بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 12 أغسطس 2017

هل الحرب ضرورة؟


للأستاذ عباس محمود العقاد
العدد 232 - بتاريخ: 13 - 12 - 1937

- 1 -

جرئ من يقول أن الحرب ليست من ضرورات الطبيعة الإنسانية في هذا الزمن الذي قلما نسمع فيه إلا حديث حرب وخوفاً من حرب واستعداداً لحرب وبحثاً في محالفات ومؤتمرات ليس الغرض منها إلا اتقاء العداوات والحروب.
والواقع أن محاربة الحرب في العصر الحاضر تحتاج إلى كل ما في الإنسان من شجاعة، وكل ما عنده من رأى، وكل ما ينطوي عليه من سجية، لأنه يحارب أقوى القوى متضافرات متشابكات: يحارب قوة المال وقوة السلاح وقوة الجهل وهي أقوى عناصر هذا الثالوث.
وربما كان خير الميادين للغلبة على الحرب ميدان الثقافة وما يلحق به من ميدان التربية والتعليم.
فإن التربية تصلح ما أفسدته التربية، ثم تزيد فتصلح ما لم تفسده قبل ذلك، وهي على كل حال سلاح لا غنى عنه في هذا الميدان، لأن وسائل السلم كلها لن تفيد في تعويد الناس غير ما تعودوه ما بقيت تربيتهم وتثقيفهم عقولهم على الحال التي هي عليه.

في طليعة الكتاب المعنيين بفلسفة الحرب (الدوس هكسلي) حفيد العالم الإنجليزي هكسلي الكبير.
وهو وأقرانه في هي هذا الجهاد الإنساني الشريف لا يبحثون عن الحرب بحث الصحف والأخبار والمؤتمرات والوزارات، فإنهم يعتقدون وهم على حق فيما يعتقدون أن سياسة الأمم أعمق وأخفى وأعرق من هذه الجوانب التي يتناولها السواس وتلغط بها صحف الأخبار، ولكنهم يبحثون الطبيعة الإنسانية وينقبون في تواريخ الأمم ليعرفوا منها ما هو طبيعي أصيل، وما هو عرضي قابل للتهذيب والتبديل.
ومعظم النابهين بين كتاب هذه الطائفة ينتهون إلى أن الحرب بدعة طارئة وليست ضرورة من ضرورات الطبيعة الإنسانية ولا قانوناً من قوانين الاجتماع، وهذا هو الرأي الذي يلوح غربياً ممعناً في الغرابة للذين سمعوا وطال سماعهم لقوانين تنازع البقاء وإرادة القوة وإرادة الحياة، وحسبوا أن هذه القوانين ودوام الحرب معنيان مترادفان.

