بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 24 مايو 2017

ضرب من الفروسية في اليابان


للأستاذ صلاح الدين المنجد

يجد الباحث في فروسة اليابان وتقاليدها أفانين لذيذه تفيض بالبطولة والنبل والإباء، تهز المرء حتى ليحسب أنها من عمل الخيال الرائع والتصوير البارع والوصف الجميل.
فإذا تأملتها علمت بأن اليابانيين قوم قدسوا الشرف في مغالاة ومقتوا الذل بأنفة، ولم يصبروا على ضيم يراد بهم أو هون يساق إليهم.
وحسبك أن تعلم بأن الفروسة عندهم معناها الشرف والذود عنه والموت في سبيل بقائه طاهراُ، ودفع كل ما يشين المرء ويعيبه؛ فلضربة بسيف في عز خير عندهم من لطمة أو شتيمة في ذل.
فإذا طعن الياباني في شرفه، فلديه أمران لا مَدْفع لهما: قتل من أهانه، أو قتل نفسه.

ولعل أروع مثال لذلك أمر القائد العظيم (نوجي) الذي كان له - كما يقولون - روغان الثعلب وختل الذئب ووثبة الأسد، والذي أوتي النصر في موقعه (بور - آرثر) على الروسيين ففض حرمتهم وأوهن بأسهم وظهر عليهم، فأدهش الغرب ورجاله، وملك على فتيان اليابان قلوبهم، والذي يسمونهم (بصاحب الربع ساعة) لقوله: (الحرب صبر ربع ساعة).
وقصة هذا القائد طريفة غريبة فيها بطولة وشمم، وفيها إباء وشجاعة، فلقد استيقظت اليابان ذات يوم على تذراف الدموع وتصعيد الزفرات، وقد وجم الناس وانتشر الأسى وأعلن الحداد لموت ابن الآلهة الميكادو (موتزو - هيتو) الذي دفع باليابان الحديثة إلى ذروة المجد وجعلها أمة ذات بأس وقوة، يخشاها الغرب ويفرق منها.
وبينما الناس في حزنهم غارقون، فوجئوا بنبأ آخر كان على الشباب والجنود أشد هولاً.
فلقد أعلنت الصحف أن الجنرال (نوجي) منقذ اليابان من الروسيا قد قتل نفسه. . فطفق الناس يسأل بعضهم بعضاً عن سر انتحاره، وهو ازدهار مجده وتألق سعده، وحسبوا يومئذ أن ذلك كان حزناً على الميكادو.

على أن بعضهم ما زالوا يتسقطون أسراره ويستطلعون أخباره حتى علموا بأن (نوجي) كان في ماضيات أيامه تلميذاً في مدرسة حربية، فكلمه أستاذ له ذات يوم بما يهينه ويشينه. . . وما هي إلا ساعات حتى عزم على قتل نفسه ليتقي العار وسوء المقالة، لأن نظم المدرسة تمنع الانتقام من أساتيذها، وكان له صديق من العائلة المالكة، أخلص له وأحله من نفسه محلاً رفيعاً، فأخبره بما عزم عليه وطلب منه أن يشهد الانتحار>
وللانتحار في اليابان طرائق وتقاليد.
فالرجل الذي يريد قتل نفسه يطعن صدره إلى جانب القلب بخنجر حاد، فإذا تدفق الدم تقدّم منه صديق مخلص له ممن أوتوا النبل والشرف، فيضرب عنقه أمام المذبح بين روائح البخور الشذىّ.

وطلب (نوجي) من الأمير أن يضرب عنقه إذا طعن صدره؛ وكان الأمير ذا شأن وسلطان فمنعه عن الانتحار.
وكان مما حدّثه به يومئذ: (عش لليابان يا صديقي. . . فما ينبغي لك أن تقتل نفسك ووطننا بائس يعوزه الشباب. لقد أهنت وعليك أن تموت، ولكني أقبل الإهانة، أنا الأمير ابن الآلهة، لنفسي وما عليك بعد ذلك. ابق يا صديقي وعش لليابان!).
وصدع نوجي بالأمر. وتصرمت أعوام فأضحى الأمير إمبراطوراً وأصبح (نوجي) أعظم قائد عرفته اليابان الفتاة، فيشتهر بالمغامرة والبطولة ويذيع صيته ويتردد على الأفواه اسمه وتستفيض شهرته ويدحر جيوش الروسيا ويكسب المعارك ويصبح المثل الأعلى للفتيان.

وظلت الإهانة عالقة بالإمبراطور طوال حياته. . . ولا بأس عليه منها وهو ابن الآلهة التي تغفر لمن تشاء، وتعذب من تشاء وترضى عمن تشاء، فلما قضى الميكادو نحبه عادت الإهانة إلى (نوجي) فلم يطق العيش ذليلاً. . . فأمر أن تشعل الشموع، وأن يحرق البخور، وجثا تحت قدمي الإله، وأغمد الخنجر في قلبه على مهل، فتدفق دمه الفوار. . . وتقدم صديق له فضرب عنقه، وهو يبتسم راضياً مطمئناً؛ فقد أنقذ الشرف، وابتعد عن العار.
ومات (نوجي) بعد أن تخطى الستين من العمر، رضي البال مثلوج الفؤاد لأن ذلك أدعى لطيب الذكر، وخلود الاسم.

