بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 23 يناير 2014

بين حمدات والفند



ومن عجائب الطعن أن رجلاً من الأكراد يقال له : حمدات كان قديم الصحبة قد سافر مع والدي (راوي القصة الأمير أسامة بن منقذ) إلى أصبهان إلى دركاه السلطان ملك شاه ، فكبر وضعف بصره ، ونشأ له أولاد ، فقال له عمي عز الدين :
 يا حمدات ، قد كبرت وضعفت ، ولك علينا حق وخدمة ، فلو لزمت مسجدك - وكان له مسجد على باب داره - وأثبتنا أولادك في الديوان ، ويكون لك أنت كل شهر ديناران ، وحمل دقيق وأنت في مسجدك .
قال : افعل يا أمير ، فأجرى له ذلك مديدة .
ثم جاء إلى عمي وقال : يا أمير ، والله ما تطاوعني نفسي على القعود في البيت ، وقتلي على فرسي أشهى إلي من موتي على فراشي !!!!!
قال : الأمر لك وأمر برد ديوانه عليه كما كان .

فما مضى إلا الأيام القلائل حتى غار علينا السرداني - صاحب طرابلس - ففزع الناس إليهم ، وحمدات في جملة الروع ، فوقف على رقعة من الأرض مستقبل القبلة ، فحمل عليه فارس من الإفرنج من غربيه ، فصاح إليه بعض أصحابنا :
 يا حمدات ، فالتفت فرأى الفارس قاصده ، فرد رأس فرسه شمالاً ، ومسك رمحه بيده ، وسدده إلى صدر الإفرنجي فطعنه فنفذ الرمح منه .
فرجع الإفرنجي متعلقاً برقبة حصانه في آخر رمقه .
فلما انقضى القتال قال حمدات لعمي : 
يا أمير ، لو أن حمدات في المسجد من كان طعن هذه الطعنة ؟

فأذكرني قول الفِنْد الزماني :
أيا طعنة ما شيخ ... كبير يَفَنٍ بالي
تَفْتّيت بها إذ كـ ... ـره الشكة أمثالي
وكان الفند قد كبر وحضر القتال ، فطعن فارسين مقترنين فرماهما جميعاً . (1)

أما الفند ذكر قصة الأمير بن منقذ في كتابة  "لباب الآداب" :

نقلت من خط النَّجِيرمي قال : 
كان الفِنْدُ من الفرسان الشجعان القدماء ، وهو شهل بن شيبان بن ربيعة بن زِمَّان ، وإنما سمي الفند : لأنه شبه بالقطعة من الجبل ، وكان عظيماً، وأمدت بنو حنيفة يوم قِضَة بكر بن وائل بالفند ، وقالوا :
 قد أمددناكم بألف رجل ، وكان شيخاً كبيراً يومئذ ، فطعن مالك بن عوف بن الحارث بن زهير بن جشم وخلفه رديف له يقال له الثريار بن مازن بن جشم بن عوف ابن وائل بن الأوس ، فانتظمهما برمحه , وقال :
أيا طعنةَ ما شيخٍ ... كبير يَفَنٍ بال (1)
كجيب الدِّفْنِسِ الْوَرْهَا ... ءِ رِيعت بعد إجفال (2)
تَفَتَّيتُ بها إذ كَـ ... ـرِهَ الشِّكَّةَ أمثالي (3)
وشهد الفِندُ الزَّمَّانيُّ حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة سنة ، فأبلى بلاء حسناً ، وكان يوم التحالق الذي يقول فيه طرفة بن العبد :
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بِقُوَانَا يوم تَحْلاقِ اللِّمَمْ
يوم تبدي البيض عن أسْوُقِهَا ... وتَلُفُّ الخيل أعراج النَّعَمْ (5)  
___________________________________

(1)  المنتقى من بطون الكتب المجموعة الثانية ص:35 للشيخ محمد ابراهيم الحمد <إنتقاها من كتاب الاعتبار للأمير اسامة بن منقذ رحمه الله تعالى> .
(2)  اليَفَن : الشيخ الهرِم .
(3)  الدِّنفس : الحمقاء ، الورهاء : المتساقطة العقل .
(4)  تَفَتَّيتُ : أي تخلَّقت بأخلاق الفتيان ، الشِّكَّةَ : هي ما يُلبس من السلاح .
(5)  المنتقى من بطون الكتب المجموعة الثالثة ص:42 .

الخميس، 9 يناير 2014

قراءة مختصرة لكتاب طريقنا للقلوب لمؤلفه الشيخ فيصل بن عبده قائد الحاشدي



لكسب قلوب العِباد في الدعوة إلى الله - تعالى - أهميةٌ بالِغةٌ ، وقد جمَع كتابُ الله - تعالى - وصحيحُ سنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكثيرَ من وسائل كسْب القلوب وجلْب المحبَّة والمودَّة ؛ بل والتنبيه على أصل كسْب القلوب ونشر المحبَّة بين أفراد المجتمع المسلم ؛ كما في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( لا تَدخُلون الجنَّة حتى تُؤمِنوا ، ولا تُؤمِنوا حتى تحابُّوا ، أوَلاَ أدلكم على شيءٍ إذا فَعلتُموه تَحابَبتُم ؛ أفشوا السلام بينكم  )) ؛ (رواه مسلم عن أبي هريرة - رضِي الله عنه) .

