بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

اقتحم العرب المحيط قبل أن يقتحمه كلمبس




للآنسة دولت حسن الصغير

11/ 4/ 1364هـ
26/ 3/ 1945م


نشر في مقتطف فبراير الماضي نص خطبة ألقاها الأب الفاضل أنستاس الكرملي، بين فيها أن أبناء يعرب القدامى اختلفوا إلى جزر القصدير ببحر المانش، وعرفوا تيار الخليج واتخذوه لهم ناقلا إلى تلك الربوع المعروفة الآن باسم المكسيك. واستدل على ذلك من الأسماء العربية للحيوان والطير التي تعرف بها إلى اليوم في تلك البقاع.

وكنت أحسب قبل مطالعة كلمته الرائعة، أنه سيورد من المراجع العربية ما يثبت أن من أبناء قحطان من اقتحم البحر المحيط ليرى ما به من الأخبار والعجائب ويقف على نهايته. غير أن الأب - أبقاه الله ذخراً للعروبة - اعتمد في كل ما قرره على مصنفات الأغراب فحسب، إلا ما وجده نبها بنفسه.

وليس لي أن أفند ما جاء به العلامة من تحقيقات لغوية، فما إلى هذا رميت في هذا المقال - ولكنني سأعني بالتحدث عمن ركب من العرب البحر المحيط قبل أن يركبه كلمبس، معتمدة على ما جاء بالمصادر العربية

ثبت قطعاً أن خرستوف كلمبس ليس أول من حط رحاله بالدنيا الجديدة، ولكن رحلته إليها هي التي فتحت أعين الناس على هذا العالم الجديد، فبدئ من بعده الظعن إليه والاستعمار.

حدثنا الأب أنستاس بنبأ رحلة الراهب برندان إلى جزيرة إيسلنده (المعروفة عند العرب باسم ثولي)، وجزائر الكناري (الخالدات)، ثم نزوله على الساحل الأمريكي في النصف الثاني من القرن السادس، كما حدثنا بخبر بعض الرهبان الأرندليين - الذين كانوا يدهشون لركوب العرب تيار الخليج القادم من المكسيك - ونزولهم في القرن الثامن الميلادي إلى سواحل أمريكا الشرقية. غير أن التاريخ غمط حقوق بعض الرواد المغامرين من يعرب، الذين ركبوا الأهوال محاولين اختراق الخضم المحيط المعروف في ذلك الحين باسم بحر الظلمات.

الكرة الأرضية والبحر المحيط عند العرب:

نقل العرب كتاب المجسطي لبطليموس القلوذي في مطلع العصر العباسي، وقالوا في أزياجهم وكتبهم الجغرافية إن الأرض كروية. جاء في مروج الذهب للمسعودي: (ذكروا أن الأرض مستديرة، ومركزها في وسط الفلك، والهواء محيط بها من كل الجهات، وأخذوا عمرانها من حدود الجزائر الخالدات في بحر أقيانوس إلى أقصى عمران الصين) و (علموا أن الشمس إذا غابت في الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة المذكورة التي في بحر إقيانوس. وإذا غابت في هذه الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين. وذلك نصف دائرة الأرض، وهو طول العمران الذي ذكروا أنهم وقفوا عليه). ولعمري إن هذا تحديد دقيق لما يعرف اليوم جغرافيا نصف الكرة الشرقي.

وقال المسعودي أيضاً: (إن أقصى العمران في المشرق إلى حدود بلاد الصين والسيلي إلى أن ينتهي إلى بحر أقيانوس المظلم المحيط. وأقصى عمران المغرب ينتهي إلى بحر إقيانوس المحيط أيضاً).

فكأن الأقيانوس المحيط كان - بحسب ما عرفوه - متصلا من أقصى العمران في المشرق إلى أقصى العمران في المغرب. وهو ما يعرف اليوم جغرافيا باسم نصف الكرة الغربي.

وتواترت الأخبار قديما بأن بحر الظلمات هذا لا تدرك غايته، ولا يعلم منتهاه. وأنه بحر لا تجري فيه جارية ولا عمارة. جاء في كتاب الشريف الإدريسي - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق - (ولا يعلم أحد ما خلف هذا البحر المظلم، ولا وقف بشر فيه على خبر صحيح، لصعوبة عبوره، وظلام أنواره، وتعاظم موجه، وكثرة أهواله، وتسلط دوابه، وهيجان رياحه. وبه جزائر كثيرة منها معمورة وغير معمورة).

وكان يعزز ما تواتر عليه الناس عنه، أسطورة مأثورة عن قدامى اليونان تقول بأن هرقل بنى أعمدة من النحاس والحجارة. حداً بين بحر الروم والأقيانوس. وعلى أعلاها كتابه وتماثيل مشيرة بأيديها أن لا طريق ورائي لجميع الداخلين إلى ذلك البحر المحيط. وأشار المسعودي إلى هذه النصب بما نصه. (وعلى هذا البحر المحيط مما يلي الأندلس، جزيرة تعرف بقادس مقابلة لمدينة شذونة. . وفي هذه الجزيرة منارة عظيمة عجيبة البنيان، على أعاليها عمود تمثال من النحاس يرى من شذونة وورائها لعِظَمه وارتفاعه. ووراءه في هذا البحر على مسافات معلومة تماثيل أخرى في جزائر يرى بعضها مع بعض، وهي التماثيل التي تدعى الهرقلية، بناها في سالف الزمان هرقل الجبار، تنذر من رآها أن لا طريق وراءها ولا مذهب، بخطوط على صدرها بينة ظاهرة ببعض الأقلام القديمة، وضروب من الإشارات بأيدي هذه التماثيل تنوب عن تلك الخطوط لمن لا يحسن قراءتها. صلاحا للعباد، ومنفعاً لهم من التغرير بأنفسهم في ذلك البحر).

وكان الحكماء والجغرافيون من العرب، يعرفون أن هذا البحر موصل إلى الهند. فقد جاء في كتاب السماء والعالم لأرسطو في الدليل على صغر الأرض أن الموضع الذي يدعى أصنام هرقل، يختلط بأول حد من حدود الهند. ولذلك قالوا إن البحر واحد)

رواد المحيط من العرب

واقتحام أبناء قحطان بحر الظلمات، وركوبهم أهواله أمر لا مرية فيه، وقد بسط الأب أنستاس الدليل على ذلك نقلا عن هيرودوتس وعن استرابون. ونحن بدورنا نبسط الدليل نقلا عن المصادر العربية.

جاء في مروج الذهب صفحة 71 في ذكر الكلام عن البحر المحيط (وله أخبار عجيبة، وقد أتينا على ذكرها في كتابنا (أخبار الزمان) في أخبار من غرر وخاطر بنفسه في ركوبه، ومن نجا منهم ومن تلف، وما شاهدوا منه وما رأوا).

وإذا لم يحفظ لنا التاريخ قول المسعودي في أخبار من ركب هذا البحر، فقد ذكر لنا الإدريسي في كتابه الجغرافي النفيس قصة الاخوة المغرورين أو المغررين الذين خرجوا من لشبونة، وضربوا في عرض المحيط، ثم عادوا يقصون على الناس مشاهداتهم. ولعلهم حاولوا عبثاً إقناع القوم بوجود دنيا جديدة وآفاق حديثة، وراء لجج المحيط، فرماهم البعض بالغرور والبعض بالتغرير. قصتهم ولا ريب، كانت معروفة قبل المسعودي - والأرجح أنها وقعت في القرن الثالث الهجري - التاسع المسيحي - وتناقلها الناس بعد ذلك فلحقها شيء من التحوير والتبديل، شأن جميع الروايات التي تجري على الألسن وتدخل في عداد الأساطير. لذلك سنورد القصة كما استقاها الإدريسي من الأفواه في منتصف القرن السادس الهجري - الثالث عشر الميلادي.

قال في كتاب - نزهة المشتاق إلى اختراق الآفاق -

(من مدينة لشبونة، كان خروج المغررين في ركوب بحر الظلمات، ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه كما تقدم ذكرهم. ولهم بمدينة لشبونة بموضع من قرب الحمه، درب منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين، إلى آخر الأبد. وذلك أنه اجتمع ثمانية رجال كلهم أبناء عم، فأنشئوا مركباً حمّالاً، وأدخلوا فيه من الماء والزاد ما يكفيهم لأشهر. ثم دخلوا البحر في أول طاروس (كذا) الريح الشرقية. فجروا بها نحو من 12 يوماً، فوصلوا إلى بحر غليظ الموج، كدر الروائح، كثير القروش، قليل الضوء، فأيقنوا بالتلف. ثم فردوا قلاعهم في اليد الأخرى، وجروا في البحر في ناحية الجنوب 12 يوماً، فخرجوا إلى جزيرة الغنم، وفيها من الغنم ما لا يأخذه عد ولا تحصيل، وهي سارحة لا راعي لها، ولا ناظر إليها. فقصدوا الجزيرة، فنزلوا بها، فوجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري. فأخذوا من تلك الغنم فذبحوها، فوجدوا لحومها مرة لا يقدر أحد على أكلها. فأخذوا من جلودها وساروا مع الجنوب 12 يوماً إلى أن لاحت لهم جزيرة فنظروا فيها إلى عمارة وحرث. فقصدوا إليها ليروا ما فيها. فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك. فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ضفة البحر، فأنزلوا بها في دار. فرأوا رجالا شقراً زعراً شعور رؤوسهم سبطة، وهم طوال القدود، ولنسائهم جمال عجيب.