مجلة الرسالة
العدد 315 - بتاريخ: 17 - 07 - 1939

الشنتو



ما كادت صيحة النوردبين تهدأ في ألمانيا بعد طرد اليهود منها حتى ارتفعت في اليابان صيحة تشبهها في النعرة والتغني بالمحتد وتأليه الأرومة والتبرؤ من الانتساب إلى الصينيين في العنصر، والادعاء بأنهم (أي اليابانيين) سلالة مستقلة لا عن الصين فقط بل عن جميع البشر، لأنها منحدرة مباشرة من الآلهة. . .!

وهذه دعوى عريضة جديدة، كان الناس يضحكون من قدماء المصريين واليونانيين حين ادعوها. .
وقد اتسعت آفاق الشنتويزم فشملت ديانة اليابانيين ووطنيتهم وفدائيتهم ومذاهبهم السياسية والاجتماعية، وتغلغلت في جميع مرافقهم الحيوية. . من عنابر المصانع. . . إلى رمال الصحراء التي يقرءون في صفحتها الغيب. . .
ومهما حاول اليابانيون التبرؤ من منشئهم فالثابت هو أنهم مزيج من المغول والآينو وأقوام البحار الجنوبية.

كما أن الألمان ليسوا من سلالة نوردية خالصة، وكما أن اليهود ليسوا شعب الله المختار .


مجلة الرسالة
العدد 249 - بتاريخ: 11 - 04 - 1938

الغزو الياباني الاقتصادي لأسواق العالم



للأستاذ محمد عبد الله عنان

يشعر العالم المتمدن اليوم بأن قوة جديدة خطيرة قد نزلت إلى الميدان الصناعي والتجاري، وهذه القوة تندفع إلى الإمام بسرعة مدهشة، وتجرف أمامها كل حاجز وكل مقاومة، وتضطرب لها جميع أسواق العالم شرقية وغربية: تلك هي قوة الغزو التجاري الياباني الذي تهتز أمامه اليوم معظم الأمم الصناعية والتجارية، وترقب تفاقمه في خوف وهلع.
ولقد كان هذا الغزو منذ عامين أو ثلاثة شديد الوطأة على بعض الأسواق الكبرى، ولا سيما أسواق الإمبراطورية البريطانية، ولكنه اليوم يغدو مشكلة عالمية.
فمن آسيا إلى أفريقية وأوربا وأمريكا الجنوبية يجتاح هذا الغزو المدهش جميع الأسواق القديمة، ويلقي الذعر في دوائر الصناعة والتجارة العليا، ويثير أينما حل كثيراً من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
ولقد حاولت الدول الصناعية والتجارية الكبرى أن تحد من أخطار هذا الغزو بجميع الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها الحماية الجمركية، ولكنها لم توفق حتى اليوم إلى صده بطريقة ناجعة، لأنه يعتمد في قوته واندفاعه على أسس اقتصادية محكمة، ويتفوق بمزاياه المدهشة على كل منافسة ومقاومة، ويتحدى كل إجراء لرده لا يستمد من نفس الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها

وقد ظهرت طوالع هذا الغزو الياباني في المشرق بقوة: في الصين والهند وأفغانستان وفارس والبلاد العربية ومصر؛ واجتاح الأسواق القديمة في الحبشة، وفي شمال أفريقية وفي جنوبها؛ ثم اجتاح أسواق أمريكا الجنوبية؛ كل ذلك بسرعة مدهشة لم تترك مجالاً للقيام بأية مقاومة منظمة؛ ولم يكتف بمنافسة الصناعة الأوربية المؤثلة في أسواقها القديمة فيما وراء البحار، ولمنه نفذ إليها في نفس مواطنها ومر معظم الأمم الأوربية ذاتها، وأصبحت البضائع والمنتجات اليابانية تتدفق عليها كالسيل، وتنافس البضائع والمنتجات المحلية منافسة الحياة والموت.
ولما كانت قوة الأمم الغربية ورفاهتها وسلطانها السياسي والاقتصادي في أفريقية وآسيا تقوم على صناعتها وتجارتها قبل كل شيء فأنا نستطيع أن نتصور ما يثيره هذا الغزو الياباني الخطر في معظم الأمم والحكومات الأوربية من عوامل الخوف والجزع ونحن في مصر نشعر منذ حين بآثار هذا الغزو تنمو وتتسع بسرعة، وتبدو واضحة فيما ينهمر على سوقنا المصرية من صنوف البضائع والسلع اليابانية الرخيصة المغرية مع ذلك.
وتشمل هذه المنتجات اليابانية معظم الحاجات الشخصية والمنزلية؛ من ثياب وأقمشة وحرائر وأحذية وخردوات وساعات وأدوات وآلات كهربائية وآلات حديدية وقاطعة، وأنواع الآنية، والأدوات الكتابية واللعب وغيرها مما لا يقع تحت حصر؛ وقد ظهر أثر هذه المنافسة في بعض صناعاتنا الفتية مثل صناعة الغزل إذ أخذت الأقمشة اليابانية القطنية والحريرية الرخيصة في منافسة منتجاتنا منافسة قوية، وكذلك صناعة الأحذية فقد أخذت الأحذية اليابانية تتدفق على السوق المصرية بأثمان غير معقولة.
على أن أثر الغزو الياباني لا يقف في مصر عند هذا الحد؛ وإذا كانت مصر لا تتمتع بصناعة واسعة يخشى عليها مباشرة من هذا الغزو، فأنها يجب أن تخشى منه بحق على مستقبل محصولها الرئيسي وهو القطن الذي تستهلكه الصناعة الأجنبية وتحتاج إليه أشد الحاجة؛ ومن الواضح أن مستقبل القطن المصري يتوقف على رخاء الصناعات التي تقوم عليه وتستمد حاجتها منه؛ ولما كان الغزو الصناعي الياباني قد أخذ يهدد صناعة القطن في لانكشير، وهي أعظم عميل للقطن المصري، ويهدد الأسواق التي تعتمد عليها لانكشير في تصريف منتجاتها، فإنه يحق لنا في مصر أن نرقب سير هذا الغزو الياباني بمنتهى الاهتمام، وأن نفكر فيما عسى أن يترتب على هذا الصراع الاقتصادي الخطير بين الصناعات الأوربية القديمة وبين اليابان في حياتنا الاقتصادية من الآثار.