كتاب (الغايات والوسائل) هو آخر كتب هكسلي في هذا العام، وإن كان قد ردد فيه بعض الآراء التي شرحها في كتبه السابقة منذ سنوات.
وفصل الحرب في هذا الكتاب من أبرع الفصول التي كتبها هذا الأديب اللوذعي المطلع القدير، وهو الفصل الذي نلخصه في هذا المقال، ونعتقد إننا - نحن المصريين والشرقيين - خلقاء أن نبحث الحرب من هذه الناحية بعد أن طال حديثنا عنها من نواحيها العرضية التي تجيء وتذهب مع الأخبار، بل لعلنا أحوج ما نكون إلى تدعيم بحوثنا كلها على هذا الأسس وعلى هذه الأصول.
يقول هكسلي ما خلاصته أن الحرب ظاهرة إنسانية لا وجود لها في عالم الحيوان، لأن الحيوان يتقاتل في إبان الثورة الجنسية أو طلباً للطعام أو لهوا ولعباً في قليل جداً من الأحايين، وليس من الحرب بالبداهة أن يقتل الذئب الشاة أو تلعب الهرة بالفأر، فإنما هذا شبيه بعمل الجزار حين يقتل ما يطعمه الناس، أو شبيه بعمل الصياد حين يتعقب الثعلب والأرنب.
نعلم أن بعض علماء الحياة وعلى رأسهم السير أرثركيت يزعمون أن الحرب كالمنجل في يد الطبيعة تقطع الفاسد وتبقي من أفراد الحضارة وشعوبها كل صالح للبقاء.
ولكن هذا كما هذا ظاهر لغو فارغ، لأن الحرب تقضي على الشبان والرجال الأشداء وتترك الضعفاء والشيوخ الذين لا يذهبون إلى الميدان.
وقد دلت التجربة على أن أعنف الشعوب وأصلحهم للحرب لم يكونوا قط أفضل الشعوب وارفعها في مراتب الأخلاق والثقافة، إذ ليس أنفس بني الإنسان وأغلاهم قيمة في معيار الحضارة أوفاهم (نزعة حربية) وضراوة في حومة القتال.
وأوجز ما يقال في هذا الصدد أن الحرب تختار الأفراد على طريقة عكسية فتفني الأقوياء وتترك الضعفاء، وإنها تختار الشعوب على سنة المصادفة والمناسبات الموقوتة، فكثيراً ما تفنى الشعوب المقاتلة وتترك الشعوب الموادعة، وكثيراً ما كان انطباع الأمة على الحرب طريقاً لها إلى الوبال والاستئصال.

والذي يدل أكبر دلالة على أن الحرب أليست طبيعة في الإنسان ولا في الاجتماع إنها لم تظهر في التاريخ إلا بعد ظهور درجة من الحضارة ونوع من الحكومة، فهي مجهولة بين قبائل (الإسكيمو) التي تسكن الأصقاع الشمالية حتى اليوم.
وقد كانت مجهولة في أطوار الإنسانية الأولى فلم يعرف عن الإنسان في تلك الأطوار أنه اتخذ السلاح للقتال وحب الغلب والسيادة، إنما كان يتخذ السلاح لدفع الضواري أو لصيد بعض الحيوان.
وصحيح أن (تنازع البقاء) قانون قائم في عالم الإنسان كما هو قائم في عالم الحيوان، ولكن من أين لنا أن تنازع البقاء مستلزم داوم الحرب كما ألفناها ونألفها في الحضارات الغابرة والحاضرة؟
ومتى شوهد الحيوان وهو يتجمع مئات وألوفاً ليقاتل بعضه بعضاً من فصيلة واحدة؟
فليس في عالم الطبيعة كلها ظاهرة تشبه اجتماع جيش لمحاربة جيش آخر، ولم يعلم قط أن قطيعاً من الذئاب احتشد الهجوم على قطيع مثله، أو أن سرباً من الطير فعل مثل ذلك على سنة الآدميين في الحروب.
فالقول بأن الحرب قانون طبيعي قول لا يستند إلى أصل من الطبيعة الحيوانية في حالي التفرد والاجتماع، إنما هو تفسير خاطئ لقانون صحيح.

إن الآداب الأوربية قد شوهت الأخلاق حتى وهم الناس أن التضحية بالحياة أنبل ما يستطيعه الإنسان، وأن الشهيد أي الميت الحسن على زعمهم أفضل من الرجل العامل أي الحي الحسن.
وعلى خلاف ذلك كانت آداب الشرقيين في الهند والصين، فعند اتباع كنفشيوس أن المغامرة بالحياة لا تليق، وأن الحكمة افضل من الشجاعة البدنية، وأن العاملين في السلم افضل من العاملين في القتال وأن الفضيلة العليا أن يحجم المرء عن الكبرياء والعدوان ويروض نفسه على الوداعة ومجازاة الإساءة بالإحسان.
ولما جاء المسيح بدين الوداعة والمسالمة دخلت المسيحية بين شعوب أوروبا المقاتلة فجعلوا (الاستشهاد) غاية الغايات في النبل والفضيلة، لأنهم هكذا ينظرون إليه في لآداب العسكرية حتى التبست دعوة السلام بدعوة القتال.
أما في الهند فالحضارة البوذية تأبى العدوان على أحد من الأحياء وتوصي بمحاربة الشر بالكف عن مقابلته بمثله، وهو ما يسمونه عندهم (اهمسا) أي اجتناب الأذى مع الأحياء كافة حتى ما يؤذيه الآخرون طلباً للطعام.
وفي شرع البوذيين أن (الغضب) رذيلة دائماً وأن الإكراه محظور في جميع الأحوال، فشاعت البوذية وعمت بين مخالفيها دون أن تلجأ إلى اضطهاد أو جاسوسية أو محكمة تفتيش.