فاعتقلوا فيها في بيت ثلاثة أيام، ثم دخل عليهم في اليوم الرابع رجل يتكلم باللسان العربي، فسألهم عن حالهم وفيما جاءوا، وأين بلدهم، فأخبروه بكل خبرهم. فوعدهم خيراً، وأعلمهم أنه ترجمان الملك.

فلما كان في اليوم الثاني من ذلك اليوم أحضروا بين يدي الملك. فسألهم عما سألهم الترجمان عنه، فأخبروه بما أخبروا به الترجمان بالأمس من أنهم اقتحموا البحر ليروا ما به من الأخبار والعجائب، ويقفوا على نهايته. فلما علم الملك ذلك ضحك، وقال للترجمان: خبر القوم أن أبي أمر قوماً من عبيده بركوب هذا البحر، وأنهم جروا في عرضه شهراً إلى أن انقطع عنهم الضوء، وانصرفوا في غير حاجة ولا فائدة تجدي.

ثم أمر الملك الترجمان أن يعدهم خيراً، وأن يحسن ظنهم بالملك ففعل. ثم صرفوا إلى موضع حبسهم إلى أن بدأ جري الريح الغربية، فعمر بهم زورق، وعصبت أعينهم، وجرى بهم في البحر برهة من الدهر؛ قال القوم: قدرنا أنه جرى بنا ثلاثة أيام بلياليها، حتى جيء بنا إلى البر فأخرجنا، وكتفنا إلى خلف، وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس، ونحن في ضنك وسوء حال من شد الأكتاف؛ حتى سمعنا ضوضاء وأصوات ناس فصحنا بأجمعنا، فأقبل القوم إلينا فوجدونا بتلك الحال السيئة، فحلونا من وثاقنا، وسألونا، فأخبرناهم بخبرنا. وكانوا برابرة. فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم؟ فقلنا لا، فقال: إن بينكم وبين بلدكم مسيرة شهرين. فقال زعيم القوم: وا أسفي. فسمي المكان إلى اليوم أسفي، وهو المرسى في أقصى المغرب)

والذي نستخلصه من رواية الإدريسي، أن الاخوة الذين نعتوا ظلما باسم المغررين أو المغرورين، ركبوا البحر المحيط من لشبونة عاصمة البرتغال الحالية، فضربوا في عرضه غربا، ثم انعطفوا نحو الجنوب، فوطئوا أرض جزيرة بها غنم وتين بري، بعد مسيرة أربعة وعشرين يوما؟. ونحن نستبعد أن تكون جزيرة الغنم هذه إحدى جزر اللازورد (أزوره) لأنها تقع غرب لشبونة لا إلى جنوبها الغربي؛ ولأنها جزر مسكونة من قديم الزمان عرفها القرطاجنيون والنورمانديون والعرب، كما جاء في دائرة المعارف الفرنسية. وقد هاجر إليها فريق من عرب أسبانيا بعد طردهم من الأندلس.

والذي نظنه، هو أن هؤلاء الاخوة حطوا رحالهم في إحدى جزر برمودة أو جزر الانطيل، إن لم يظعنوا إلى أحد أنحاء المكسيك، بلاد التين البري (وفصائل الصبير)، والتي كانت تزخر بقطعان الماشية المعروفة عند الغربيين باسم البافالو. (بالفرنسية أو قطعان اللاما إحدى فصائل الأغنام الأمريكية. والذي استوقفنا فيما تواتر على ألسنة الناس في هذه القصة هو ذكر الغنم والتين البري. أما الغنم فكانت الدنيا الجديدة عامرة بقطعان البافالو واللاما - وكاد النوع الأول ينقرض الآن لأن المستعمرين الأوربيين أكثروا من صيده للانتفاع بجلده - وأما التين البري فنحسب أنه تعبير وصفي لفصائل العائلة الصبارية التي تنبت في أمريكا الوسطى عامة وسواحل عامة وسواحل المكسيك خاصة، وهي مشهورة بها كشهرة مصر بنيلها وأهرامها. أفيحق لنا أن نظن أن ما هبط إليه الاخوة (المغامرون) كان أحد أنحاء المكسيك التي منها يخرج تيار الخليج ويعرج فيها:

هذا رأي لا يحمل إلا على محمل الظن. . والله أعلم

وهناك قصة لمغامر آخر اقتحم البحر المحيط، ولا يعرف إلا الله مصيره ومن تبعه. في النصف الأول من القرن الثامن الهجري (أوائل القرن الرابع عشر الميلادي) يحدثنا ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار عن الملك موسى بن أبي بكر أحد ملوك (مالي) في السودان الغربي، وكان معاصرا لصاحب مسالك الأمصار في أيام الملك الناصر بن قلاوون. قال (قال ابن أمير حاجب والي مصر، عن الملك موسى ابن أبي بكر: سألته عن سبب انتقال الملك إليه فقال: إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك. فجهز مائتين من السفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكفيهم سنين، وأمر من فيها ألا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته، أو تنفذ أزوادهم. فغابوا مدة طويلة، ثم عاد منها سفينة واحدة، وحضر مقدمها، فسأله عن أمرهم فقال: سارت السفن زمنا طويلا حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة واد له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم، فرجعت بسفينتي. فلم يصدقه. . فجهز ألفي سفينة، ألفاً للأولاد، وألفاً للأزواد. واستخلفني، وسار بنفسه ليعلم حقيقة ذلك. وكان هذا آخر العهد به وبمن معه). فهل وصل هذا الملك المغامر بقافلته العريضة المزودة إلى بر السلامة أم ابتلعته ومن معه لجج المحيط؟ لا نحسب أن إقدام هذا الملك الجسور على اقتحام البحر كان من قبيل الظن بان للمحيط غاية تدرك، فلربما كان لديه من الأبناء والوقائع ما دعاه أن يكذب مقدم السفينة العائدة، ويركب أهوال البحر بألفي سفينة ليصل إلى غايته.

ومما يغلب على الظن أن كلمبس وقف على خبر الاخوة المغرورين، وعرف أنهم هبطوا إحدى الجزر فيما وراء المحيط - ولعله كان على علم بنبأ رحلة برندان - ولا جدال في أنه اطلع على ترجمات الكتب الجغرافية العربية التي تقول بكروية الأرض، وبأن البحر المحيط موصل إلى الهند. ثم استطاع أن يقنع الملكة إيزابلة، وسار بسفنه الشراعية الثلاث في 3 أغسطس سنة 1492 متخذا سبيله في المحيط غرباً، ثم جنوبا بغرب، حتى وصل في 12 أكتوبر إلى جزيرة غواني هاني (التي عرفت فيما بعد باسم سان سلفادور) وكأن معاصريه لم يجدوا فيما أتى به بدعاً، ولم يروا فيه أول مقتحم لبحر الظلمات. فضرب لهم مثل البيضة المعروف، ومات في بلد الوليد عام 1506 آسفا محسورا.

وبعد فهذه حقائق مستقاة من المصادر العربية، تثبت أن أبناء يعرب جابوا بحر الظلمات قديما. على أن أخبار مقتحميه منهم وما شاهدوا منه وما رأوا لم تلق من الناس والمؤرخين الأقدمين اهتماماً كبيرا. وهناك ولا ريب كثير من رواد المحيط الناطقين بالضاد ركبوا في قوافل بحرية كبيرة مثل ملك (مالي)، بيد أنهم لم يجدوا من يؤرخ لهم. ولا ريب أن بعضهم حط رحاله في ربوع أمريكا الوسطى وجزائرها. لذلك لا نعجب أن رأينا فيها كثيراً من الأسماء العربية العائدة إلى الحيوان والطير.


