بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 أبريل 2019

قيل لحاتم الطائي: هل رأيت أكرم منك؟ فقال: نعم!


قيل لحاتم: هل رأيت أكرم منك؟
فقال: نعم؛ ليس لأحد أن يدلّ بنفسه، ولا يفتخر على أبناء جنسه، ولمن نزل الأرض ولادة، والخلق بينهم تفاوت وزيادة.
فقيل له: فكيف كان ذاك؟
فقال: خرجت في بعض الكرّات أطلب المكتسب، فانتهى بي السير إلى مرج وغدير، ورأيت عليه رجل جالس وحصانه في يده ورمحه مركوز إلى جانبه وقدّامه زاد، وهو يأكل.
فلمّا رآني بادأني السلام وعزم: لتنزلنّ! فنزلت عن جوادي.
فأجد قدامه من الزاد ما يكفي جماعة من الناس، فأكلنا.
ولمّا اكتفينا نفض جميع ذلك الزاد على الرمل وركب وركبت.
وسألني بعد ذلك عن توجّهي، فعرّفته.
فقال: وأنا كذلك.
فقلت: يا وجه قومه، لم نفضت المزود ونحن في هذه المفاوز، ونحن محتاجون إليه؟
فتبسّم وقال: لا تفكّر في رزق غد، فكلّ غد له رزق جديد، ما دام لك عمر مديد. ثمّ أنشأ يقول (287 من الطويل):
رحلنا وخلّينا على الرّمل زادنا … وللطّير في زاد الكرام نصيب
ورزق غدا يأتي غدا يسوقه … إلى العبد جبّار عليه رقيب
فيا نفس لا تبقي على قوت ليلة … فإنّ مرار الموت منك قريب
قال حاتم: ثمّ سرنا، فلمّا كان الغد فتح بيده مزودي وفرشه وأكلنا على جانب غدير.
ثمّ إنّه نفض المزود على ذلك الغدير وعوّلنا على المسير، وإذا بكلب قد أقبل من صدر البيداء يطلب الغدير.
فلمّا وصل ورأى الزاد فتقدّم وأكل حتّى اكتفى، وشرب من الغدير وترك باقي الزاد.
فقال لي رفيقي: ألا تنظر يا فتى إلا هذا الحيوان كيف أكل كفايته -ما لا كان له في حساب- وترك باقي الزاد ولا عن عليه ولا حمله؟! أيكون الكلب أقوى يقين منا؟
فقلت، وقد هالني أمره: لم تفعل إلاّ خيرا.
ثمّ قطعنا البرّ حتّى تعالا النهار، واتّسع في وجهنا القفار، وبدا بنا الجوع، وعمل فينا الخوى.
فقلت في نفسي: ترى من أين يكون غذانا؟
وأنا، فقد هنيته أن أكلّمه في ذلك، فو الله لم أتمّ ما في نفسي حتّى انطلق الكلب في عرض البرّ حتّى ظننت أنّه قارب قومه، وإذا به قد ثوّر عانة من الوحش، وصار يردّها إلينا، حتّى تخيّل لنا أنّه يقول: دونكم وهذه العانة.
فبادرنا إليها وأخذنا منها كفايتنا، ونزلنا وذبحنا وشوينا وأكلنا، نحن والكلب.
ولمّا كان من الغد أشرفنا على أحياء عرب، فرينا حلّة كبيرة، فسقنا منها ما قدرنا من النّياق والجمال، ولدغناها برؤوس الرماح، فمدّت خطاها قدّامنا، وبعدنا عن الأحياء، ونظرنا إلى خلفنا، وإذا بفرسان الحلّة يتسابقون إلينا، وطلع الغبار ورانا مثل قطع الليل، فعدنا نلتقي القوم.
فلمّا رآني رفيقي قد عزمت على لقاء القوم معه تبسّم في وجهي، وقال:
يا فتى، بحقّ الّلات والعزّى، قف في هذا المكان واحفظ الغنيمة أن تشرد، ودعني فإنّي إذا علمت أنّ مثلك خلفي قوي عزمي، وإذا رأيتني قد قهرت فاستعدني.
قال: فوقفت مع الغنيمة أنظر فعاله ساعة، وإذا بالخيل الذي أقبلت إلينا قد ولّت، وهو في ظهورها يزعق زعقات الأبطال الذين لا تزيغهم كثرة الرجال، وقد سطح على الأرض منهم عدّة كثيرة ما بين قتيلا وجريحا، وعاد إليّ كأنّه الأسد الكاسر، وهو ينشد ويقول (من الرمل):
يا سنان الرّمح لا تشكوا الصّما … فأنا اليوم أرويك دما
وأخلّي الوحش خلفي رتعا … في رجال فارقوا أرض الحما
صاحبي شرائنا في دعة … فحسامي في يدي ما يثلما
وحياتي، لو بدا الموت له … ورأى صورته ما انهزما
فقال حاتم: ثمّ سقنا الغنيمة إلى المكان الذي ترافقنا فيه، والكلب لا يفارقنا.
فعندها قسّم النّياق والغنيمة أثلاث، وأنا أنظر إلى ما يفعل.
وقال: يا فتى، أيّهم اخترت فهو سهمك، فخذه واطلب أهلك. فقلت:
والله يا مولاي إذا عدنا إلى الإنصاف فما أستحقّ من هذه الغنيمة حبة واحدة؛ وقد رأيتك قسّمتها ثلاث، فمن هو ثالثنا؟
فقال، وقد تبسّم: هذا الكلب.
فقلت: وما يفعل الكلب بنوق وجمال؟
فقال: يفعل بها ما يريد، لأنّه صار رفيقنا وساعدنا في ردّ العانة من الوحش علينا، وأكل من زادنا، على أنّني ما أدعه ضايع وإنّما خذ قسمك واذهب إلى أهلك، وأنا كذلك، فمن تبعه الكلب يتسلّم قسمه، يفعل فيه معه بمروته.
فلمّا سمعت ذلك تعجّبت كلّ العجب، وداخلني والله من فعله الطرب.
فلمّا توجّه كلّ أحد بقسمه تبعني الكلب.
فقال: يا فتى، خذ قسم الكلب إليك.
فأضفته إلى قسمي.
ولمّا بعدنا عاد إليّ يركض، فقلت: والله لقد ندم على ما فعل وعاد يأخذ غنيمته.
فتنحّيت عنها وقلت: ها أنت وغنيمتك، باركت لها الأصنام.
فقال: دع يا فتى هذا الخاطر عنك، ولا تنسبني إلى البخل وقلّة الإنصاف، فو الله ما عدت إليك إلاّ حتّى أسألك عن اسمك ونسبك، فقد عاد بيننا صحبة وحرمة وذمام، ولا علمت اسمك، وكذا أنت من كرمك ما سألتني عن ذلك.
فأمّا أنا فاسمي عطّاف ابن قابض الطريّ، فأنت؟
فقلت: أنا حاتم بن سعد الطائيّ. فما هو إلاّ أن سمع باسمي حتّى ترجّل عن جواده وقال: اعذرني يا سيّد طيء من التقصير، لأنّ لي سنين أسمع بك وبما شيّدته من الكرم، وكنت أودّ على لقاك وأجتهد أن أتّبع مساعيك. ثمّ عاد إلى سهمه فأخلطه بسهمي، وقال:
يا حاتم، لا تردّه عليّ؛ فوحقّ اللاّت والعزّى أنجز نفسي بحسامي، وإن رأيت أن تعود معي إلى أهلي حتّى أزيدك من مالي ألف ناقة تستعين بها على معروفك.
قال: فشكرته وأتيت إلى أهلي بكّل تلك الغنيمة.