وعلى هذا، وعلى ما تقدم من نفي ضرورة الحرب، يسوغ لنا أن نعتقد أن الدعوة إلى إلغاء الحروب ليست بالدعوة التي تقاوم مجرى الطبيعة أو تعارض تيار السفن التاريخية، وأنه من الجائز أن يشيع السلام في وقت من الأوقات، وبخاصة في العصور المقبلة القريبة بعدما استفحل خطر الحرب وتعذرت النجاة منه على المسالمين في البيوت والمقاتلين في خطوط النار.

واستطرد الكاتب إلى إجمال أسباب الحرب فقال ما خلاصته أنها أسباب نفسية قبل أن تكون اقتصادية أو سياسية كما يزعم الاشتراكيون ورجال السياسة، وإن كان هذا لا يمنع أن لها أسباباً اقتصادية تعالج بترياق غير ترياق الدماء.
فمن أسباب الحرب الخوف، فهو يدفع إلى الاستعداد، والاستعداد يضطر الأمم إلى الحرب، لأنه يهيئ الأذهان لها بكثرة التوقع والشك في إمكان اجتنابها، وأحرى أن يكون ذلك في العصور الحديثة والبلاد المتحضرة، حيث أصبح السلاح عرضة للتغير والبلى بعد قليل من سنوات، فمن العسير أن تنفق الدول الملايين ثم تلقى بها في التراب.

ومن أسبابها شيوع الملل في الحضارة إذ يشيع الكفر بالأمثلة العليا فتعود الحياة عبثاً ثقيلاً لا غرض له ولا وجهة ولا متعة فيها أمتع من الإهاجة واستفزاز الشعور، والحرب تهيج النفوس فتدفع الملل والسآمة وتقل حوادث الانتحار كما ثبت من إحصاءات علماء النفس وفي طليعتهم دركيم وهلباش.
ومن أسباب الحرب الحرب نفسها حين تهجم أمة على أمة أخرى لانتزاع موقع لازم للتحصين ودرء المخاوف واتقاء الهجوم.

ومن أسبابها المجد الكاذب وطغيان الأقوياء وتحويل أنظار الشعوب في الأزمات إلى ما يشغلها عن الثورة والانتقاض.

ومن أسبابها التربية القائمة على الإفراط في اتباع النظام فإن الإفراط في النظام ينشئ (العقلية العسكرية) ويجني على استقلال الأفراد، فتسهل قيادتهم إلى ما يريده القابضون على أعنة الأمور. ولو تربى الأطفال مستقلين لما استطاع القادة سوقهم إلى المجازر كما تساق الأنعام.

أما الأسباب الاقتصادية والسياسية فهي دون ما تقدم في القوة وصعوبة العلاج، وسنعود إليها وإلى مناقشة آراء الكاتب في غير هذا المقال على أن الرأي الذي نود أن نختم به مقالنا هذا هو إصرار هكسلي على السخر بكل ما يقال عن الحروب التي تختم الحروب.
فعنده أن التاريخ الإنساني ليس (كرة أرضية) يخرج فيها الإنسان إلى اليابان فيلقى نفسه في أقصى المغرب من طريق الشرق البعيد.
إنما التاريخ الإنساني خط مستقيم، فإذا أردت أن تتقدم فيه إلى إلغاء الحرب فلن تصل إلى وجهتك بالرجوع إلى الوراء.




