَعَاد إِلَى مصر.

ثمَّ ركب من بندر السويس قَاصِدا مَكَّة فغرق فِي بَحر القلزم شَهِيدا، وَمَا غرق إِلَّا فِي بَحر رَحْمَة الله تَعَالَى سنة 939 تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة.

ثمَّ انْقَطَعت سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة فعرضت أَحْوَال الْعُيُون لي الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة السليمانية، فَالْتَفت الخاطر السلطاني وَتوجه الْعَطف العثماني إِلَى تدارك ذَلِك بِأَيّ وَجه يكون، وَأمر بالفحص عَن أَحْوَال الْعُيُون، فَاجْتمع قَاضِي مَكَّة يَوْمئِذٍ عبد الْبَاقِي بن عَليّ الْغَزِّي، والأمير خير الدّين سنجق جدة يَوْمئِذٍ، وَغَيرهمَا من الْأَعْيَان، وتفحصوا وداروا، وكشفوا فأجمع رَأْيهمْ أَن أقوى الْعُيُون عين عَرَفَات، وطريقها ظَاهر ودبولها مَبْنِيَّة إِلَى بِئْر زبيدة، وَأَن الَّذِي يغلب على الظَّن أَن دبولها من الْبِئْر إِلَى مَكَّة مَبْنِيَّة أَيْضا وَأَنَّهَا مخفية تَحت الأَرْض وَأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى الْكَشْف عَنْهَا والحفر، فَإِذا وجدوا من الدبل متهدماً بنوه، وَإِذا وجدوا مختلاً أصلحوه، فخمنوا أَنهم يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِك إِلَى ثَلَاثِينَ ألف دِينَار ذَهَبا، وذرعوه وقاسوه فَكَانَ من الأوجر إِلَى بطن مَكَّة خَمْسَة وَأَرْبَعين ألف ذِرَاع بِذِرَاع الْعَمَل، وَهُوَ أَزِيد من الذِّرَاع الشَّرْعِيّ بِنَحْوِ الرّبع.

وَهَذَا الَّذِي طنوه من وجود دبل تَحت الأَرْض من بِئْر زبيدة إِلَى مَكَّة لم يُوجد فِي كتب التَّارِيخ وَلم يذكرهُ أحد، وَإِنَّمَا أداهم إِلَى ذَلِك مُجَرّد الظَّن بِحَسب القرا ئن وعرضوا على المسامع الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة فِي أَوَائِل سنة 960 سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة، فَلَمَّا وصل علم ذَلِك التمست جانم سُلْطَان كَرِيمَة السُّلْطَان سُلَيْمَان أَن يَأْذَن لَهَا فِي عمل هَذَا الْخَيْر، حَيْثُ كَانَت صَاحِبَة الْخَيْر أَولا أم جَعْفَر زبيدة العباسية فَنَاسَبَ أَن تكون هِيَ صَاحِبَة هَذَا الْخَيْر أخيراً، فَاخْتَارَتْ بعد ان استطارت لهَذِهِ الْخدمَة إِبْرَاهِيم بن تعزي بردي الدفتردار، وأعطته خمسين ألف دِينَار ذَهَبا زِيَادَة على مَا خمنوه، فَسَار بحراً فوصل إِلَى جدة يَوْم الْجُمُعَة لثمان بَقينَ من ذِي الْقعدَة من سنة تسع وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنزل بوطاقه خَارج جدة من الْجِهَة الشامية وَركب من جدة إِلَى سيدنَا ومولانا الشريف مُحَمَّد أبي نمي وَكَانَ نازلاً بوادي (مر) فقابله بالإجلال والتعظيم وَمد لَهُ سماطاً عَظِيما ولاطفه وواكله وباسطه وجابره، فَعرض على حَضرته الشَّرِيفَة الْخط السلطاني، وبذل الهمة وَالِاجْتِهَاد فِي إتْمَام هَذَا الْأَمر، فَأجَاب الشريف أَبُو نمي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة، ثمَّ ركب إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور من عِنْده مُتَوَجها إِلَى مَكَّة، فلاقاه عِنْد دُخُوله مَوْلَانَا الشريف حسن بن أبي نمي وقابله بالترحيب وَالْإِكْرَام وَغَايَة الإجلال والاحترام، وَاسْتمرّ مَعَه إِلَى أَن فَارقه من بَاب السَّلَام، فَدخل فَطَافَ طواف الْقدوم وَكَانَ محرما بِالْحَجِّ وسعى. وَعَاد إِلَى مجمع السُّلْطَان قايتباي، وَهُوَ الْمحل الَّذِي عين لنزوله، وَمد لَهُ من قبل الشريف حسن سماط عَظِيم، ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن الْمَالِكِي ثمَّ كَانَ أول مَا بَدَأَ بِهِ تنظيف الْآبَار الَّتِي يَسْتَسْقِي النَّاس مِنْهَا، وَإِخْرَاج ترابها وَزِيَادَة حفرهَا ليكْثر مَاؤُهَا، وَحصل للنَّاس بذلك رفق عَظِيم، ثمَّ توجه للكشف إِلَى أَعلَى عَرَفَات وَكثر تردده إِلَيْهَا، ثمَّ أسْرع فِي الْكَشْف عَن دبول عين عَرَفَة وَضرب أوطاقه فِي الأوجر من وَادي نعْمَان علو عَرَفَات، وَشرع فِي حفر فقرها، وتنظيف دبولها بهمة عالية جدا.