ابن أيبك الدواداري (المتوفى: بعد 736 هـ): كنز الدرر وجامع الغرر 2 / 431 إلى 435 - الناشر: عيسى البابي الحلبي - تحقيق: إدوارد بدين، 1414 هـ - 1994 م.؛ ليس لأحد أن يدلّ بنفسه، ولا يفتخر على أبناء جنسه، ولمن نزل الأرض ولادة، والخلق بينهم تفاوت وزيادة.
فقيل له: فكيف كان ذاك؟
فقال: خرجت في بعض الكرّات أطلب المكتسب، فانتهى بي السير إلى مرج وغدير، ورأيت عليه رجل جالس وحصانه في يده ورمحه مركوز إلى جانبه وقدّامه زاد، وهو يأكل.
فلمّا رآني بادأني السلام وعزم: لتنزلنّ! فنزلت عن جوادي.
فأجد قدامه من الزاد ما يكفي جماعة من الناس، فأكلنا.
ولمّا اكتفينا نفض جميع ذلك الزاد على الرمل وركب وركبت.
وسألني بعد ذلك عن توجّهي، فعرّفته.
فقال: وأنا كذلك.
فقلت: يا وجه قومه، لم نفضت المزود ونحن في هذه المفاوز، ونحن محتاجون إليه؟
فتبسّم وقال: لا تفكّر في رزق غد، فكلّ غد له رزق جديد، ما دام لك عمر مديد. ثمّ أنشأ يقول (287 من الطويل):
رحلنا وخلّينا على الرّمل زادنا … وللطّير في زاد الكرام نصيب
ورزق غدا يأتي غدا يسوقه … إلى العبد جبّار عليه رقيب
فيا نفس لا تبقي على قوت ليلة … فإنّ مرار الموت منك قريب