العدد 234 - بتاريخ: 27 - 12 - 1937

- 2 -

ظهور المذهب في الأمة شيء، وشيوع العمل بذلك المذهب شيء آخر.
لكن ظهور المذاهب مع هذا لا يخلو من دلالة قوية على طبيعة الأمة ومعدن أخلاقها وطرائق معيشتها، ولو لم يعمل به الناس أو يتقيدوا بأحكامه في الحياة اليومية.
فالجنود والفلاسفة ورجال المال وأصحاب التجارات الواسعة موجودون في بلاد الحضارة كافة، وربما تساوت (النسبة) بينهم في العدد والقوة والجاه، ولكن مما لاشك فيه أن البلد الذي (مثله الأعلى) رجل الحرب غير البلد الذي يتخذ له (مثلاُ أعلى) من الرجل الغني أو من الرجل الحكيم أو من الرجل الزاهد.

فإذا ظهر في الصين حكيم يوصي الناس بالوداعة وحب السلم وكراهة القتال فليس بالمعقول ولا بالميسور أن يشيع العمل بوصاته حتى يمتنع ظهور الجند ووقوع القتال بين تلاميذه ومريديه؛ ولكن ليس بالمعقول كذلك إن نسوي بين هذا البلد وغيره من البلدان التي يتمنى حكماؤها شيوع الحرب أو شيوع الثروة أو شيوع الزهد والرهبانية، إذ يكفي أن يتمنى الإنسان شيئاً ليكون مختلفاً في تفكيره وشعوره ممن لا يتمنونه وقد يتمنون نقيضه، ولا يسوى بينهم بعد ذلك أنهم يشتركون في عمل واحد يعمله بعضهم مضطراً مسوقاً إليه، ويعمله بعضهم مختاراً شديد الرغبة فيه.
لقد أوصى حكماء الصين بالسلام وبغضوا الناس في الحرب وفيمن يجعلها صناعته وهمه وهجيراه، فليس معنى هذا أن حرباً لم تقع في الصين وأن حكيماً لم يظهر بين أهلها يحثهم على الكفاح كلما دعت إليه حاجة أو قضت به مصلحة سياسية؛ فقد ظهر من الصينيين فلاسفة بالغوا في تمجيد الحرب كما يبالغ فيها اليوم فلاسفة المذاهب (الفاشية) أو مذاهب العسكريين.
وقال أحدهم وهو (كنج سوف يانج): (إن الأمة التي تجتمع فيها القوة حقيقة أن ترهب وتصبح عظيمة البأس والمهابة؛ أما الأمة التي تلهو بالكلام فهي وشيكة التمزيق. ولو أن ألفاً اشتغلوا بالزرع والحرب وواحداً بينهم أشتغل بنظم القصيد ورواية التاريخ وتنميق الأحاديث لأفسد عليهم أعمالهم أجمعين. . .).
إلى أمثال هذا الكلام الذي يخيل إلى قارئه أنه من عربدة المعسكرات لا من نصائح الوعاظ والحكماء ظهر في الصين من قال بهذا وظهر فيها من قال بغيره وهو الفريق الغالب والقدوة العامة المرموقة من الأكثرين، وربما كان ظهور الحكماء المسالمين وانتشار حكمتهم هو الباعث إلى ظهور المخالفين لهم وإغراقهم في دعوة الحرب وآداب القتال، كما يصيح الإنسان ويبالغ في الصياح كلما أحسن أنه ضائع الصوت والصدى محتاج إلى جذب الأسماع ولفت الأنظار؛ وإنما عبرة هذا جميعه أن النيات لها دلالة قوية وليست الدلالة كلها للأعمال والوقائع؛ فإذا رأينا أناساً ينوون السلم ويحاربون فليس بالصحيح أن نسوي بينهم وبين من ينوون الحرب ويحاربون: هم مختلفون وإن تشابهوا في عمل واحد، ونحن رابحون إذا أشعنا دعوة السلم وإن لم يتبعها على الأثر شيوع السلم وبطلان القتال
ومن الأشياء التي لها دلالتها في العصر الحديث كثرة الناعين على الحروب بين الأمم الحرة، وكثرة المنكرين لمظاهر الزهو التي كانت تحيط فيما مضى برجال الفتوح والغزوات، فسيكون لذلك كله أثره كما كانت له دلالته وكانت له دواعيه.
وحسبنا أن العمل في هذه الوجهة ليس بالعبث ولا بالعقيم، بل حسبنا أنه واجب محمود، بل حسبنا أنه ليس بذميم، ليكون ذلك من أسباب المضي فيه والإقبال عليه.