وَكَانَت مماليكه القائمون فِي خدمته نَحْو أَرْبَعمِائَة مَمْلُوك فِي غَايَة الْجمال والرشاقة والحذاقة واللباقة، وَكتب نَحْو ألف نفس من الْعمَّال والمهندسين والحفارين، وجلب من مصر وبلاد الصَّعِيد وَالشَّام وحلب واسطنبول طوائف بعد طوائف من خدام الْعُيُون والآبار والحدادين والحجارين والبنائين.

وأتى بآلات الْعِمَارَة من مكاتل ومساحي ومجاريف وحديد وبولاد ورصاص ونحاس.

وَعين لكل طَائِفَة قِطْعَة من الأَرْض تحفرها وتنظف مَا فِيهَا، وَاسْتمرّ إِلَى أَن وصل عمله إِلَى بثر زبيدة الَّتِي انْتهى عَملهَا إِلَيْهَا، وَلم يجد بعْدهَا دبلاً، وَلَا أثر عمل وَلَا بقايا قناة، فَضَاقَ ذرعه لذَلِك، وَعلم أَن الْخطب كَبِير وَالْعَمَل كثير وَتحقّق أَن الْقدر الْبَاقِي من هَذَا الْعَمَل إِنَّمَا تركته زبيدة اضطراراً لَا اختبارا وَعدلت إِلَى عمل حنين، وَتركت الْعَمَل من بعد الْبِئْر لصلابة الْحجر وصعوبة إِمْكَان قطعه وَطول مَسَافَة مَا يجب قطعه، وَأَنه يحْتَاج من بِئْر زبيدة إِلَى دبل منقور تَحت الأَرْض فِي الْحجر الصوان طوله ألفا ذِرَاع بِذِرَاع البنائين حَتَّى يتَّصل بدبل عين حنين وَينصب فِيهِ فيصِلاَ إِلَى مَكَّة. وَلَا يُمكن نقر ذَلِك الْحجر تَحت الأَرْض فَإِنَّهُ يحْتَاج فِي النُّزُول إِلَى خمسين ذِرَاع فِي العمق، وَصَارَ لَا يُمكن ترك ذَلِك بعد الشُّرُوع فِيهِ حفظا لناموس السلطنة، فأوجد الْأَمِير إِبْرَاهِيم حِيلَة هِيَ أَن يحْفر وَجه الأَرْض إِلَى أَن يصل إِلَى الْحجر الصوان ثمَّ يُوقد عَلَيْهِ بالنَّار مِقْدَار مائَة حِمل من الْحَطب الجزل لَيْلَة كَامِلَة فِي مِقْدَار سَبْعَة أَذْرع فِي عرض خَمْسَة أَذْرع من وَجه الأَرْض وَالنَّار لَا تعْمل إِلَّا فِي الْعُلُوّ، وَأما السّفل فعملها فِيهِ مِقْدَار قيراطين من أَرْبَعَة وَعشْرين قيراطاً من ذِرَاع.