قال حاتم: ثمّ سرنا، فلمّا كان الغد فتح بيده مزودي وفرشه وأكلنا على جانب غدير.
ثمّ إنّه نفض المزود على ذلك الغدير وعوّلنا على المسير، وإذا بكلب قد أقبل من صدر البيداء يطلب الغدير.
فلمّا وصل ورأى الزاد فتقدّم وأكل حتّى اكتفى، وشرب من الغدير وترك باقي الزاد.
فقال لي رفيقي: ألا تنظر يا فتى إلا هذا الحيوان كيف أكل كفايته -ما لا كان له في حساب- وترك باقي الزاد ولا عن عليه ولا حمله؟! أيكون الكلب أقوى يقين منا؟
فقلت، وقد هالني أمره: لم تفعل إلاّ خيرا.
ثمّ قطعنا البرّ حتّى تعالا النهار، واتّسع في وجهنا القفار، وبدا بنا الجوع، وعمل فينا الخوى.
فقلت في نفسي: ترى من أين يكون غذانا؟
وأنا، فقد هنيته أن أكلّمه في ذلك، فو الله لم أتمّ ما في نفسي حتّى انطلق الكلب في عرض البرّ حتّى ظننت أنّه قارب قومه، وإذا به قد ثوّر عانة من الوحش، وصار يردّها إلينا، حتّى تخيّل لنا أنّه يقول: دونكم وهذه العانة.
فبادرنا إليها وأخذنا منها كفايتنا، ونزلنا وذبحنا وشوينا وأكلنا، نحن والكلب.