____________________________________


مجلة الرسالة العدد 612

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2016

الكتاب



الكتاب


محمد كرد علي

حدثنا القراء في النسخة الماضية بشيء مما عربناه من الكتاب الذي صدر حديثاً للمسيو البرسيم وها نحن ننقل لهم بعض فوائده جديرة بالنظر والاعتبار فقد قال في تأثيرات المطالعة في المرء ولاسيما ما يطالعه في صغره نقلاً عن كتاب عشاق الكتب لألفرد دي ماترون العارف بالتآليف والتصانيف: إن المرء في صباه لا يهتم بشكل الكتاب جميلاً كان أو بشعاً حسن التجليد أو سيئه بل يضحك ممن يقول له أن طبعة هذا الكتاب أصبحت نادرة وأن هذه الفقرة غريبة وأن هذه الأسفار نال مؤلفوها الجوائز عليها ولا يحتفل إلا بالفكر ولاسيما بما فيه شعور وعواطف ولا يعبأ إلا بما يرضي فؤاده ويثير عواطفه ويحركها. فأف من الفكر والجمال والتذهيب الجميل. ولذلك لا ترى مولعاً في الكتب وهو في سن العشرين لأن المرء في صباه لا يستطيع أن يعاود قراءة كتاب قرأه فلا يكاد يحسن القراءة حتى يأتي على آخر ما يقرأ ولا سبيل إلى الحكم جيداً على كتاب إلا بمطالعته ثانية وفي أدوار مختلفة من الحياة ومن ثم كان من الكتب ميزان حرارة للعقل أو للقلب.

قال ألفرد دي ماترون: إن المرء في العشرين من عمره لا يكون من غلاة الكتب وأحبابها وما قاله يصح أن يكون قاعدة في هذا الباب لأن العواطف في سن العشرين تحكم على العقل بل تحكم على كل شيء فيسرع المرء في تلك السن إلى الوقوف على كل شيء ويعرف كل شيء ويقرأ كل شيء ون شئت فقل يقلب صفحات كل كتاب. ويندر في تلك السن السعيدة من يستطيعون أن يعادوا قراءة كتاب ثانية بدون أن يكرههم مكره فيأتون ذلك إما مدفوعين برغبة منهم أو لقلة ما لديهم من الكتب الجديدة أو كتب لم يقرأوها بعد ولم يتصفحوها.

وقال آخر: لا يشرع المرء بمعرفة القراءة إلا بعد خروجه من المدرسة. وفتيان المطالعين لا يحبون من الكتب إلا ما حدث وضعه وقلما يرجعون إلى الكتب المؤلفة قديماً. وأورد المؤلف أسماء كثيرين أولعوا بالمطالعة منذ عرفوا القراءؤة بل منذ فطموا عن أثداء أمهاتهم مثل أسقف دافرانش هويه (1630 ـ 1721) والفيلسوف جان جاك روسو (1712 ـ 1778) والشاعر يوحنا أنطون بوشه (1745 ـ 1794) وبنيامين فرنكلين (1706 ـ 1790) وهنري بيل القصصي النقاد الفرنسوي (1783 ـ 1842) ولامارتين الكاتب الفرنسوي (1790 ـ 1869) وسيلفيو بلليكو الأديب الإيطالي (1789 ـ 1854) وجورج ساند قصصية الفرنسوية (1804 ـ 1876) وشارل ديلون وكلهم ما كادوا يفتحون عيونهم إلا والكتاب بأيديهم بفضل تربية آبائهم وأمهاتهم الذين كان بعضهم يقرأ لهم ليسمعهم سير العظماء وأقوال الحكماء فانغرست البذور الصالحة في عقول أبنائهم وجاء منهم فلاسفة وكتاب متفردون وتبين مما استشهد به لهم من تذكراتهم أن معظمهم كانوا يعيشون الخلاء بين الرياض والغياض يطربهم صوت العندليب ويؤرقهم صوت القمري ويستفزهم خرير الماء وعليل الهواء.

وقال في فصل المطالعة والتصفح: جعل سلس الطبيب الروماني في القرن الأول قبل المسيح القراءى بصوت عال من جملة الرياضيات النافعة للصحة وأن المطالعة على هذه الصورة ضرورية للفهم والذوق وذلك لأن جرس الصوت يساعد كل المساعدة على تعليق الجمل في الذهن. وقد قال العالم أرنست لوكوفه أنه لا شيء ينير عقلنا مثل القراءة بصوت جهوري ويقفنا على ضعف الإنشاء إن كان ضعيفاً وقوته إن كان قوياً وفساد الشعور المصور فيه. ففي الكلام تنشيط وفيه للأفكار إيضاح بل تحقيق وكل من يتعاطون عملاً شاقاً كالحطابين والخبازين يتحمسون بما يلقيه بعضهم على بعض من الأصوات ولا يرى دودان أن يقرأ قارئ للإنسان بل أن يقرأ بنفسه ويرى أن الطريقة الأولى أجدر بالمرضى والعميان لأن لكل قارئ نغمة يكون بها التأثير في عقله وله طريقة في الفهم والتمعن لا يقوم بها سواه.


ومن العادة في بعض المدارس والأديار أن يقرأ قارئ شيئاً من الأدب والقصص والتلاميذ جلوس على المائدة وكان ذلك شأن شارلمان يتلى على مسامعه وهو على الخوان كتاب القديس أوغسطينس وكان الفيلسوف فولتير يؤثر أن يقرأ له وقال: إنني أحب هذه الطريقة لأنها كانت مألوفة للقدماء وأنا منهم. وكان الكردينال موري (1746 ـ 1718) يقول أن المرء إذا خلا بنفسه يجب أن يطالع كتباً تفيده حقيقة وإذا كان مع أخوانه فالأجدر أن يتلى عليه ما يحمسه ويهيجه لأن الناس في انفرادهم غيرهم في اجتماعهم.


قال مؤلفنا: أما كتب الحكم والآراء فالأحرى بل الأفيد بأن تتلى قطعة قطعة لا دفعة واحدة وأن ترسخ بكميات قليلة فكما أن المرء لا يبلع أقراص المعاجين إلا واحداً واحداً هكذا يجب عليه أن يسير في الأخذ من كتب الحكماء. وقال الأميرلين (1735 ـ 1814) أن الطريقة الوحيدة في مطالعة كتاب من الحكم بدون أن يمل هو أن يفتح كلما سنحت الفرصة وبعد أن يسقط فيه على ما يهمه منه يطبقه بعد تصفه صفحة أوص فحتين ويأخذ يفكر فإذا تصفحا كلها يكون أشبه بمن قلب مجموعة صور دفعة واحدة فلا يرتسم بمخيلته واحدة منها.

وتختلف طريقة المطالعة بسرعة أو بتأن بلا فاصلة أو بفاصلة بقلة أو بكثرة وهذا تابع لحالة القارئ وما يقرأ وحالة بصره وقوة انتباهه وأوقاته وخطر ما يتلوه وتأثير الكتاب فيه. وإن كتاباً في الفلسفة لا يقرأ كما تقرأ قصة وخير في الكتب المملة أن تتصفح تصفحاً وكل من يعيشون بين الكتب والمطبوعات والمخطوطات ويبحثون كثيراً فيما بين أيديهم لا يسعهم إلا أن يتصفحوا تصفحاً.

وكان لما كليابشي العالم الفلورنسي قيم الكتب (1633 ـ 1714) طريقة خاصة في المطالعة فإذا وقع له تأليف جديد ينظر في عنوانه ثم يرجع إلى الصفحة الأخيرة منه ويتصفح المقدمات والفهارس والتقدمات. ويلقي نظرة على كل التفاصيل الرئيسية وكان له من الوقوف على التأليف ما يتمكن معه من معرفة حقيقة المصنف في لحظة بل أنه يعرف المصادر التي أخذ منها المؤلف. ومن أرباب الاختبار في معرفة القراءة من يعرفون ماهية الكتاب من تقليب أوراقه ويدركون ما في صفحة منه من الفوائد بمجرد إلقاء النظر عليها ومنهم من يعرفون كيف يتصفحون الجرائد فلا يقع نظرهم إلا على ما يهمهم منها ولا يضيعون ثانية من أوقاتهم في النظر بما لا يفيدهم.
ورأى بعض أهل العلم أن الذهن مهما بلغ من حدته يخون صاحبه في تذكر الفوائد التي قرأها فالأولى له أن يقيدها ولذلك كانت الفهارس مما يعين كثيراً على الرجوع إلى مضامين الكتاب. ومن عشاق المطالعة من لا يكتفون بتقييد الفوائد في تذكراتهم بل هم يكتبون على كل صفحة تهمهم كتابة تعلمهم على الكتاب نفسه ولكن أكثر باعة الكتب يرون هذه الطريقة مما يعوق الكتب عن بيعها إلا أن المؤلف ومحبي الاستفادة لا يهمهم إلا أن ينتفعوا من كتبهم ولو بتمزيقها وتشويهها وما الكتاب إلا أداة للتعلم يجب استخدامها على النحو الذي ينتفع به نفعاً حقيقياً بل هو رفيق وصديق تحب معارضته ومناقشته أحياناً وأن لا يسلم له كل ما يورده.