وكسْب قلوب الناس أوَّلُ وأسهلُ طريقٍ لقبولهم الحقَّ وإذعانهم له ؛ لذا تحتَّم على أصحاب السمت المسلم قبل غيرهم التزامُ الآداب النبويَّة الشريفة ، كما أنَّنا بحاجةٍ لمجتمعٍ أكثرَ محبَّة ومودَّة وتَسامُحًا وتَعاطُفًا ، وهذه الآداب القادِم ذكرُها من أسباب ذلك .

وهذا البحث الذي نَعرِض منه نُبَذًا قليلة ، قد تَناوَل جملةً من هذه الآداب ، الجامِعة للقلوب ، المؤلِّفة لها ، بعَرْضٍ سَهْلٍ مُختَصَر ، شائق جميل ، بعيدًا عن مَضايِق الخِلاف ، وحَشْدِ الأقوال الضعيفة والشاذَّة ، مع ذِكْرِ بعض أطايِب كَلام السلف - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم .

وما مِنَّا من أحدٍ إلا ويَغِيب عنه عادَةً بعضُ هذه الوسائل أو آدابها ، أو يحتاج للتذكير بها مَرَّة بعد الأخرى ؛ كما قال - تعالى - : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55].

وقد جمع المؤلف - جزاه الله خيرًا - خمسًا وثلاثين وسيلةً لكَسْبِ قُلُوب الناس ، وأنا هنا أختَصِر مُحتَواها مع الإبقاء على عَناوِينها وشيء يسيرٍ من مَضمُونها . 

1- إفشاء السلام :
كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - في حديث أبي هريرة السابق : (( أَفشُوا السلام بينكم )) ، والسلام اسمٌ من أسماء الله - تعالى - كما في الحديث أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال : (( السلام اسمٌ من أسماء الله ، وضَعَه في الأرض ، فأفشوه بينكم )) ؛ (رواه الطبراني والبزار، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ومعنى السلام : التعوُّذ بالله ، والدُّعاء بالسلامة ، وهو حقٌّ من حقوق المسلم على أخيه ؛ كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( حقُّ المسلِم على المسلِم ستٌّ : إذا لقيته فسلِّم عليه... )) ؛ (رواه مسلم)  ، وردُّه فرض لازم ؛ لقوله - تعالى - : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } [النساء: 86].

والسلام يكون عند اللِّقاء وعند الفِراق ، ففي الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( إذا انتَهَى أحدُكم إلى مجلس فليُسَلِّم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم ، فليست الأُولَى بأحق من الآخرة )) ؛ (رواه أبو داود والترمذي ، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة").

وقد ورد في فضل السلام وردِّه أحاديثُ كثيرةٌ عظيمة، كما جاء عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله : (( إنَّ أبخل الناس مَن بخل بالسلام )) ؛ (رواه ابن حبَّان والطبراني وأبو يعلى، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ومن جملة آداب السلام المرويَّة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قوله وفعله : أن يبدأ الصغيرُ الكبيرَ بالسلام ، والماشي على الجالس ، والفرد على الجماعة ، ويُجزِئ أن يردَّ عليه واحدٌ منهم فقط ، وأن يبدأ به الرجل إذا دخل على أهل بيته ، فإنَّه يكون عليه وعليهم بركة ، وأن يجمع معه المُصافَحة ، الرجال على الرجال،  والنساء على النساء ، وأن يكون على مَن عرَفت ومَن لم تَعرِف ، وأن يكون قبل الكلام .

2- التبسُّم :
فعن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: (( تبسُّمك في وجه أخيك صدقة )) ؛ (رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني في "الصحيحة") ، والتبسُّم مِفتاح من مَفاتيح فتح القلوب وكسْبها ، وعن عبدالله بن الحارث - رضِي الله عنه - قال : " ما رأيت أحدًا أكثر تبسُّمًا من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم " ؛ (رواه الترمذي ، وصحَّحه الألباني).

وجعل - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقاء الناس بوجْه طليق - أي : بَاسِمٍ مُتَهلِّل بالبشْر والترحاب - من قَبِيل المعروف ؛ فعن أبي ذرٍّ - رضِي الله عنه - قال : قال لي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئًا ، ولو أن تَلقَى أخاك بوجهٍ طلق )) ؛ رواه مسلم.

والتبسُّم غير الضَّحِك ، وإكثار الضَّحِك مذموم ؛ لأنه يُمِيت القلب ويُلهِيه ؛ كما في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( أَقِل الضحك ؛ فإن كثرة الضحك تُمِيت القلب )) ؛ (رواه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع")، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - " قليل الضحك "؛ (رواه أحمد من حديث جابر بن سمرة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

3- التنادِي بأحبِّ الأسماء :
فإنَّ ممَّا يُحبِّب المرءَ إلى الناس ، ويُقرِّبه من قلوبهم - التنادِيَ بأحبِّ الأسماء ، فليس ثَمَّة شيءٌ أحبَّ للإنسان من نفسه ، وحفظك لاسمه دليلٌ على تقديرك لشخصه .

وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُنادِي الواحد من أصحابه بكنيته ؛ توقيرًا منه وإكرامًا له ؛ بل حتى الأطفال يكنيهم ، كما قال أنس - رضِي الله عنه - : " كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسن الناس خُلقًا ، وكان لي أخٌ يُقال له : أبو عمير ، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا جاء يقول له : ((يا أبا عُمَيْر ، ما فعل النُّغَيْر ؟ )) " ؛ رواه البخاري ومسلم.

والكنية نوع تكثير وتفخيم للمكني، وإكرام لة ، كما قيل :
أَكْنِيهِ حِينَ أُنَادِيهِ لأُكْرِمَهُ 
وَلاَ أُلَقِّبُهُ مَا أَسْوَأَ اللَّقَبَا 

وكما أن التنادي بأحبِّ الأسماء يُقرِّب المرء من القلوب ، ويزرع الوُدَّ والمحبَّة ، فإنَّ بضدِّه التنابُز بالألقاب ، والمُنادَاة بما يكره المرء ممَّا يُورِث الشَّحناء والبَغضاء ؛ لذا حرَّمه الله - تعالى - بقوله : { وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11].

والمؤمن إذا قُبِضَتْ رُوحه الطيِّبة ، وصَعدتْ بها الملائكة إلى السماء ، فلا يمرُّون على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الرُّوح الطيِّب ؟ فيقولون : فلان بن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يُسَمُّونه بها في الدنيا ، أمَّا الكافِر فعكس ذلك .

4- المُصافَحة :
المُصافَحة من أعظم أسباب كسْب القلوب وجلْب المودَّة والمحبَّة، يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( ما من مسلمَيْنِ يلتَقِيان فيَتصافَحان ، إلا غُفِر لهما قبل أن يتفرَّقَا )) ؛ (رواه أبو داود والترمذي، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع").

وقال أنس بن مالك - رضِي الله عنه - : " كان أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا تلاقوا تصافحوا ، وإذا قَدِمُوا تعانَقُوا " ؛ رواه الطبراني.

إلا أنَّه لا يجوز مُصافَحة الرِّجال للنِّساء ، أو النِّساء للرِّجال ؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( لأَنْ يُطعَن في رأس رجلٍ بِمِخْيَطٍ من حديدٍ خيرٌ له من أن يمسَّ امرأةً لا تحلُّ له )) ؛ (رواه الطبراني في "الكبير"، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

5- حُسْنُ السَّمت وطِيب الرائحة :
حسن السمت - أي : الهيئة والمظهر - وطِيب الرائحة، من أسباب ميل القلوب إليك ، وفي الحديث أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال : (( إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال )) ؛ رواه مسلم.

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( إنَّ الهدي الصالح ، والسمت الصالح ، والاقتِصاد - جزءٌ من خمسة وعشرين جزءًا من النبوَّة )) ؛ (رواه أحمد، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ولبعضِ السلف عنايةٌ خاصَّةٌ بمظهرهم كعنايتهم بمخبرهم ، ولا غرو ؛ فديننا مظهر وجوهر في الوقت نفسه .

6- التفسُّح في المجالس :
قال الله - تعالى -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ } [المجادلة: 11].

والتفسُّح في المجالس ممَّا يزرع في قلب المُتَفسَّح له المودَّةَ والمحبَّة، ويقول عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه -: " ممَّا يُصَفِّي لك وُدَّ أخيك : أن تبدَأَه بالسلام إذا لقيته ، وأن تدْعوه بأحبِّ الأسماء إليه ، وأن تُوَسِّع له في المجالس" ؛ " أدب المجالسة ".

وقال الأصمعي: " كان الأحنف إذا أتاه إنسانٌ وسَّع له ، فإن لم يجد موضعًا تحرَّك ليريه أنه وسَّع له " ؛ "عيون الأخبار".

7- الهديَّة :
للهديَّة أثر عظيم في كسب القلوب واستِجلاب محبَّة الناس ، وقد حثَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الإهداء بقوله : (( تهادوا تحابُّوا )) ؛ (رواه البخاري في "الأدب المفرد" وأبو يعلى عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع" لشواهده).

ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( أَجِيبُوا الداعي ، ولا تَرُدُّوا الهديَّة )) ؛ (رواه أحمد وابن أبي شيبة، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

يقول ابن حبَّان - رحمه الله - : " وإني لأستَحِبُّ للناس بعث الهدايا إلى الإخوان بينهم ؛ إذ الهدية تُورِث المحبَّة ، وتُذهِب الضغينة " ؛ "روضة العقلاء".

8- التقدير:
لا شكَّ أنَّ تقديرك لشخصيَّة أيِّ إنسان هو مِفتاح الدُّخول إلى قلبه ، وخابَتْ أُمَّة وخَسِرَتْ لم تَتبادَل خُلق التقدير فيما بينها ؛ فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يَحقِر أخاه المسلم )) ؛ مسلم.
فكلُّ مسلمٍ حريٌّ بالتقدير لإسلامه أولاً ، ثم يَتفاوَت الناس بعد ذلك بحسب مَراتِبهم ؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( ليس مِنَّا مَن لم يُجِلَّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا، ويَعرِف لعالمنا حقَّه )) ؛ (رواه أحمد والحاكم، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرِموه )) ؛ (ابن ماجه من حديث ابن عمر - رضِي الله عنهما - وصحَّحه الألباني في "صحيح ابن ماجه").