وسنحاول في هذا المقال عرض الموضوع من الناحية العامة، ودرس العوامل والأسباب التي مكنت اليابان من تنظيم غزوتها الاقتصادية المدهشة، ومن النجاح في مغالبة الصناعات الأوربية الراسخة، على حداثة عهدها بالنهضة الصناعية الحديثة.
إن وثبة اليابان الحديثة ترجع إلى فاتحة هذا القرن فقط، أعني إلى انتصارها الباهر في الحرب التي خاضت غمارها مع روسيا سنة 1905م؛ فقد كان أول نصر حاسم أحرزته في العصر الحديث دولة أسيوية على دولة أوربية عظمى؛ وكانت أوربا القديمة تعتقد قبل ذلك في مناعتها، وتوقن أن العصر الذي تستطيع فيه دولة شرقية أن تهزم دولة غربية قد انتهى إلى الأبد، فجاء انتصار اليابان على روسيا مبدداً لهذا الحلم؛ وشعرت اليابان بقوتها ومنعتها، وازدادت ثقة بمستقبلها وحقها في تبوأ مكانتها الحقة بين الدول العظمى؛ ومن ذلك الحين تسير اليابان في ميدان التقدم الحديث بخطى مدهشة، وقد كان هذا التقدم في المبدأ محصوراً في آسيا، أو بعبارة أخرى في الشرق الأقصى؛ ولكن اليابان أخذت منذ نهاية الحرب الكبرى تتجه نحو الغرب بخطى سريعة؛ وكان الصراع بين اليابان والغرب يدور أولاً حول الغزو السياسي والاقتصادي للصين؛ فلما شعرت الأمم الغربية بأن نفوذها الاستعماري القديم في الصين أخذ يهتز ويضطرب أمام التقدم الياباني أرسلت صيحتها ونذيرها بالخطر الأصفر، وحاولت أن تصبغ المعركة الاستعمارية الاقتصادية بصبغة جنسية؛ ولكن هذه المعركة التي تضطرم حول اقتسام الصين واستعمارها انتهت أخيراً بانتصار اليابان على الدول الغربية؛ واستطاعت اليابان إلى جانب كوريا التي تملكها منذ بعيد، ن تغزو منشوريا وأن تستولي عليها، وبذا أصبحت تملك في الصين إمبراطورية استعمارية شاسعة غنية بمواردها.

ولم تقف اليابان عند هذا الحد، بل أعلنت رداً على صيحة الخطر الأصفر، ما يشبه مبدأ مونرو الأمريكي، وهو أنها تعتبر نفسها صاحبة الحق الأول في استعمار الصين، وأنها ستقاوم منذ الآن فصاعداً أية محاولة من جانب الدول الغربية لتوسيع نفوذها السياسي والاستعماري في الصين
ولما حققت اليابان برنامجها الأول في الشرق الأقصى، ضاعفت جهودها في الاتجاه نحو الغرب ومنافسته في ميادينه الصناعية والتجارية، واستطاعت أن تنظم هذا الغزو الاقتصادي الجارف. ونستطيع أن نجمل أهم العوامل التي تعتمد عليها اليابان في تنظيمه في أمرين:
الأول: وفرة اليد العاملة.
والثاني: رخص العمل والأجور بنسب مدهشة.
وقد نما الشعب الياباني في العصر الأخير نمواً سريعاً، وأضحى يبلغ اليوم خمسة وستين مليوناً في جزائر اليابان وحدها، هذا عدا كوريا وسكانها عشرة ملايين.

ويزيد الشعب الياباني في العام مليوناً، وهي نسبة مدهشة، ويرجع احتشاد الشعب الياباني في جزائره على هذا النحو إلى كثرة النسل التي لم تتأثر بنظريات المدنية الحديثة ووسائلها في ضبط النسل، وعدم إقبال اليابانيين على الهجرة، ووضع الأمم الغربية الحواجز في سبيل هجرتهم.
وتدل الإحصاءات الأخيرة على أن عدد اليابانيين المهاجرين لا يزيد عددهم على أكثر من سبعمائة ألف في جميع أنحاء العالم.
والياباني ميال بالطبيعة إلى البقاء في وطنه؛ ومما يذكي هذه الرغبة في نفسه نظام الملكية الصغيرة التي تسمّره في أرضه. وقد كان هذا الاحتشاد الهائل في تلك الجزر الصغيرة وتعذر سبل الهجرة من أكبر العوامل في دفع اليابان إلى اعتناق الفكرة الصناعية، والعمل على تحويل اليابان إلى بسيط شاسع من الصناعات الكبيرة التي تستطيع أن تستغرق هذه الملايين العديدة وان تمدها بالقوت.
وقد نجحت هذه السياسة نجاحاً عظيما، حتى كان عدد المصانع يزداد في العصر الأخير بمعدل مائة إلى ثلاثمائة في العام الواحد. وكان عدد هذه المصانع سنة 1917م يزيد قليلاً عن ألفين، فوصل في سنة 1929م إلى 59887 مصنعاً! ثم زاد في الأعوام الأخيرة زيادة كبيرة.