يقول الفيلسوف سينيك والأديب بلين لجون أن الإكثار من الكتب يشتت الفكر وأن عادة القراءة كثيراً تفضل قراءة أشياء كثيرة وقال لبعضهم: لا نهاية للاستكثار من الكتب ومعلوم أنه في هذا العصر الذي دعي بعصر الورق بل في هذا العصر الذي اشتدت فيه تباريح مرض جديد أي الجنون في الطبع والنشر أن الكتب تنمو وتتضاعف من يوم إلى يوم. وما أجمل ما قالت أريستيب الفيلسوف اليوناني (390ق. م) أحد تلاميذ سقراط وصاحب المذهب الأبيكوري المنسوب لمدينة سيرين: ليس من يأكلون كثيراً هم أسمن من غيرهم وأصح منهم أجساداً بل السمان هم أولئك الذين يهضمون. وهنا استشهد المؤلف بإحصاء غريب لبعض المشتغلين منذ اخترع الطباعة على القرن الماضي فقال أنه طبع في جميع أنحاء الأرض من سنة 1436 إلى سنة 1536، 42 ألف مجلد وفي سنة 1536 إلى سنة 1636، 575 ألفاً وفي سنة 1636 إلى سنة 1736 مليون و225 ألفاً وفي سنة 1736 إلى سنة 1822 مليون و839960 فيكون مجموع ما طبع زهاء ثلاثة ملايين ونصف مليون مجلد وإذا قدر معدل هذه المصنفات بثلاثة مجلدات وإن أقل ما يطبع من كل كتاب 300 نسخة فيكون قد خرج من المطابع كلها في نحو أربعة قرون 3313764000 وقدر أن ثلثيها حرق أو استعمل صرراً عند البدالين والباعة فلم يبق منها إلا ثلثها. وزيف بعضهم قوله بأن التوراة وحدها طبع منها زهاء 36 مليون نسخة وأن كتاب الاقتداء بالمسيح طبع منه وحده ستة ملايين وأنه إذا كان كتب على تاريخ فرنسا وحده ثمانون ألف مجلد فكم تكون كتب الأرض. وقدر أحد الأميركان عدد المجلدات في الولايات المتحدة كما يأتي 420 مليوناً في البيوت و150 مليوناً عند العلماء والكتاب والمخترعين و60 مليوناً عند الكتيبة والطابعين و50 مليوناً في خزائن الكتب العامة و12 مليوناً في مكتب المدارس والجامعات و8 ملايين عند التلاميذ وأن في أوروبا الغربية ملياراً وثمانمائة مليون مجلد وفي أوروبا الشرقية أربعمائة وستين مليون مجلد و240 مليوناً في سائر أقطار العالم. قال المؤلف: وبينا أهل الإحصاء يحصون ترى المطابع تصدر الكتب بالألوف فيقدر الآن ما يصدر كل سنة من الكتب في الشرق والغرب بخمسة وسبعين ألف كتاب جديد منها 25 ألفاً في ألمانيا و13 ألفاً في فرنسا و10 آلاف في الولايات المتحدة و7 آلاف في إنكلترا فلو فرضنا أن معدل ما يطبع منها ألف نسخة تكون كتب العالم قد زادت كل عام 75 مليون مجلد.



قال مؤلفنا في اخاتيار الكتب وهل تفضل القديمة أم الحديثة فرأى أن الشبان ومن قل علمهم وأدبهم يؤثرون الجديد على القديم وإن كان الجديد في الغالب غثاً بارداً والقديم سميناً مملوءؤاً بصحيح الفكار ومتين الإنشاء. وفي كتب القدماء كنوز قديمة لا مثيل لها في آثار المحدثين. قال: وعندي أن يختار من الكتب العلمية أحدثها التي أخذت بأطراف ارتقاء العلم عامة وآخر ما وصل إليه كماله أما في الأدب فيختار أحسن كتابه مهما قدم عهدهم فالآداب القديمة كما قيل كلما قدمت تتجدد.

ولا مراء في أن المطالعة تؤثر في عقولنا واضطراباتنا وتورثنا القلق والحزن فمن الفضول أن نزيد على ذلك ما تدخله علينا من السرور والنفع قال جول لبتي في كتابه علم خب الكتب ومعرفتها ما أكثر من يبرؤون أمراضهم بفضل الكتب التي يطالعونها ولو عرف الناي ذلك حق معرفته لزاد عدد المولعين بالكتب زيادة عظمى. وتكلم المؤلف على الروايات وقال أن بعضهم يراها سموم الهيئة الاجتماعية وذكر كيتي الفيلسوف النقاد الألماني أنه من العبث أن يقول القائلون أن من الكتب ما يؤثر في إفساد الأخلاق وما الفساد إلا متوفر كل يوم في هذا المحيط وعندي أنه لا يجب التحرس كثيراً من ذكر ما لا يجدر أمام الأولاد من الأحاديث فإن الأولاد كالكلاب لهم حاسة قوية في الشم ويكتشفون كل شيء ولاسيما ما كان من أمور الشر. وللعلماء أراء مختلفة في هذا الشأن والأكثر على أن الروايات خيرها أقل من شرها وقشرها أضعف من لبها أما مطالعة الجرائد فهي لا تعد في باب مطالعة الكتب لأنهها تكتب بسرعة دون أن ينظر فيها النظر البليغ وما الجريدة كما قال بايل إلا فاكهة الفكر. وقال سانت بوف: يجب بادئ بدء أن نتزود من الخبز واللحم الطيب قبل أن نضع الفاكهة والحلواء. كتب تيوفيل غوتيه الكاتب الصحافي الفرنسوي أن مطالعة الجرائد تحول دون نبوغ القرائح القوية الشكيمة التي لا تريد غلا عشاقاً اقوياء في جدة الشباب فالجريدة تقتل الكتاب كما أن الكتاب قتل الهندسة وكما قتلت المدفعية الشجاعة وقوة الأعصاب. وقال جبرائيل هانوتو العالم: إن الجريدة هي المنافس الحقيقي للكتاب وما النجاح الذي أحرزته الجريدة غلا لرخص أثمانها وعندي أن الديمقراطية يجب أن يرخص فيها كل شيء لمداواة أمراض النفوس وأن المستقبل لا يبقى إلا على نوعين من الكتب المزخرف والمبهرج الذي تطبع منه كميات قليلة ليقتنيها أرباب القصور والغنى والكتب البسيطة التي تباع بأرخص ما يمكن من قيمة ليسوغ للجمهور اقتناؤها من أيبسر سبيل وبهذا الضرب من الكتب يحفظ للعلم رونقه وتبقى له حياته فالفلاح والعامل يجب أن يقرأ شيئاً وأن يخرج لهما ما يقرأان وحاجتهما ماسة إلى غير كتب التقاويم وبهذا تبين أنه لا يخشى على الكتب من قلة عشاقها في المستقبل بل أن النفوس تظل عليها مقبلة ما بقي الدهر.


وقال مؤلفنا في الفصل الذي عقده للكلام على ممزقي المكتب وأعدائها أن أعظم ما عرف من المصائب التي أصابت المكاتب على ما ذكر بيروز المؤرخ الكلداني من أهل القرن الثالث قبل المسيح (عليه السلام) واسكندر بوليستور الكاتب العالم اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد أن ملك بابل بختنصر الذي أرخ به منذ سنة 747 ق. م قد أمر بإحراق جميع تواريخ أسلافه ليسدل بذلك حجاباً كثيفاً على الماضي ويكون عهده مبدأ يجرون على التاريخ به في جميع العالم. وأحرق الإمبراطور شي هونغ تي الصيني سنة 213 ق. م جميع الكتب التي في مملكته ولم يستثن منها إلا المصنفات التي فيها تاريخ أسرته وعلم النجوم والطب وذلك بغضاً منه للمتعلمين والمتأدبين.

قال المؤلف: وأعظم ما أصاب الكتب نمن البلايا في التمزيق والتحريق الفتن الدينية وذلك لأن الكتاب خير ناطق عن الإنسان. له من الصفات ما يخوله المثول في كل مكان ومن القوة والجرأة ما لا نظير له فاقتضت الحال أن يبدأ بإسكاته قبل كل لسان أي أن يحرق لأنه الناطق الذي لا يسأم كما يسأم المخالفون والمناهضون. فقد أحرق الرومان كتب الإسرائيليين والمسيحيين والفلاسفة وأحرق الإسرائيليون كتب المسيحيين والوثنيين وأحرق المسيحيون كتب الوثنيين والإسرائيليين وأحرق المسيحييون معظم كتب أوريجين أحد زعماء الكنيسة في القرن الثلاث للمسيح وكتب قدماء الملاحدة وأحرق الاردينال كسيمنيس (وزير إسبانيا والمفتش الديني 1436 ـ 1517) عندما استولى الإسبان على غرناطة خمسة آلاف مصحف وأحرق أهل المذهب البروتستانتي من البروتانيين في إنكلترا على أوائل عهد الإصلاح ما لا يحصى من الأديار والآثار القديمة وأحرق كرمفل مكتبة أوكسفورد وكانت من أعجب خزائن الكتب في أوروبا.
ثم عاد المؤلف إلى الكلام على نمكتبة الإسكندرية ثانية وبرأ المسلمين من إحراقها فقال: تكلمنا على مكتبة الإسكندرية التي شاع بأنها أحرقت بأمر الخليفة عمر عند استيلائه على الإسكندرية سنة 640 وقلنا أن هذه المكتبة لم يكن لها وجود في ذاك العهد البتة وأن أحد قسميها حرق قضاء وقدراً سنة 47 قبل المسيح عند هجوم جند يوليوس قيصر وأن القسم الآخر حرق بعد هذا التاريخ بنحو أربعة قرون أي سنة 360 على يد الأسقف أو البطريرك تيوفيل الذي كان يرمي إلى إبادة الوثنية في أبرشيته. ولم يعثر على كلمة واحدة قالها مؤرخوا ذاك الزمن من عهد حريقها إلى قدوم عمرو بن العاص عامل الإمام عمر ما يستدل منه ويحمل على الفرض بأنه أنشئت في الإسكندرية مكتبة ولا ينبغي أن يعجب من ذلك إذ من أسبابه أن الآداب والفلسفة الوثنية كانت في تلك الحقبة من الدهر قد حكم عليها بالتبديد في كل مكان حتى أن جوستيناينوس أمر بإغلاق مدارس آثينة.