يقال إن الضراوة ليست من طبيعة الوحش في حالة التأبد والسهولة.
ويقول هدسون: إن ألبوما - وهو من أشد السباع الأمريكية - لا يهجم على أحد إلا وهو مدافع عن حياته.
ويقول كومستوك: إن الثعابين والدببة وغيرها من السباع لا تتعلم الضراوة إلا حين يظهر بينها الإنسان ويوغل بينها في الصيد والاعتداء والتحرش والإيذاء.
وحسبنا من ذلك أن الضراوة ليست أصلاً في الخليقة حتى بين السباع والعجماوات، وإنها ضرورة وليست بشهوة مطلوبة، وأنها تحول إذا امتنعت الضرورة وتغيرت الأسباب.
فلا نزعم كما يزعم الفاشيون أن تربية الإنسان على الحرب فضيلة متى ثبت أن الحرب رذيلة ليس عنها محيد: ذلك خطأ لا ريب فيه، لأنه لم يثبت أولاً أن الحرب طبيعية في الأحياء، ولن يثبت بعد ذلك أن الرذيلة تصبح فضيلة مرغوباً فيها متى علمنا أنها عسيرة الاجتناب.

ولست أكبر من شأن الدلالة التي أشار إليها الكاتب (الدوس هكسلي) صاحب كتاب الغايات والوسائل حين قال: إن الإنسان في دور الفطرة لم يكن يعرف الحرب على نظامها المعروف بين أصحاب الحضارة، فإن الرجل الذي يحارب ليس بأبشع ولا أقسى من الرجل الذي يقتل بعد تدبير وإصرار؛ ولعله أقل بشاعة وقسوة لأنه يقتل وهو مهتاج مستثار بما يثير الجنود في حومة الصراع.
إلا أنني أومن بما تواترت به الآراء عن قلة الضراوة بين الأحياء التي تعيش على الفطرة في حالة التبدي والسهولة، فإن ذلك معناه أن الحرب آفة قابلة للعلاج في زمن من الأزمان، وأنها متى بطلت أسبابها الأولى ووضحت أضرارها الجسام وكثر المصابون بتلك الأضرار خفيت من عالم الإنسان المتحضر كما خفيت من عالم الإنسان الفطري أو من عالم الحيوان.

وربما لاح عجيباً للمصريين أن يعلموا أنهم أول أمة في العالم قد اخترعت (فن الحرب) على النظام المعروف؛ فقبل الحضارة المصرية لم تكن حرب منظمة ولا تعبئة مدروسة ولا حركات يتعلمها القادة كما يتعلم صناعته كل ذي صناعة محفوظة الأصول والقواعد؛ وإنما كانت هناك مشاجرات يدخل فيها استخدام السلاح ولا تعتمد في فنون التعبئة على نظام سابق.
فما أعجب أن يكون المصريون الموادعون هم أسبق الأمم إلى اختراع فن القتال!
وما أعظم ما في ذلك من دواعي التفاؤل عند أناس ودواعي التشاؤم عند آخرين!
فأما التفاؤل فذاك لأن هذه العجيبة دليل على أن الحرب ضرورة معيشة في بعض حالات الحضارة الأولى، وليست بشهوة مقرونة بالوحشية التي تناقض الوداعة والمسالمة؛ وأما التشاؤم فذاك أن يقول القائل: هذا شأن الموادعين فكيف بالضراوة المقتحمين؟!