ومن الغريب أن اليابان استطاعت أن تقوم بهذه المعجزة الصناعية رغم كونها ليست غنية في الموارد والمواد الأولية؛ فهي في الواقع تستورد كثيراً من المواد الأولية من الخارج. ولكن اليابان غنية في بعض المواد الحيوية كالفحم، فهي تملك منه مقادير وافرة، وتصدر منه أحياناً؛ وتملك أيضاً مقادير وافرة من البترول والحديد، ولكنها لا تفي بحاجتها.
أما في المواد الأولية الزراعية فاليابان فقيرة جداً، وهي تستورد معظم ما تحتاج إليه من القطن والصوف والجلد وغيرها، على أن هذا النقص لا يمنع صناعتها من التقدم بخطى جبارة؛ فقد استطاعت كما سنفصل بعد أن تأخذ المحل الثالث في الصناعات القطنية بعد إنكلترا والولايات المتحدة رغم كونها تستورد القطن من الخارج.

ومن الطبيعي أن يؤدي احتشاد السكان ووفرة الأيدي العاملة إلى رخص الأجور. ومسألة الأجور هذه إحدى معجزات الصناعة اليابانية ونعمها السابغة، وهي معقدة متنوعة النواحي؛ وتنخفض الأجور في اليابان إلى حدود غير معقولة؛ وللعامل الياباني (معيار للمعيشة) في منتهى التواضع، وليست له طلبات خاصة، فهو قنوع جد القناعة لا يطمح إلى أكثر مما يحقق ضرورات العيش، ولا يفكر في شيء من ألوان المتعة والترف التي يطمح إليها العامل الأوربي.
وهو صبور لا يحسب في العمل حساباً للقوت، وليس له تشريع عملي يحميه، ولم يعرف بعد شيئاً من تلك النزعة العدائية التي تجعل العمل ورأس المال في الغرب خصمين دائمين، والتي تحفز الكتلة العاملة إلى الجهاد المستمر في سبيل حقوقها المادية والمعنوية. ومن الصعب أن نقدم بياناً رقمياً عن الأجور في اليابان يمثل حقيقة ما يكسبه العامل، لأن الأجور النقدية تدعم أحياناً بأنواع من المعاونات الخاصة، كالتعويض عن العمل الزائد، والمكافآت، ثم الأجور النوعية كتقديم الطعام أو المسكن أو الثياب.
ولكن يستدل من المباحث التي أجراها مكتب العمل الدولي أن متوسط أجرة العامل الياباني تبلغ في اليوم: (1) في الصناعات الفنية 2. 20 ين (11 فرنا - أو نحو 15 قرشاً) (2) وفي المناجم 1. 80 ين (9 فرنكات أو نحو 11 قرشاً) ويبلغ متوسط ما تأخذ المرأة 1. 03 ين (نحو خمسة فرنكات أو سبعة قروش). وهذه النسبة تعتبر مرتفعة بالنسبة لبعض الصناعات الخفيفة مثل صناعة الغزل حيث يبلغ معدل الأجور أقل من ين أو نحو أربعة أو خمسة قروش. وفي كثير من الصناعات لا يزيد مستوى الأجور على مستوى الأجور الزراعية العادية.
وفي الصناعات الصغيرة يوجد نظام مشترك في العمل والحياة يشبه نظام الأسرة، ومما تجدر ملاحظته إن كثيراً من أصحاب المصانع في اليابان لم يتأثروا بعد بنظريات الرأسمالية الغربية في استغلال الفرد، وما زالت تسود لديهم الفكرة العائلية القديمة في اعتبار صاحب العمل والعمال الذين معه، أسرة واحدة ترتبط برباط الأخوة والمصلحة المشتركة، وفي كثير من المعامل الصغيرة يتناول العمال طعامهم في المصنع ويقيمون في مساكن يعدها لهم صاحب العمل؛ ويقوم صاحب العمل بقسطه من العمل كباقي العمال، ويتناول طعامه معهم، ويعيش مثلهم في نفس المسكن، ولا يشعر العمال في هذا الجو إلا أنهم مع سيدهم زملاء وأخوة؛ وهذا النظام العائلي يعاون على الإنتاج في ظروف وتكاليف يسيرة لا تمكن منافستها على الإطلاق.