ومعلوم أن ما ينسبونه لعمر من الجواب الذي أجاب به عمرو بن العاص وقد سأل عما يعمل بمكتبة الإسكندرية فقال له: انظر فإذا مكان ما فيها من الكتب يوافق ما في كتاب الله فلا فائدة منها وإذا كانت مخالفة له فليس لنا بها حاجة فأحرقها. وعلى الجملة فقد قال من أورد هذه القصة أن عمرو بن العاص وزع هذه المكتبة على حمامات الإسكندرية فاستعانت بها على إحماء حماماتها ستة أشهر مع أن الورق دع عنك الرق إذا صلح لإشعال النار فلا يصلح لأن تدون به طويلاً.
ثم استشهد بقول جان جاك روسو في خطابه في العلوم والفنون: ولو كان غريغوريوس الكبير مكان عمر والإنجيل محل القرآن لكانت مكتبة الإسكندرية بدأت أيضاً على أن البابا غريغوريوس المشار غليه (540 ـ 604) متهم بإحراق كتب القدماء ظلماً كما اتهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وكلن التاريخ لا يظلم أحداً.


وقال في كلامه على ما يكتب عليه الكتاب أن الرق هو من اختراع فرغامس (برغامة) في آسيا الصغرى والمطنون أنه عرف قبل خمسة عشر قرناً أما الورق فالأرجح أن الصينيين هم الذين اخترعوه وأن العرب نقلوه إلى أوروبا كما قال الدكتور غستاف لبون في كتابه حضارة العرب: إن الكتاب المخطوط العربي الذي عثر عليه القصيري (الطرابلسي) في مكتبة الإسكرويال مكتوب على ورق من القطن ويرد تاريخه إلى سنة 1009 هو أقدم مما عرف من المخطوطات المحفوظة في مكاتب أوروبا تدل على أن العرب كانوا أول من استعاضوا عن الرق بالورق وذلك أن الصينيين كانوا يصنعون الورق من الحرير منذ أزمان بعيدة فدخلت صناعته إلى سمرقند منذ أوائل الصدر الأول للهجرة حتى إذا جاءت العرب تلك المدينة فاتحة رأت فيها معملاً للورق ولكن هذا الاختراع الثمين يصعب الانتفاع به في أوروبا لأن الحرير كان غير معروف فيها اللهم إلا إذا استعيض عن الحرير بمادة أخرى. وقد ظهر من البحث في مخطوطات العرب القديمة أنهم وصلوا في الحلال من صنع الورق إلى درجة من الكمال لم يتجاوزوها ويظهر أنه من الثابت أيضاُ أن صنع الورق من الخرق هو من اختراع العرب على ما في صنعه من التعب وما يحتاج إليه من المهارة وذلك لأن ورق الخرق عرف عند العرب قبل أن يعرفه المسيحيون بأزمان أهـ.


وبعد فهذا ما ساعد المقام عليه من الاقتباس من فوائد الكتاب وكنا نود لو عربنا أكثر ما عربنا مما يفيدنا في اجتماعنا وتاريخنا ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله وهذا القدر الذي أوردناه كاف في الدلالة على فضل مؤلفه.
والكتاب يطلب من مكتبة أرنست فلاماريون في باريز وثمنه كله اثنان وعشرون فرنكاً ونصف ملا عدا أجرة البريد فنحول أنظار من يعرفون الإفرنسية إلى اقتنائه.

__________________________________

المقتبس العدد 31

هانيبال


من صور العباقرة

هانيبال

بقلم حسين مؤنس

لنكن على حذر حين نلتمس أخبار هانيبال، فهذا رجل وكل أمره لأنصاف خصومه، وترك تراثه في رعاية أشد الناس عداوةً له، وتولى تقديمه إلى الناس أحفل الناس ببغضه؛ فهو مظلوم من بوليبيوس، مغضوب عليه من تيت ليف، مهضوم الحق عند الكثرة الغالبة من رواة عصره وقضاة زمانه، ولكنه برغم هذا كله بارز لا تحتاج عظمته إلى البينة، ظاهر لا يعوز عبقريته البرهان؛ وإن الشهادة له لتبدر من الخصم حين يتخونه الحذر، وإن فضله على أعدائه لتقوم عليه البينات والحقائق وإن أعوزته الألفاظ والعبارات؛ وهذا بوليبيوس يتحدث عن آل سيببو فيطيل الحديث، ويكون قصارى ما يتأنق فيه من دلائل نبوغهم أنهم أخذوا فنون الحرب عن هانيبال، وأن أشهرهم المعروف بالأفريقي أخذ عنه وتفطن لأساليبه وحاربه بها في زاما. 


ولعل سبب هذه الخصومة هو أن الرجال كان شرقياً، لا هو روماني ولا إغريقي، وإنما هو فينيقي عريق، وكانت الخصومة مشبوبة في ذلك العصر بين الشرق والغرب، وكان الزمان قد استدار وصار اليوم للغرب، ورفرفت راياته وخفقت بنوده، حملها الإسكندر وخلفاؤه زماناً ثم تركوها للرومان، وكان الفينيقيون قد ضاقت بهم الأرض في المشرق فالتمسوا الرزق في المغرب، وأقاموا المراكز والمدن على شواطئ أفريقية وإسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا وفرنسا، فلما نهض الرومان وجدوا الفينيقيين في طريقهم أينما ساروا، وكان مركز قيادتهم قد أنتقل من صور في المشرق إلى قرطاجنة في المغرب، ومن هنا كانت الخصومة بين روما وقرطاجنة، ومن هنا كان تعصب مؤرخي الرومان على هانيبال، ومن هنا كانت ضيعة قضيته عند القضاة؛ فلنلتمس أخباره في حذر. . . ولنحاول أن نشهده عن كثب، وأن نفضي إليه ونصاحبه حياته الحافلة بالأحداث، الخصبة بالوقائع والبيانات.


ها هو ذا في مجلسه على شاطئ الرون ينظر إلى جيشه الكبير يعبر النهر صفاً طويلاً وقد طال به الجلوس وطال به الانصراف إلى هذا المشهد حتى لا يدري أهذا مطلع النهار أم مقبل الليل؛ وكيف له التمييز وهذه أيام ثلاثة بلياليها تقضت وهو في مجلسه هذا شاخصاً إلى أجناده وفرسانه وقبيلته وهي تعبر النهر على مهل؟. . 

وأين له الراحة أو الانصراف عن التفكير وهو يعلم أن الرومان قد علموا بأمره وأنهم ساعون في أثره مرسلون قوادهم خفافاً للحاق به والقضاء عليه؟. 
وهذه عيونه تنبئه بأن مارسلوسن ماض في الطريق إليه، وإنه ليخشى ذلك كثيراً، إذ كيف تكون العاقبة لو لحق به الرومان وهو يعبر النهر؟. 
إذاً لقضوا عليه في يسر وهينة. 
ثم هذه عيونه تنهى إليه أن آل سيببو يثيرون عليه النافو ويقيمون عليه قيامة الشعب. 
فإذا متع الضحى فقد أقبل عليه رئيس فرسانه ينبئه بأن الجيش قد فرغ من العبور وأنه لم تبق في الضفة الأخرى إلا شراذم من المشاة وأشتات من المؤن التي لا يؤذي ضياعها. 
هناك ينهض الرجل الذي أجهده الإعياء وثقلت عليه قلة النوم، ويأوي إلى فسطاطه. . . ويطلب النوم فيسرع إليه النعاس. . . ولكنه على رغم ذلك مضطرب ما يزال. . . وأن الذكريات لتسعى إليه في الحلم فتروعه.