9- التواضُع :
وهو سبيل لاكتساب القلوب ، والرفعة في الدنيا والآخرة ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( ما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عِزًّا ، وما تَواضَع أحدٌ لله إلا رفَعَه الله )) ؛ مسلم.

وقد يُراد بهذه الرِّفعة رِفعةُ المقام والجاه في الدنيا بين الناس ، أو رِفعة الآخرة في الدرجات العُلَى ، أو الرِّفعتان معًا.

وقد قيل : "ثمرة القَناعة الرَّاحة ، وثمرة التواضُع المحبَّة " ؛ "غذاء الألباب".

10- حفظ اللسان :
مَن يحفَظ لسانه عمَّا حرَّم الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُحِبه القلوب ، وتهفو إلى مثله النفوس ، وبضدِّه مَن يَتخَوَّض في القول الباطل ، ويلتَقِط الهفوات ، ويتصيَّد السقطات .

قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( المسلم مَن سَلِمَ المسلِمون من لسانه ويده )) ؛ (رواه البخاري ومسلم) ، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( لا تكلَّم بكلامٍ تعتَذِر منه )) ؛ (رواه الترمذي وابن ماجه ، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع") .

وكثرة الكلام مذهبةٌ للهَيْبَة والوَقار، مَدْعَاةٌ لكثرة الأخطاء وطُول الحساب، ومَن كَثُرَ كلامُه مَلَّهُ الناس ، وأعرَضُوا عن حديثه ، فلا يَشتَهُونَه غالبًا ، وإلى ذلك أرشَدَنا نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال : (( مَن كان يُؤمِن بالله واليوم الآخر ، فليَقُل خيرًا أو ليَصمُت )) ؛ البخاري ومسلم.

تَكَلَّمْ وَسَدِّدْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا
كَلاَمُكَ حَيٌّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ
وَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَوْلاً سَدِيدًا تَقُولُهُ
فَصَمْتُكَ مِنْ غَيْرِ السَّدَادِ سَدَادُ


11- حُسْنُ الاستِماع :
إذا أردتَ أن تَسلُك أقصر طريقٍ إلى قلوب الناس ، فأحسن الاستَماع لحديثهم إذا حدَّثوك ، وذلك بالأذنين وطرف العين ، وحضور القلب وإشراقة الوجه ، فإنَّ إقبالَك على محدِّثِك دليلٌ على ارتِياحك لِمُجالَستِه ، وتقديرك لشخصيته ، وشغفك بحديثه ، وعُظَماء الرجال يقضون بهذا الحقِّ .

قال ابن عباس - رضِي الله عنه - : " لِجَليسي عليَّ ثلاث : أن أرميه بطرفي إذا أقبل ، وأن أُوَسِّع له في المجلس إذا جلس ، وأن أُصغِي إليه إذا تحدَّث " ؛ "عيون الأخبار".

وترْك الإصغاء للمُتحدِّث سُوء أدب ، وقلَّة مروءة ؛ لما في ذلك من استِجلاب الضغينة ، واحتِقار المتحدِّث ، قال معاذ بن سعد الأعور : "كنت جالسًا عند عَطاء بن أبي رباح ، فحدَّث رجلٌ بحديث ، فعرض رجلٌ من القوم في حديثه ، قال : فغضب - أي : عطاء - وقال : ما هذه الطِّباع ؟ إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به ، فأُرِيه كأنِّي لا أحسن منه شيئًا ! " ؛ "روضة العقلاء".

12- لُزُوم السَّكِينة والوَقار :
الوَقار يُكسِب صاحبَه المَهابَةَ وحبَّ الناس ، والوَقُور يُدرِك ما لا يُدرِكه غيره من معاني العزِّ والشرف والرِّئاسة .

والرسول - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ لأمَّته التحلِّي بخُلق السكينة والوَقار حتى وهم في طريقهم إلى الصلاة ؛ فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا سمعتم الإقامة، فامشوا إلى الصلاة، وعليكم بالسَّكِينة والوَقار )) ؛ رواه البخاري ومسلم.

وقال بشير بن كعب - رحمه الله تعالى - : " مكتوبٌ في الحكمة : إن من الحياء وقارًا ، وإن من الحياء سكينة " ؛ رواه البخاري.

13- لُزُوم المُرُوءة :
المُرُوءة تبعث على إجلال صاحبها ، وامتِلاء القلب بمحبَّته ، والأعينِ بمهابته ، وهي جِماع الطرق الموصلة إلى القلوب ؛ لاشتِمالها على مَكارِم الأخلاق ، ومَحاسِن الآداب ، وكمال الرُّجولة .

والمُرُوءة : " قوَّة للنفس ، مبدأٌ لصدور الأفعال الجميلة عنها ، المُستَتْبِعَة للمدح شرعًا وعقلاً وعرفًا " ؛ "التعريفات " ؛ للجرجاني .