ولمّا كان من الغد أشرفنا على أحياء عرب، فرينا حلّة كبيرة، فسقنا منها ما قدرنا من النّياق والجمال، ولدغناها برؤوس الرماح، فمدّت خطاها قدّامنا، وبعدنا عن الأحياء، ونظرنا إلى خلفنا، وإذا بفرسان الحلّة يتسابقون إلينا، وطلع الغبار ورانا مثل قطع الليل، فعدنا نلتقي القوم.
فلمّا رآني رفيقي قد عزمت على لقاء القوم معه تبسّم في وجهي، وقال:
يا فتى، بحقّ الّلات والعزّى، قف في هذا المكان واحفظ الغنيمة أن تشرد، ودعني فإنّي إذا علمت أنّ مثلك خلفي قوي عزمي، وإذا رأيتني قد قهرت فاستعدني.
قال: فوقفت مع الغنيمة أنظر فعاله ساعة، وإذا بالخيل الذي أقبلت إلينا قد ولّت، وهو في ظهورها يزعق زعقات الأبطال الذين لا تزيغهم كثرة الرجال، وقد سطح على الأرض منهم عدّة كثيرة ما بين قتيلا وجريحا، وعاد إليّ كأنّه الأسد الكاسر، وهو ينشد ويقول (من الرمل):
يا سنان الرّمح لا تشكوا الصّما … فأنا اليوم أرويك دما
وأخلّي الوحش خلفي رتعا … في رجال فارقوا أرض الحما
صاحبي شرائنا في دعة … فحسامي في يدي ما يثلما
وحياتي، لو بدا الموت له … ورأى صورته ما انهزما
فقال حاتم: ثمّ سقنا الغنيمة إلى المكان الذي ترافقنا فيه، والكلب لا يفارقنا.
فعندها قسّم النّياق والغنيمة أثلاث، وأنا أنظر إلى ما يفعل.
وقال: يا فتى، أيّهم اخترت فهو سهمك، فخذه واطلب أهلك. فقلت:
والله يا مولاي إذا عدنا إلى الإنصاف فما أستحقّ من هذه الغنيمة حبة واحدة؛ وقد رأيتك قسّمتها ثلاث، فمن هو ثالثنا؟
فقال، وقد تبسّم: هذا الكلب.
فقلت: وما يفعل الكلب بنوق وجمال؟
فقال: يفعل بها ما يريد، لأنّه صار رفيقنا وساعدنا في ردّ العانة من الوحش علينا، وأكل من زادنا، على أنّني ما أدعه ضايع وإنّما خذ قسمك واذهب إلى أهلك، وأنا كذلك، فمن تبعه الكلب يتسلّم قسمه، يفعل فيه معه بمروته.
فلمّا سمعت ذلك تعجّبت كلّ العجب، وداخلني والله من فعله الطرب.

فلمّا توجّه كلّ أحد بقسمه تبعني الكلب.
فقال: يا فتى، خذ قسم الكلب إليك.
فأضفته إلى قسمي.
ولمّا بعدنا عاد إليّ يركض، فقلت: والله لقد ندم على ما فعل وعاد يأخذ غنيمته.
فتنحّيت عنها وقلت: ها أنت وغنيمتك، باركت لها الأصنام.
فقال: دع يا فتى هذا الخاطر عنك، ولا تنسبني إلى البخل وقلّة الإنصاف، فو الله ما عدت إليك إلاّ حتّى أسألك عن اسمك ونسبك، فقد عاد بيننا صحبة وحرمة وذمام، ولا علمت اسمك، وكذا أنت من كرمك ما سألتني عن ذلك.
فأمّا أنا فاسمي عطّاف ابن قابض الطريّ، فأنت؟
فقلت: أنا حاتم بن سعد الطائيّ. فما هو إلاّ أن سمع باسمي حتّى ترجّل عن جواده وقال: اعذرني يا سيّد طيء من التقصير، لأنّ لي سنين أسمع بك وبما شيّدته من الكرم، وكنت أودّ على لقاك وأجتهد أن أتّبع مساعيك. ثمّ عاد إلى سهمه فأخلطه بسهمي، وقال:
يا حاتم، لا تردّه عليّ؛ فوحقّ اللاّت والعزّى أنجز نفسي بحسامي، وإن رأيت أن تعود معي إلى أهلي حتّى أزيدك من مالي ألف ناقة تستعين بها على معروفك.
قال: فشكرته وأتيت إلى أهلي بكّل تلك الغنيمة.

ابن أيبك الدواداري (المتوفى: بعد 736 هـ): كنز الدرر وجامع الغرر 2 / 431 إلى 435 - الناشر: عيسى البابي الحلبي - تحقيق: إدوارد بدين، 1414 هـ - 1994 م.