هذا هو أبوه هملكار يخطو إليه رهيباً جليلاً. . . يذكره بعهده الذي قطعه على نفسه وهو أبن سنوات تسع، وهذا صوت الصبي الصغير يتردد على سمعه واضحاً بيناً، إنه يقسم أن يكون عدواً لدوداً لروما إلى الأبد.

وها هو ذا يرى نفسه صبياً وفتى يافعاً، ثم رجلاً في مداخل الرجولة، إنه ليمضي الوقت في قفار إسبانيا ووهادها، لم ينصرف إلى شيء مما ينصرف إليه الشبان، ولم يترك لنفسه فرصة للراحة أو الدعة، وإنما أشتد على نفسه عشرين سنة كاملة حتى أوفى على الثلاثين. . .

 حتى إذا أكتمل الأهبة، فقد أتخذ سبيله إلى إيطاليا، وكان الرومان قد أخذوا عليه سبيل البحر بعد أن قضوا على أسطول قرطاجنة، ولم يبق له إلا أن يمضي فيخترق هذه المجاهل الجافة حتى يصل إلى سهول إيطاليا؛ ولقد فصل عن قرطاجنة الجديدة وهو في تسعين ألفاً فتهاوى منهم الآلاف في الطريق تعباً وإجهاداً. . . ولولا بقية من أمل معقودة بلواء فرسان نوميديا، لأدركه اليأس وكر راجعاً إلى بلده. . .


هكذا كانت حياته: واقع أشبه بالحلم، وحلم أشبه بالواقع! 

إنه ينام ليحلم بحرب روما، ويقوم ليمضي لخراب روما. 
ومضى أمامهم فمضوا من خلفه، وهم أشد ما يكونون رهبة من هذا الذي يمضي بهم إليه؛ إنهم ليشعرون الرهبة من هذه الجبال السامقة التي تطل عليهم وتنذرهم بالموت. . . 
وأين لأبدانهم المتعبة أن تتوقل هذه النجاد الوعرة، وأن تنحدر على هذه الصخور القاسية؟ 
وأين لجسومهم العزم الذي يخوضون به هذه الركام المثلوجة التي تبهر عيونهم على قنن الجبال؟. . . ولكنهم لا يملكون لأمر قائدهم دفعاً. . . بل هو لا يملك لأمر نفسه دفعاً. 
وإنه ليمضي ليوفي عهد أبيه لا يكاد يفطن إلى شيء مما حوله. 
فها هو ذا في مقدمة الجيوش يصعد في إعياء ويسير في هينة، والجنود يتساقطون من حوله إجهادا والخيل تنبت من تحته نافقة، وهو في طريقه لا ينبس. . حتى ينتهوا إلى السهول فينحدروا إليها سراعاً.


هنا ترجع بنا الذاكرة إلي معبد (بعل) في قرطاجنة. . . تلك هي القديسة تضطرب تحت يد هملكار الذي يقدمها إلى الآلهة طاعة ونسكا. . . وتلك هي روما تضطرب تحت يد ابنه هانيبال الذي يقدمها إلى أبيه قرباناً زكياً. . وهؤلاء هم الرسل مقبلين على مدينة التلال السبعة يرجفون بالأخبار ويزعزعون العزمات من رهبة الوعيد، ويضطرب الأمر بين الرومان اضطراباً شديداً، ويقذفون بجيوشهم إلى هانيبال في شجاعة وأقدام حقيقين بالإعجاب. . والقرطاجني متربص يفني الجيوش فناء، ويبتلع القادة ابتلاعاً وهذه تربيا تشهد يوم اجبر هانيبال العدو على النزول إلى الميدان في البكرة القارسة والشمس لا تزال في خدرها، وكيف انسابت الكمائن من فرسان نوميديا على جوانب الجيش الروماني فأكلته أكلا. . . وهذه ترازمين تذكر يومها العبوس من شتاء سنة 217. . هذا هانيبال يخبئ جنوده في باطن الجبل المطل على أمواج البحيرة، ويترك منهم نفراً يناوش القنصل فلامينيوس، ويتقدم الروم ثم يندفعون اندفاعاً شديداً. . فإذا انتهوا إلي ساحل البحيرة فقد القوا أنفسهم في وابل من نبال الغال، ونار من فرسان النوميديين وإذا العدو يسد عليه طريق الرجوع، وإذا الماء يعين عليهم الخصم. . وإذا هزيمة ساحقة لم ينج منها إلا نفر مضى إلى روما يزلزل أهلها بالمصيبة النازلة، والفاجعة التي لم تذر. . وهؤلاء أهل المدينة مروعين قد انتابهم هلع شديد. . إذ ترامى إلى أسماعهم أن الرجل قاصد إليهم. . ثم هاهو ذا على أميال من روما. . ليس من الموت بد! 



ولكن هانيبال لا يتقدم، إنما يطوي عن المدينة ويتجه إلى الجنوب.
ترى ماذا صد هانيبال عن روما؟ 

كانت الحصون واهنة والجيوش منكسرة ولا يكلف الاستيلاء على المدينة الا اقل الجهد. . ولكن هانيبال كان يرجو شيئاً آخر. . كان لا يريد أن يقتل الفريسة دفعة واحدة وإنما يقطع أعضاءها عضواً عضواً، ويمزق أشلاءها شلواً شلواً: ثم يدعها تموت؛ كان يرجو أن يمزق جسد روما جزءاً جزءاً ويبتر مستعمراتها عنها على مهل! 
لم يمزق الرومان أملاك قرطاجنة واحدة فواحدة لكي تموت على مهل. 
هكذا كان يريد أن ينفذ انتقامه الشديد - ولهذا مضى يثير أنصار روما ويؤلب عليها أحلافها. . . انه ليعلن انه اقبل ليحارب الرومان لا الايطاليين، وانه ليطلق الأسرى الإيطاليين دون الرومان وانه ليكسب من هذا كسباً عظيماً. . هذه (كبوا) تسارع إليه بقواتها وأحلافها. . وهذه المدن الإغريقية في (تارنتم) تعلن ولاءها. . وهؤلاء هم الرومان يشتد بهم الخوف فيختارون (فابيوس) لهم قنصلاً. . فيختط لمحاربة هانيبال خطة صارت علماً عليه في التاريخ: 
هي أن يجنب نفسه وجيوشه لقاء العدو في موقعة حاسمة. . بل يناوشه ويتخطف جنوده، ويقفل طريق الإمداد من الشمال. . ويمضي على ذلك حتى يضعف فمره ويفني جنوده. . ولكن الرومان لا يطيقون صبراً. . أن هانيبال ليفسد عليهم جيرانهم واتباعهم. . ويتلف مزارعهم ويهدم حصونهم ويمضي من بلد إلي بلد، تاركاً جنوده يأتون من الأمر ما يحبون ويصيبون من العدو ما تصل إليه أيديهم، حتى يضيق ذرع اللاتين فيعزلوا فابيوس ويولوا قنصلاً آخر يمضي مسرعاً حتى يلقي هانيبال في (كاني) على ساحل الأدرياتيك، وهناك تظهر قدرة الرجل في الحرب في أجمل آياتها. . . إنه ليصف جندوه صفوفاً طويلة تكاد تخفي جناحي الفرسان. . وانه ليلقي العدو وينثني قلب جيشه حتى يصير الصف نصف دائرة تحتوي الرومان ثم يقبل الفرسان فيقضون على العدو قضاء مبرماً.


ندع هانبيال في سيره إلى جنوب شبه الجزيرة ونخف إلى روما لنشهد اضطراب الشيوخ وهياج الشعب واشتداد الأمر ولنشهد مشهداً من أصدق مشاهد الرجولة القوية والبطولة الخالدة. . . إن (آل سيببو) لا يحفت لهم صوت ولا يضعف لهم أمل. . . لقد مات الأخوان في وعور إسبانيا، وهما في طريقهما إلى بلادهما بعد أن استوليا على (قرطاجنة الصغيرة) قاعدة هانيبال في أيبريا، وشطرا شبه الجزيرة كلها عن القرطاجني حتى حصروه حصاراً شديداً. . . وها هوذا أخوه (هازدرونال) أخو هانيبال يجمع له ما تيسر من فلول المرتزقة ويمضي إلى إيطاليا فيلقاه الرومان ويفتكون به ويقتلونه. . . ثم يحملون رأسه إلى أخيه ويلقون به بين يديه. 

ثم ينهض سيببو الصغير ويقود حملة من أعنف حملات التاريخ؛ فهذا فتى في الخامسة والعشرين ولكنه روماني عزيز. . . إنه ليقطع شبه الجزيرة على عجل. . . ثم يركب البحر إلى صقلية ثم يخف إلى أفريقية وينزل على مقربة من قرطاجنة ثم يبدأ يصنع في أفريقية ما يصنعه هانيبال في إيطاليا. . .!