قِيل لسفيان بن عُيَيْنَةَ : قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء ، فأين المُرُوءة ؟ فقال : في قوله - تعالى - : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } [الأعراف: 199].

إِنِّي لَتُطْرِبُنِي الْخِلاَلُ كَرِيمَةً 
طَرَبَ الْغَرِيبِ بِأَوْبَةٍ وَتَلاَقِي 
وَتَهُزُّنِي ذِكْرَى الْمُرُوءَةِ وَالنَّدَى 
بَيْنَ الشَّمَائِلِ هِزَّةَ الْمُشْتَاقِ 

14- المزاح المعتَدِل :
المِزاح سُنَّة مشروعة ، وخلق يُحِبُّه كثيرٌ من الناس ؛ بل ومن أعظم وسائِل التحبُّب إلى الناس ، وهو الطريق السهل إلى قلوبهم ، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُداعِب أصحابه ، فيُدخِل عليهم السرورَ والبهجة ؛ قال أبو هريرة : " قالوا : يا رسول الله، إنك تُداعِبنا ! قال : (( إني لأداعبكم ولا أقول إلا حَقًّا )) ؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

وعن أنسٍ - رضِي الله عنه - : " أنَّ رجلاً من البادية كان اسمه زاهر بن حرام ، وكان يُهدِي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهديَّة من البادية ، فيُجهِّزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يَخرُج ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن زاهرًا باديتنا ، ونحن حاضروه ))؛ قال أنس : وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّه ، وكان - زاهر - دَمِيمًا ، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وهو يبيع متاعه ، فاحتَضَنَه من خلفه وهو لا يُبصِره ، فقال : أرسِلْنِي ، مَن هذا ؟ فالتَفَتَ ، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرَفَه ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( مَن يشتَرِي العبد؟ )) ، فقال : يا رسول الله ، إذًا تجدني كاسِدًا ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( لكن عند الله أنت غالٍ )) ؛ (رواه أحمد والترمذي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ومن المزاح مزاح مَذموم ، وهو الذي يُثِير العداوة ، ويُذهِب البهاء ، ويَقطَع الصداقة ، ويُجرِّئ الدَّنِيء ، ويحقد الشريف ، فهذا تركه مُتَحتِّم على العاقل .

15- تجنُّب الغضب :
الذي يملك نفسه عند الغضب تجاه انفعالاته العَجُولة ، تعلو مكانته في القلوب ، ويَحظَى بحبِّ الناس له ، ويَسعد بالقرب منهم ، ومَن كان طبعه الغضب لا ينبل ، ولا يَنال العلا ، ولا يَحظى بحبِّ الناس له ؛ بل لا يُطِيق بعض الناس النظر إليه ، فضلاً عن محبَّتهم له .

وقد عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب ، فقال : (( ليس الشديد بالصُّرَعة؛ وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) ؛ (رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).

وقال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أوصِنِي ، قال : (( لا تغضب )) ، فرَدَّد مِرارًا ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تغضب )) ؛ (رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه).

وعلاج الغضب الاستِعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، والسكوت ، والجلوس أو الاضطجاع ، مع استِحضار أجر الكاظِمين الغيظ والعافين عن الناس .

16- العدل :
الرجل الذي يَعدِل في حكمه بين أهله وأولاده ومَن له عليهم ولاية ، تُحِبُّه قلوب الناس ؛ بل ويَصدُرون عن رأيه عند النِّزاع ، ويَرجِعون إليه عند الاختِلاف ، فيحصل بعدله شفاء القلوب ، وطمأنينة النفوس ، وإن سخط عليه المُبطِل اليومَ ، رضِي عنه غدًا .

وتمام العدل حين يكون مع الصديق والعدوِّ ؛ كما قال - سبحانه وتعالى - : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة: 8].

17- الرِّفق بالناس :
جُبِل الناس على حبِّ مَن يَرفق بهم ، كما جُبِلوا على النُّفور من الفظِّ الغليظ، حتى ولو كان من خير عباد الله ؛ قال الله - تعالى - : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159].

ويقول - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الرفق ما كان في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه ))؛ (رواه مسلم) ، ويقول كذلك - صلى الله عليه وسلم - : (( إنَّ الله رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفق في الأمر كله )) ؛ (رواه البخاري ومسلم).

ودعا - صلى الله عليه وسلم - لِمَن رفق بأمَّته ، كما دعا على مَن شقَّ عليهم ، فقال : (( اللهم مَن ولِي من أمر أمَّتِي شيئًا فشَقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومَن ولِي من أمر أمَّتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به )) ؛ (مسلم من حديث عائشة - رضِي الله عنها).

18- تجنُّب الجِدال :
الجِدال من الآفات القاتِلة التي تشحن الصدور بالحقد ، والقلوب بالكراهية لبعضها ، والتعسُّف في ردِّ الحقِّ ، وبخس الناس حقوقهم ، والسرور بالغلبة والقهر .

والجدل المذموم هو الذي لا يهدف إلى الوصول للحقِّ والأخذ به ؛ وإنما يصدر عن حبِّ التشفِّي والرغبة في اللَّدَد والخصومة ، وهو الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: (( ما ضَلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه إلا أُوتُوا الجدل ))، ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف: 58]؛ (أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الترمذي").