ويرتبط بالعمل والأجور مسألة ساعات العمل، وهي من العناصر الهامة في تكاليف الإنتاج. ومن المعروف أن الكتلة العاملة في الأمم الغربية استطاعت أن تصل في تخفيض ساعات العمل وفي تقرير أيام العطلة والإجازات الدورية إلى نتائج مرضية جداً؛ فالأسبوع الصناعي في معظم الدول الغربية لا يتجاوز اليوم 42 ساعة، ولا يتجاوز اليوم الصناعي ست ساعات أو سبعاً، وللعامل يوم عطلة أسبوعي مقرر هو يوم الأحد، وله فوق ذلك حق في إجازة سنوية أو دورية معينة تختلف باختلاف الظروف؛ وهذه الحقوق كلها مقررة بالتشريع؛ أما في اليابان فلا توجد فكرة التحديد في الزمن، وتدل المباحث الأخيرة على أن معدل اليوم الصناعي في معظم الصناعات اليابانية لا يقل عن عشر ساعات، على أنه لا توجد لذلك حدود أو قيود قانونية إلا فيما يتعلق بالنساء والأحداث، فاليوم العملي لهؤلاء يجب ألا يزيد على إحدى عشرة ساعة، والقانون يقضي بأن يمنحوا راحة مقدارها ساعة إذا زاد يوم العمل على عشر ساعات، ولا توجد في اليابان راحة أسبوعية للعمال كما في أوربا، لأن يوم الأحد هو عطلة نصرانية لا تقرها التقاليد اليابانية؛ ولا تعرف هذه التقاليد من جهة أخرى يوماً معيناً تخصصه للعطلة الأسبوعية، وقد كان في مشروع اتفاق واشنطون، في المادة الخاصة باليابان أن يمنح جميع العمال على اختلاف طوائفهم عطلة أسبوعية قدرها أربع وعشرون ساعة، ولكن اليابان لم تقر هذا الاتفاق.
على أن المعامل الكبيرة اعتادت أن تمنح عمالها عطلة مقدارها يومان في الشهر، يوم في منتصف الشهر ويوم في نهايته؛ على أنه لا توجد لذلك كما قدمنا قواعد ثابتة، والعمال اليابانيون أنفسهم ينفرون من فكرة الراحة الدورية خوفاً من أن تنقص أجورهم تبعاً لتقريرها.

ومما تقدم نرى أن الصناعة اليابانية تعمل في ظروف مدهشة تستطيع معها غزو كل سوق وسحق كل منافسة، وقد لخص كاتب اقتصادي وثبة اليابان الصناعية في هذه الكلمات: (إن الأجور الصناعية في اليابان سويت بالأجور الزراعية، وغدت ثلث ما كانت عليه سنة 1929م؛ وأسبوع العمل ستون ساعة؛ وقد يبلغ طبقاً لبعض الإحصاءات في صناعة القطن مائة وعشرين ساعة، وفي اليابان شعب يزيد في العام مليوناً، والعنصر البشري يعني به أكثر مما يعني بالآلات. . . وتلك في الواقع مدنية صناعية جديدة بين النظم الفنية الأمريكية ورخص العمل الشرقي، فمدير المصنع الياباني يتناول مرتباً قدره (1700 ليرة) (نحو 30 جنيهاً) وهو خمس ما يتناوله زميله الأمريكي. وأثمان المنتجات اليابانية أقل بنحو خمسة وثلاثين في المائة من أثمان منتجات أي سوق أوربية أو أمريكية).
وأشار السنيور موسوليني في إحدى خطبه أمام مجلس النقابات الصناعي إلى نهضة اليابان الصناعية بقوله: (هنالك فيما وراء الاطلانطيق تفتحت مشاريع صناعية ورأسمالية هائلة؛ ولكن ثمة في الشرق الأقصى توجد اليابان وهي منذ أن اتصلت بأوربا في حرب سنة 1905م، تتقدم نحو الغرب بخطى شاسعة).

ويجب أن نذكر ما لنشاط اليابان البحري من أثر في تنظيم هذا الغزو، فلليابان أسطول تجاري ضخم يربطها بأوربا وأمريكا وجميع أنحاء العالم؛ ويعمل هذا الأسطول لحمل التجارة اليابانية إلى ما وراء البحار في ظروف مشجعة جداً، ويصطبغ عمله بلون التعاون القومي لأنه يعتبر أداة قوية لنشر التجارة اليابانية تسخر كل قواها ونشاطها لتحقيق هذه الغاية.
وسنحاول أن نبحث في فصل آخر ما لهذا الغزو الاقتصادي الياباني من أثر في السوق المصرية وفي الاقتصادي المصري.


مجلة الرسالة
العدد 82 - بتاريخ: 28 - 01 - 1935

نظم فارس أفندي الخوري في تاريخ الحرب بين الروس واليابان

المحرم - 1325هـ
مارس - 1907م

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقريظ المطبوعات

(وقائع الحرب)

نظم فارس أفندي الخوري أحد كتاب الشام وشعرائها المشهورين أربع قصائد في تاريخ الحرب بين الروس واليابان؛ التي كان مبدأها أوائل فبراير (شباط) سنة 1904 ونهايتها في أوائل سبتمبر (أيلول) سنة 1905.
وأهداها إلى صديقه الدكتور حسين أفندي حيدر فطبعها هذا طبعًا متقنًا بمطبعة الأخبار بمصر، وهي تباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بقرشين صحيحين.