فيكسر بالحديد إِلَى أَن يصل الْحجر الشَّديد فيوقد عَلَيْهِ الْحَطب الجزل لَيْلَة أُخْرَى إِلَى أَن ينزل فِي ذَلِك الْحجر مِقْدَار خمسين ذِرَاعا فِي العمق فِي عرض خَمْسَة أَذْرع إِلَى أَن يَسْتَوْفِي ألفي ذِرَاع تقطع على هَذَا الحكم، وَذَلِكَ يحْتَاج إِلَى عمر نوح وَمَال قَارون وصبر أَيُّوب، وَمَا رأى عَن ذَلِك محيصاً، فأقدم عَلَيْهِ إِلَى أَن فرغ الْحَطب من جَمِيع جبال مَكَّة وَصَارَ يجلب من الْمسَافَة الْبَعِيدَة، وغلا سعره وضاق النَّاس لذَلِك، وتعب الْأَمِير وَذَهَبت أَمْوَاله وخدامه ومماليكه وَهُوَ يتجلد، إِلَى أَن قطع من الْمسَافَة ألف ذِرَاع وَخَمْسمِائة ذِرَاع، وَصَارَ كلما فرغ المصروف أرسل وَطلب فَجَاءَهُ، ثمَّ مَاتَ لَهُ ولد طِفْل كَانَ خلَّفه بِمصْر احْتَرَقَ عَلَيْهِ كثيرا، ثمَّ مَاتَ لَهُ ولدان مراهقان، ثمَّ مَاتَ أَكثر مماليكه، ثمَّ مَاتَ هُوَ غَرِيبا شَهِيدا لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ ثَانِي رَجَب سنة 974 أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَت جنَازَته حافلة، وأسف النَّاس على فَقده لِكَثْرَة إحسانه وَدفن فِيهَا ولديه قبله.

ثمَّ أقيم فِي هَذِه الْخدمَة سنجق جدة الْأَمِير قَاسم بك، أَقَامَهُ سيدنَا شيخ الْإِسْلَام القَاضِي الْحُسَيْن إِلَى أَن يصل مَن تعينه السلطنة الْعلية.

وَفِي هَذَا الْعَام الْمَذْكُور انْتَقَلت السلطنة من السُّلْطَان سُلَيْمَان صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى وَلَده الْآتِي بعده مَوْلَانَا السُّلْطَان سليم بن سُلَيْمَان، فعين لهَذِهِ الْخدمَة دفتردار مصر يَوْمئِذٍ مُحَمَّد بك يكمكجي زَاده وَكَانَ من أعبد السناجق، فوصل إِلَى هَذِه الْخدمَة وبذل فِيهَا نَفسه وَمَاله، وَقطع مَسَافَة وَمَا بلغ التَّمام، بل وافاه الحِمام لَيْلَة الثُّلَاثَاء لأَرْبَع لَيَال بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَدفن بالمعلاة قبالة تربة الْأَمِير إِبْرَاهِيم الدفتردار على يسَار الذَّاهِب إِلَى الأبطح، ثمَّ رَجَعَ فِي خدمَة الْعين الْأَمِير قَاسم سنجق جدة الْمَذْكُور آنِفا أرجعه فِيهَا القَاضِي الْحُسَيْن وَعرض ذَلِك إِلَى الْأَبْوَاب، فأنهى الْأَمر باستقرار قَاسم بك فِي الْخدمَة أَمينا على مصارفها. وَأَن يكون مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن نَاظرا على مَا بَقِي من عمل هَذِه الْعين إِلَى أَن يصل إِلَى عَرَفَات، فاستمر قَاسم بك مباشراً لهَذِهِ الْخدمَة، إِلَى أَن طرقه الْحِين فَصَارَ ثَالِثا للأميرين السَّابِقين، وَصَارَ من شُهَدَاء الْعين، وَذَلِكَ لليلة خلت من رَجَب الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَدفن بالمعلاة إِلَى جَانب الْأَمِير مُحَمَّد بك اليكمكجي المتوفي بِمَكَّة.