19- الألفة :
وهي الاجتِماع على الحبِّ في الله ، وائتِلاف القلوب على طاعة الله ، وخُلُوصها من نَوازِع الجاهليَّة ، وهي من أعظم نِعَمِ الله - تعالى - على العِباد بعد نعمة الهدى والإيمان ؛ قال الله - سبحانه - : { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران: 103].

والألفة صفة من صفات أهل الإيمان ؛ فعن ابن عمر - رضِي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمنون هيِّنون ليِّنون ، كالجَمَل الأَنِف ؛ إنْ قِيدَ انقاد ، وإذا أُنِيخ على صخرة استَناخ )) ؛ (رواه البيهقي في "الشُّعَب"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع").

وعن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن يَألَف ويُؤلَف ، ولا خير فيمَن لا يَألَف ولا يُؤلَف )) ؛ (رواه الطبراني في "الكبير"، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

20- المُدارَاة :
المُدارَاة من أعظَم وسائل كسْب القلوب المُتنافِرَة ، وإطفاء العداوة ، وقَلْبها إلى صَداقة ومحبَّة ، وهي ترجع إلى القول الحسن ، وحسن اللقاء ، وتجنُّب ما يشعر بنُفور أو غضب في حقِّ مَن في خُلقه ودينه شيءٌ .

عن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّ رجلاً استَأذَن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( ائذنوا له ، فلبِئس ابن العشير ، أو بئس رجل العشيرة )) ، فلمَّا دخل عليه ألان له القول ، قالت عائشة - رضِي الله عنها -: فقلت : يا رسول الله ، قلتَ الذي قلتَ ، ثم ألنت له القول ؟ قال : (( يا عائشة ، إنَّ شرَّ الناس مَنزِلة عند الله يوم القيامة مَن ودعه - أي : ترَكَه - الناس اتِّقاء فحشه )) ؛ (البخاري ومسلم).

قال العتابي: " مُدارَاة الناس سياسة لطيفة ، لا يستَغنِي عنها ملك ولا سُوقَة ، يجتَلِبون بها المنافع ، ويَدفَعُون بها المضارَّ ، فمَن كَثُرَتْ مُدارَاته ، كان في ذمَّة الحمد والسلامة " , "عين الأدب والسياسة".

21- السماحة :
وهي التسهيل والتيسير على الناس في المُعامَلَة ، والرجل السَّمْح يَرتاح له الناس ، وتُحِبُّه قلوبهم ، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل السَّمْحِ ، فقال : (( رَحِمَ الله رجلاً سمحًا إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقتضى )) ؛ رواه البخاري.

ومن صُوَرِ السماحة : إنظار المَدِين المُعسر أو العفو عنه ، وعدم التضييق على الناس ووضعهم في حرَج ، وكان الصحابي الجليل أبو اليسر " له على رجل قرض ، فلمَّا ذهب لاستِيفاء حقِّه ، اختَبَأ الغريم في داره ؛ لئلاَّ يلقى أبا اليسر ، وهو لا يملك السداد ، فلمَّا عَلِمَ أبو اليسر أنَّ صاحِبَه يتخفَّى منه حَياءً لعدم تمكُّنه من أداء ما عليه ، أتى بصحيفة القرض فمَحاه ، وقال : إن وجدت قضاء فاقضِني ، وإلا فأنت في حِلٍّ " ؛ رواه مسلم.

وبالجملة : مَن أراد سلوك الطريق السهل إلى قلوب الناس ، فليكن سمحًا في معاملته وفي دعوته ، وفي حواره ومناظرته ، سمحًا إذا ظُلِم أو جُهِل عليه ، فالسَّماحة من الإيمان ؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( السماحة من الإيمان )) ؛ (رواه الطبراني في "المكارم" وأبو يعلى، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

22- سلامة الصدر :
من نِعَمِ الله على العبد المسلم أن يجعل صدره سليمًا من الشحناء والبغضاء ، نقيًّا من الغلِّ والحسد ، صافيًا من الغدر والخيانة ، مُعافًى من الضغينة والحقد ، ولا يطوي في قلبه إلا المحبَّة والإشفاق على إخوانه المسلمين ، فبذلك يعلو قدره ، وتشرف منزلته في القلوب ، وهذه مَنْقَبَةٌ وخلَّة كريمة ، لا يَقْوَى عليها إلا ذوو الصدق والإخلاص ، ولا يَصِلُ إلى أعتابها إلا مَن جاهَد نفسَه حقَّ الجهاد ، ومتى كان المرء سليم الصدر ، عذر الناس من أنفسهم ، والتَمَس الأعذار لأغلاطهم ، وأحسن إليهم ما أساؤوا إليه ، فهو يهتَدِي بقول الله - سبحانه وتعالى - : { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35].