وإننا نورد بعض الفصول من هذه القصائد؛ لما فيها من الفائدة والعبرة في ثوب الفكاهة والتسلية؛ ومنها يعلم القارئ درجة الناظم في القدرة على نظم الوقائع وضبطها مع الإنصاف، والأمانة في النقل، وتحري تنبيه الذهن وإنارة العقل، قال في القصيدة الأولى وهو الفصل 5، 6، 7 (وما في الهوامش من تفسير بعض الكلم منقول من الأصل؛ إذ وضع في آخره جدول لذلك) .

(نكبة الروس بغرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك في 13 نيسان سنة 1904)
سعى طوغو على مكروف يوم الـ ... ـلقا، وأعد تدبيرًا مريرا
أقام له الفخاخ بكل وجه ... يؤججه بها نارًا حرورا
وناصبه بعرض البحر حربًا ... فكر عليه لا يخشى نكيرا
أثارته الشهامة عن عرين ... ويأبى الليث إلا أن يثورا
فقاتله وناضله بقلب ... يريه كل معتاص يسيرا
ولكن قلما عدد قليل ... يفوز ويغلب العدد الكثيرا
تدفقت الكرات عليه حتى ... رأى في الكر موقفه مبيرا [1]
فدار إلى الخليج يريد أمنًا ... وكان بواره في أن يدورا
مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو ... كملاح يحاذر أن يجورا
إلى أن شقت الغمرات فاهًا ... وأصعدت البلايا والسعيرا
فشاهد تحت أخمصه جحيمًا ... وقد فتحت قذائفه حفيرا [2]
كأن جهنما وجدت سبيلاً ... ومطوياتها لقيت نشورا
كأن هناك بركانًا تلظى ... وأطلق في الفضا نارًا ونورا
كأن البحر غضبان عليهم ... لما جروا على الدنيا شرورا
طوى بضميره حنقًا، فلما ... دنا مكروف كاشفة الضميرا
هوت فيه السفينة في خليج ... وكانت قبل تخترق البحورا
على مكروف، قد بكت البواكي ... وأطلقت المدامع والشعورا
ففاض له بأرض الروس دمع ... يؤلف لو يضم معًا غديرا
بمصرعه عزوم الروس خارت ... وحق لها بذلك أن تخورا
رجاء القوم معقود عليه ... ليدفع عنهم الخطب العسيرا
أميرهُمُ وعند أشد ضيق ... يراد لكشفه فقدوا الأميرا
فكان بهديه قمرًا مضيئًا ... وكان بكره أسد مزيرا [3]
وإن الروس لا يسلون عنه ... ولو وجدوا له فيهم نظيرا

(6)
(الوقعة البرية الأولى على نهر يالو في 1 أيار سنة 1904)
أقام الروس في يالو قلاعًا ... على تحصينها صرفوا شهورا
مسيل النهر دونهم فظنوا الـ ... ـعدى لا يستطيعون العبورا
ومن خاض البحور إلى الأعادي ... أيأبى أن يخوض لهم نهورا؟
مشى اليابان لا يخشون بؤسًا ... وماء النهر يكتنف الصدورا
بجيش كل من فيه جريء ... تمنى للأعادي أن يطيرا
وصبوا من مدافعهم كرات ... يفلق عزم صدمتها الصخورا
لئن صبرت جيوش الروس شيئًا ... فبعد هنيهة ولت ظهورا
وأبقت من ذخائرها نهابا ... ومن أعتادها شيئًا كثيرا [4]
ولليابان في الآثار ... شد ... فكم قتلوا وكم أخذوا أسيرا
أتوا أَنْطُنْغَ بالرايات، حتى ... على أسوارها خطرت خطيرا
لعمرك ليس يحمي السور مُدْنًا ... إذا عدمت من التدبير سورا
فهل حدثت في أخبار دلني ... وما شادوا بساحتها قصورا
وما قد أنفقوا عملاً ومالاً ... على المرسى وكيف جرى أخيرا
أباحوها إلى اليابان غنمًا ... وما نالوا على نصب أجورا
ولا عجب لمختال مدل ... إذا أخلى الحواضر والثغورا
إذا غفل الرعاة عن المواشي ... فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا
وإن الخاشع اليقظان يكوي ... بحد حسامه البطل الفخورا
كذلك من توخى البغي متنًا ... تراه بدون معثرة عثورا

(7)
(وقعة كنشو)
وكنشو بالمدافع منعوها ... وولوا حفظها جيشًا كبيرا
وظنوا أنها تبقى طويلاً ... وتثبت في خفارتهم دهورا
أغار الخصم منقضًّا عليها ... ونار الروس تكتسح المغيرا
إلى أن كوروا القتلى تلالاً ... وأوشكت المعاقل أن تمورا [5]
رأوا أن العدو يموت طوعًا ... ولا يأبى التقحم والكرورا
ومن رغب المنية وانتحاها ... يبيت عدوه عنها نفورا
بدا للروس أن الفتح دان ... يغذ فلا معين ولا مجيرا [6]
فولوا تاركين على الروابي ... ذخائرهم لأعداهم نصيرا
لقد شمخوا على اليابان لما ... رأوا جنديهم قزما زميرا [7]
وقالوا: سوف نطحنهم فتغدو ... قبورهم الضواري والنسورا
ولكنا على يالو وكنشو ... وجدنا القول بهتانًا وزورا
فعرض الجسم لا يغني فتيلاً ... وطول القد لا يجدي نقيرا
ألست ترى الوليد وفيه حزم ... يسوم الفيل خسفًا والبعيرا
رهام الطير تنخلع ارتياعًا ... إذا رأت البواشق والصقورا