ثمَّ توجه مَوْلَانَا القَاضِي الْحُسَيْن توجهاً تَاما إِلَى تَكْمِيل عمل مَا بَقِي من الْعين بِاعْتِبَار مَا بِيَدِهِ من النّظر، وَعرض للسلطنة الشَّرِيفَة بوفاة قَاسم بك فبرزت الْأَوَامِر إِلَى حَضرته الشَّرِيفَة فأقدم بهمته الْعَالِيَة أتم إقدام، فساعدته السَّعَادَة والإقبال على الْإِتْمَام، فكمل عَملهَا فِيهَا دون خَمْسَة أشهر، بعد أَن عجزوا عَنهُ فِي قريب من عشرَة أَعْوَام، فجرت عين عَرَفَات وَوصل المَاء، وَهُوَ يجْرِي فِي تِلْكَ الدبول والقنوات إِلَى أَن دخل مَكَّة لعشر بَقينَ من ذِي الْقعدَة الْحَرَام سنة 979 تسع وَسبعين وَتِسْعمِائَة، وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم يَوْم عيد أكبر عِنْد النَّاس، وَعمل فِي ذَلِك الْيَوْم أسمطة بِالْأَبْطح ببستانه الْوَاسِع الأفيح، جمع الأكابر والأعيان، وَنصب لَهُم السرادقات والصوان، وَذبح أَكثر من مائَة من الْغنم، وَقدم للنَّاس على قدر طبقاتهم أَنْوَاع الموائد وَالنعَم، وخلع على أَكثر من عشرَة أنفس من المعلمين والمهندسين خلعاً فاخرة، وَأحسن إِلَى باقيهم بِالْحَسَنَاتِ الوافرة.

وَمِمَّا رَأَيْته بِخَط جدي الْعَلامَة جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل العصامي مَا نصُّه: لما أكمل مَوْلَانَا وعزيزنا شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين نَاظر النظار بِبَلَد الله الْأمين مَوْلَانَا السَّيِّد الشريف القَاضِي الْحُسَيْن بن أَحْمد الْمَالِكِي عمَارَة عين عَرَفَات كتبت إِلَيْهِ قولى: [من مخلع الْبَسِيط]
أَقضَى القُضَاةِ الحسينُ أَعْنَى ... مكانَ أُمِّ القُرَي بِعَيْنه
وجاءَ بالعَيْنِ بَعْدَ يَأْسٍ ... فَشكْرُهُ وَاجِبٌ لِعَيْنِهُ
فَفتح لقبولهما كل بَاب، وأعجب بِهِ غَايَة الْإِعْجَاب.

قلت: يُمكن أَن يقْصد فِيهِ التورية فيراد بقوله (لعَينه) الذَّهَب، ويرشحه قَوْله: (أغْنى) إِلَى آخِره.

وَأَن يُرَاد بهَا المَاء الْجَارِي ويرشحه (جَاءَ بِالْعينِ بعد يأس).

وَعِنْدِي: سلبهما من لِبَاس التورية أستر، وأذكى لشذى الْمَدْح وأعطر، بِأَن يكون المُرَاد بِالْعينِ ذَاته وشخصه، ليَكُون وجوب الشُّكْر لذاته فِي كَمَاله، لَا لعَارض يَزُول بزواله.

ثمَّ جهز أَخْبَار هَذِه البشائر إِلَى السُّلْطَان سليم ابْن السُّلْطَان سُلَيْمَان خَان، وَإِلَى سرادقات الْحجاب الرفيع مليكَة الملكات بلقيس الزَّمَان جانم السُّلْطَان أُخْت مَوْلَانَا السُّلْطَان سُلَيْمَان، فأنعمت بالإنعامات الجزيلة، والترقيات الْكَثِيرَة الجميلة على سَائِر العمالين والمباشرين والمتعاطين لهَذِهِ الْخدمَة، ورقت مدرسة مَوْلَانَا القَاضِي حُسَيْن - وَهِي الأولى مِمَّا يَلِي بَاب الزبادة - فَصَارَت بِمِائَة عثماني.

واستمرت هَذِه الْعين من جملَة الْآثَار الْبَاقِيَة على صفحات اللَّيَالِي وَالْأَيَّام، والأعمال الصَّالِحَات الْبَاقِيَات على تكْرَار السنين والأعوام.

وَمَا عِنْده سُبْحَانَهُ من تَضْعِيف الْأجر وَالثَّوَاب خير، وَأبقى عِنْد أولي الْأَلْبَاب.

وَكَانَ جملَة النَّفَقَة خَمْسَة لكوك وَسَبْعَة آلَاف دِينَار ذَهَبا أَحْمَر جَدِيدا، وَذَلِكَ غير مَا صرف على إِحْضَار أَرْبَاب الصناعات من الحدادين والحجارين والقطاعين والنجارين، وَأهل الصناعات الدقيقة من الْبِلَاد الْبَعِيدَة، وَغير مَا صرف على خدامها وخدامهم.

وَقد كَانَت عمارتها فِي آخر الدولة السُّلْطَانِيَّة السليمانية وَفِي أول الدول السُّلْطَانِيَّة السليمية.

__________________________

المصدر:

https://bin-swauid.blogspot.com/2018/04/1111.html