وسلامة الصدر هي الصفة البارزة في حياة الصحابة ، والخلَّة العظيمة التي رفعَتْ من أقدارهم ؛ فقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد الصحابة ثلاثًا إلى أنه من أهل الجنة ، فذهب إليه عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - وبات عنده ثلاثَ ليالٍ ؛ كي ينظر إلى العمل الذي بلَغ به هذه المنزلة ، فلم يره يفعل كبير عمل ، فعجب عبدالله من حاله ، وسأله : " ما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم ؟ فقال الرجل : ما هو إلا ما رأيتَ ، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحدٍ من المسلمين غشًّا ، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إيَّاه ، فقال عبدالله : هذا الذي بلغ بك ، وهي التي لا أطيق " ؛ رواه أحمد بسند صحيح.


23- الطِّيبة :
الطيبة : هي سَلامة الصدر ، وصَفاء النفس، ورِقِّة القلب ، " والطيِّب في اللغة هو الطاهِر والنظيف ، والحسن العفيف ، والسهل الليِّن ، وذو الأمن والخير الكثير ، والذي لا خبث فيه ولا غدر " ، "لسان العرب".

ومَن كان هذا حاله كيف لا تحبُّه قلوب الناس ، وهو قريبٌ من كلِّ خيرٍ وبرٍّ ؟

وتتأصَّل طيبة النفس بتزكيتها ، كما في حديث عقْد الشيطان على قافِيَة رأس النائم ، فإن فيه : (( فإن استيقظ فذَكَر الله ، انحلَّت عقدة ، فإن توضَّأ انحلَّت عقدة ، فإن صلَّى انحلت عقده كلُّها ، فأصبح نشيطًا طيِّب النفس ، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان )) ؛ البخاري ومسلم.

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( لا بأس بالغِنَى لِمَن اتقى ، والصحة لِمَن اتَّقى خيرٌ من الغِنَى ، وطيب النفس من النعيم )) ؛ (ابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

24- العفو :
العفو من أعظم وسائل كسب القلوب ، وجلْب المودَّة والمحبَّة بين العِباد ، وسببٌ لعُلُوِّ المنزِلة ، وشرف النفس وترفُّعها ، ولا ينبل الرجل حتى يكون مُتَخلِّقًا بخلق العفو .

قال الله - تعالى -: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35].

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عِزًّا )) ؛ (مسلم) ، وجُعِل العفو سببًا للمغفرة والرحمة ؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( ارحموا تُرحَموا ، واغفِروا يُغفَر لكم )) ؛ (أحمد، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

25- سرعة الفيئة :
وهي الرُّجوع إلى جادَّة الحقِّ والصَّواب على عجل ، وتدلُّ على سَعَةِ صدر ورِقَّة طبع صاحبها ، والأخ الذي يُسرِع الفيئة ويُسابِق إلى الصلح ، تحبُّه قلوب الناس ، أمَّا مَن يلجُّ في الخصومة ، فحسبه قول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم )) ؛ البخاري ومسلم.

ويصف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المنافق بقوله : (( إذا خاصَم فجَر )) ؛ البخاري ومسلم.

ومن فضْل سرعة الفيئة في الخصومة قبول الأعمال الصالحة ، كما في الحديث : (( يُغفَر لكلِّ مُؤمِن إلا المُتخاصِمَيْن ، فيُقال : أنظِروا هذين حتى يصطَلِحَا )) ؛ مسلم.

26- قبول العذر :
إذا أساء إليك أخوك ثم جاء يَعتَذِر عن إساءته ، فلا تُجادِله ؛ فالعذر عند كِرام الناس مقبول ، بل إنَّ قبول العذر لأوَّل وهلة من أفضل أخلاق أهل الدنيا والدين .

ومتى تخلَّق المرء بهذا الخُلق العظيم ، فلا بُدَّ أن تحبَّه قلوب الناس على اختِلاف مَشارِبهم ، وكلُّ واحدٍ مِنَّا لا بُدَّ أن يهفو، ويحب أن يجد مَن يعذره ؛ لذلك جاء في الحديث : (( مَن أقال مسلمًا، أقال الله عثرته )) ؛ (أبو داود وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ويتأكَّد قبول العذر في حقِّ صاحِب المنزلة والوَجاهَة الذي لا يُعرَف بالشرِّ ، فلا نغلظ عليه ؛ لأنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال : (( أَقِيلُوا ذوي الهيئات عثراتهم ، إلا الحدود )) ؛ (أبو داود، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

27- الستر :
ستر العيوب والهَنات يُقَرِّب من القلوب ، ومَدعاة لإجلال الناس ، مع ما في الستر من الثواب والأجر في الدنيا والآخرة ، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( إن الله - عزَّ وجلَّ - حليم سِتير، يحبُّ الحياء والستر )) ؛ (أبو داود والنسائي، وصحَّحه الألباني في "صحيح النسائي").

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( مَن ستَر مسلمًا ، ستَرَه الله في الدنيا والآخرة )) ؛ مسلم .

وكان من هديه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه يُؤثِر الستر ، حتى في حقِّ مُرتَكِب الكبيرة ؛ ولذلك كان يوجِّه بقوله : (( تعافوا الحدود فيما بينكم )) ؛ (أبو داود والنسائي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع") ؛ وذلك لكي لا تُنقَل للإمام فيُفضَح صاحبها .