ومع هذا نقول ويقول هكسلي: إن علاج الحرب نفسي وليس باقتصادي على زعم الاشتراكيين أصحاب التفسير المادي للتاريخ، وإن المعيشة تابعة لحالة النفس قبل أن تكون الحالة النفسية تابعة للمعيشة. فهذب الرجل وأصلح من ذوقه وتفكيره ينتقل من منزل إلى منزل ومن حي إلى حي ومن كساد إلى كساد ومن طعام إلى طعام، وهكذا يكون العلاج لآفات الأمم في هذا الزمان.

وقد وعدنا في المقال السابق أن نلم بأسباب الحرب الاقتصادية كما يراها مؤلف الكتاب.
فأهمها وأسبقها تاريخاً في نظره هو التماس المرعى الخصيب وانتزاعه من أيدي مالكيه؛ ثم تبدل هذا الباعث في زماننا فحل التماس الأسواق محل التماس المرعى الخصيب، وأدى التماس الأسواق إلى إنشاء المصانع في البلاد المستعمرة فقام النزاع بين المصالح في أيدي الأقوياء والضعفاء على السواء ومن أهم أسباب الاقتصادية معامل السلاح ونفوذ المنتفعين بترويج الأسلحة بين المتحاربين. وليس من العلاج الناجع في رأي هكسلي أن تستولي الحكومات على هذه المعامل فتبطل الدعاية للحروب، لأن الحكومات تحتاج إلى المال كما تحتاج إليه الشركات؛ ويزيد على المشكلة مشكلة جديدة وهي أن الحكومات أقوى على الجملة من الشركات.

ويمضي الكاتب في سرد أمثال هذه الأسباب مجتهداً في إبراز غرضه الأصيل من كتابة الكتاب وهو تغليب العوامل النفسية على العوامل الاقتصادية وتوجيه الأذهان إلى ابتغاء العلاج الأدبي مع العلاج الاقتصادي في وقت واحد.
وخلاصة العلاج الأدبي ترجع بنا إلى مذهب كمذهب أهل الهند أو مذهب المتصوفة القائلين بأن عظمة الإنسان على مقدار استغنائه عن قيود اللذات والشهوات وقيود الأوجاع والهموم، وأن المثل الأعلى في التربية هو الترفع عن الحاجات وليس الخضوع لها والانقياد لغوايتها.

أما خلاصة العلاج الاقتصادي فهي العناية بالوسائل الزراعية التي يجريها الدكتور ولكوكس صاحب كتاب (الأمم تعيش على مواردها الداخلية)؛ وفحواها أن الأمة بالغاً ما بلغ عدد سكانها قادرة على استخراج طعامها من أرضها إذا هي عمدت إلى تطبيق بعض الأساليب العلمية التي حققها بالتجربة المشهودة.
ويتوقع هكسلي أن طريقة ولكوكس ومثلها طريقة الأستاذ جريك في كليفورنيا ستحدثان في العالم انقلاباً شاملاً لا يذكر إلى جانبه انقلاب الصناعة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلا كما تذكر التوافه واللمم في معرض الأخبار الجسام.

وجميع هذه الخلاصات إنما هي فهرس للعناوين يشوق من يعنيه الأمر إلى المراجعة والاستقصاء. فإذا راجع واستقصى علم أن الجزاء أكبر من العناء، وأن من مباحث الزراعيين في عصرنا هذا ما يلذ القارئ كما يلذه البحث في الأدب والفن والفلسفة وأصول العقائد وقوانين الاجتماع، فلا سبيل إلى علاج عالمي يعصف بآفات القرون الأولى ويحيط بعواملها الفكرية والشعورية ما لم يكن مصحوباً بدراسة هذه الشؤون.