***
وقال في أول القصيد الثانية:
(الوقعة الكبرى في جوار مكدن في 15 شباط سنة 1905)
(1)
بمكدن كور بتكن لَمَّ جيشًا ... وشاد له المعاقل والحصونا
رأى الأعتاد وافرة لديه ... فظن مقامه حرزًا حصينا
ولكن رأي أوياما أراه ... أمورًا خيبت تلك الظنونا
أقام له المراصد في الصياصي ... وبين جفونه بث العيونا [8]
تخبره بما اصطنعوا دفاعًا ... لحوزتهم وكيف يدبرونا
أعد الخطة المثلى ليوم ... يروع حر أزمته السنينا
ورتب للهجوم عليه رأيًا ... يكون لمجد رايته ضمينا
وهز جناحي الجيش التفافًا ... على أعدائه المتحصنينا
رمى اليسرى بكوركي فندزو ... فأكو ثم في نوجي اليمينا
(2)
ودارت للمنون رحى طحون ... لها الأجساد قد صارت طحينا
وطبق كل ناحية دخان ... كثيف أسود يعمي العيونا
وصوت القذف أوقر كل أذن ... فإن سمعته تحسبه طنينا
فليس بمبصر أحد أخاه ... وما هو سامع منه الأنينا
فصار الحزن من دك سهولاً ... وصار السهل من جثث حزونا
لو انقشع الدخان بدت أمور ... ترد المرد شيبًا منحنينا
جيوش كيفما العين استدارت ... تراهم يظهرون ويختفونا
كأن الأرض بالأبطال حبلى ... تدفعهم حيارى صارخينا
فلا حجر تراه العين إلا ... يحجب خلفه منهم جنينا
كأن حجارها الصم استحالت ... رجالاً بالحديد مسربلينا
فلا واد بتك الأرض إلا ... ويخرج من معاطفه كمينا
كأن عقولهم ذهبت شعاعًا ... فليس لهم بها ما يرهبونا
فكل فتى غدا أسدًا هصوراً ... وموطئ رجله أضحى عرينا

____________________________________

(1) المبير: المهلك.
(2) الحفير: القبر.
(3) المزير: الشديد القلب والقوي النافذ.
(4) أعتاد الحرب: أدواتها وعدتها.
(5) المعاقل: الحصون , وتمور: تهتز وتميل إلى السقوط.
(6) يغذ: يسرع في السير.
(7) القزم: الزمير القميء الصغير الجثة الذي لا غناء عنده.
(8) الصياصي: جمع صيصية وهي مرتفعات الأرض والمشارق التي يمتنع بها.


مجلة المنار المجلد العاشر / الصفحة:61

التعليم الأدبي في اليابان


التعليم في اليابان علمي محض وليس للديانة أقل سلطة في المدرسة ففرنسا واليابان هما المملكتان الوحيدتان اللتان نشرتا أصول التهذيب اللاديني العلماني في العالم بأسره.
وفي اليابان فصل التعليم عن الديانة حسب شريعة التهذيب الصادرة سنة 1872م ولا ينحصر ذلك في المدارس العامة بل يشمل المدارس الابتدائية والثانوية حتى التي تنشئها الجمعيات الدينية إذ يحضر عليها أن تلن التعاليم الدينية وهذا الفصل بين التهذيب والديانة كان القاعدة التي جرت عليها الحكومة منذ سنة 1868م أي منذ فتحت البلاد اليابانية للأجانب.

وقبل ذلك العهد لم يكن للحكومة أيسر اهتمام بالتهذيب العام بل تركته للأفراد حاشا بعض المدارس الأريستقراطية المختصة بأبناء الموظفين ولم تكن الحكومة تدير المدارس فقد نحن اليابان في التعليم منحى المدارس الغربية منذ نشر قانون التعليم سنة 1868م وألفت فيها نظارة المعارف عقيب صدوره بسنة فلم تحجم الحكومة عن المفاداة بأعز ما لديها في سبيل الارتقاء ونشر التهذيب بين ظهراني الأمة.

وفكرة التهيب العلماني ليست من ابتداع الحكومة الجديدة بل يجدون ما يشبهها في تاريخ اليابان القديم.
فقسوس البوذيين لم يعلموا الديانة في معاهدهم ولا في مدارسهم المجاورة للهياكل والمعابد ومعظم الطلاب اليابانيين لا يزور الكنيسة المسيحية ولا الهيكل البوذي وإنما تنشئتهم على الآداب وكارم الأخلاق فالتعليم في اليابان علماني محض ليس للديانة تأثير فيه والأهلون راضون بما يعقب ذلك التعليم من النتائج ولهم كل الثقة بالأساتذة الذين يحبهم الطلبة ويحترمونهم.

ليس للحكومة اليابانية ديانة رسمية ولكنها لا تقاوم الأديان بل تترك لكل فرد حريته المذهبية.
الأمر الملكي والتهذيب -. سنة 1890م صدر الأمر الملكي وفيه مثال للتهذيب الأدبي وجب على مدارس اليابان جميعها أن تتحداه وفيه كثير من الآراء التي تتفق مع آراء الفرنساويين وبعضهم يعزو وطنية اليابان إلى ما تبثه المدارس في نفوسهم بمقتضى الأمر الملكي لكنهم واهمون في ذلك لأن حب الوطن إحدى طبائع الرجل الياباني.