هنالك يتأمل هانيبال رأس أخيه الشهيد ويستمع إلى أخبار سيببو فتأكل الحسرة قلبه ويفزع على مصير قرطاجنة، ويسرع لنجدتها. . . ولا تكاد قدمه تمس ثرى أفريقية. . . حتى تسرع نحو سيببو. . . فيمضي هذا أمامه. . . ولم يكن أخطر على الجيش الروماني من هذا المضي الذي يباعد ما بينه وبين الشاطئ. . . ولكن. . . أنظر إنه ليثير النوميديين على قرطاجنة، إنه ليطويهم تحت رايته حلفاء أقوياء. . . ثم يثبت لهانيبال عند (زاما) ويرسل فرسانه في طرفي مشاته. . . ويصف الجنود صفاً طويلاً، ويباعد بين الجندي والجندي حتى ليدع بينهما طريقاً رحباً. . . ثم يقبل هانيبال. . . ويدور فرسانه فإذا هم وجهاً لوجه أمام فرسان سيببو. . . فيفسحون لهم الطريق، فيندفع هؤلاء إلى ما وراء الجيش وهناك ينتظرون. . . وتشد المعركة، ويثار النقع، حتى إذا بلغ الإعياء من جيش قرطاجنة أقبل فرسان الرمان فقضوا عليهم قضاءً أخيراً.
أليست هذه أساليب هانيبال؟ 

أليست تلك خطته في كاني؟ 
وإنها لبينة واضحة على عبقريته، وآية باقية على ما خلف للعالم من تراث.


ويخف هانيبال إلى قرطاجنة، ويأمر بأسوارها أن تقفل ويسودها الهرج والاضطراب، ويجتمع مجلسها ويتعاقب الخطباء منادين بالحرب والثأر. . . ولكن الرجل لا يطبق. . . إنه يعرف خصمه جيداً فينهض ويسكت الخطيب. . . ويعتذر لمواطنيه عن هذه الجفوة التي لا محيص له عنها بعد ست وثلاثين سنة في ميادين الحروب. . . ثم يوافق على شروط الصلح التي قدمها سيببو.


ثم يبدأ صراع هو أشبه بصراع المائة يوم بين نابليون وخصومه. . . ولكن يطول سبع سنوات، يصر الشيوخ في السناتو على القضاء على الرجل. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وهو لا يفقد الأمل في الغلبة عليهم والانتقام منهم. . . لقد فشل في أن يثير عليهم الغرب، فلملا يقيم عليهم قيامة الشرق؟. . . ها هو ذا يخف إلى بلده (صور)، فإذا هي ترتعد فرقاً من روما وجيوشها فيفصل عنها إلى (إنطاكية) حيث يستقبله ملكها أثينوكس، إذ كان بعد حملته على روما. . . ويدبر معه الأمر. . . ويرسم معه مشروعاً خطيراً. . . ولا يكادان يشرعان في العمل حتى يفاجئهما الرومان فيقضوا على أثينوكس في داره فيفر إلى بيثتنيا حتى يلقاه ملكها مرحباً. . . . ويأويه ويكرمه.

ولكن الرومان لا يسكتون عنه. . . ويطلبونه ويجدون في طلبه. . . وإنه لجالس ذات يوم في ملجئه. . . إذ أحس اضطرابا وسمع وقع أقدام جنود يقتربون منه. . . فنادى بخادمه. . . وأمر بالسم فأتى به إليه. . . وقال وهو يدني الكأس من شفتيه: 

(لكي تستريح روما إذا كان لا يرضيها أن تترك شيخاً في الستين يموت على مهل).

______________________________________

مجلة الرسالة العدد 121


مصدر الخريطة: أطلس التاريخ العربي الإسلامي للدكتور شوقي أبوخليل

الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

ياقوت الحموي


ياقوت

للأستاذ محمد كرد علي رحمه الله تعالى

كان مولد ياقوت عبد الله شهاب الدين في بلاد الروم سنة 574 وأخذ أسيراً وهو صبي فقيل له الرومي، واشتراه في بغداد تاجر يعرف بعسكر الحموي فنسب إليه فقيل له ياقوت الحموي أيضاً. ونشأ نشأة إسلامية فجعله سيده في الكتاب يتعلم ما يستفيد هو منه في ضبط متاجره، وقرأ شيئاً من النحو واللغة، وشغله مولاه بالأسفار ثم أعتقه في سنة 596، فاشتغل بالنسخ بالأجرة، وحصل بالمطالعة فوائد، وعاد مولاه فأعطاه شيئاً وسفره إلى كيش وعُمَان؛ ولما عاد ياقوت من سفرته كان مولاه قد مات، فأعطى أولاد مولاه وزوجته ما أرضاهم به، وبقيت بيده بقية جعلها راس ماله وسافر بها وجعل بعض تجارته كتباً، وسهل عليه بتجارته أن يطوف الشام والعراق والجزيرة وخراسان، واستوطن مرو ودخل خُوارَزمْ وغيرها، أو كما قال عن نفسه إنه جاب البلاد ما بين جيجون والنيل. وأقام مدة في حلب عند الصاحب الأكرم القفطي المصري وزير حلب، وأهدى إليه كتاب معجم البلدان، وفي حلب مات سنة 626هـ.

لقي ياقوت في حياته هناء وشقاء، شهد وقائع التتر في خراسان، ووصف ما فعلوه في بلاد الإسلام، وانهزم منهم لا يلوي على شيء، وفقد ثروته حتى عد من المفلوكين. وكان مرة في دمشق فناظر بعض من يتعصب لعلي بن أبي طالب، وجرى بينهم كلام، فثار الناس عليه ثورة كادوا يقتلونه فسلم منهم، وخرج من دمشق منهزماً إلى حلب. وقال عن نفسه إنه كان قدم نيسابور في سنة 613 وهي مدينة الشاذياخ فاستطابها، وصادف بها من الدهر غفلة خرج بها عن عادته، واشترى بها جارية تركية ما رأى أن الله تعالى خلق أحسن منها خَلقاً وخُلقاً، وصادفت من نفسه محلاً كريماً، ثم أبطرته النعمة فاحتج بضيق اليد فباعها فامتنع عليه القرار، وجانب المأكول والمشروب حتى أشرفت نفسه على البوار، فأشار عليه بعض النصحاء باسترجاعها فعمد لذلك، واجتهد ما أمكن، فلم يكن إلى ذلك سبيل، لأن الذي اشتراها كان متمولاً، وصادفت من قلبه أضعاف ما صادفت منه، وكان لها إليه ميل يضاعف ميله إليها، فخاطبت مولاها في ردها على ياقوت بما أوجبت به على نفسها عقوبته، فقال في ذلك قصيدة منها:
أئِنُّ ومن أهواه يسمع أنتي ... ويدعو غرامي وجده فيجيب
وأبكي فيبكي مسعداً لي فيلتقي ... شهيق وأنفاس له ونحيب


ومن جملة ما ألف ياقوت من الكتب ثلاثة مطبوعة، أولها (معجم البلدان) وثانيها (المشترك وضعاً والمختلف صقعاً) وثالثها (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) أو طبقات الأدباء. 
رتب معجم البلدان على حروف المعجم وذكر فيه أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان، والقرى والمحال والأوكان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأوثان مضبوطة بالشكل. 
واعتمد في تأليفه على من كتب قبله في الجغرافيا من العرب، وعلى اللغويين ودواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب، والتقط من أفواه الرواة وتفاريق الكتب، وما شاهده في أسفاره وحققه بنفسه من أسماء البلدان ما عظمت به فائدته. 
وفي كل ما كتب ظهرت إجادته وما ينقله عن غيره قد يكون فيه نظر، ويتبرأ هو من عهدته. 
فقد قال مثلاً في مدينة الصفر: ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها، إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دونها العقلاء. 
وقال فيما نقل عن الصين: هذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته لا أضمن صحته، فإن كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وإن كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس، فان هذه بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها وإنما يقصد التجار أطرافها. 
فكأن ياقوت بما ينقل من الأوهام والخرافات إلى جانب الحقائق الثابتة يريد ألا يخلي كتابه من كل أطروفة ولو كانت سخيفة ليستفيد منه الجاهل، ويتفكه به العالم، ويتعلم المتعلم الأديب، ويقتبس الباحث. 

وتوسع خاصة في الكلام على المدن التي أنشأتها العرب وحرص على الإلمام بأخبار فتوح البلاد وحاصلاتها وأموالها وعمرانها وعادياتها ومصانعها وأخلاق أهلها، وما وقع فيها من الوقائع التاريخية المهمة وما قيل فيها من الأشعار البديعة، فأمتع قارئه بكل مفيد، بحسب ما وصل إليه علمه وعلم جيله، أو قرأه في كتاب، أو استقراه بنفسه ونقله عن الثقات. 
وهذا القسم جماع ما في معجمه مما أدركه في عصره، أو اقتبسه من الأصول المتقنة في خزائن مرو، قال: وكانت سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مجلد وأكثر، وبغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار. 
وما كان يفارق مرو لولا ما عرا من ورود التتر إلى تلك البلاد، وما كان لهم من الأثر القبيح في خرابها. ويتألف من الأبيات والقصائد التي استشهد بها ياقوت في معجم البلدان ديوان جميل، يحوي كل ما يفيد من رائق الشعر، وكذلك من عجائب البلدان الخليقة وأخلاق الناس، ودرجة الرفاهية والثروة في عصره، وأفاض في كلامه على البلدان بذكر من خرج منها أو نسب إليها من الأعيان، ولا سيما رجال الحديث. 