28- العفَّة :
الناس يُحِبُّون مَن تَعفُّ نفسه ، ولم تتطلَّع إلى ما في أيديهم ؛ لأنهم جُبِلوا على حُبِّ المال ، فإذا أنت نازَعتَهم فيما يحبُّون مَلُّوكَ ؛ لهذا كان الزُّهد عمَّا في أيديهم أقصر طريقٍ إلى قلوبهم .

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( أجمع اليأس عمَّا في أيدي الناس )) ؛ (أحمد وابن ماجه، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع") ، وفي وصيَّة جبريل للنبي - صلَّى الله عليهما وسلَّم - : (( واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزه استغناؤه عن الناس )) ؛ (الحاكم والبيهقي في "الشُّعَب"، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع")، وكان ممَّا بايَع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أصحابَه عليه : (( ولا تسألوا الناس شيئًا )) ؛ مسلم .

29- الجُود :
الجَوَاد مَحبوبٌ من الله ، مَحبوبٌ من الناس ، ويَكفِي أن الجُود صِفَة من صفات الله - تعالى - كما في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( إن الله - تعالى - جَوَاد، يُحِبُّ الجُود )) ؛ (البيهقي في "الشُّعَب"، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (( إنَّ الله كريمٌ ، يحبُّ الكُرَماء ، جَوَاد يحبُّ الجودة )) ؛ (ابن عساكر والضياء، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - " أ جود الناس "؛ (البخاري ومسلم من حديث ابن عباس وأنس)، " وما سُئِل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن شيءٍ قَطُّ فقال : لا "؛ (البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما).

30- الشفاعة الحسنة :
الشفاعة طريقٌ مُعَبَّدة لقلوب الناس ، تَرفَع من شأنك في قلوبهم ، وسبب عظيم في تَوطِيد عُرَى المحبَّة بين الشافع والمشفوع له ، ما دامَتْ شفاعة حسنة ؛ قال الله - تعالى - : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } [النساء: 85].

وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا أتاه طالبُ حاجة ، أقبَلَ على جُلَسائه ، فقال : (( اشفعوا فلتؤجروا ، وليقضِ الله على لسانِ نبيِّه ما شاء )) ؛ (البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضِي الله عنه).

وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يشفع للمُسلِمين ، كما في قصة مغيث وبَرِيرة ، وفيها أنَّه قال لبَرِيرَة : (( لو راجَعتِه ))، فقالت : يا رسول الله ، تأمُرني ؟ فقال : (( إنما أنا أشفع )) ؛ (البخاري عن ابن عباس).

31- اصطِناع المعروف :
وصاحِب المعروف مَحبُوبٌ من الناس ؛ بل هو أحبُّ الناس إلى الله - عزَّ وجلَّ - كما في الحديث أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال : (( أحبُّ الناس إلى الله أنفعهم )) ؛ (الطبراني في "الكبير" عن ابن عمر، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

وصاحب المعروف محفوظٌ من الله بالوِقاية من سوء المصرع في الدنيا ؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( عليكم باصطِناع المعروف ؛ فإنه يمنع مَصارِع السوء )) ؛ (ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

32- شكر المُحسِن :
جُبِلت القلوب على حُبِّ الشكر ، والثَّناء الحسن ، كما جُبِلَتْ على حُبِّ مَن أحسن إليها ، وفي الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس )) ؛ (أبو داود عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

33- حفظ الجميل :
يحبُّ الناس مَن يحفَظ الجميل ويُقَدِّره حب صاحب الجميل عليهم ، وقليلٌ من الناس مَن يحفظ الجميل !

قال الله - تعالى - : { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } [الرحمن: 60]، ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( من أتى إليكم معروفًا فكافِئُوه ، فإن لم تجدوا فادْعوا له ، حتى تعلموا أن قد كافأتموه )) ؛ (أبو داود والنسائي، وصحَّحه الألباني في "صحيح الجامع").

ويَضرِب - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثَل الأعلى في حفْظ الجميل ، فيقول في أسرى بدر : (( لو كان المطعم بن عديٍّ حيًّا ، ثم كلَّمني في هؤلاء النَّتْنَى لتركتُهم له ! ))؛ (البخاري)، وكان المُطعِم قد أنزل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيَّام مكَّة في جواره ، فحَفِظَ له - صلَّى الله عليه وسلَّم - الجميل حتى بعد موته !

34- الوَفاء :
الوَفاء من شِيَمِ النُّفُوس الكريمة ، والوافي قريبٌ من الله ، قريبٌ من الناس ، وقد أمَر - تبارك وتعالى - بالوَفاء بالعهد ، وبالوَفاء بالعقود ؛ فقال - تعالى - : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [النساء: 34] ، وقال - سبحانه وتعالى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة: 1].

وفي حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : (( آية المُنافِق ثلاث : إذا حدَّث كذَب , وإذا وعد أخلَف ، وإذا اؤتُمِن خان )) ؛ البخاري ومسلم.

وهذا آخِر الكتاب ، وهو من مطبوعات دار الإيمان بالإسكندرية بمصر ، والحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .


________________________________________


المصدر : موقع الألوكة , إختصر الكتاب : حسن عبدالحي :
http://www.alukah.net/Authors/View/sharia/1605/