والأمر الملكي قسمان أحدهما في التهذيب العام والآخر في التهذيب الوطني وإليك الواجبات التي ذكرت في الأول:
حب البنين لآبائهم. تواد الأخوان والأخوات. اتفاق الزوجين. حفظ عهود الأصدقاء.
الحشمة والاعتدال. الرغبة في خير الجميع. طلب العلوم والفنون. ترقية المواهب العقلية. الاشتراك في خدمة الأمة والوطن. احترام الشورى. طاعة القوانين. تضحية المنافع الشخصية في سبيل المملكة.
والحكومة والإنسانية هي تنطوي على جميع الواجبات ومنها تنشأ فضائل الإخلاص والشهامة والصدق والأمانة والشجاعة والوطنية وهذه هي حقيقة التهذيب الصالحة لجميع الأعصر والأمكنة تشمل الشريعة الأدبية التي يجب أن يخضع لها العالم بأسره.
والقسم الثاني يتفرع عن أحوال الشعب فقد أدبتهم بآداب خاصة وغرست في نفوسهم فضائل ينفردون بها.

الأمة اليابانية عريقة في القدم وهي تعتقد أنها أسرة كبيرة من أصل واحد يقوم الملك عليها بمثابة الوالد واعتقادها هذا سبب احترامها الشديد للإمبراطورية فحب الإمبراطور والوطن واحد في عرفهم والميكادو ممثل الوطن.
ويبالغ اليابانيون في إكرام أسلافهم وتبجيلهم ويستميتون في سبيل الوطن لأنه بلاد آبائهم وأجدادهم ومنذ ستة وعشرين قرناً أسس الإمبراطور الأول المملكة الأولى ولم تنج من الغزاة غير أن أهل البلاد اتحدوا على الذود عن حوضهم فلم يستعبدوا للفاتحين.
ولا يتيسر لمطالع أن يفهم حقيقة احترام اليابانيين للأسرة الملكية وشدة تعلقهم برب السرير ما لم يعرف مبلغ احتفاظ القوم بذكرى أجدادهم وأنساب سلالاتهم فكل فرد منهم يعرف آباءَه إلى عهد بعيد والأسرة المالكة اليوم هي نسل الحكام الذين تعاقبوا على عرش المملكة اليابانية منذ نشأتها حتى عصرنا الحاضر وكلهم من أسرة واحدة.
ويلقب الإمبراطور بابن السماء لأن الشعب يحسبه من سلالة الآلهة ولكن آلهة اليابانيين أسلافهم وأجدادهم فاحترامهم للإمبراطور فيه شيء من مواجب الدين.

وأول تمدن شاهده اليابانيون كان عند مجاوريهم الصينيين غير أنه لم يؤثر في الروح الوطنية شيئاً وكانت قاعدتهم في التهذيب الروح اليابانية ثم الحكمة الصينية ودخلت البوذية إلى اليابان في القرن السادس فكان لها في آداب اليابانيين شأن خطير.
ومنذ إصلاح سنة 1868م طرأ على اليابان تغيرات جمة بانتشار المدنية الغربية ولكن النفس اليابانية لم تفقد شيئاً من خواصها ومزاياها.
وفي كل مدرسة أوقات معينة للتعاليم الأدبية وهي لا تدرس في المعاهد الابتدائية والوسطى بل تتعداها إلى المدارس العليا والتجارية والفنية والطبية وغيرها والغاية من هذا التعليم صقل نفس الطفل وطبعه على المبادئ القويمة ويعلقون عليه شأناً جليلاً فيقولون أن ارتقاء مملكتهم وانحطاطها منوطان به إذ لهم ديانة يتأدبون بآدابها.

وعند اليابانيين سنة يدعونها سنة القربان أو البوشيدو وقد ذكرت فيها آداب هؤلاء وما يجب أن يتحلوا به من الفضائل وفي مقدمتها الإخلاص للإمبراطور وطاعته وفداء النفس من أجل الحاكم والشجاعة والإقدام ويجب عليه أن لا يعرف في حياته الخوف وأن يكون أبداً على أهبة الموت في قتال خصم من أكفائه وأن يجمع بين الصلابة والحزم والجود والسخاء فيحمي الضعفاء ويجير المساكين ويستقيم في أموره وقد خسرت البوشيدو مظهرها القديم ولكنها اكتسبت شكلاً جديداً في نفوس الشعب.

على أن التعليم الأدبي تعترضه عقبات كؤود أهمها إنفاق جل وقت الطالب في دراسته وتحصيله وتخير الأساتذة الكفاة ممن يصح اتخاذهم قدوة في الفضائل الخلقية وكثرة التبدلات في حياة اليابان الاجتماعية بانتشار المبادئ الغربية وتأصلها.
وإذا كانت اليابان قد اقتبست أصول العلوم الحديثة والفنون عن بلاد الغرب فإن التعاليم الأدبية لم تتصل بها عن ذلك الوقت وإنما هي تركة الأسلاف والأجيال القديمة يحرص اليابانيون عليها أشد الحرص ويحفظونها خالصة من شوائب الفساد علماً منهم أن مستقبل مملكتهم معقود بها.

مجلة المقتبس
العدد 68 - بتاريخ: 1 - 10 - 1911