وكتابه خاص ببلاد الإسلام والشرق وذكر بعض أسماء المدن في بلاد الإفرنج وهو يتحفظ فيما ينقل عن حال البلاد الأخرى. 
ومما قال في الروم: (وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليعذر الناظر في كتابي هذا، ومن كان عنده أهلية ومعرفة، وقتل شيئاً منها عليَّ، فقد أذنت له في إصلاحه مأجوراً).

أما كتاب (المشترك وضعاً والمفترق صقعاً) فقد انتزعه بنفسه من معجم البلدان، واقتصر فيه على ما اتفق من أسماء البقاع لفظاً وخطا، ووافق شكلاً ونقطا، واقترن مكاناً ومحلاً، توفيراً لوقت المطالع الذي يحب السرعة في تلقف الفوائد، وبعداً به عما ذكره في معجمه الكبير من الاشتقاق والشواهد والنكت والفوائد والأخبار والأشعار. 

ودعا ياقوت على من يختصر بعده كتابه معجم البلدان، وما خلا مع هذا من بضعة مؤلفين حاولوا ذلك وفيهم صفي الدين عبد المؤمن سمى مؤلفه (مراصد الاطلاع) قال ياقوت في الكلام على اختصار كتابه: اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق سويّ فقطع أطرافه فتركه أشل اليدين أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حليها فتركها عاطلاً، أو كالذي سلب الكمي سلاحه فتركه أعزل راجلاً. 

وقد حكي عن الجاحظ أنه صنف كتاباً وبوبه أبواباً، فأخذه بعض أهل عصره فحذف منه أشياء وجعله أشلاء، فأحضره وقال له: يا هذا إن المصنف كالمصور، وإني قد صنفت في تصنيفي صورة كانت لها عينان فعورتهما، أعمى الله عينيك، وكان لها أذنان فصلمتهما، صلم الله أذنيك، وكان لها يدان فقطعتهما، قطع الله يديك، حتى عدَّ أعضاء الصورة. 
فاعتذر إليه الرجل بجهله هذا المقدار، وتاب إليه عن المعاودة إلى مثله.


بقي أن نطلق القول في كتاب ياقوت الثالث وهو (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وقد جمع فيه ما وقع إليه من أخبار النحويين واللغويين والنسابين والقراء المشهورين والإخباريين والمؤرخين والوراقين المعروفين والكتاب المشهورين وأصحاب الرسائل المدونة وأرباب الخطوط المنسوبة وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، مثبتاً وفياتهم ومواليدهم وتصانيفهم وأخبارهم وأنسابهم وأشعارهم. 
قال: فأما من لقيته أو لقيت من لقيه، فأورد لك من أخباره وحقائق أموره مالا أترك لك بعده تشوقاً إلى شيء من خبره. 
وقال جمع للبصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان، وذلك على حروف المعجم أيضاً. 
وقال في الاعتذار عن نفسه، وعمن يقول له إن الاشتغال بأمر الدين أهم: (إن هذه أخبار قوم عنهم أخذ القرآن والحديث، وبصناعتهم تنال الإمارة ويستقيم أمر السلطان والوزارة وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام) وإن كتابه هو علم الملوك والوزراء والكبراء يجعلونه ربيعاً لقلوبهم، ونزهة لنفوسهم.
وإرشاد الأريب من أوسع كتب التراجم؛ وقد لا تتعادل التراجم فيه، فيكتب في الرجل العشرين والثلاثين صفحة حتى لم يبق زيادة لمستزيد؛ وقد يكتب في العظيم أيضاً أسطراً معدودة وخصوصاً في أواخر الكتاب حتى ليظن من لم يقف على ترجمة المترجم به أنه من المغمورين. وما أدري إن كان أتى ذلك من المؤلف أم من النساخ والناشرين. وعلى كل فإرشاد الأريب أو الجزء الذي طبع منه كنز ثمين للأدب، ومنجم فيه الركاز والذهب، فرائد يلتقطها صاحبها ولا سيما وأن ياقوت نقل كتب جليلة ضاع بعضها على نحو ما نقل من كتب مرو وقال إن أكثر فوائد معجم البلدان منقول من خزائنها
وقال في كتابه إرشاد الأريب أيضا: وربما قال بعضهم إنه تصنيف روميّ مملوك، وما عسى أن يأتي به؟ إن القوم لا ينظرون ما قيل إنما يسألون عمن قال. 

ولو عاش ياقوت ورأى بعد أكثر من سبعة قرون كتابيه معجم الأدباء ومعجم البلدان اللذين لا يستغني عنهما باحث ولا أديب وأنهما من الكتب الأمهات التي حوت كل طريف مفيد تزيد على القرون حسناً وتتبين حاجة الناس إليها، لأغتبط وعرف أن ما كان يقوله الناس فيه، قالوه في أمثاله في كل عصر ثم ذهب لغط المتقولين والطاعنين وثبت علم العالمين والمتأدبين والباحثين.

____________________________


مجلة الرسالة العدد 223

الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

حديث الأزهار ( بين القهوة والشاي )


للكاتب الفرنسي ألفونسو كار

خطر يوماً لزهرة البن أن تجتاز الجبال والبحار من سهول الحجاز إلى الصين لتزور أختها زهرة الشاي، فاستقبلت هذه زائرتها بكل ترحاب إلا أنها كانت مغرورة بنفسها تتكلف الود تكلفاً ككل مخلوق لا يعترف بفضل أحد.
وكانت ابنة الصين تباهي بحضارة بلادها القديمة وتحسب ابنة الحجاز حديثة نعمة خرجت من قفار لا مدنية فيها ولا مجد.
وما كانت ابنة العرب لتخدع بغرور صديقتها فثارت العزة العربية في نفسها فقالت لزهرة الشاي: - أراك مغترة بنفسك يا ابنة الصين وما أنا ممن يتقلد المنة من أحد. جئتك زائرة لا مستجدية فلست اعرق مني نسباً ولا ارفع حسباً.

وهزت زهرة الشاي رأسها باحتقار وقالت: - إن حسبي عريق يتصل بمن أسسوا مملكة الصين منذ ستين قرناً.
- وما تقصدين بهذا؟
- أقصد تذكيرك بما يجب عليك من احترامي.

وكانت الزهرتان تتحدثان وهما جالستان إلى مائدة صفت عليها أواني القهوة والشاي، وكل زهرة تتناول من خلاصتها لتنبه قواها؛ فقالت زهرة البن: - أنت كريهة الطعم، ولو لم تكوني كذلك لما هجرك الصينيون لاجئين إلى الأفيون، فما أنت بالمخدر يفتح أبواب الأحلام الجميلة

فانتفضت زهرة الشاي وقالت: - لقد غزوت الشعب الذي تغلب على الصين فأنا سيدة بلاد الإنجليز.
- وأنا أسود بلاد الفرنسيس.
- لقد أنزلت الوحي على ولتر سكوت وبيرون.
- وأنا بعد أن ألهمت وطني أروع الأفكار ألهمت مولير وفولتير,
- أنت سم بطئ قتال.
- أنا دواء للهضم.

وساد السكوت لحظة، فقالت زهرة الشاي: - أنك لتسمعين من غليان مائي ما يشبه حفيف أجنحة الارواح، وما ظفائر الفاتنات بأجمل من أوراقي، أنا شعر الشمال يتدفق حزناً وحناناً.
فقالت زهرة البن: - لي سمرة بنات الصحراء، ولي لفتات عيونهن السوداء، فأنا اخترق الأعصاب باللهب الخفي. أنا سحر الشرق وأنا غرامه.
- أنت تحرقين، أما أنا فأستنزل العزاء على قلوب الموجعين.
- أنا أعطي القوة، أما أنت فتنزلين الضعف بالجسوم.

فقالت زهرة الشاي: - لي القلب.
فقالت زهرة البن: - أما أنا فلي الرأس.
واحتدم الجدال بينهما دون أن تذعن إحداهن للأخرى، فقررت الزهرتان أخيراً أن تلجآ إلى مجلس محكمين يألفه شاربو القهوة وشاربو الشاي.



قدمت القضية لهذا المجلس ومرت الأجيال والخلاف قائم بين أعضاءه وهو لم يصدر حكمه حتى اليوم.

____________________________

مجلة الرسالة العدد 193